المقالاتثقافة وأدب

نزار قبانيِّ نَاقِمًا؛كيفَ سَاهمت سيرة امرئ القيس في انحطاطِ العرب

وسط مَناخ سياسيِّ متشنِّج، قرَّر نزار قبانيِّ رفع سقف جَراءته عاليًا بتفخيخِ قصائدهِ بأساليبَ شعريَّة صداميَّة ترميِّ إلى إدانة التُّراث بمختلف مَرجعيَّاته لأنَّه ضالع باِعتقادِه في الانحطاط الحضاريِّ والتَّقهقُر الاجتماعيِّ اللَّذينِ ينخران كيانَ الأمَّة العربيَّة.

 بيدَ أنَّ مدار التَّعجُّبِ كلِّهِ هو أن يكون امرؤ القَيس في طليعة هؤلاء المُدانِين، فما هي إذن أبرز المحطَّات التاريخيَّة التي راهن عليها نزار قبانيِّ للوثوب على شخصيَّة مركزيَّة في الشَّعر العربي يعود لها قصب السَّبق في تشقيق عيون الشِّعر وبسط طرائقِه، وتنهيجِ السَّبيل إليه، وهذا وفقا للقراءة التَّأصيليَّة للجاحظ: “وأمَّا الشِّعر فحديثُ الميلاد، صغير السِّنِّ، أول من نهج سبيله وسهَّل الطريق إليه امرؤ القيس ومُهلهَلٌ بن ربيعة”[1].

وإذا كان هذا الإقرار الذي تلفظَّ به الجاحظحاسما لكي يتبوَّأ امرؤ القيس منزلةً أثيرة في تاريخ الأدب العربيِّ   فإلام إذن يروم نزار قبانيِّ من وراء هذا الطَّعن:  

“فِي كلِّ عشرين سنة

يأتِي امرؤ القَيس

عَلى حِصَانهِ

يبحثُ عن مُلكٍ من الغبارِ”[2].

لعلَّ مردَّ التَّوتير الدرامي هو إصدار الشَّاعر لخاتمة طافحة بتعاويذ الخيبة فالمُلك الضائع الذي ترجَّاهُ امرؤ القيس ولم ينله، زانهُ الشَّاعر نزار قباني بحفنة من الغبار، وهي إيماءة إلى حالة الهشاشة آلت إليه الأوطان العربية، ذلك أنَّ اِمرأ القيس يمثِّل واجهة أيقونيَّة لاذ بها الشَّاعر بغية مجابهة مآلات الحاضر بنكوصِ الماضي، وتشخيص عوارض الهزيمة الآنية بمخلَّفات الإخفاقات السَّالفةِ.

فامرؤ القيس كما كشفت عنه كتب السِّير تشاغَل عن وصايا أبيه بارتياد كل صُنوف العربدة ومُلاينةِ مَا استطاب من الملذَّات الحسان، إِذ لم يتصَاحَ إلا لحظة الإجهاز على أبيه، ما اضطرَّه لكي يلهجَ جازعًا: “ضيَّعني صَغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سُكر غدًا، اليوم خمر، وغًدا أمر”[3].

وهي بالتَّمام قراءة تمثيلية سوَّاها نزار قبَّانيِّ لتتطابق صوريًّا مع المخرجات الحضاريَّة والسياسيَّة لأمة عربية ممزَّقةَ الكيان والهويّة، استعاضت عن صون مقدساتها والذبِّ عن حماها بالاهتمام ببسترة الأقاويل الشِّعريَّة الطَّازجة، وتدبيج الخطب الحماسيَّة التي تعوز للرؤية الاستشرافيَّة في تقدير النَّوازل الطارئة والمسائل المستجدة.

ثم إنَّ الخطيئَةَ الكبرى التي اقترفها امرؤ القيس هو سياحته في الأرض طالبا العون والنَّجدة لاستيراد تيجان أبيه المودعة في خزانة بني أسد إلى أن استقرَّ به المقام بأرض قيصر فأكرمَ الأخير وفادتهُ، وقد ألمعت بعض الرِّوايات التاريخيَّة إلى «أنَّ امرأ القيس قرَّر الاستنجاد بقيصر الروم الذي تحمَّس في البداية للفكرة فقرر إعانته بجيش عظيمٍ   ثمَّ عدل في النهاية عن ذلك مخافة أن يغزوه امرؤ القيس إذا انتصر على أعدائه وقويت شوكتهُ.

بيد أنَّ تلك الوشاية الصَّادرة من القصر كانت كفيلة بإجهاض أماني الشَّاعر الثأريَّة حيث أصرَّ الطماَّح بن قيس الأسدي – خادم قيصر- لسيِّده بحصول وصال بين امرئ القيس وابنته، فأرسل إليه قيصر حلَّة مسمومة انتقامًا لشرف ابنته المهدور فلبسها في يوم صائف فتناثر لحمه وتفطَّر جسده وتمزقت أنسجته العضويَّة، وحين حضرته المنية أدرك حجم المؤامرة التي خاطها له قيصر وأعوانه فقال كلمته المشهورة ” وطعنة مُسحنفِرة وجفنة مُثعنْجِرة[4]

أي طعنةٌ واسعة، ودمعة سائلةٌ منسكبة.

ولا عجَبَ أن تكون سيرة امرئ القيس في فصِّها الثاني سندا تاريخيا وخطابا تعبويًّا إضافيًّا يتوسَّل بهما القارئ غداة اكتناه المعاني المخبوءة في السِّياق النِّصي الخَاص بقصيدة نزار قبانيِّ، فطلب الملك الضَّليل المدَدَ والغيث من قيصر الرُّوم لاستعادة ملك أبيه هي التفاتة حصيفة إلى طبيعة مجريات السَّيرورة السياسيَّة في البلاد العربيَّة، ذلك أنَّ العرب كلَّما خاضوا حروبا عسكريَّة أو نزالات سياسيَّة ، راهنوا على الغرب المتحيِّز آملين منهم دعما لوجيستيًّا أو دبلوماسيًّا، لكنّه ما فتئ يدير ظهره في الأيّام الحسام تاركا العرب في دوامتهم يتخبَّطون.

فعشرون سنة هي المدَّة الفاصلة بين النَّكبة والنَّكسة العربيتين، ولعلَّ الذي أينع اللَّفظة أسلوبيا هو تهيُّؤُها في نسج تركيبي ظرفيٍّ، ففي كل عشرين سنة يراد بها مجازيا المدَّة التي ينتصب فيها الميقات ليأتي امرؤ القيس مصطحِبًا جواده غارقا في أمانيهِ المتعلِّقة بإحياء إرث أبيه حجر بن عمرو الَّذي غدر به بنو أسد رفضًا منهم لمغالاته في الإتاوات، التي كانت تجبى إليه في كلِّ حين.

أمّا كلّ الظرفيّة في قوله: “في كلِّ عشرين سنة”، فهي تفيد المداومة على الفعل وتعاطيه بغض النَّظر عما سيؤول إليه من نتائج، وهي بلا ريب استقراء منطقي للعقل السياسيِّ العربيِّ القاصر، المشغوف بالمداومة على اتِّخاذ القرارات ذاتها المفضية إلى الهزيمة دون تعديل أو تقويم، فهم كلما انقادوا للهزيمة تراهم يفدُّون أفواجا إلى الهيئات الأمميّة بمجالسها التنفيذيَّة المختلفة للتَّظلُّم والتَّشاكيِّ.

ولعلَّ مدار الخيبة في السيرتين أنَّ امرأ القيس قبل الهديَّة بعفو خاطر فتورَّم جسده وعمَّته القروح إلى أن لفظ أنفاسهُ الأخيرة، والعرب بدورهم استرشدوا بوصايا الغرب الملفَّقة واستعظموا عطاياهم الفاتنِة فتورَّمت أرضهم بسرطان إسرائيل، واغتدت أوطانهم مسرحًا للصراعاتِ الإثنيّة والمناكفات المذهبيَّة.

وإجمالا فقد خضعت المقطوعة الشِّعريَّة لثلاث مراحل أساسيَّة جسدت دورتها الحياتيَّة:

نقطة البداية: تحيُّن السياق الزَّمني لظهور امرئ القيس – في كلِّ عشرين سنة -.

خطُّ المُمَارسة: جلبة امرئ القيس بحصانه باحثا عن مُلكهِ الشَّارد.

المحصّلة: فشل مسعى امرئ القيس واستحالة الملك غبارا.

وتأسيسًا على ما تمَّ ذكرهُ فقد استطاع نزار قبانيِّ تأسيس منازع شعريَّة جديدة تستنطق سيرة رموز التراث العربيِّ ومن ثمَّ تعيد محاكمتِها وفقَ رؤيَة حداثيَّة تتواصَى بمخرجاتِ الواقعِ وهذا لتجسير مسَافةٍ إبداعيَّة تخوِّل للمتلقيِّ العربيِّ تعميقَ أسئلتهِ النقديَّة إزاء تراثهِ، وربِطهِ بمآلاتِ الحاضِر.

________

قائمة مراجع البحث:

عبد المالك مرتاض، السبع المعلقات، مقاربة سيميائية أنثروبولوجية، منشورات اتِّحاد كتاب العرب، ط1، 1998. 

ابن قتيبة، الشِّعر والشعراء، ج1، تح: محمد أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط،1، 1952.

الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، مج1، تح: يحي الشَّامي، مكتبة الهلال، مصر ط1، 1990.

  نزار قباني، ديوان هوامش على الهامش ضمن الأعمال السياسية الكاملة، مج6، منشورات نزار قباني بيروت، ط2، 1999


[1] الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، الحيوان، مج1، تح: يحي الشَّامي، مكتبة الهلال، مصر ط1، 1990، ص 74.

[2] نزار قباني، ديوان هوامش على الهامش ضمن الأعمال السياسية الكاملة، مج6، منشورات نزار قباني بيروت، ط2، ،1999ص 524.

[3] عبد المالك مرتاض، السبع المعلقات، مقاربة سيميائية أنثروبولوجية، منشورات اتِّحاد كتاب العرب، ط1، 1998، ص 21.

[4] ابن قتيبة، الشِّعر والشعراء، ج1، تح: محمد أحمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط،1، 1952، ص109.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات