التربية في العصر الحديث: نشأة علوم التربية
ـ تقديم:
لقد تطوَّرت الممارسات التربويَّة في الفترة الحديثة والمعاصرة بشكل كبير، واستفادت هذه الممارسات من الثورة المعرفيَّة التي تحقَّقت في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، والبيولوجيَّة، والفيزيائيَّة، واللغويَّة بمختلف فروعها، وبجميع تخصُّصاتها، ومسالكها وشعبها بسبب مراهنة هذه العلوم على المنهج التجريبي والعمل على الاقتراب من الموضوعيَّة.
فأكبر نقلة معرفيَّة تحقَّقت في علوم التربية، كان بفضل اندماجها وتداخلها وتفاعلها مع العلوم الإنسانيَّة، واستثماراتها لنتائجها ولبحوثها، وبالأخصّ النتائج ذات الصلة بالمجالات التعليميَّة والتربويَّة وبمهن التدريس.
التربية الجديدة
إنَّ العادة التي ترسَّخت بين المشتغلين بتاريخ التربية، أنَّهم اختاروا هذا التعارف العلمي والأكاديمي، وهو أن يؤرِّخوا للتربية بهذه النقلة العلميَّة والطفرة المعرفيَّة التي حدثت وتحقَّقت في التربية بانتقالها من العهد الكلاسيكي إلى العهد الجديد، بصدور كتاب ج -ج -روسوrousseau:G-G: الذي حمل عنوان: إميل أو حول التربية”Emile ou sur l’éducation”[1] وهذا الكتاب الذي كتبه روسو rousseau سنة:1762 شكَّل نقلة نوعيَّة، وطفرة معرفيَّة في الممارسات التربويَّة، بحيث انتقلت هذه الممارسة من الخطاب النظري الفلسفي إلى الخطاب العلمي التطبيقي الإجرائي، أي التوجُّه نحو التمركز حول المتعلِّم، وخدمة هذا المتعلِّم بمساعدته ببيان الكيفيَّة والطريقة التي بها يتعلَّم ويكتسب معارفه، ويؤسِّس بها تعلُّماته بصفةٍ عامَّة.[2]
انطلاقًا من هذا السياق نقول إنَّ التربية الكلاسيكيَّة هي تربية تتمركز حول المعلِّم- pédagogique centrée sur l’enseignant-، فهو المصدر للمعرفة، والمتعلِّم هو متلقٍّ لهذه المعرفة فقط، أمَّا التربية الجديدة فتتمركز حول المتعلِّم- pédagogique centrée sur L apprenant- [3].
وعلى هذا الاعتبار فإنَّ أكبر نقلة معرفيَّة تحقَّقت في علوم التربية، كان بفضل اندماجها وتداخلها وتفاعلها مع العلوم الإنسانيَّة، واستثماراتها لنتائجها ولبحوثها الميدانيَّة والإجرائيَّة، وبالأخصّ النتائج ذات الصلة بالمجالات التعليميَّة والتربويَّة، وبمهن التعليم والتدريس.
وعلاقة التربية، وتداخلها بالعلوم الإنسانيَّة، وبفروعها المختلفة، قد غيَّرت من الملامح والخصائص العامَّة لمفهوم التربية، من حيث المهامّ والأدوار، والوظائف التي تقوم بها التربية في المجتمع.
ومن أبرز العلوم الإنسانيَّة التي اشتغلت على قضايا التربية والتعليم:
–علم النفس التربوي، وهو فرع من فروع علم النفس العام، وقد جاء الاشتغال والعناية بهذا العلم في الغرب في سياق الوعي الذي أخذ يتنامى ويتَّسع ويتزايد حول قيمة العلوم الإنسانيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة في علاج المشاكل النفسيَّة والتعليميَّة والتربويَّة، والرفع من قدرات المتعلِّمين معرفيًّا ومهاريًّا، وتحسين مستواهم الدراسي، والتعليمي من خلال المعالجة، والعمل على الدعم للتعثُّرات والصعوبات، تفاديًا للهدر، والانقطاع المدرسي.
وقد حقَّق علم النفس التربوي نقلة نوعيَّة، وطفرة معرفيَّة، وتحوُّل علمي عميق في المسار التاريخي الذي مرَّت منه البحوث والدراسات التربويَّة، التي اضطرت أن تغيِّر كثيرًا من مسلّماتها، وتراجع عدد من مفاهيمها، ونظريَّاتها المتعلِّقة بالمسائل والقضايا التي تنتمي إلى حقل التربية والبيداغوجيا، وجهة الديداكتيك، وطرائق تدريس المواد التعليميَّة.
ومن قضايا علم النفس التربوي وبحوثه المهمَّة:- مراحل النموّ النفسي عند الطفل، ونظريَّات التعلُّم، المتعلِّقة بالكيفيَّة التي بها يتعلَّم المتعلِّم عبر نمائه وعمره، وصعوبات التعلُّم، والطفولة، والمراهقة.
وعلم النفس التربوي أو المدرسي موضوعه هو كيفيَّة استخدام مبادئ علم النفس التربوي، وتوظيفها في معالجة القضايا والمشكلات المدرسيَّة والتربويَّة، والصعوبات والتعثُّرات التي تعترض المتعلِّم، ويحضر في هذا التخصُّص في القضايا التي ترجع إلى مهن التربية والتعليم.
والغاية من هذه العمليَّة، هو تحسين الأداء المدرسي عند المتعلِّم بصفة عامَّة، ويهتمّ هذا التخصُّص أيضًا بدراسة العلاقات النفسيَّة للجماعات داخل المؤسَّسات التربويَّة.
-علم الاجتماع التربوي
يهتمُّ علم الاجتماع التربوي بتأثير المؤسَّسات الاجتماعيَّة في النظام التعليمي، والتأثير المتبادل بين المدرسة والأسرة، وأثر هذه العلاقة في التحصيل المدرسي في شقيه الإيجابي والسلبي.
ومن القضايا التي عالجها علم اجتماع المدرسة علاقة الأسرة، ومستواها الاجتماعي والاقتصادي بالتحصيل الدراسي عند المتعلِّم، وأثر التنشئة والتربية، والمصاحبة الوالديَّة على التميُّز العلمي والتفوُّق المدرسي عند المتعلِّم، وتأثير عدم التوافق العائلي على المشاكل المدرسيَّة التي تحدث للمتعلِّم.
فعلم الاجتماع التربوي من أهمِّ العلوم التي تفرَّعت عن العلوم الإنسانيَّة واشتغلت بعلاقة المدرسة بالمجتمع. ومراعاة الخصائص الاجتماعيَّة والثقافيَّة للمتعلِّمين، ومستواهم المعيشي لها الأثر على صناعة التميُّز، أو على الإخفاق والفشل الدراسي الذي قد يحدث عند المتعلِّم.
-علم النفس الاجتماعي:
هذا التخصُّص يدرس أثر الخصائص الاجتماعيَّة والثقافيَّة والنفسيَّة ، وتفاعلات الجماعات الصفيَّة، أي جماعة القسم في تفاعلها مع المعلِّم.
فجماعة القسم لها تميُّزها وخصائصها، التي قد تميُّزها عن غيرها من الجماعات الأخرى التي لها من الخصائص ما يميِّزها عن غيرها من الجماعات.
وبصفة عامَّة، فعلم النفس الاجتماعي يشتغل على التفاعلات الصفيَّة، وعلى جماعة القسم في سياق تفاعلها مع المعلِّم الذي تنعته بالقائد، أو المدبِّر، من حيث هو طرف أساسي ومركزي في العمليَّة التعليميَّة.
[1]-ترجم هذا الكتاب مرات عديدة منها ترجمة عادل زعيتر الصادرة عن مؤسسة هنداوي السنة:2019- من أقدم الترجمات13روسو، جان جاك، اميل، ترجمة نظمي لوقا، الناشر الشركة العربيَّة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٥٨
[2]-Rousseau et l’éducation: apports et tensions:Stéphane Martineau etAlexandre A. J. Buysse-Un article de la revue Phronesis -Volume 5, Numéro 2, 2016, p. 14–22
[3]L’éducation et le rôle des enseignants à l’horizon 2020. Philippe Mérieu:p202. UNESCO 2020.
*المصدر: التنويري.