المقالاتفكر وفلسفة

الحريَّة والحتميَّة في الثقافة العربيَّة؛ الإنسان العربي مسيّرا لا مخيّرا !

” الإنسان حرّ وخاضع للحتميَّة في آن واحد: إنه حر إلى الحدّ الذي يعدّ فيه روحا، وخاضع للحتميَّة إلى الحد الذي يعدّ فيه جسدا “

  (عمانويل كانط)

1- مقدِّمة :

تعود إشكاليَّة الحريَّة والحتميَّة في السلوك الإنساني إلى عهود تاريخيَّة غابرة  سجلت نفسها مع بداية تشكل الفكر الإنساني ومع بدايات التأمل الفلسفي في العصور القديمة. وتدور هذه القضيَّة حول الحدود الفاصلة بين قدر الإنسان وحريته في صناعة مصيره وتحديد معالم وجوده.

لقد طرحت هذه القضيَّة نفسها في الفكر الإنساني في مختلف تجلياته الفلسفيَّة والدينيَّة على صورة تساؤل قوامه: هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ وإذا كان مسيّرا حقا فإلى أي حدّ يخضع لإرادة الحتميَّة؟ وإذا كان مخيّرا فما هي حدود الاختيار لديه؟ وقد وجدت هذه التساؤلات إجابات متعددة في نسق من الفلسفات الإنسانيَّة المتنوعة عبر التاريخ. وقد تنوعت الإجابات أيضا بتعدد المدارس الفكريَّة في داخل الدين الواحد والثقافة الواحدة، وتدرجت هذه الإجابات من أقصى السلب إلى أقصى الإيجاب في الموقف من حريَّة الإنسان أو من حتميَّة وجوده .

لقد انتصرت بعض الاتجاهات الفلسفيَّة لمبدأ الإرادة الإنسانيَّة والحريَّة والمسؤوليَّة البشريَّة في بنية السلوك الإنساني كما هو حال الفلسفات الوجوديَّة والماركسيَّة والسلوكيَّة، وعلى خلاف ذلك فإن بعض التيارات الفلسفيَّة ما زالت تغلّب الطابع الجبري للوجود على مبدأ الإرادة الحرة كما هو حال بعض الفلسفات المثاليَّة والطوباويَّة. ومع ذلك السياق يمكن القول بأن أغلب التيارات العقليَّة تؤكد أهميَّة الحريَّة الإنسانيَّة والمسؤوليَّة والاختيار الإنساني في تحديد المصير، وتعمل على تغليب الإرادة والحريَّة والمسؤوليَّة على الجانب القدري الجبري في الحياة الإنسانيَّة .

ومهما يكن الاختلاف بين الاتجاهات الفكريَّة القائمة- بين المنتصرين للحريَّة الإنسانيَّة والمنتصرين للجبريَّة أو الحتميَّة – فإنه يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، أن مفهوم القدر في ثقافتنا الإسلاميَّة لا يتعارض مع مفهوم الحريَّة والمسؤوليَّة والإرادة الإنسانيَّة في بناء المصير وتشكيل الحياة الإنسانيَّة على صورة الغاية التي يرسمها الإنسان لنفسه. ومـهما تبدّى من دلالات جــبريَّة في مفــهوم القدر فإن مفهوم القدر بمختلف معانيه وتجلياته يشكل حالة من حالات التوحيد الإلهي وتنزيه الإرادة الإلهيَّة عن كل أوجه القصور والضعف. إن الله عزّ وجلّ مطلق العلم والإرادة وكلي الحضور والقدرة. هذا ما يتضمنه مفهوم القضاء والقدر في الإسلام.

وليس مهما بالنسبة لنا في هذا المبحث أن نسرد طابع الصراع الفكري بين التيارات والفرق الفلسفيَّة في هذه المسألة وما يهمنا هنا هو تحديد الأبعاد المحوريَّة لهذه القضيَّة بأبعادها السوسيولوجيَّة المعاصرة في حياتنا الاجتماعيَّة .

والمهم في مبحثنا هذا هو أن الموقف الثقافي من هذه المسألة – أي من موقع الإنسان بين ضرورة الحتميَّة ومقتضيات الحريَّة – يحدد سوسيولوجياً هويَّة العقليَّة السائدة في مجتمع محدد تاريخيا. فعندما تأخذ فكرة الحتميَّة مكانها في العقليَّة، فإن هذا يؤسس لكثير من أنماط السلوك السلبيَّة، مثل: التواكل، وغياب الإحساس بالمسؤوليَّة، والسلبيَّة وغياب مبدأ الإبداع والاجتهاد، وهذا ما تتصف به العقليات التقليديَّة بصورة عامة.

وعلى خلاف ذلك عندما يأخذ المرء بموقف حريَّة الإنسان ومسؤوليته في الكون فإن ذلك يؤسس للمبادهة والإبداع والمسؤوليَّة والميل إلى المواجهة والمجابهة والمشاركة في صنع الحدث والحياة والحضارة.

فإشكاليَّة الحتميَّة تعد من كبريات الإشكاليات الحضاريَّة التي تواجه المجتمعات التقليديَّة التي تميل إلى التواكل والاستسلام والانهزاميَّة. فالعقليَّة التقليديَّة تقوم غالبا على أساس المبدأ القدري الذي يرفض حريَّة الإنسان ودوره ومسؤوليته، وهنا تكمن إشكاليَّة التخلف الكبير الذي تعانيه هذه المجتمعات.

وليس خفيا على العارفين اليوم أن النهضة الغربيَّة، كما كان هو حال النهضة الإسلاميَّة من قبل، قامت في الأصل على منطق مسؤوليَّة الإنسان ودوره التاريخي في الوجودفالبروتستانتيَّة – كحركة فكريَّة دينيَّة – استطاعت أن تحدث ثورة في الأمزجة وفي العقليات على أساس الحريَّة والمسؤوليَّة التي منحها الله للإنسان، وعلى أساس رفض العقليَّة القروسطيَّة التي تقول بمبدأ قدريَّة الوجود وحتميَّة المصير والتي ترى أن القوى الكونيَّة العليا هي التي ترسم حدود الوجود ومعانيَّة بالمطلق. لقد أكدت البروتستانتيَّة أن الإنسان مسؤول عن معطيات الحياة في أشمل تجلياتها في السياسة والمعرفة والاقتصاد: يجب عليه أن ينمي الثروة وأن يسهم في النهوض الاقتصادي يجب ألا يبدد أن يوفر أن يشارك أن يبدع في كل ميدان وفي كل مجال. واستطاعت هذه الحركة أن تحطم معطيات العقليَّة القديمة التي كانت تجعل من الإنسان ريشة في مهب الرياح العاتيَّة. وباختصار يشكل الموقف الوجودي للإنسان من مسألة القضاء والقدر، ومن مسألة الحتميَّة والحريَّة في السلوك الإنساني، واحدا من الأبعاد الأساسيَّة المركزيَّة في مفهوم العقليَّة.

إشكاليَّة الحتميَّة تعد من كبريات الإشكاليات الحضاريَّة التي تواجه المجتمعات التقليديَّة التي تميل إلى التواكل والاستسلام والانهزاميَّة. فالعقليَّة التقليديَّة تقوم غالبا على أساس المبدأ القدري الذي يرفض حريَّة الإنسان ودوره ومسؤوليته، وهنا تكمن إشكاليَّة التخلف الكبير الذي تعانيه هذه المجتمعات.

2- ما بين القدر والقدريَّة :

يختلف مفهوم القدريَّة عن مفهوم القدر باختلاف السماء والأرض. فالقدريَّة هي إحالة كليَّة لمصير الإنسان على قوى غير إنسانيَّة، وهي تفسير لأحداث الكون والحياة الإنسانيَّة على أساس تدخل قوة إلهيَّة كونيَّة عليا تصنع المصير دون تدخل الإنسان والبشر. وبعبارة أخرى القدريَّة إحالة كليَّة على القدر ونفي بالمطلق لدور الإنسان وقدرته على التدخل في مجرى الأحداث الإنسانيَّة.

يعرّف عمر سليمان الأشقر القدر بأنه “ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عزّ وجلّ قدر مقادير الخلائق وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها”([1]). ففي هذا التعريف يتجسد مفهوم القدر في الإسلام بوصفه مقولة تنطوي في جوهرها على تنزيه الخالق وتؤكد عظمته وقدرته وكونيَّة أمره فليس شيء يتم إلا بعلمه وأذنه وإرادته ومشيئته وتلك هي صيغة من صيغ تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل أوجه الضعف، وهي في هذا السياق لا تتعارض مع الحريَّة الإنسانيَّة ولا تقلل من شأنها فهي أي الحريَّة تجري في نسق إرادة الله وعلمه وقدرته.

لقد ميز الإسلام صراحة بين التوكل والتواكل وبين القدر والقدريَّة، وجاءت الرسالة النبويَّة لتؤكد صراحة بأن الإنسان مسؤول وأنه مكلف، وأنه بالجهد والعمل والإصرار والتحدي والجهاد يمكن للإنسان أن يحقق ماهيته ووجوده. وكان الإسلام في ذاته كتجربة إنسانيَّة عظيمة أبلغ حجة على أهميَّة النضال والجهاد والإرادة في بناء الوجود الإنساني المتكامل.

إن حضور القدريَّة في نمط السلوك والتفكير يعني هزيمة إنسانيَّة وحضاريَّة شاملة. ولا بد لنا من القول في هذا الصدد بأن القدريَّة تشكل مبتدأ وخبر الركود الحضاري الذي تعانيه الأمة العربيَّة الإسلاميَّة.

يرى عمر الأشقر “إن الخطر المنهجي الكبير الذي يقع به المفكرون في هذه القضيَّة هو المقابلة بين الإرادة الإلهيَّة وإرادة الإنسان، أو بين الحريَّة الإنسانيَّة والحريَّة الإلهيَّة، بين قدرة الإنسان وقدرة الله. ولكن عندما تطرح القضيَّة وفقا لمنهج الشمول والتضمن فإن الإنسان مطلق الحريَّة والإرادة وصانع لمصيره في سياق قضاء الله وقدره. وفي هذا السياق يمكن تحقيق المصالحة المنهجيَّة بين مفهومي الجبريَّة والإرادة في مفهوم القدر.

لقد ميز الإسلام صراحة بين التوكل والتواكل وبين القدر والقدريَّة، وجاءت الرسالة النبويَّة لتؤكد صراحة بأن الإنسان مسؤول وأنه مكلف، وأنه بالجهد والعمل والإصرار والتحدي والجهاد يمكن للإنسان أن يحقق ماهيته ووجوده. وكان الإسلام في ذاته كتجربة إنسانيَّة عظيمة أبلغ حجة على أهميَّة النضال والجهاد والإرادة في بناء الوجود الإنساني المتكامل.

3- الجوانب القدريَّة في العقليَّة العربيَّة السائدة :

تعاني المجتمعات العربيَّة المعاصرة من وضعيات الجمود والقصور والسلبيَّة، وتعيش حالة من الهزيمة الشاملة في مختلف جوانب الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة. هذا وتعود حالة التخلف الشاملة التي تعيشها هذه المجتمعات إلى منظومة من العوامل التاريخيَّة والاجتماعيَّة التي تتكامل على نحو جدلي في تكريس هذه الوضعيَّة وفي إكسابها طابعا يتسم بالعمق والشمول. وفي عمق هذه الخلفيَّة التاريخيَّة يصعب منهجيا تصنيف عواملها وفقا لمبدأ تدرجات الأهميَّة والأولويَّة والسببيَّة. فكل عامل هو سبب ونتيجة في الآن الواحد، وهو في الوقت نفسه أولوي وثانوي وذلك في نسق من العلاقات الجدليَّة التي تتصف بدرجة عالية من الصعوبة والتعقيد. ومهما يكن الأمر فإن التمييز المنهجي بين هذه العوامل، على أساس ما هو ذهني عقائدي، وما هو مادي ظرفي، أمر ممكن مع أهميَّة الاعتبارات الجدليَّة التي تأخذ فيها هذه العوامل وحدتها الجدليَّة والتاريخيَّة .

هذه الوضعيَّة المعقدة لعوامل التخلف، تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار أهميَّة النظر في طبيعة الروابط المعقدة بين الجوانب الماديَّة والثقافيَّة لبنية التخلف ومظاهره. فالبحث في تأثير العوامل الماديَّة والتاريخيَّة لظاهرة التخلف لا يمكن أن يأخذ صورته العلميَّة والموضوعيَّة ما لم نأخذ بعين الاعتبار البنية العقليَّة لمجتمع ما بوصفها نتاج لمختلف الحالات التاريخيَّة التي عاشها ويعيشها هذا المجتمع. ويترتب على هذا أن أي تغيير أو تحول تاريخي لا يمكنه أن يتحقق ما لم يسجل حضوره في دورة الاعتقاد والبنية العقليَّة لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم.

ويسجل منطق التاريخ الإنساني، في مختلف محطاته الحضاريَّة المتألقة، أن الانطلاقة الحضاريَّة لمجتمع ما تبدأ عندما تكتمل الدورة الذهنيَّة الاعتقاديَّة وتتبلور في اتجاهات عقليَّة محددة، كما حدث في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكما كان الحال في العهد الإغريقي القديم، وكما يتجلى وفي التحولات العقائديَّة التي شكلت منطلق الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة ومنطقها في العصر الوسيط.

وعلى أساس هذه المقدمة التاريخيَّة في أهميَّة التكوينات الذهنيَّة والعقليَّة، ودورها في إحداث التحولات التاريخيَّة أو في المحافظة على وضعيَّة تاريخيَّة معينة، تجد هذه الدراسة منحاها المنهجي في تحليل أحد أهم عناصر التخلف الحضاري في المجتمعات العربيَّة والذي يتمثل في طبيعة الروح التواكليَّة القدريَّة([2]). التي تسيطر على مكونات العقليَّة العربيَّة فتدفع بها وبشعوبها إلى هاويَّة التخلف بما يتصف عليه من عمق وشمول.

تضرب المعتقدات القدريَّة (الإحالة الشموليَّة على القدر) بطابعها الاستلابي حضورها المكثف في العقليَّة العربيَّة، وينسج التواكل معالم الثقافة الشعبيَّة في المجتمعات العربيَّة المعاصرة. ونعني بالقدريَّة (كما أشرنا سابقا ) هذه الحالة الاعتقاديَّة التواكليَّة أو الجبريَّة التي يحيل فيها الإنسان جميع الحوادث إلى القدر، وهي الحالة التي يرى فيها الإنسان أن ما يحدث يجري بالمطلق وفق إرادة علويَّة صارمة، وأن الإنسان مجرد كيان سلبي لا دور له غير الخضوع لهذه الإرادة العلويَّة الساميَّة التي تحدد الصيرورة والغاية والمصير. وانطلاقا من هذه الرؤية يسلم الإنسان أمره لهذه الإرادة ويمتنع عن بذل النشاط والجهد ويعيش في حالة سلبيَّة مطلقة قوامها التواكل والاستسلام والسلبيَّة المطلقة. وكثير من الباحثين يعزي التخلف الذي تعيشه المجتمعات العربيَّة في جانبه الأكبر إلى هذا المكون الاعتقادي الاستلابي بمضامينه السلبيَّة التي تؤدي إلى حالة حضاريَّة مأساويَّة قوامها التخلف الشامل في مختلف ظروف الحياة وصروفها.

فالتواكليَّة من أخطر الرواسب التاريخيَّة التي سطرتها تجربة القهر الإنساني الذي عانت منها هذه الأمة ووضعت الإنسان في دائرة الهزيمة والاستسلام. إن حضور القدريَّة في نمط السلوك والتفكير يعني هزيمة إنسانيَّة وحضاريَّة شاملة. ولا بد لنا من القول في هذا الصدد بان القدريَّة تشكل أساس التخلف الحضاري الذي تعانيه الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة المعاصرة.

فالإنسان يمكن أن يسلك وفقا لخيارات إنسانيَّة متعددة، إذ يمكنه أن يأخذ اتجاه الحريَّة في الفعل والعمل فيعمل على تحقيق ذاته ويأخذ بخيار العقل، أو أن يخضع لصيرورة وجوديَّة يعزيها إلى الله متجاهلا أن الله سبحانه وتعالى قدّر للإنسان إرادة وقضى له عقلا وشاء أن يدعوه للفعل بهدي العقل ووحي الإرادة وحس المسؤوليَّة.

4- الحريَّة في مواجهة الحتميَّة :

” الإنسان الحرّ هو الذي يكون علة ذاته” (توما الإكويني).

من يتأمل في الأصول الفكريَّة في الإسلام يجد أن الدرجة التي يعطيها لحريَّة الإنسان وإرادته في صنع المصير لا تضاهيها درجة أو مرتبة في أي نظام فكري أو فلسفي آخر. فمع مطلق القضاء قضاء الله وقدره نجد في الفكر الإسلامي ما يذهل في التأكيد على دور الإنسان وقدرته وحريته. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: “لا يرد القضاء إلا الدعاء، وإن القضاء ليلقى الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة[3]فإذا كان دعاء الإنسان يرد قضاء الله ألا نرى في ذلك أن الله قد منح الإنسان عطاء حريَّة وإرادة تفوق كل حدود التصور. أليس من المذهل تماما والمدهش حقا أن يستطيع الإنسان المؤمن بهمسات الدعاء أن يردّ قدر الله وقدره ! ألا يمكن القول هنا بأن الإسلام يعظم حريَّة الإنسان ومسؤوليته وقدرته ويكرمه تكريما يتجاوز حدود الوصف يصل إلى الحد الذي يكون فيه دعاء المؤمن رادا لقضاء الله وقدره.

من يتأمل في الأصول الفكريَّة في الإسلام يجد أن الدرجة التي يعطيها لحريَّة الإنسان وإرادته في صنع المصير لا تضاهيها درجة أو مرتبة في أي نظام فكري أو فلسفي آخر. فمع مطلق القضاء قضاء الله وقدره نجد في الفكر الإسلامي ما يذهل في التأكيد على دور الإنسان وقدرته وحريته.

لقد رفع الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في سيرته السياسيَّة والفقهيَّة، مفاهيم الحريَّة والإرادة الإنسانيَّة والاجتهاد إلى أعلى المراتب، واستطاع أن يخرج من متاهة الجدل حول إشكاليَّة القضاء والقدر مؤكدا أهميَّة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانيَّة. كانت سيرة الخليفة عمر (رضي الله عنه) متوّجة بأعظم الممارسات الإنسانيَّة الحرة وكانت عبقريته تفيض بالتأكيد على أهميَّة الحريَّة والإرادة الإنسانيَّة والاجتهاد. وفي تشريعه وممارساته السياسيَّة نقرأ أروع سيرة للحريَّة الإنسانيَّة والمسؤوليَّة.

ورد في السيرة أن أبا عبيدة عامر بن الجراح اعترض على رجوع عمر بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون فيها، وقال لعمر بن الخطاب حينها :” يا أمير المؤمنين أفِراراً من قدر الله”؟ وعندها أجابه عمر عبقريَّة بقوله “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. ثم قال أرأيت يا أبا عبيدة إن كان لك إبل وهبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصيبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله “([4]). في هذه الموقف تتجلى عظمة الإسلام في عبقريَّة عمر تأكيدا على إرادة الإنسان وعقله في حدود القدر قدر الله ومشيئته. وهذا يعني أنه يجب على الإنسان أن يسعى ويحتسب ويحكم عقله في سعيه نحو الأفضل دون أن يقع ضحيَّة الاستسلام لجبريَّة وقدريَّة تنفي عن الإنسان عطاءات الحريَّة والعقلانيَّة. إن مبدأ دع الأمور تجري على غاربها والاستسلام لمشيئة اتكاليَّة مطلقة ليس من قيم الإسلام أو حكمته. وقد تجسد إيمان الفاروق عمر عن أهميَّة العمل بقوله رضي الله عنه :” من يأكل ولا يعمل موته خير من حياته وعدمه خير من وجوده”. أو لم تذهب كلمته المشهورة التي قالها للإعرابي الذي ترك ناقته دون أن يعقلها “اعقل وتوكل” حكمة ومثلا تتداولها الأمم والشعوب في أهميَّة الفصل بين التوكل والتواكل بين الإيمان بالقدر والاستسلام للقدريَّة .

وفي فقه الأمام علي بن أبي طالب علي كرم الله وجهه وعبقريته الإسلاميَّة نجد تلميحات عبقريَّة تؤكد أهميَّة العمل والجهد والحريَّة والاجتهاد في الحياة وعدم الإحالة على الكسل حيث ينسب إليه قوله :

وما طلب المعيشة بالتمنيولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يوما ويومـاتَجِئْكَ بحمأة وقليل مـاء
ولا تقعد على كل التمنيتحيل على المقدر والقضاء
فإن مقادر الرحمن تجريبأرزاق الرجال من السماء

في قول الإمام علي كرم الله وجهه تأكيد على أهميَّة العمل والجهد مع الإيمان المطلق بفكرة القضاء والقدر. فالإمام علي رضي الله عنه كان من أكثر أنصار الاجتهاد والحريَّة والمسؤوليَّة الإنسانيَّة وقد رسم لهذا كله دستورا فكريا تجلى في مقولته الشهيرة “ اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ولآخرتك كأنك تموت غدا”.

وفي سيرة الإمام الحسن البصري نجد لوحة تاريخيَّة إسلاميَّة أخرى تؤكد أهميَّة الإرادة ومسؤوليَّة الإنسان. يذكر أن رجلا جاء الحسن البصري وهو يقول يا أبا الحسن إن هؤلاء الحكام يقتلون الناس ويسفكون دمائهم ويغتصبون أرزاقهم ويستبيحون أعراضهم ويقولون إن هذا يجري بقضاء الله وقدره “، فأجابه أبي الحسن البصري :”خسئ أعداء الله “.

والقرآن الكريم يفيض بآيات الدعوة إلى الاجتهاد والعمل وبيّنات خصّ بها إرادة الإنسان وحريته. ويمكن أن نسرد مئات الآيات التي تحض على الفعل والإرادة والعمل ومنها قوله تعالى “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى، بعضكم من بعض.” (آل عمران 159). “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون “(التوبة: 105). وقوله تعالى “كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم “(الأنعام :54). “ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون “(النحل 32). “ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون “(يونس (14). “ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا “(الكهف 110). “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى “(النجم 39-41). “وابتع فيما أتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في ارض، إن الله لا يحب المفسدين “(القصص :77).

5- القدريَّة في الثقافة العربيَّة:

يقول عبد الرحمن الكواكبي:” الحريَّة أعز شيء على الإنسان إذ بفقدها نفقد الآمال، وتموت النفوس، وتتعطل لشرائع وتختل القوانين فالحريَّة هي أن يكون الإنسان مختارا في قوله وفعلة لا يعترضه مانع ظالم([5]).

وتفيض الحياة الإسلاميَّة – في القرآن والسنة والسيرة – بالشواهد الدامغة على أهميَّة العقل والفعل والإرادة الإنسانيَّة. ولكن دورة الزمن وصدمات الهزائم التاريخيَّة وتراجع الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة أدت جميعها إلى نمو وتعاظم هذا الاتجاه الفكري الثقافي الجبري الذي يعطي للقدريَّة التواكليَّة أهميَّة كبرى في حياة الناس ووجودهم.

وتفيض الثقافة العربيَّة المعاصرة بطابع القيم الزهديَّة والصوفيَّة التي تستند إلى مفهوم الحتميَّة بأبعادها الجبريَّة. وتغتذي هذه الصورة الاستلابيَّة للثقافة الصوفيَّة من ثوابت فكريَّة في الشعر والأدب والفن والأمثال الشعبيَّة التي تعلي من قيم الزهد والتصوف التي تقلل من شأن الجهد الإنساني وتؤكد أهميَّة الجبريَّة وتحض على التواكل في تصريف شؤون الحياة والوجود. ويمكن أن نجد في هذه الرائعة الشعريَّة للإمام الشافعي رحمه الله عنه تلميحات صوفيَّة لمضامين زهديَّة تواكليَّة:

دع الأيام تفعل ما تشـاءوطب نفسا بما حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليــاليفما لحــوادث الدنيا بقاء
ورزقك ليس ينقصه التأنيوليـس يزيد في الرزق العناء
دع الأيام تغـدر كل حينفمـا يغني عن الموت الدواء

ونجد صدى هذه الرؤية الصوفيَّة فيّاضا في الأدب العربي حيث يتجلى الطابع القدري والجبري في كثير من بدائع وروائع الشعر العربي حيث يقول أحد الشعراء في هذا الاتجاه الجبري :

جرى قلم القضاء بما يكونفسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزقويرزق في غيابته الجنين

والشعر العربي القديم والحديث نابض بمقولات القدر والدعوة إلى الاستسلام لتصاريف الزمن والأيام. ومن الشواهد الشعريَّة الممكنة في هذا المجال نورد بعض الأبيات التي تؤكد على تغييب الجهد الإنساني لأن حكمة الوجود تكمن في جبره وحتميته دون الإرادة الإنسانيَّة:

مشيناها خطى كتبت عليناومن كتبت عليه خطى مشاها([6])
إذا كان أمر الله أمرا يقـدرفكيف يفر المرء منه ويحـذر([7])
ومن يرد الموت أو يدفع القضاوضربته محتومة ليـــس تعثر
دع المقـادير تجري في أعنتــهاولا تبيتن إلا خـــالي البال
ولكن إذا حكم القضاء على امرئ فليس له برّ يقيه ولا بــحر ([8])

وتحيل الثقافة الشعبيَّة مفهوم القدر إلى مفهوم القدريَّة بأبعادها الجبريَّة، وهي بذلك تحجب أهميَّة الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتضع الإنسان في دائرة من القصور الشامل فيترك أمره وأمر الدنيا للمصادفات والأقدار وليس للقدر. ومن ينظر في مضامين هذه الثقافة سيجد بأنها تفيض بمقولات قدريَّة جبريَّة مثل: المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، وإذا حل القدر عمي البصر، الحذر لا يدفع القدر، لا يسع المرء أن يغير قدره، يأتي الطفل وتأتي رزقنه معه. ناهيك عن الحكم والأمثال العربيَّة حيث تقول إحدى الحكم: تقدّرون وتضحك الأقدار.

ومن الجميل في السياق أن أقدم هذا النص الذي يسوقه الكاتب للتعبير الرمزي عن معنى ساحر الدلالة بليغ في مداه الفلسفي وفي عمقه الوجداني يقول النص: “بينما كان وزير شاب يتجول في سوق بغداد، التقى في طريقه بامرأة ذات نظرة مزعجة مرعبة وكأنها ملك الموت بنظرته المرعبة، فتأكد بأنها الموت الذي يبحث عنه. وذهب مذعورا إلى خليفة البلاد فحكى له ما رآه. وباقتناع الخليفة والوزير بأن موت هذا الأخير سيكون في بغداد، أصبح من الحكمة أن يغادر الوزير بغداد إلى مكان آخر. وهكذا نصحه أن يختار أحسن فرس في الإسطبل ويرحل إلى سمرقند. وعند آخر النهار خرج الخليفة ذاته إلى ساحة السوق والتقى بملك الموت الذي أخاف الوزير فسأله قائلا: “لماذا أخفت وزيري هذا اليوم؟ وأجاب الموت” لم أرد تخويفه بل وببساطة فوجئت بلقائه هنا في بغداد لأن موعدي معه في سمرقند وسأنتظره هذا المساء هناك([9]).

في هذه الرائعة الأدبيَّة إشارات وتلميحات بأن الإنسان يسير في حياته ومصيره على هدي حتميَّة مطلقة لا يمكنه أن يتجاوز حدودها. فالإنسان لا يمكنه أن يغير مجرى الأقدار التي تحكمه فالوزير الذي فرّ من الموت في بغداد واجه موته في سمرقند وكأنه كان يسعى إلى موته بإرادته وجهده وأن جهده في تجنب المصير لم يؤخر ولم يقدم. والعبرة أنه لا يمكن لإنسان أن ينفلت من مصائر الأقدار. وما كان على الوزير أن يسعى إلى تجتب المصير. النص بمطلقه الفلسفي يؤكد على الطابع الحتمي الجبري للوجود وهو بذلك يعبر عن ثقافة فلسفيَّة سائدة في الوسط الثقافي العربي عبر أجيال وحقب تاريخيَّة مديدة.

وباختصار فإن القدريَّة ترسم ملامحها في الشعر والأدب والحكايَّة والأمثال والحكم في الثقافة العربيَّة بصورة واضحة ومميزة وهي بذلك تسجل مكانها في عمق العقليَّة العربيَّة المعاصرة خصيصة أساسيَّة من خصائص النظرة إلى الكون وإلى الحياة.

تحيل الثقافة الشعبيَّة مفهوم القدر إلى مفهوم القدريَّة بأبعادها الجبريَّة، وهي بذلك تحجب أهميَّة الوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتضع الإنسان في دائرة من القصور الشامل فيترك أمره وأمر الدنيا للمصادفات والأقدار وليس للقدر.

6- القدريَّة في مرآة الأبحاث الاجتماعيَّة .

يندر أن يجد الباحث دراسات ميدانيَّة مخصصة لدراسة إشكاليَّة التواكل أو القدريَّة في الثقافة العربيَّة المعاصرة. ونعتقد بأن الغياب الملموس لمثل هذه الدراسات يعود إلى الخصوصيَّة الإشكاليَّة لهذا الموضوع الذي يتسم بحساسيَّة دينيَّة وثقافيَّة مفرطة قد تؤدي إلى سوء فهم ومسائلات يكون الباحث في غنى عنها. ومع ذلك استطعنا أن نرصد بعض التلميحات لدراسات ميدانيَّة وبعض التصورات الفكريَّة التي تتصل بهذا الجانب من الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة.

ويقتضي الموقف العلمي في هذا السياق أن يشار إلى الدراسة الهامة لنزار إبراهيم بعنوان: البنى الاعتقاديَّة في الذهنيَّة الشبابيَّة العربيَّة المثقفة” حيث تناول الباحث عينة واسعة من الشباب العربي لأكثر من جنسيَّة عربيَّة. وقد تم اختيارهم بطريقة عشوائيَّة ومن أكثر من وسط اجتماعي:جامعي، وظيفي، مهني. وهدفت هذه الدراسة إلى تقصي مضامين واتجاهات العقليَّة السائدة عند الشباب” ([10]). وقد خرجت هذه الدراسة بنتائج من أهمها “– أن العقل القدري الاستسلامي ما زال له حضور كبير في العقل الشبابي. ومن الجدير الإول أن كلاً من العقليتين القدريَّة الغيبيَّة الاستسلاميَّة والعدميَّة البرجوازيَّة يشكلان المواقع القويَّة الآن في مجتمعنا العربي في وجه تقدم الفكر العقلاني العلمي([11]). ويبين نزار إبراهيم في هذه الدراسة: إن لكل من تلك العقليتين، الغيبيَّة والقدريَّة، والعدميَّة البرجوازيَّة ثوابت اجتماعيَّة مازالت قويَّة جداً في التشكيل الاجتماعي للمجتمعات العربيَّة، من إقطاع، وكبار ملاك الأراضي، وفلاحين أغنياء، وبرجوازيات طفيليَّة كومبرادوريَّة، وبرجوازيات بيروقراطيَّة، ومن خلال القوة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة لهذه الطبقات والفئات الاجتماعيَّة التي تعمل بكل قواها من خلال الإمكانيات المتاحة لها لإعاقة حركة تقدم الفكر العقلاني العلمي ([12])..

وفي دراسة بركات حمزة في مصر عام 1990 حول: تصور طلاب الجامعة للمستقبل([13]). تناولت الدراسة عينة بلغت 368 طالب وطالبة من جامعة عين شمس، وتحددت أغراض الدراسة في الكشف عن تصورات الطلبة واتجاهاتهم نحو الديمقراطيَّة و المشكلة السياسيَّة في الحاضر و المستقبل. ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة نستعرض في خصوصيَّة القدريَّة تبين أن 91,6 % من الطلبة يرون أن المستقبل بيد الله مقابل 96,6 % من الطالبات. واتضح أن العقليَّة الاتكاليَّة أو القدريَّة هي العقليَّة السائدة بين صفوف الطلبة في الجامعات المصريَّة.

وفي صميم هذه الرؤية يسجل برهان غليون موقفه من الثقافة العربيَّة مؤكدا حضور السلطات اللاعقليَّة في حناياها حيث يقول: “التأخر والجمود ناجمان عن وجود هذه السلطات اللاعقليَّة القدريَّة أي التي تفرض التسليم لمبادئ وقيم وأفكار وسلوكات مفروضة وغير مبررة، والتي تمنع العقل من القيام بوظيفته (…) ومن هنا كان مفهوم الحريَّة من المفاهيم الأساسيَّة والضروريَّة لمفهوم العقل والعقلانيَّة. فالحريَّة هي شرط التقدم والتجديد” ([14]).

فالإنسان العربي هو من نمط تقليدي يخضع للطبيعة يستسلم لقدريَّة حتميَّة ولا يعشق التغيير بل يخشاه، إنه يؤن بالسحر والخرافات، ويرغب في الابتعاد عن السلطة وعن مراكز المسؤوليَّة، إنه متواكل إلى درجة التخاذل ولا يبحث في المستقبل لأنه (بيد الله) ويعيش أحضان بالماضي وينعزل به([15]). إن الإنسان في المجتمعات المتطورة نشيط يحب العمل وتحمل المسؤوليَّة، ويخطط للمستقبل ويعتقد بإمكانيَّة التحكم فيه، يؤمن بالتغيير ويعشق المغامرة([16]).

يصف عبد العزيز إدريس الخطابي وضعيَّة الاتكال والانهزاميَّة في المجتمعات العربيَّة بقوله: “تضخم هيمنة الوجه القدري التواكلي للدين على العقليَّة العربسلاميَّة دعّم النظر إليه في علاقته بالسماء أكثر من علاقته بالاجتماع البشري وأحواله، فكان هجران التفكر في الدين في ارتباطاته البشريَّة أحد العوامل المهمة التي ساهمت في تأخر وتراجع وعي الاجتماع مما رسخ وعيا مقلوبا بالدين متجها للآخرة ومتناسيا للدنيا. فكانت أن استشرت علوم تتحدث يأجوج وماجوج والبرزخ ومنكر ونكير وغيرها. وتربت في اللاوعي الجمعي نزعة غيبيَّة للدين باعتبارها كاشفا لألغاز الوجود ومبينا لطلاسمه ومجليا لمخفياته وغيبياته وهي نظرة متأتيَّة ومتوارثة عن الفهم السحري للدين”([17]).

لقد كرس هشام شرابي جلّ أعماله في الكشف عن خصائص المجتمع العربي وتمحورت أبحاثه حول العقليَّة العربيَّة وخصائصها السوسيولوجيَّة والإبيستيمولوجيَّة. وهو في سياق أبحاثه هذه يؤكد حضور الخصائص السلبيَّة بقوة في الثقافة العربيَّة وفي الشخصيَّة العربيَّة. فالشخصيَّة العربيَّة كما يقدمها في كتابه “مقدمات لدراسة المجتمع العربي “هي شخصيَّة مستلبة قدريَّة انهزاميَّة غير قادرة على المبادرة والحضور بحكم الشروط التاريخيَّة التي تحيط بها. ويمكننا في هذا السياق أن نورد بعض التلميحات والإشارات التي يقدمها شرابي في وصفه للشخصيَّة العربيَّة في إطارها الثقافي حيث يقول: “إن الشعور بالعجز جزء لا يتجزأ من بنية الشخصيَّة في أفراد المجتمع البرجوازي الإقطاعي،كما أن الهروب من العجز أو على الأقل تبريره أو تغطيته أمر يحققه بإعادة تنظيم الواقع، أي برفض رؤيَّة الواقع كما هو و اللجوء إلى نوع خاص من العقلانيَّة، يمكننا أن نسميها “عقلانيَّة سحريَّة “. إنها عقلانيَّة مشوهة لأنها ليست متجهة كليا نحو الواقع ([18]). وفي مكان آخر يقول: “إن الصفات المميزة لسلوك الفرد في مجتمعنا يمكن حصرها بثلاث صفات أساسيَّة هي: الاتكاليَّة، والعجز، والتهرب، أو بتغيير أخر، إن الشخصيَّة التي يهدف إليها المجتمع وينتجها بواسطة العائلة هي شخصيَّة تتميز برضوخها للسيطرة وبتهربها من المسؤوليَّة وباتكاليتها.

“إن الفرد في المجتمع العربي ينخرط في الحياة الاجتماعيَّة لتأمين مصالحه الخاصة و المحافظة على سلامته. فالقول العربي المأثور: “امش الحيط الحيط وقول يا رب السترة “يدعو إلى اتباع سلوك الحذر و الاستغناء عن روح المغامرة ([19]). إن الفرد يواجه الحياة بصورة دفاعيَّة ويتحمل آلامها بهدوء وكبت داخلي: إن المجتمع يقضي بأن تحل روح الخضوع محل روح الإقحام وروح المكر محل روح الشجاعة، وروح التراجع محل روح المبادرة. وتبعا لذلك فإن القوي المسيطر لا يواجهونه مواجهة مباشرة بل يستعينون عليه، كما في القول السائد المعروف “اليد اللي ما فيك تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر” ([20]).

أما مقاومة الخصم فلا فائدة منها إذا كان قويا كما في القول المأثور “العين ما تقاوم المخرز “، إنهم يواجهون فقط من هم أضعف منهم، وفي هذا المجتمع يأكل القوي الضعيف في تدرج محتم من فوق إلى تحت. “إن الشعور يتخذ أشكالا متنوعة في نمط السلوك السائد في المجتمع البرجوازي الإقطاعي، ولعل أهم هذه الأشكال هو ما نجد تعبيرا عنه في موقف الجبريَّة، أي الأيمان بالقضاء والقدر” ([21]).

7- خلاصة :

تتغلب في الثقافة العربيَّة المعاصرة الجوانب القدريَّة الحتميَّة في السلوك على معطيات الإيمان بأهميَّة الإرادة الإنسانيَّة والحريَّة في تأسيس المصير الإنساني. وإذا كانت هذه الرؤية الضاربة جذورها في العقل العربي نتيجة التخلف فهي تشكل في الوقت نفسه عنصرا مولدا لمختلف أشكال التخلف والقصور والدونيَّة في الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة العربيَّة. فالإنسان العربي كما تصوره أغلب الدراسات والأبحاث مستسلم لمصيره قانع بما آلت إليه حالته الحضاريَّة ينتظر قرار السماء والإرادة العلويَّة في تحديد مصيره ومصير الكون. إنه معطل ذهنيا وإنسانيا بفعل قدريَّة جوفاء فارغة تمنعه من الحركة والانطلاق نحو صنع التاريخ وصنع المصير.

تتغلب في الثقافة العربيَّة المعاصرة الجوانب القدريَّة الحتميَّة في السلوك على معطيات الإيمان بأهميَّة الإرادة الإنسانيَّة والحريَّة في تأسيس المصير الإنساني. وإذا كانت هذه الرؤية الضاربة جذورها في العقل العربي نتيجة التخلف فهي تشكل في الوقت نفسه عنصرا مولدا لمختلف أشكال التخلف والقصور والدونيَّة في الحياة الاجتماعيَّة والثقافيَّة العربيَّة. فالإنسان العربي كما تصوره أغلب الدراسات والأبحاث مستسلم لمصيره قانع بما آلت إليه حالته الحضاريَّة ينتظر قرار السماء والإرادة العلويَّة في تحديد مصيره ومصير الكون. إنه معطل ذهنيا وإنسانيا بفعل قدريَّة جوفاء فارغة تمنعه من الحركة والانطلاق نحو صنع التاريخ وصنع المصير.

مراجع الدراسة وهوامشها :

[1] – عمر سليمان الأشقر، القضاء والقدر، دار النفائس، مكتبة الفلاح، ط2،  الكويت، 1990، ص 25.

[2] –  نستخدم هنا القدريَّة بمعنى الجبريَّة أو التواكليَّة وفقا للمعنى الذي يعلق فيه الإنسان على القضاء والقدر  كل أمر  وحادث أو حدث دون أن يأخذ بعين الاعتبار الإرادة الإنسانيَّة ومختلف الظروف والمتغيرات التاريخيَّة، ويترتب على هذا الاعتقاد حالة من السلبيَّة المطلقة التي تؤكد حالة من الهزيمة الإنسانيَّة التي تجعل الإنسان عاجزا واتكاليا وقاصرا.

[3]  – روحي البعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، دار العلم للملايين، بيروت، 2000، ص 493.

[4] – صحيح البخاري، رقم الحديث 5729.

[5]-محمد ابراهيم المنوفي، نحو فلسفة تربويَّة لمواجهة ظاهرة الاستبداد السياسي، دراسات تربويَّة، صادرة عن رابطة التربيَّة الحديثة، المجلد العاشر، جزء79، صص(97-176)،ص109.

[6]– ابن فارس

[7]  – عنترة ابن شداد .

[8]  – أبو فراس الحمداني .

[9]  – محمد بو بكري، التربيَّة والحريَّة، من أجل رؤيَّة فلسفيَّة للفعل البيداغوجي، إفريقيا الشرق، بيروت، 1997، ص 111.

[10]–  نزار إبراهيم، البنى الاعتقاديَّة في الذهنيَّة الشبابيَّة المثقفة، الوحدة، عدد 39، ديسمبر، 1987، صص 88 – 153.

[11]–  نزار إبراهيم، البنى الاعتقاديَّة في الذهنيَّة الشبابيَّة المثقفة، المرجع السابق.

[12] –  نزار إبراهيم، البنى الاعتقاديَّة في الذهنيَّة الشبابيَّة المثقفة، الوحدة، عدد 39، ديسمبر، 1987، صص 88 – 153.

[13] – بركات حمزة، تصور طلاب الجامعة للمستقبل، ضمن لويس كامل مليكة : قراءات في علم النفس الاجتماعي في الوطن العربي، ( المجلد الخامس، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة 1990، (صص 280 – 290 ).

[14] – برهان غليون، مجتمع النخبة، معهد الإنماء العربي، دراسات الفكر العربي  بيروت 1986، ص 188.

[15]– أحمد خضر أبو هلال : دراسة أنتروبولوجيَّة لدور الجامعات العربيَّة في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربيَّة: الجامعات العربيَّة والمجتمع العربي المعاصر 7-4 شباط 1973، صص(113-141)،ص133.

[16]– أحمد خضر أبو هلال : دراسة أنتروبولوجيَّة لدور الجامعات العربيَّة في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربيَّة: الجامعات العربيَّة والمجتمع العربي المعاصر 7-4 شباط 1973، صص(113-141)،ص133.

[17]  -عبد العزيز إدريس الخطابي، بنيَّة العقل العربي / نقد العقل العربي، الفكر العربي، السنة 20، العدد 97، صيف 1999, ( صص 139-162)،ص 149.

[18] – هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، دار الطليعة، بيروت، 1991، ص55 -56

[19] -هشام شرابي ،مقدمات لدراسة المجتمع العربي، المرجع السابق ، ص53.

[20] – هشام شرابي ،مقدمات لدراسة المجتمع العربي، المرجع السابق ،  بيروت، 1991، ص53.

[21] – هشام شرابي ،مقدمات لدراسة المجتمع العربي، المرجع السابق ، 1991، ص54.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات