المقالاتتربية وتعليم

الاستثمار التربوي في رأس المال الإنساني؛ رؤية سوسيولوجيَّة معاصرة

“عندما أصلِّي أيمِّم وجهي صوب مكة، ولكنني عندما أردت بناء بلادي يمَّمت وجهي شطر اليابان”/ مهاتير محمد.

1- مقدّمة :

شكَّلت المضامين الاقتصاديَّة للتربية ودورها في عمليَّة التنمية محور البحوث والتقصيات الاقتصاديَّة الواسعة منذ بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويأتي هذا الاهتمام تعبيرا عن العلاقة الجوهريَّة المتنامية بين التربية والاقتصاد التي تأخذ صورة معقَّدة من التفاعلات يتشابك فيها المعرفي بالاقتصادي والسياسي بالتربوي دون انقطاع. وممَّا لاشكّ فيه أن هذه العلاقة بين التعليم وسوق العمل قديمة قدم التاريخ، ولكن التحوّلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي شهدتها المجتمعات الإنسانيَّة دفعت بهذه المسألة إلى مرتبة الصدراة وذلك عندما بدأت المؤسّسات التعليميَّة والتربويَّة تتحوَّل إلى مؤسَّسات إنتاجيَّة بالمعنى الدقيق للكلمة، وعندما صارت معنيَّة بإنتاج القوى الاجتماعيَّة المؤهَّلة علميا وفنيا لممارسة مختلف الوظائف والمهن في الحياة الاجتماعيَّة.

في المراحل التاريخيَّة القديمة كانت التربية تعنى بالجوانب الأخلاقيَّة والإنسانيَّة بالدرجة الأولى، وكانت اهتمامات المربّين والمفكّرين تتمحور حول الجوانب الدينيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة في التعليم. ومن هذا المنطلق ركَّز مؤسِّسو المدارس الحديثة في العهود الماضية على بناء روح المواطنة والقيم الأخلاقيَّة وترسيخ القيم والثقافة في مختلف البلدان الغربيَّة المتقدِّمة. ولكن البعد الاقتصادي للتربية فرض نفسه بقوَّة في مجال التربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين تحت تأثير التطور الرأسمالي الكبير، حيث بدأت مسألة العلاقة بين التعليم والدخول الاقتصاديَّة والبطالة والنمو الاقتصادي واللامساواة الاجتماعيَّة تطرح نفسها بقوَّة كقضيَّة اجتماعيَّة وسياسيَّة في القرن العشرين، وبدأت هذه المسألة تطرح نفسها في عمق الجدل الدائر في المستويات الوطنيَّة والأمميَّة، ويتجلَّى هذا الأمر في الجهود التي بذلتها الأمم المتَّحدة واليونيسكو في مجال التربية والتعليم والتعهّدات التي تبنّتها في مجال تعميم التعليم وتعزيز مساراته وذلك من أجل خفض مستوى الفقر في العالم.

إنَّ حضور البعد الاقتصادي المكثف للتربية في القرنيين التاسع عشر والعشرين، ليس مجرد طفرة تربويَّة بل نتاج للتطوّر الاقتصادي والسياسي في بنية النظام الرأسمالي الجديد نفسه في إطار علاقته بالأنساق التربويَّة والمدرسيَّة.

لقد أدَّت التحوّلات التكنولوجيَّة وانخفاض مستوى الفائدة (منذ الستينات في القرن المنصرم) إلى تغيّر في متطلّبات أرباب العمل، حيث بدأت القوى الرأسماليَّة الجديدة بالطلب على قوة عاملة مرنة قادرة على التكيُّف في مختلف الظروف المتغيِّرة، وقادرة على تلبية احتياجات الرأسماليَّة الجديدة. ووفقا لهذا التصوّر الجديد لم تعد الأولويَّة قائمة في عمليَّة تحويل المعرفة ونقلها فحسب بل في عمليَّة بناء المرونة الوظيفيَّة عن طريق التأهيل التربوي للقوى العاملة لاكتساب هذه المرونة وتلك القدرة على التكيُّف الوظيفي.

فالتحوّلات التي شهدتها الحياة الاقتصاديَّة في مستوى القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج أدَّت إلى تطوُّر النظام التربوي وفقا لمتطلّبات الحياة الاقتصاديَّة الجديدة التي تشبَّعت بمعطيات تكنولوجيا المعلوماتيَّة والاتّصال والثورة الرقميَّة والطفرات المتجدِّدة في مختلف ميادين العلم والمعرفة والتقانة. وفي غمرة هذه التحوّلات أصبح النظام التربوي مطالبا بإحداث ثورة داخليَّة في مختلف مستويات التعليم والتربية وذلك من أجل تعزيز قدرة الفرد في المجتمع على مواكبة التغيُّر وتعزيز قدراته على التكيُّف والاتِّصال.

فالنظام الصناعي القديم القائم على التقسيم التايلوري فريدريك تايلور Fedriek Tylor (1856-1915) [1] للعمل كان يتوافق في المراحل الماضية مع الأنظمة التربويَّة التي كانت سائدة في ذلك العهد، ولكنه فقد اليوم مبرّرات وجوده وأصبح عاجزا تماما عن مواكبة التحوّلات الجديدة، فالعامل في منظومة الإنتاج الجديدة لم يعد مجرد حلقة جوفاء ثابتة في عمليَّة الإنتاج في المصنع بل أصبح دورة ديناميَّة متكيِّفة مع مختلف الأوضاع الجديدة لعمليَّة الإنتاج حيث يقوم بأدوار ووظائف مختلفة متكيفة مع كل وضع جديد تفرضه تقانات جديدة وتطوّرات متعاقبة، وهذا يعني أنَّ العامل انتقل من دوره الساكن المحدَّد إلى طاقة ديناميَّة متحرِّكة ومتكيِّفة في دورة التحوّلات التي لا تتوقَّف في ميدان التطوّر الصناعي. وتأسيسا على هذا التصوّر الدينامي لحركة الإنتاج، فرض النظام الرأسمالي الجديد على النظام التربوي أن يحدث في ذاته منظومة من التحوّلات الجديدة تتوافق مع متطلّبات الرأسمال الجديد بطبيعته الحداثيَّة المتجدِّدة. ووفقا لهذه الضرورة الرأسماليَّة الجديدة يجري الحديث عن ضرورة إعداد اليد العاملة المرنة القادرة على التكيُّف مع مختلف الظروف والتحوّلات المستجدّة في النظام الرأسمالي القائم، وهذه العمليَّة ليست سوى جزئيَّة من نظام التغيرات الجديدة التي تؤدّيها المدرسة وفقا للوضعيات الرأسماليَّة الجديدة.

وتجدر الإشارة في هذا المستوى إلى أن النظام الرأسمالي الجديد يعمل على تحقيق التوازن بين الوظائف المطلوبة في سوق العمل وبين مستوى التأهيل التربوي للأفراد، وهو يرفض تأهيلا تربويا يتجاوز حدود الوظائف المطلوبة في ميدان العمل والحياة الرأسماليَّة. ولا يأتي هذا الرفض لأن التأهيل العالي مكلف اقتصاديا بل لأن ذلك يؤدِّي إلى ضجر العمال ونفورهم وعدم ارتياحهم وتمردهم، وهذا الأمر يرتبط بوضعيَّة قوَّة العمل وطموحاتها وفاعليتها في ميدان العمل والإنتاج. وهذا الأمر يمكن ملاحظته عبر عمليَّة تعميم التعليم في بعض المراحل ومن ثم العمل على تحديده في بعض المستويات لمنع ما يسمى بالتأهيل الزائد. وبعبارة أخرى يفرض النظام الرأسمالي الجديد على النظام التربوي أن يوائم بين حاجات سوق العمل من خبرات وكفاءات وبين عدد الخريجين ومستوياتهم وتأهيلهم العلمي، ويريد أن يحافظ في الوقت نفسه على معادلة التوازن بين مخرجات النظام التعليمي وحاجات سوق العمل وتقليص الهامش بين النظامين في سوق العمل. وبعبارة أكثر وضوحا يريد النظام الرأسمالي تفصيل المدرسة على مقاس العمل بدقَّة متناهية فليس مطلوبا من المدرسة أن تنتج في مستوى النوع أو الكم أكثر أو أقل من حاجة الصناعة المتنامية ويجب عليها أن تطوِّر إنتاجها على إيقاع تطوّر الصناعة وقطاعات الإنتاج بمقاييس دقيقة.

لقد أدَّت التحولات الراديكاليَّة، التي فرضها الرأسماليون على المدرسة ورسالتها التربويَّة، إلى نتائج تتعلَّق باستقلالها وعلاقتها بالسياق التربوي الذي يحتضنها. والمسألة تكمن في فصل المدرسة عن سياقها وتكييفها لمتطلّبات الرأسمال ومقتضياته وحاجاته. وهذا الأمر يمثِّل جوهر الإصلاحات التربويَّة الجارية خلال السنوات الأخيرة المنصرمة، حيث يتَّجه الإصلاح الرأسمالي إلى تحقيق استقلال المدرسة عن السلطة السياسيَّة المركزيَّة وذلك من أجل إفساح المجال للمنطق الرأسمالي بالحضور والتقدُّم، وقد أثمر هذا الإصلاح في توليد فروع دراسيَّة جديدة متعدِّدة الاتِّجاهات متوافقة مع الحاجات الجديدة للمجتمع الصناعي.

وبناء على ما تقدَّم، يمكن أن نستنتج أنَّ المدرسة قد تحوَّلت إلى مؤسَّسة رأسماليَّة في خدمة الرأسمال والنظام الرأسمالي، وأصبحت معنيَّة بانتاج رأسمال بشري في خدمة الحاجات المتنامية للصناعة الرأسماليَّة، ومن هذا المنطلق تحوّلت إلى مؤسَّسة تربويَّة رأسماليَّة تهتدي بقوانين السوق بما يقتضيه هذه السوق الرأسمالي من قوانين العرض والطلب والربح والعائدات والاستثمارات والتوظيفات. ومن أجل هذه الغاية فإن النظام الرأسمالي ومن أجل المحافظة على قوّته واستمراره يقوم بوضع برامج واستراتيجيات للإصلاح التربوي الذي يحقق التوازن الرأسمالي المطلوب.

وبعبارة أكثر وضوحا تحوّلت المدرسة إلى تصميم برجوازي رأسمالي، تخضع لسلسلة من الإصلاحات والتعديلات التي تواكب متطلبات الحياة الرأسماليَّة، حيث لا يراد لها أن تكون لا أكثر ولا أقل من المقياس الرأسمالي، لأن النقصان والزيادة في المعايير والمقاييس يؤّديان إلى مخاطر كبيرة في مسار تطوّر المجتمعات الرأسماليَّة.

تحوّلت المدرسة إلى تصميم برجوازي رأسمالي، تخضع لسلسلة من الإصلاحات والتعديلات التي تواكب متطلبات الحياة الرأسماليَّة، حيث لا يراد لها أن تكون لا أكثر ولا أقل من المقياس الرأسمالي، لأن النقصان والزيادة في المعايير والمقاييس يؤّديان إلى مخاطر كبيرة في مسار تطوّر المجتمعات الرأسماليَّة.

لقد أسَّست هذه التطوّرات الاقتصاديَّة الجديدة في ميدان التربية إلى ولادة علم اقتصاد التربية تعبيرا عن الحاجة إلى تفهّم علمي للوضعيات الاقتصاديَّة الجديدة ودراسة أوجه التفاعل بين العوامل الاقتصاديَّة وبين العوامل التربويَّة في مسار الحياة الاجتماعيَّة. وفي هذا المسار يمكن القول إنَّ علم اقتصاد التربية – في ظل رأسملة المدرسة – بدأ يمارس تأثيره الكبير في توجيه الأنظمة التعليميَّة والتربويَّة وتحديد غاياتها وأهدافها البعيدة، واستطاع هذا العلم الجديد أن يشكِّل منطلقا لعملات الإصلاح التربوي التي تمحورت جوهريا حول مسألة تكييف التربية لمتطلّبات التنمية وتحقيق التوازن بين متطلّبات التعليم ومتطلّبات سوق العمل في ظلّ الرأسماليَّة الجديدة.

ومن أجل تقديم صورة واضحة للتحوّلات الرأسماليَّة التي أثَّرت في ظهور اقتصاديات التربية كعلم جديد، يمكن التمييز بين ثلاثة مراحل من مستويات التطوّر التربوي في علاقته بالنظام الاقتصادي للرأسماليَّة الجديدة:

في المرحلة الأولى، تمَّ تأسيس المدرسة من قبل البرجوازيَّة كمؤسَّسة تربويَّة منفصلة عن وظيفة الإنتاج الرأسمالي لأداء أدوار أيديولوجيَّة ضدّ الإقطاع والبروليتاريا في آن واحد.حيث قامت بتحويل المدرسة إلى أداة أيديولوجيَّة من أجل فرض هيمنة الثقافة البرجوازيَّة في مجال العمل والحياة والإنتاج. والمدرسة في هذه المرحلة كانت مطالبة بالإضافة إلى بثِّ المعرفة العلميَّة بالعمل على بناء ” مواطنين صالحين ” يتمثّلون الأخلاق البرجوازيَّة، ويقاومون احتمال وجود ثقافة عمّاليَّة مستقلَّة.

وفي المرحلة الثانية، عهد إلى المدرسة وظيفة تزويد النظام الرأسمالي باليد العاملة المؤهَّلة والكفاءات والخبرات العلميَّة الضروريَّة من أجل تنمية المؤسّسات الرأسماليَّة. وفي هذه المرحلة لم تعد وظيفة المدرسة قاصرة على بثّ القيم البرجوازيَّة فحسب بل أصبحت معنيَّة بتحويل معارف علميَّة ضروريَّة من أجل الإنتاج والعمليَّة الإنتاجيَّة، حيث بدأت المدرسة تؤدِّي دورا اقتصاديا واضحا يتمثَّل بعمليَّة التأهيل العلمي لليد العاملة وتلبية احتياجات سوق العمل من الكفاءات والخبرات والمهارات.

وفي المرحلة الثالثة، بدأت عمليَّة دمج المدرسة في العمليَّة الإنتاجيَّة وتحويلها إلى مؤسَّسة رأسماليَّة ترتبط جوهريا بعجلة الإنتاج الرأسمالي والصناعي، وبدأت المؤسّسات الرأسماليَّة نشاطا واسعا لدمج المدرسة كليا في نسق الحياة الوظيفيَّة للمجتمع الرأسمالي الصناعي وتلبية احتياجاته التربويَّة والاستهلاكيَّة، وبدأت المدرسة تتحوَّل فعليا إلى مدرسة رأسماليَّة بوظائفها وبنيتها وأدوارها التربويَّة، وهذا ما يمكننا أن نطلق عليه رأسملة المدرسة.

وباختصار يمكن القول في هذا السياق بأنَّ النظام الاقتصادي الرأسمالي الجديد قد نجح في تحويل المدرسة إلى مؤسَّسة فعليَّة لإنتاج أناس قادرين على أداء أدوار رأسماليَّة تسويقيَّة في خدمة النظام الرأسمالي، وإنتاج طبقة عماليَّة بروليتاريَّة قادرة على الوفاء بمتطلّبات النظام الرأسمالي، وإعداد طبقة من الخبراء والفنيين والعلماء الذين يعزِّزون مسار التطور الاقتصادي للرأسماليَّة ذاتها. وفي كل الأحوال فإن الرأسماليَّة الجديدة تعمل بصورة مستمرَّة على إخضاع المدرسة لمنطق الرأسمال وقوانينه الاقتصاديَّة، وفي دائرة هذا التوجّه يتمّ العمل على تكييف التعليم لمتطلّبات الحياة الرأسماليَّة المتغيِّرة عبر الزمان والمكان، وتحويله إلى مؤَّسسة لإنتاج طبقة عماليَّة مزوّدة بالقدرة على إعادة إنتاج نفسها في دورة الحياة الرأسماليَّة المعاصرة.

ويمكن التأكيد في هذا السياق مرَّة جديدة أنّ هذه التطوّرات الجديدة التي وضعت المدرسة في خدمة الصناعة والعمليَّة الإنتاجيَّة مهَّدت لولادة ما يسمَّى باقتصاديات التربية التي تتناول المدرسة بوصفها مجرد مؤسَّسة إنتاجيَّة صناعيَّة تخضع لكل القوانين والمعايير الاقتصاديَّة السائدة في النظام الرأسمالي الجديد في عصر العولمة والميديا.

وتأسيسا على هذه الصورة الرأسماليَّة الجديدة للمدرسة بدأت الدراسات والبحوث تتناول المدرسة بوصفها منتجا لرأس المال البشري، وبيَّنت هذه الدراسات في أكثرها أن تراكم رأس المال البشري (Human Capitalيساهم على قدم المساواة مع رأس المال الفيزيائي في عمليَّة النمو الاقتصادي بالمعنى الواسع والدقيق للكلمة. ومن هذا المنطلق بدأت البلدان المتقدِّمة تركِّز في سياساتها الاقتصاديَّة على أهمّيَّة رأس المال البشري وتعطيه أولويَّة كبرى في البرامج التنمويَّة الاقتصاديَّة البعيدة والقصيرة المدى.

ونظرا للأهميَّة الكبرى المتزايدة التي يحظى بها القطاع التربوي في مجال الحياة الاقتصاديَّة ازدهرت الدراسات والأبحاث التي تتناول العلاقة الإشكاليَّة المعقَّدة بين التربية والاقتصاد، وتميَّزت هذه الدراسات بالتركيز على أهميَّة الدور الاقتصادي للتربية في مختلف أوجه الحياة الاجتماعيَّة. وقد شكَّل هذا الموضوع حقلا خصبا أدَّى إلى تطوّر كبير في علم اقتصاديات التربية وقد أثمر هذا النشاط العلمي عن ولادة نظريات اقتصاديَّة جديدة تميّزت بقدرتها على تناول القضايا الاقتصاديَّة للتربية وتحليل مضامينها على نحو منهجي.

فالعلاقة بين التربية والاقتصاد صورة معقَّدة من التفاعلات الإشكاليَّة التي تتعَّلق بتأثير كل منهما في الآخر، وترتسم هذه العلاقة عبر شبكة من المتغيّرات الاقتصاديَّة والقوانين الاقتصاديَّة كالاستثمار، والتوظيف، والعوائد، والإنتاج، وإعادة الإنتاج، والكفاءة والمهارة، وقوانين السوق ورأس المال. ونظرا لتعدُّد تلك المتغيّرات تتقاطع الدراسات الجاريَّة في هذا الميدان أحيانا، وتتناقض نتائجها أحيانا أخرى، في مسار استكشاف البعد الاقتصادي للتعليم والبعد التربوي للاقتصاد.

فأصحاب النزعة الاقتصاديَّة يختزلون التعليم إلى صورته الاقتصاديَّة، ويعمِّمون تصوّراتهم الاقتصاديَّة هذه إلى الحدّ الذي أصبحت فيه هذه الصورة مشروعة في الحقل التربوي بين عدد كبير من المربّين والمثقّفين والسياسيين، الذين جنحوا بقوَّة للنظر إلى المدرسة من زاوية جدواها الاقتصاديَّة وتأثيرها في الشروط الماديَّة لحياة الأفراد والمجتمعات الإنسانيَّة.

وتأسيسا على هذه الرؤية الاقتصاديَّة للتربية بدأت المؤسّسات المدرسيَّة تتنمذج في وظيفتها وفعاليتها على منوال المؤسّسات الاقتصاديَّة وتفعل فعلها في عمليَّة الإنتاج، وتحذو حذوها في إنتاج رأس مال بشري يتجسَّد في الأفراد الذين يرتادونها. وهي، من أجل بناء رأس المال البشري وأداء وظيفتها التربويَّة، تحتاج إلى نفقات وتوظيفات ماليَّة كبيرة على مستوى الأفراد والمجتمع، وهذه التوظيفات الماليَّة المطلوبة لإعداد رأس المال البشري ستتحوَّل بالضرورة إلى عوائد اقتصاديَّة تعم فائدتها الأفراد والمجتمع مهما قصر الزمن أو طال.

2- إشكاليَّة  الاستثمار في رأس المال البشري :

تأخذ العلاقة بين التربية والاقتصاد صورة معقَّدة من التفاعلات الإشكاليَّة التي تتعلَّق بتأثير كل منهما في الآخر، وترتسم هذه العلاقة عبر شبكة من المتغيرات الاقتصاديَّة والقوانين الاقتصاديَّة كالاستثمار، والتوظيف، والعائدات، والإنتاج، وإعادة الإنتاج، والكفاءة والمهارة، وقوانين السوق ورأس المال. ونظرا لتعدُّد تلك المتغيّرات تتقاطع الدراسات الجارية في هذا الميدان أحيانا، وتتناقض نتائجها أحيانا أخرى، في مسار استكشاف البعد الاقتصادي للتعليم والبعد التربوي للاقتصاد.

فأصحاب النزعة الاقتصاديَّة يختزلون التعليم إلى صورته الاقتصاديَّة، ويعمِّمون تصوّراتهم الاقتصاديَّة هذه إلى الحدّ الذي أصبحت فيه هذه الصورة مشروعة في الحقل التربوي بين عدد كبير من المربين والمثقفين والسياسيين، الذين جنحوا بقوة للنظر إلى المدرسة من زاوية جدواها الاقتصاديَّة وتأثيرها في الشروط الماديَّة لحياة الأفراد والمجتمعات الإنسانيَّة.

وتأسيسا على هذه الرؤية الاقتصاديَّة للتربية بدأت المؤسّسات المدرسيَّة تتنمذج في وظيفتها وفعاليتها على منوال المؤسّسات الاقتصاديَّة وتفعل فعلها في عمليَّة الإنتاج، وتحذو حذوها في انتاج رأس بشري يتجسد في الأفراد الذين يرتادونها. وهي، من أجل بناء رأس المال البشري وأداء وظيفتها التربويَّة، تحتاج إلى نفقات وتوظيفات ماليَّة كبيرة على مستوى الأفراد والمجتمع، وهذه التوظيفات الماليَّة المطلوبة لإعداد رأس المال البشري ستتحوَّل بالضرورة إلى عائدات اقتصاديَّة تعمّ فائدتها الأفراد والمجتمع مهما قصر الزمن أم طال.

ويمكن في هذا السياق البحث في أمرين أساسيين إشكاليين يتعلقان بالوظيفة الاقتصاديَّة للمدرسة من جهة، وبالوظيفة التربويَّة للاقتصاد من جهة أخرى:

يتمثَّل الأول: في تأثير رأس المال البشري المتشكِّل عبر التربية في الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للأفراد والمجتمع.

ويتمثّل الثاني: في تأثير الأوضاع الاقتصاديَّة في مستوى تأهيل الفرد وتحصيله العلمي والمعرفي.

وفي هذا الموقع الحيوي من التأثير المتبادل بين التربية والاقتصاد تقع إشكاليَّة هذه الدراسة التي تحاول تقصي ابعاد هذه العلاقة وملابساتها في ثلاثة محاور اساسيَّة:

1- تأثير التربية في الحياة الاقتصاديَّة للمجتمع والفرد.

2- تأثير الاقتصاد في مختلف التجليات الإنسانيَّة للحياة التربويَّة.

3- التفاعل الحيوي بين المؤسّستين التربويَّة والاقتصاديَّة.

وفي دائرة هذا التوجّه المنهجي يمكن تصنيف أسئلة الدراسة وفقا لمجموعتين:

تتمثَّل الأولى في استكشاف العوامل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للأفراد وكيفيَّة تأثيرها في عمليَّة تمدرسهم، ومن ثم كيفيَّة تأثيرها في حياتهم الاقتصاديَّة لاحقا، أي في مستوى دخولهم وأجورهم المستقبليَّة.

وتتمثَّل المجموعة الثانية في دراسة التوظيفات الاقتصاديَّة للمجتمع في بناء رؤوس الأموال البشري (أي الأموال الموظفة في التربية) وومدى اسهامها في التأثير على الأوضاع الاقتصاديَّة للمجتمع ولا سيما في دخوله القوميَّة والوطني.

3-  اقتصاديات التعليم في سياق تاريخي

في دائرة الاهتمام العلمي المتنامي بمسألة الدور الاقتصادي للتربية، تكاثفت الدراسات العلميَّة، والأبحاث الاقتصاديَّة في مجال اقتصاديات التربية، وشكَّلت أنساق البحوث والاهتمامات والسياسيات التربويَّة المناخ الفعال لولادة علم جديد يبحث في مختلف التجليات الاقتصاديَّة للتربية، كما يبحث في مختلف التجليات التربويَّة في الحياة الاقتصاديَّة. ويمكن تعريف اقتصاديات التربية Economies de l’education بأنها العلم الذي يبحث في ديالكتيك العلاقة بين التربية والاقتصاد، فيتناول المكوّنات التربويَّة للظاهرة الاقتصاديَّة، كما يتناول أبعادها، ويسعى عمليّا إلى قياس الأبعاد التربويَّة في الاقتصاد، كما يعمل بالمقابل على قياس الأبعاد الاقتصاديَّة للتربية والتعليم. وفي سياق هذا التقصِّي العلمي لاقتصاديات التربية بدأ هذا العلم بتناول التربية كمؤسَّسة اقتصاديَّة منتجة لليد العاملة المؤهّلة، وانطلق في معالجة المسألة التربويَّة برمّتها وفقا للقوانين الاقتصاديَّة التي تتعلَّق بالعرض والطلب والاستثمار والتوظيف والعوائد، ودراسة القوانين الاقتصاديَّة السائدة في مجال الحياة التربويَّة برمّتها.

وقد عرَّفها كوهن Cohn ” بأنها دراسة كيفيَّة اختيار المجتمع وأفراده استخدام الموارد الإنتاجيَّة Productive resources لإنتاج مختلف أنواع التدريب وتنمية الشخصيَّة من خلال المعرفة والمهارات وغيرها اعتماداً على التعليم الشكلي خلال فترة زمنيَّة محدّدة وكيفيَّة توزيعها بين الأفراد والمجموعات في الحاضر والمستقبل”[2].

وغني عن البيان أنَّ الاهتمام بدراسة الظواهر الاقتصاديَّة للتربية انطلق بمبادرة من علماء الاقتصاد في بداية الأمر، ومن ثم وفي مرحلة لاحقة بدأ عدد كبير من المتخصصين في العلوم التربويَّة يهتمون بدراسة الجوانب الاقتصاديَّة للتربية، وتحول علم اقتصاديات التربية إلى علم تربوي محض يُدرّس في كليات التربية تحديدا، وأصبح مع دورة الزمن تخصّصا وطيدا في مجال العلوم التربويَّة في مختلف الجامعات في مختلف أنحاء العالم([3]).

ويمكننا في هذا السياق تعريف اقتصاديات التعليم بأنها ” العلم الذي يبحث في مختلف أوجه الفعاليات الاقتصاديَّة للتربية وفي كيفيَّة استخدام الموارد التعليميَّة وتوظيفها من أجل الاستثمار في البشر بالتعليم والتدريب والإعداد المهني.

يجب أن نعلن منذ البداية بأن الأفكار الأساسيَّة لاقتصاديات التربية ليس جديدة كل الجدة، بل هي قديمة تعود إلى أربعة قرون خلت عندما ظهر مفهوم رأس المال البشري في القرن السابع عشر فاقترن استخدامه بمفهوم رأس المال الفيزيائي ومستوى الدخل ومستوى التطوّر الاقتصادي.

يجب أن نعلن منذ البداية بأن الأفكار الأساسيَّة لاقتصاديات التربية ليس جديدة كل الجدة، بل هي قديمة تعود إلى أربعة قرون خلت عندما ظهر مفهوم رأس المال البشري في القرن السابع عشر فاقترن استخدامه بمفهوم رأس المال الفيزيائي ومستوى الدخل ومستوى التطوّر الاقتصادي.

تعود البدايات الأولى لاقتصاد التربية إلى كتابات آدم سميث Adam Smith مؤسّس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي[4]في مؤلّفه الشهير ثروة الأمم The Wealth of Nations الذي نشر سنة 1776، حيث يبيّن فيه أهميَّة التعليم كعنصر فعال وحيوي لتحقيق استقرار المجتمع اقتصادياً وسياسياً واجتماعيا. وفي هذا الكتاب يقدِّم سميث موازنة دقيقة لحساب العلاقة بين رأس المال الفيزيائي ورأس المال البشري وتأثير كل منهما في تقدُّم الأمم وازدهارها، وفي هذه الموازنة ينظر إلى التربية بوصفها استثمارا في رأس المال البشري، ويبيّن الإمكانيات الهائلة للتعليم في إثراء اقتصاد الأمم وتقدّمها. وتنطوي نظريَّة سميث هذه على فكرتين أساسيتين: تتمثَّل الأولى في دور التعليم وأهميته في تحديد مستوى دخل الفرد وإنتاجيته؛ وتتمثَّل الثانية في تأثير النظام التعليمي في النظام الاقتصادي للدولة([5]). وغالبا ما كان آدم سميث يوازن بين الإنسان المتعلم والآلة الثمينة المتطوّرة حيث يقول ” يمكن مقارنة الإنسان المتعلّم الذي يشغل وظيفة تتطَّلب مهارة وبراعة هائلة بآلة باهظة الثمن، وذلك نظرا لما بذله من جهود كبيرة مكثّفة عبر الزمن في التعلم والاكتساب، ومن هذا المنطلق فإنَّ مردوديَّة العمل الذي يؤدِّيه الرجل المتعلّم – مقارنة بالمردود المادي للعامل العادي – سيعوّضه عن تكلفة تعليمه” [6]. ويوجد هناك شبه إجماع على أن سميث سبق معاصريه في الإشارة إلى أهميَّة رأس المال البشري ودوره الكبير في الدخل الاقتصادي القومي ([7]).

وفي القرن التاسع عشر يطالعنا كارل ماركس Karl Marx (1867) في كتابه “رأس المال” بمنظومة من التصوّرات الجديدة حول رأس المال بتجلياته الاقتصاديَّة والبشريَّة، ويميّز في نظريته الاقتصاديَّة بين العمل البسيط (غير المؤهّل) وبين العمل المعقَّد الذي يرتبط بالخبرة والتأهيل، ليؤكِّد الفوارق الكبيرة في إنتاجيَّة كل منهما وفاعليته، ويبين ماركس في هذا السياق أن العمل المعقَّد يتشكَّل وفق عوامل عديدة منها التأهيل والوقت الذي يقضيه الأفراد في التعليم والتعّلم أيضا. وتأسيسا على هذه المساهمة يعد ماركس أوَّل من تناول العمليات التي يتمّ بموجبها إنتاج رأس المال البشري ودوره في عمليَّة الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي.

وتبدو أفكار ماركس حول العلاقة بين الاقتصاد والتربية صريحة عندما تعرّض في كتابه «نقد برنامج غوته Critique du programme de Gotha » إلى تأثير الأوضاع الاقتصاديَّة للأسرة في عمليَّة التمدرس والتحصيل في المدرسة، مشيرا إلى الأوضاع الصعبة للطبقة العاملة ومدى انعكاسها السلبي على العمليَّة التربويَّة للأطفال. ونجد مثل هذه الإشارات في كتابه «رأس المال »Le Capital حيث يتناول العلاقات القائمة بين الكفاءات العلميَّة والتكنولوجيا للعمال المأجورين ومدى تأثير ذلك كله في إنتاج فضل القيمة([8]).

ويعد “كارل ماركس” صاحب الطرح الكلاسيكي بامتياز لمفهوم “رأس المال” بلا منازع، وهو الذي لفت الأنظار إلى الكيفيَّة التاريخيَّة التي أحاطت بنشأة رأس المال من خلال العلاقات الاجتماعيَّة القائمة بين البورجوازيَّة والبروليتاريا في سياق عمليات إنتاج السلع واستهلاكها معتبرا رأس المال جزءا من فائض القيمة Surplus Value الذي يتشكَّل خلال عمليات إنتاج السلع وتبادلها.

وفي هذا المسار يؤكِّد ألفريد مارشال Alfred Marshall (1842-1924) تلك الصورة وذلك عندما يتحدَّث عن رأس المال البشري وعلاقته بعمليَّة الإنتاج الاقتصادي، ومن هذا المنطلق يعلن ضرورة تعزيز التعليم ودعم مساراته لضمان فعالية اقتصاديَّة أكبر في المجتمع، وهو في هذا الخصوص يرى بأن الاستثمار في التربية يؤدِّي إلى تعاظم عمليَّة الإنتاج في المجتمع حيث تعم الفائدة على مختلف تجليات الحياة الاجتماعيَّة. ويميِّز مارشال بين العائدات المباشرة للتعليم وبين العائدات غير المباشرة أو غير المنظورة التي تنعكس – بصورة أو أخرى – على المجتمع في كليته وشموله. ويعد مارشال A. Marshal من أوائل الاقتصاديين الذين أشاروا إلى القيمة الاقتصاديَّة للتعليم إذ يؤكِّد “بأن اكثر أنواع الاستثمارات الرأسماليَّة قيمة تلك التي تستثمر في البشر”. وهو في هذا السياق يبين أهميَّة الفروق بين الاستثمار في الآلة وبين الاستثمار في البشر حين يقول: ” العامل يبيع عمله ولكنه يبقى هو نفسه ملكا لنفسه، أما أولئك الذين يتحملون نفقات تنشئته وتعليمه فلا يستردّون إلا القليل من الأجرة التي تدفع له مقابل خدماته في السنوات اللاحقة” [9].

في عام 1914 قام ويكستد Wicksteed بتشكيل فرضيَّة جديدة تفيد بأن الخيارات التربويَّة تتحدَّد بمستويات دخول الأسر والعائلات، وهي ليست مجرد استثمارات محضة في التربية، وتأتي فرضيته هذه تحت تأثير الظروف التاريخيَّة والاجتماعيَّة لهذه المرحلة التي تميّزت بظهور أنماط متعددة للتباين المدرسي بين الفئات الاجتماعيَّة المختلفة. ومن اللافت للنظر أن الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة التي سادت في هذه المرحلة (الحربان العالميتان الأولى والثانيَّة والأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة في عام 1929) أعاقت إجراء الدراسات والبحوث الاقتصاديَّة في الميدان التربوي. ومع ذلك فإنَّ الأزمة الاقتصاديَّة الكبرى التي شهدتها المجتمعات الإنسانيَّة في عام 1929 (الكساد العظيم) شكلت حافزا ومنطلقا حيويا لدراسة الأوضاع الاقتصاديَّة للبلدان والأمم والاهتمام بالجوانب الاقتصاديَّة للتربية على وجه التحديد[10].

في الخمسينات من القرن الماضي شهدت الساحة العالميَّة تطوّرا كبيرا في نظريات النمو الاقتصادي والاستثمار في رأس المال البشري (نهاية الخمسينيات وبداية الستينات). واستطاعت روسيا السوفيتيَّة في هذه المرحلة أن تطلق أول قمر صناعي “سبوتنيك ” إلى الفضاء الخارجي وذلك في عام 1957، وأن تحقِّق بذلك سبقا علميا وحضاريا مذهلا؛ وقد عزي هذا التطوّر التقني إلى خصائص النظام التعليمي في حينه، وشكَّل هذا التقدّم مركز اهتمام الغرب مؤديا إلى نشأة علم التربية المقارنة الذي يبحث في خصائص النظام التربوي في البلدان الأجنبيَّة للاستفادة منها في تطوير الأنظمة التربويَّة الوطنيَّة المحليَّة. وفي هذه المرحلة أيضا ظهرت الدول النامية كنموذج تاريخي لتطور المجتمعات الإنسانيَّة، وهي الدول التي وجدت نفسها أمام خيارات تنمويَّة متعددة أتاحتها فرصة التوازن الاستراتيجي بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي في حينه([11]). وقد أثرت تلك العوامل في تطوير النظريات الاقتصاديَّة في مجال التربية والتنمية، وبدأت العلاقة بين التربية والعمل والإنتاج تأخذ مكانها تدريجيا في سلم الاهتمامات الاقتصاديَّة للدول في هذه المرحلة.

4- اقتصاديات التربية بوصفها علما

 انطلق علم اقتصاديات التعليم في أعقاب الحرب العالميَّة الثانيَّة، وهي المرحلة التي شكَّلت البداية الحقيقيَّة لهذا العلم، ولاسيما في نهاية الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، وقد تضافرت جهود عدد كبير من المفكِّرين في تأسيس هذا العلم وترسيخ ومعالمه، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى روبرت سولو R.Solow 1957، وثيودور شولتز T.W.Schultz 1963، وجاري بيكر G.S.Becker 1964، ودينيسون E.Dension 1962، وهاربيسون Haribson 1964، ووجاكوب مانسر Jacob Mincer، وهم نخبة من المفكّرين الذين وضعوا نظريَّة رأس المال البشري Capital humain ورسخوا معالمها([12]).

وتفيد هذه النظريَّة جوهريا بأن الخبرات والمعارف المكتسبة في المؤسّسات التربويَّة والتعليميَّة تعمل على زيادة إنتاجيَّة الأفراد، وتمكّنهم من زيادة دخولهم الاقتصاديَّة، وهذا يعني أن الخبرات والكفاءات تشكّل رأسمال غير مجسد ولكنه مكتنز في الأفراد الذين يمتلكون هذه الخبرات والمعارف، وقد أطلق على هذه الصيغة من الرأسمال مفهوم ” رأس المال البشري”. وتقوم فكرة رأس المال البشري على الافتراض بأن الاستثمار في تعليم الأفراد يزيد في فعالية إنتاجهم الاقتصادي، ويشكِّل منطلقا لعمليَّة النمو الاقتصادي للدولة مثله مثل المصادر الطبيعيَّة كالمناجم والمصانع والموارد المعدنيَّة، ومن هذا المنطلق فإنّ القرارات التي تتخذ في مجال الاستثمار في التعليم والبشر لا تعدو أن تكون قرارات إقتصاديَّة مؤسَّسة على مفهوم العائد الاقتصادي أو (Rate of return) الذي يستخدم لقياس الاستثمار الاقتصادي وعائداته في تجلّيات علميَّة وبشريَّة.

وعلى وقع هذا التصوّر الجديد لرأس المال البشري بدأ المفكّرون آنذاك ينظرون إلى التربية بوصفها استثمارا في البشر وفي رأس المال البشري: فالأفراد يحدّدون الفترة الزمنيَّة لدراستهم ونوع الدراسة التي يتبعونها وفقا لإمكانياتهم الاقتصاديَّة وفي ضوء النفقات والفوائد المحتملة. وبناء على هذه التصوّرات الاقتصاديَّة يتحدَّد الطلب على التربية؛ فالنظام التعليمي وفقا لهذه المعادلة يقع في قانونيَّة العرض والطلب الاقتصاديين، حيث تمثّل الإمكانيات التربويَّة للمؤسَّسات المدرسيَّة المتاحة “العرض” وتستجيب في الآن الواحد للطلب التربوي على التعليم. وعلى هذا الأساس، بدأ ينظر إلى التعليم بوصفه عمليَّة إنتاج لرأس المال البشري الذي يخضع لمعايير السوق الاقتصاديَّة نفسها بما ينطوي عليه من قوانين العرض والطلب والاستثمار والتوظيف والعائدات. وتأسيسا على هذه الرؤية فإن عائدات النفقات التربويَّة تجد ترجمتها في النتائج المدرسيَّة كتعبير عن الجدوى الاقتصاديَّة للتوظيف المالي في العمليَّة التربويَّة.

وهنا يتوجَّب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن نظريَّة “رأس المال البشري” كانت تمثِّل رؤية مبتكرة في القرن الماضي، ولاسيما في المرحلة الزمنيَّة التي ظهرت فيها، وقد حظيت بتأثيرها الكبير في النظم التعليميَّة في مختلف مسارات الحياة التربويَّة منذ ستينات القرن الماضي.

وفي هذه المرحلة برزت الأعمال الهامة التي قدّمها مانسر Mincer (1958) التي وظّفها في بناء نماذج اقتصاديَّة لقياس المردود الاقتصادي للتربية والتعليم ؛ كما ظهرت ايضا إسهامات شولتز Schultz في استكشاف العلاقة بين التربية والتنمية على وجه العموم، وقد ركّز شولتز في هذا المجال على نوعيَّة الأيدي الماهرة العاملة ودورها في عمليَّة التنمية الاقتصاديَّة، وشكَّل فرضيَّة قوامها أن التعليم يلعب دورا كبيرا في عمليَّة التنمية عندما يكون المجتمع نفسه في وضعيَّة تبدل وتغير، وكذلك عندما يكون التعليم في طور التجديد من حيث قدرته على بثِّ أفكار جديدة ومهارات متطوّرة، ولاسيما في مجال إعداد اليد العاملة في القطاع الزراعي تحديدا. وقد بيّن شولتز من خلال بحوثه العلميَّة التي أجراها أن زيادة الإنتاج القومى تعود إلى التعليم بصورة كبيرة ويفترض في هذا الخصوص أنه كلما تمّ الارتقاء بالقوى العامله فى سوق العمل تعليميا كلما زاد الإنتاج القومى العام، وازداد دخل الفرد، وتحقق الرفاه الاجتماعي في المجتمع.

وفي عام 1964 عمل بيكر Becker على تأكيد نظريَّة آدم سميث من حيث المساواة بين الاستثمار في رأس المال البشري وبين الاستثمار في مجال رأس المال الفيزيائي. وهو في هذا السياق يعرف رأس المال البشري على أنه مجموع المواهب والخبرات والكفاءات والمهارات التي يمتلكها الفرد والتي اكتسبها خلال من خلال التعليم سواء أكان ذلك في المدرسة أو عن طريق الخبرة في ميدان العمل.

ويفترض بيكر أن الاستثمار في رأس المال البشري يؤدي إلى تنميَّة الإنتاجيَّة الفرديَّة في صورة رواتب ومداخيل وظيفيَّة ماديَّة، وبالتالي فإن هذا الاستثمار يؤدِّي إلى تحقيق التنمية الاقتصاديَّة بطريقة التراكم. ويرى بيكر في هذا السياق أنه يمكن توظيف رأس المال البشري كأداة لتحليل نسق من الظواهر النموذجيَّة في اقتصاد العمل (تحديد الرواتب والأجور، وتحديد الهرم الوظيفي وفقا لمستوى التعليم). وتأسيسا على هذا التصور عمل بيكر على بناء عدد من النماذج المنهجيَّة لقياس سلوك الأفراد الاقتصادي فيما يتعلق بتراكم رأس المال البشري، وقياس تأثير مختلف الضغوط والمتغيرات المؤثرة في قرارات الأفراد مثل: الاستعدادات العقليَّة، والزمن المتاح، والعمر.

في عام 1967 قدّم بن بوراث Ben-Porath نموذجا يحدد فيه طبيعة تشكل رأس المال البشري ومراحل توظيفاته المختلفة، وقد بين – عبر هذا النموذج- أن الفرد عندما يكون في مرحلة الشباب يستثمر في رأسماله البشري كليا في مجال التعليم المدرسي، ولاحقا يعمل على الاستثمار في مجال العمل والدراسة في آن واحد، وأخيرا، أي في مرحلة التقاعد يتوقَّف عن توظيف رأسماله البشري كليا. وقد وظَّف هذا النموذج لدراسة العلاقة بين الأجور والعمر ودورة الحياة الاقتصاديَّة لرأس المال البشري بصورة موضوعيَّة [13].

وقد شهدت الساحة الفكريَّة لاحقا نموا كبيرا في الدراسات التي تتناول العلاقة بين التربية والنمو الاقتصادي. وقد أجريت هذه الدراسات تجاوبا مع المتطلبات السياسيَّة والتنمويَّة على نحو متواتر في مختلف البلدان المتقدّمة والناميّة، وأثَّرت في رسم السياسات التربويَّة والتوسُّع في بناء أنظمة التعليم وتطويرها انطلاقا من أهميتها في عمليَّة النمو والاقتصادي وتأثيرها الكبير في عمليَّة التنمية الشاملة والمستدامة.

مع بداية الثمانينات ظهرت موجة فكريَّة من التشكيك بالتصوّرات المتعلّقة بعائدات الاستثمار التربوي في العنصر البشري، و قد بينت هذه التوجهات الجديدة أنّ وتائر التمدرس الكبيرة في الستينات لم تجد نفعا في رفع مستوى النمو الاقتصادي الذي انخفض إلى النصف وذلك على أثر الصدمة البتروليَّة في عام 1973 أثناء الحرب بين إسرائيل والدول العربيَّة. وعلى الأثر ظهرت هذه الشكوك الكبيرة في جدوى التوظيف والاستثمار في التعليم ورأس المال البشري، وأدَّى ذلك إلى تراجع النظريات الخاصَّة بالنمو الاقتصادي وتركت مكانها للتصوّرات التي تعطي التقلبات الاقتصاديَّة مركز الأهميَّة.

وقد تميّزت مرحلة الثمانينات من القرن العشرين بتجديد الثقة بقدرة الدولة على تحسين الأوضاع التربويَّة وتعزيز العمليَّة التنمويَّة الاقتصاديَّة، وقد تمّ التركيز في هذه المرحلة على أهميَّة تحقيق ديمقراطيَّة التعليم بالنسبة للجميع وذلك من أجل استثمار أفضل في العنصر البشري، كما شهدت هذه المرحلة تطوّرات فكريَّة جديدة في مجال الاستثمار في العنصر البشري.

ويمكّننا في هذا السياق التأكيد على أن علم التربية قد أصبح علما حقيقيا بمناهجه وتراثه وأن هذه العلم يحقِّق اليوم قفزات واسعة ويفرض نفسه بين العلوم التربويَّة والاقتصاديَّة الناشئة .

تميّزت مرحلة الثمانينات من القرن العشرين بتجديد الثقة بقدرة الدولة على تحسين الأوضاع التربويَّة وتعزيز العمليَّة التنمويَّة الاقتصاديَّة، وقد تمّ التركيز في هذه المرحلة على أهميَّة تحقيق ديمقراطيَّة التعليم بالنسبة للجميع وذلك من أجل استثمار أفضل في العنصر البشري، كما شهدت هذه المرحلة تطوّرات فكريَّة جديدة في مجال الاستثمار في العنصر البشري.

5-  مناهج اقتصاديات التربية والتعليم

استطاع علم اقتصاديات التربية أن يطوّر مناهج فعّالة وأدوات متميّزة لقياس مختلف جوانب الحياة الاقتصاديَّة في مجال التعليم والإنتاج والعائدات. وتتميَّز المناهج المستخدمة في هذه الميدان بالتنوع وتتنوع وفقا للكيفيات التي يتمّ فيها تحديد العوامل والمتغيرات المؤثّرة في الظاهرة الاقتصاديَّة للتربية مثل: التسرّب المدرسي، والاختيار المهني، وديناميات الرواتب، وتباين الدخول الاقتصاديَّة…الخ، أو وفقا للطريقة التي يتمّ فيها تفهّم السلوك الاقتصادي وفقا لمختلف الخطط أو السياسات. وفي الحالة الأولى – أي عندما يتعلَّق الأمر بتحديد متغيّرات التأثير في الظاهرة الاقتصاديَّة – فإنه يمكن اللجوء إلى عدد كبير من أدوات القياس الاقتصادي وبعضها قد يكون معقّدا أو بالغ التعقيد.

ويمكن الإشارة إلى ثلاثة منهجيّات أساسيَّة لقياس العائدات الاقتصاديَّة للتربية وهي: طريقة الترابط البسيط، وطريقة البواقي، وطريقة القياس المباشر([14]).

وتتمثَّل طريقة الترابط البسيط Simple Correlation Approaches في قياس الترابط القائم بين النشاط التعليمي وبين النشاط الاقتصادي، أو بين الدخل وبين مستوى التحصيل المدرسي والعليمي. ويتضمن هذا المنهج طريقة فرعيَّة هي طريقة الترابط عبر الزمن Inter-temporal correlation حيث قام شولتز Schultz باعتماد هذه الطريقة في قياس الترابط بين الدخل القومي والتعليم في الولايات المتحدة الأمريكيَّة بين عامي 1900 و 1956 ([15]).

وتتَّجه طريقة القياس المباشر لعائدات التربية The returne to educationa- Approache إلى دراسة تأثير المراحل التعليميَّة (كالمرحلة الجامعيَّة أو المرحلة الثانويَّة) في العمليَّة الاقتصاديَّة. وتقوم هذه الطريقة على حساب النفقات التعليميَّة والعائدات الاقتصاديَّة لكل مرحلة وتقارن هذه المعطيات مع غيرها من المراحل الدراسيَّة على مدى الحياة المهنيَّة للفرد. وغالبا ما تستخدم هذه الطريقة في قياس العائدات الاقتصاديَّة للأفراد والخريجين.

ومن أبرز المناهج المستخدمة في قياس العائدات الاقتصاديَّة للتربية يشار إلى طريقة حساب العائد من الاستثمار في التعليم على أساس دخل الفرد، وتعود هذه الطريقة إلى ولسن J.E. Walsen الذي استخدمها في دراسة عائدات التعليم العالي الأمريكي. وقد بيّن ولسن وفقا لهذه الطريقة أن العائد الاقتصادي في التعليم العالي في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة يفوق العائد الاقتصادي للتعليم في المراحل الدراسيَّة الأولى، وبين أيضا أن عائدات التعليم العالي أكبر بكثير من النفقات والتوظيفات المستثمرة فيه. ومن النتائج الهامَّة التي بيّنها في هذه الدراسة وفقا لهذه المنهجيَّة أن التعليم العالي الأمريكي الذي تزيد كلفته 12.5% عن التعليم في المرحلة الثانويَّة يحقِّق زيادة في دخول الفرد تقدّر 100.000 دولار مقارنة مع الفرد الحاصل على التعليم الثانوي([16]).

ومن أهم المناهج المستخدمة لقياس عائدات التعليم في الدخل القومي “طريقة البواقي Residuals Factors”. وتعتمد هذه الطريقة في قياس مستوى الدخل القومي بحساب نصيب مختلف المتغيّرات المتعِّلقة برأس المال الثابت من نفقات واستثمارات (أي المتغيّرات القابلة للقياس) في الدخل القومي ثم يعزى باقي التأثير إلى التعليم أو رأس المال البشري، وبعبارة أخرى تقوم طريقة البواقي على تحديد إسهام كل من عوامل الإنتاج الأساسيَّة في الناتج القومي ثم تحسب البواقي إلى تأثير التعليم والتاهيل البشري.

وقد أبدع سولو هذه الطريقة في عام 1960 يإدخال بعض التعديل إلى معادلة دوغلاس الكلاسيكيه الشهيره لحساب الدخل القومي التي تأخذ الصورة التالية: (Y=A+L)، حيث ترمز (Y) إلى الناتج القومي العام، وهي حاصل رأس المال الثابت والعمل كما هي ممثلة في الشطر الثاني من المعادلة (A+L)، وقد اكتشف سولو ان (Y) التي تمثّل كفّة الناتج القومي العام اكبر من حاصل ” رأس المال + العمل”، التي يمثّلها الشق الثاني من المعادله(A+L)، فقام بتعديل هذه المعادلة إلى الصورة التالية: (Y=A+L+E) بحيث يرمز “E” في هذه المعادلة الجديدة إلى العامل المتبقي، ويعني به “رأس المال البشري” غير المنظور. ويعدّ هذا الاكتشاف بمثابة الميلاد الحقيقي لنظريَّة راس المال البشري، حيث اعتمده الباحثون لتفسير زيادة الإنتاج وفقا لمعيار رأس المال البشري.

وقد اتبع دينسون Denson هذه الطريقة في قياس الدخل القومي الأمريكي، وبين في دراساته حول هذه المسألة أن العمل يسهم في 72% من الدخل القومي، ويسهم رأس المال الثابت بنسبة 22.5%، بينما أسهمت الأرض الأرض بنسبة 4.5% [17]. وقد بيَّنت نتائج دينسون أن الدخل القومي الأمريكي كان ينمو بمعدل سنوي قدره 2.93% وقد وجد أن نسبة 0.59 من هذه الزيادة لا يمكن إرجاعها إلى أي من العوامل المعروفة فأرجعها إلى “العامل المتبقي” Final Residuel الذي أطلق عليه المعرفة العلميَّة المتطورة Advanced of Knowlege وهي تسميَّة جديدة لرأس المال البشري ([18]).

ويمكننا أن نجزم بأن المناهج العلميَّة التي تعتمدها اقتصاديات التربية قد وصلت إلى درجة كبيرة من التطور تجعلها بين مصاف المناهج العلميَّة الحديثة التي تتَّصف بالدقَّة والرصانة العلميَّة.

6-  الاستثمار في التعليم وعائداته

يوظِّف الباحثون كما أسلفنا نسقا من المفاهيم الاقتصاديَّة في عمليَّة تقصيهم العلاقة بين الاقتصاد والتربية، واتَّضح أن الباحثين نهجوا نهجا اقتصاديا في دراسة المؤسّسات التربويَّة فأخضوعوها لمفاهيم العرض والطلب والاستثمار والتوظيف والاستثمار والإنتاج والهدر والتكلفة والفعالية الاقتصاديَّة والعائدات والمردود الاقتصادي.

وتظهر الدراسات الجارية في هذا الميدان أن المستوى التعليمي للأفراد يشكِّل عاملا أساسيا في تحديد مستوى نجاحهم الاقتصادي والاجتماعي في مختلف البلدان وأن المعرفة تلعب هذا الدور في مستوى الدول والمجتمعات الإنسانيَّة، ويبدو واضحا اليوم أن البلدان المتقدّمة تتفوَّق بامتلاكها القسط الأكبر من رأس المال البشري الذي تتفوَّق به على ما عداها من الدول النامية أو الآخذة بالنمو.

ولكن هذه الأبحاث تبيّن لنا في كثير من التقاطعات أن التعليم ليس مثمرا فيما يتعلَّق بمردوده الوظيفي بدرجة واحدة بالنسبة لجميع الأفراد والدول أيضا، وقد أوضحت هذه الدراسات أيضا أن الاستثمار في التعليم قد يشكل مخاطرة ومجازفة بالمعنى الاقتصادي للكلمة في كثير من الأحيان. إذ لا يمكن استبصار المردود الوظيفي للتعليم أثناء اختيار نوع التعليم ومدّته، لأن هذا الاستبصار يجب أن يأخذ بعين الاعتبار وضعيَّة سوق العمل بمتغيراته التي تتَّصف بدرجة كبيرة من الديناميَّة والتغير وفقا لقوانين العرض والطلب في السوق الاقتصاديَّة للتربية.

وقد أفرزت الدراسات الجارية أن قياس التوقّعات الماديَّة يمكن أن تكون أكثر وضوحا في مستوى التعليم المنخفض كالتعليم الابتدائي والثانوي والإعدادي، وبيَّنت بالمقابل أن مثل هذه التوقعات قد تكون ضبابيَّة تنفلت من دائرة الضبط المنهجي في المستويات العليا من التعليم العالي والجامعي.

لقد تناول الباحثون بالدراسة والتحليل أنماط المجازفة في الاستثمار في رأس المال البشري، وبيَّنوا في سياق ذلك صعوبة التنبّؤ بالمجازفات الاقتصاديَّة في اختيار نوع الدراسة ومدّتها وطبيعتها، وأوضحوا ايضا أن مستوى النفقات المدرسيَّة والصعوبات الماليَّة التي يواجهها الأفراد قد تؤثِّر بصورة واضحة في عمليَّة الاستثمار في هذا الميدان.

ويحذر الباحثون اليوم من المبالغة في تقدير مردود الاستثمار في التعليم اقتصاديا ويذهب بعضهم أن هذه المبالغة قد تصل إلى عشرة أضعاف التأثير الحقيقي الممكن للتعليم في الاقتصاد كما يعتقد هيكمان وكارنيرو([19]). وهذه النتيجة قائمة على أساس التأثير السلبي للنمو الكبير في كفاءة اليد العاملة على أجور العاملين في سوق العمل. وفي هذا المقام يذهب كل من بيشينسكي Buchinsky وليزلي Leslie إلى الاعتقاد بأن نفقات المدرسة والضغوط الماليَّة تؤثر سلبا في مستويات الاستثمار في رأس المال البشري.

هذا وتبين دراسات عديدة أن عائدات التربية تخضع لعوامل متعدِّدة مثل: واقع العرض والطلب في سوق العمل، ومستويات التاهيل، ودرجة المنافسة، والظروف الاقتصاديَّة المختلفة، وهذه العوامل قد تجعل من متابعة الدراسة والتحصيل أمرا غير مجد لبعض الأفراد دون الآخرين. وتلك هي النتيجة التي توصَّل إليها كل من كارنيرو Carneiro وهيكمان Heckman وهانسن Hansen حيث اظهرت بحوثهم أن كثيرا من الأفراد يعتقدون بأن التعليم لن يكون ذا جدوى اقتصاديَّة في سوق العمل فيما يتعلَّق بدخول الأفراد ورواتبهم إذا أخذنا متغيّرات سوق العمل بعين الاعتبار. ويرى هؤلاء الباحثون أنه لا يوجد مردود اقتصادي محدَّد وواضح كما تفترض الدراسات الإمبيرقيَّة الأولى التي أجريت حول عائدات التعليم، ويترتَّب على ذلك أيضا أن هذه العائدات تتعلَّق بطبيعة الأفراد والمتغيّرات الاجتماعيَّة والشخصيَّة التي تحيط بهم. ومثل هذه النتائج غيرت كثيرا في طبيعة النظرة إلى متغيّرات التمدرس، مثل: العمل أثناء الدراسة، والترك المدرسي، والإخفاق المدرسي، والتسرُّب، وغير ذلك من المتغيّرات. وفي سياق آخر تبين الدراسات الجارية أن تأثير هذه العوامل قد يتباين بتباين الفئات الاجتماعيَّة، فعلى سبيل المثال وليس الحصر قد يكون العمل الجزئي أثناء الدراسة مشجّعا على النجاح والمواظبة لدى بعض الأفراد بينما يكون محبطا لدى الآخرين. وقد شكَّل التأثير المتباين لهذه العوامل المدرسيَّة والاقتصاديَّة مركز اهتمام بيلزل Belzil وهانسن Hansen إذ يعتقدان بأن هذه التأثيرات المتباينة بتباين الأفراد تؤسّس لمصداقيَّة الفرضيَّة التي تقول بأن متابعة التعليم قد تشكِّل مجازفة وقد لا تؤدِّي إلى عائدات مقبولة في المستقبل بالنسبة لجميع الأفراد على حدٍّ سواء، وهذا يعني أن تأثير التعليم ومستوى التأهيل في دخول الأفراد يختلف اختلافا كبيرا باختلاف أوضاع الأفراد وانتماءاتهم الاجتماعيَّة: فالحصول على شهادة الحقوق وممارسة المحاماة لا تعطي النتيجة نفسها لشخصين أحدهما من الطبقة العاملة والآخر من الطبقة الارستقراطيَّة فأبناء الأغنياء يمنهم تأسيس مؤسسة حقوقيَّة كبيرة تدر أرباحا كبيرة بينما قد يعمل الآخر محاميا مغمورا لسنوات عديدة بأجور متواضعة.

وفي هذا السياق، يرى كاري بيكر في نظريّته الاقتصاديَّة، أنَّ الأفراد يحدِّدون مسارهم المدرسي والجامعي بطريقة عقلانيَّة في ضوء تصوّراتهم عن وضعيَّة الاستثمار والعائدات الاقتصاديَّة لرأس المال البشري الذي يمثّلونه، إذ يقومون بحساب المردود الاقتصادي لنفقات تعليمهم في ميدان العمل والإنتاج للعمل. وتأخذ النفقات التربويَّة في هذا المجال صيغتين أساسيتين: فهناك النفقات المباشرة والتي تتمثَّل في نفقات التعليم مباشرة، وهناك النفقات الافتراضيَّة التي تتمثَّل في الفرص الضائعة Opportunity Cost، أي في مردود طاقة العمل التي يمكن للدارس أن يوظفها في الإنتاج مباشرة بدلا من التعليم (على سبيل المثال الطالب الذي يقضي في الجامعة أربع سنوات دراسيَّة كان يمكنه أن يعمل خلالها وأن يكون منتجا بدلا من أن يكون مستهلكا ). ويلاحظ في هذا السياق أنه كلما ازدادت مدَّة الدراسة ازدادت النفقات الدراسيَّة وارتفعت تكاليفها وزادت نسبة الفرص الضائعة([20]).

ونعتقد اليوم أن الاستثمار في العنصر البشري قد أصبح أحد أهمّ السمات الساسيَّة للعصر الذي تعيش فيه اليوم حيث اتَّخذت المشاريع الاستثماريَّة دورها الحيوي في التنمية الاقتصاديَّة للدول والشعوب الإنسانيَّة.

7- عائدات الاستثمار في التعليم

بعض الأفراد في مستوى تعليمي محدَّد يحقِّقون عائدات اقتصاديَّة بالمقارنة مع الأفراد الذي يمتلكون تأهيلا علميا ومدرسيا متجانسا مكافئا، وقد يكون هذا الأمر عائدا إلى مواهبهم الخاصَّة (مفهوم يوظفه بعض الاقتصاديين)، أو قد يكون تحت تأثير الانتماء الاجتماعي والعائلي، وقد يتعلق الأمر بأوضاع سوق العمل نفسه. ويجب أن نلاحظ في المستوى الاقتصادي المحض أن الأسرة مطالبة بأن تكون قادرة على تغطيَّة النفقات التربويَّة لأبنائها ولاسيما عندما يتعلَّق الأمر بالتعليم الطويل الأمد. وينبني على ذلك أن الأسر التي لا تستطيع تغطية تكاليف التعليم فإنها قد تلجأ إلى سحب قروض ماليَّة لضمان تعليم أبنائها، وبعض من هذه الأسر يجد صعوبة في الحصول على مثل هذه القروض الممكنة لتمويل تعليم أبنائها.

لقد بيَّنت دراسات عديدة أنه ليس المال وحده الذي يؤدِّي إلى تباين مستويات التعليم. فهناك بالإضافة إلى عامل المال الأنماط الثقافيَّة للعائلة، ونوع المدارس التي يرتادها الأبناء، ومدى تمدرسهم في دور الحضانة ورياض الأطفال، وكذلك المستوى التعليمي للأبوين. وبالنتيجة يمكن القول بوجود عوامل متعدِّدة للتباين في مستوى النجاح المدرسي والتحصيل العلمي وبناء رأس المال البشري لدى الأفراد والجماعات.

وتلك هي الحقيقة السوسيولوجيَّة التي يؤكِّدها بيير بورديو P. Bourdieu في كتابة “إعادة الإنتاج La reproduction ” حيث يذهب إلى تفسير التباين الاقتصادي الاجتماعي بين الأفراد على خلفيَّة التباين في رأس المال البشري للفئات التي ينتسبون إليها، ويرى أن رأس المال البشري ينتج ويعيد إنتاج نفسه ويتراكم وفقا للمعايير ذاتها التي يخضع لها رأس المال الاقتصادي، وهو في سياق هذه الرؤية يؤكَّد بأن الرأسمال الثقافي الكبير لأبناء الطبقات البرجوازيَّة سيمكّنهم من تحقيق عائدات تربويَّة مضاعفة في مستوى النجاح والتفوّق المدرسيين ([21]).

وتجد رؤية بورديو صداها المميز في دراسة جيمس كولمان James Samuel Coleman حول “تكافؤ الفرص التعليميَّة” في عام 1966 وهي الدراسة التي شهرت بتسمية تقرير كولمان ([22]). حيث كولمان ومساعدوه بتحليل بيانات 600.000 طالب و60.000 معلم في أكثر من 4.000 مدرسة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وتوصّلت الدراسة إلى نتيجة هامة قوامها: أن حوالي 10% فقط من التفاوت في تحصيل الطلاب يعزى لجودة التعليم المدرسي الذي يتلقّاه الطالب. وفي معرض التحليل يرجع كولمان نسبة 90% من مستوى تحصيل الطلاب إلى عوامل اجتماعيَّة اقتصاديَّة، مثل: استعدادات الطلاب، أوضاعهم الاقتصاديَّة، مستواهم الاجتماعي، الأوضاع الأسريَّة.

وقد أثَّرت دراسة كولمان تلك بقوَّة في عدد كبير من الدراسات الهامة مثل: دراسات كرستوفر جانكس Christopher Jencks حول تأثير العائلة والمدرسة في أمريكا (1972)، حيث قام جانكس وزملاؤه بإعادة تحليل معطيات تقرير كولمان ووصلت إلى النتيجة نفسها وهي: إن الأثر الذي تحدثه المدارس محدود جدا في مستوى تحصيل الطلاب، وإن التفاوت والتباين في مستوى تحصيلهم يعود إلى عوامل خارج سيطرة المدرسة وفعالياتها الداخليَّة.

ولكن دراسات أخرى أكَّدت – على خلاف كولمان – التأثير الكبير الذي يمكن للمدرسة أن تحدثه في مستوى تحصيل الطلاب، مثل، دراسة روبرت روزنتال Robert Rosenthal حول تأثير معادلة بيغاميليون Pygmalion في التحصيل المدرسي، حيث تعطي هذه المعادلة أهميَّة كبيرة لتأثير التوقّعات التي تتعلَّق بالمستقبل التربوي للتلاميذ في مستوى تحصيلهم. ووفقا لهذه الرؤية فإن التوقعات المدرسيَّة تتحوَّل إلى حقائق تفرض نفسها في مسار الحياة المدرسيَّة للطالب لاسيما في مستوى تحصيله ونجاحه المدرسيين. فأحكام المعلم ونواهيه حول المتعلّم تمتلك قدرة سحريَّة مؤثّرة في شخصيَّة التلميذ وقد تدفعه إلى تحقيق النجاح المظفر أو الإخفاق المأساوي إذا كانت مجحفة وقاسيَّة. وما تأثير “بيغاميليون” إلا صورة لهذه العلاقة التربويَّة المتشبِّعة بالأحكام التي يطلقها المعلم على تلامذته وطلابه في داخل الفصل وفي خارجه[23].

ففي البلدان النامية لا يستطيع الأطفال والشباب اختيار مدارسهم وتحديد المجال الذي يرغبون فيه، أو مدة الدراسة ونوعها، فالآباء في الغالب هم الذين يقررون ويختارون لأبنائهم كل مايتصل بأمور تمدرسهم. وهذه القرارات تتخذ تحت مظلة الأوضاع الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة للأسرة. ففي بلدان آسيا الجنوبيَّة تبين الدراسات الجاريَّة أن الفروق في مستوى التعليم بين الذكور والإناث عائدة إلى قرارات يتخذها الآباء لصالح الذكور، وذلك لأن الآباء يستفيدون من تعليم الأبناء الذكور بدرجة أكبر من عائدات تعليمهم لبناتهم. فالبنات يغادرن الأسرة عند الزواج، وعلى هذا النوع تكون عائدات التعليم لصالح الخالة الحماة (أم الزوج) في غالب الأحيان، وتأسيسا على هذا التصور للعائدات يتخذ الآباء قراراتهم التربويَّة آخذين بعين الاعتبار عمليَّة الإنفاق الافتراضي والعائدات.

وتبيِّن بعض الدراسات الجارية في البلدان النامية بأن نسبة الالتحاق المدرسي ومتابعة التحصيل ترتبط بواقع النفقات المحتملة التي يتوجَّب على الأسرة أن تضمنها من أجل ضمان التعليم واستمراره. ومن هذا المنطلق فإن بعض الدول التي تريد رفع مستويات الالتحاق بالتعليم تقدِّم تعليما مجانيا وتدعم مدارسها بوجبات مجانيَّة وتلغي نفقات التعليم التي يفترض بالآباء تغطيتها.

تبيِّن بعض الدراسات الجارية في البلدان النامية بأن نسبة الالتحاق المدرسي ومتابعة التحصيل ترتبط بواقع النفقات المحتملة التي يتوجَّب على الأسرة أن تضمنها من أجل ضمان التعليم واستمراره. ومن هذا المنطلق فإن بعض الدول التي تريد رفع مستويات الالتحاق بالتعليم تقدِّم تعليما مجانيا وتدعم مدارسها بوجبات مجانيَّة وتلغي نفقات التعليم التي يفترض بالآباء تغطيتها.

8- الإنفاق والنتائج المدرسيَّة

غالبا ما يتجانس التحليل الاقتصادي للمؤسَّسات التربويَّة مع التحليل الاقتصادي لعمليَّة الإنتاج في المؤسّسات الاقتصاديَّة المنتجة. فالمدارس، وفقا لهذا المستوى من التحليل الاقتصادي، تُعامل كوحدات اقتصاديَّة حيث يقوم الموظفون (المعلمون في المدرسة) بتحويل المعطيات التربويَّة (نفقات التربية، التأهيل، رواتب المعلمين، مواد التعليم، الأساس التعليمي، البناء… الخ) إلى رأسمال بشري (نتائج الطلاب المدرسيَّة). ومثل هذه المماثلة ليست مستخلصة من نظريَّة حول سلوك المعلمين أو الطلاب، بل تقوم على أساس علاقة تقنية بين مصادر المدرسة والنتائج المدرسيَّة لطلابها، ويطلق على هذه العلاقة مفهوم “وظيفة الإنتاج التربوي “. وفي هذا المستوى من التحليل يعمل الاقتصاديون على قياس أبعاد الوظيفة الاقتصاديَّة للمؤسسات المدرسيَّة حيث يتمّ العمل على قياس تأثير كل مصدر من المصادر المدرسيَّة في عمليَّة التحصيل النهائي للطلاب في المدرسة، وهذا يساعد في توجيه السياسة التربويَّة من خلال فعاليات تربويَّة مهمة مثل: تحسين مستوى الطلاب عبر تحسين مستوى تأهيل المعلمين، تقليص عدد الطلاب في الفصل أو الصف من خلال توظيف معلمين جدد، أو تزويد الطلاب بعدد أكبر من الكتب الدراسية.

وقد أجريت دراسات اقتصاديَّة تربويَّة عديدة في هذا المستوى منذ السبعينات في الدول المتقدمة ولاسيما في الولايات المتّحدة الأمريكيَّة (منذ تقرير كولمان « Rapport Coleman »المنشور في عام 1966 ). وشهدت هذه الدراسات حضورها المكثَّف في البلدان النامية لاحقا، وأثارت نتائج هذه الدراسات جدلا فكريا كبيرا في مختلف الأوساط العلميَّة والاجتماعيَّة. ومن بين أكثر الملاحظات النقديَّة التي سجّلت على هذه الدراسات أن العلاقة المباشرة بين الانفاق التربوي والنتائج ليس واضحا ولا يمكن تحديده بدقّة. وقد بينت الدراسات النقديَّة الجاريّة في هذا المستوى أن كلفة الطالب والانفاق عليه في المرحلة الثانويَّة قد ارتفعت كثيرا في بلدان السوق الأوروبيَّة المشتركة ما بين السبعينات والألفين، وذلك من غير أن يكون لذلك نتائج واضحة في مستوى تأهيل الطلاب والتلاميذ في هذه المرحلة. وقد بدا أيضا أنه من الصعوبة بمكان تحديد أنماط الإنفاق في التعليم وتحديد تأثيرها الواضح على النتائج المدرسيَّة. على سبيل المثال: لم تستطع هذه الدراسات تحديد أيهما أكثر تأثيرا في النتائج التربويَّة عندما نقارن بين الإنفاق على زيادة تأهيل المعلمين وبين تقليص حجم الصف، حيث بيّنت الملاحظات بأن تقليص حجم الفصل الدراسي قد يكون مؤثّرا في بعض المؤسّسات التعليميَّة وفي بعض البلدان، وعلى خلاف ذلك فإن يفقد قدرته على التأثير وجدواه الاقتصاديَّة في بعض المؤسَّسات التعليمي الأخرى، وهذا ينسحب على تنوُّع البلدان والأنظمة التربويَّة.

وتشير الملاحظات النقديَّة حول نتائج هذه الدراسات أنه لمن الصعوبة بمكان الاتّفاق على النتائج المحتملة لسياسة تربويَّة محدّدة في داخل البلد الواحد، فهناك جدل كبير في الولايات المتّحدة الأمريكيَّة حول عدد الطلاب الأمثل في الفصل المدرسي: بعض الاقتصاديين يرون أن تأثير هذا العامل في النتائج المدرسيَّة محدود جدا في الوقت الذي تكون فيه كلفته عالية جدا، لأن تقليص عدد الطلاب في الفصل يتطلب زيادة كبيرة في أعداد المعلمين؛ ولكن بعضا آخر من المتخصصين يرون على خلاف ذلك بأن نسبة الطلاب في الفصل لها تأثير كبير في النتائج المدرسيَّة، ولاسيما بالنسبة للأطفال الذي ينتمون إلى أوساط اجتماعيَّة فقيرة، وهم يعتقدون في هذا السياق أن تقليص نسبة عدد الطلاب في الفصل يساعد كثيرا في خفض اللامساواة المدرسيَّة بين الأطفال. والمفارقة في هذا الأمر أن الفريقين يعتمدان نتائج الدراسات نفسها سواء أكانت دراسات علميَّة أو سياسيَّة ([24]).

وفي سياق آخر يركِّز بعض الباحثين على أهميَّة الإدارة المدرسيَّة وقوَّة تأثيرها في النتائج المدرسيَّة للطلاب، وفي دائرة هذا التركيز تعطى أهمّيَّة كبير للعلاقات القائمة بين المعلمين وبين الإدارة وبين أولياء الطلاب. وتقوم الدراسات الجاريَّة في هذا المستوى بدراسة سلوك المعلمين بوصفهم موظفين في مؤسسة اقتصاديَّة. ويجري في سياق ذلك تحليل دوافع المعلمين وحوافز العمل لديهم. وضمن هذا المجال من البحوث يجري التركيز على عاملين أساسيين هما: لامركزيَّة الإدارة المدرسيَّة وإنشاء المدارس الخاصَّة.

وتبين الدراسات الجاريَّة في البلدان النامية أن الأنظمة المدرسيَّة تدار بطريقة مركزيَّة حيث لا يترك لأولياء الأمور والمعلمين أي هامش من الحريَّة أو أي فرصة للتأثير في مسار العمليَّة التربويَّة. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى فعاليات مجتمعيَّة اتَّجهت إلى تأسيس الطابع اللامركزي للتعليم وذلك باللجوء إلى تعيين معلمين من قبل الجماعات المحليَّة أو المشاركة في الإدارة المدرسيَّة عن طريق أولياء الأمور. وهذه النشاطات غالبا ما تكون مشمولة بالدعم المالي للبرامج الدوليَّة المموَّلة من قبل الوكالات الدوليَّة والمؤسّسات المحليَّة، ولاسيما المساعدات والبرامج التي يقدمها البنك الدولي الذي يستند في برامجه هذه على معطيات الدراسات الجارية في ميدان اقتصاديات التربية. وغني عن البيان أن هذه الجهود والإجراءات تهدف إلى دعم المعلمين وأولياء الأمور والجماعات المحليَّة من أجل إدارة مدرسيَّة ديمقراطيَّة وغير مركزيَّة.

ومنذ عهد ميلتون فريدمان Milton Friedman كانت عمليَّة الخصخصة المدرسيَّة تعبيرا عن رغبة عدد من الاقتصاديين من أصحاب النزعة الليبراليَّة الجديدة. وينطلق هؤلاء الاقتصاديون من فرضيَّة قوامها أن المدارس الخاصَّة محكومة مباشرة بالدعم المالي لأولياء الأمور الذين ينفقون مباشرة على تعليم أطفالهم ولأن هذه المدارس لن يكون في مقدورها الاستمرار ما لم تكن فعَّالة وناجحة في تعليم الأطفال.

وقد برهنت بعض الدراسات على مصداقيَّة هذه الفرضيَّة ولاسيما في بعض البلدان، ولكن هذه النتيجة لا يمكن تعميمها وذلك لما ينطوي عليه القطاع التعليمي الخاّص من تنوع وتباين. ومع ذلك فإن فكرة إنشاء المدارس الخاصَّة والأهليَّة إلى جانب المدارس الحكوميَّة قد تشكِّل منطلقا لإحياء التنافس بين المؤسّسات التعليميَّة الخاصَّة والعامَّة كما يسمح للآباء باختيار المدارس المناسبة لأطفالهم. وقد شكَّلت هذه المسألة موضوعا للمناقشة والجدل والبحث والتقصِّي في مختلف البلدان المهنيَّة بالتعليم الخاص والأهلي[25].

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن بعض الدراسات قد شكَّكت في جدوى المدارس الخاصة، وبينت أن هذه المدارس فد تشكِّل منطلقا للتميز المدرسي والتربوي بين أبناء الفئات الاجتماعيَّة المختلفة في مستوياتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وتتَّضح هذه الرؤية في التجربة التربويَّة في تشيلي حيث بيَّنت الدراسات أن القطاع التعليمي الخاصّ قد شهد انحدارا كبيرا في مستويات التعليم بالمقارنة مع التعليم العام، كما بينت هذه الدراسات أيضا بأن التعليم الخاصّ لم يؤثِّر في رفع السويَّة العلميَّة والمعرفيَّة للطلاب. ويضاف إلى ذلك أن المواقف التي يتَّخذها اقتصاديو التربية تتحدَّد في أحيان كثيرة بأفكارهم السياسيَّة وليس بالمنطلقات الفكريَّة للمعرفة العلميَّة الخاصَّة.

ويمكن التحفُّظ على هذه الدراسات الاقتصاديَّة التي تناولت العرض التربوي والطلب لأنها في أغلبها قد عالجت سلوك المعلمين كموظفين وليس كمعلمين، ولم تأخذ بعين الاعتبار سلوك الطلاب والتلاميذ في المؤسّسات المدرسيَّة المدروسة. ولكن بعض الدراسات الجارية حديثا تحاول الاستفادة من المفاهيم السوسيولوجيَّة لعلم الاجتماع التربوي وذلك من أجل تحليل سلوك المعلمين والطلاب في آن واحد.

9- تأثير رأس المال البشري في الدخول الماديَّة للأفراد:

حاول أصحاب نظريَّة راس المال البشري البرهنة على مصداقيَّة فرضيتهم التي تقول بأن العمال الأكثر تأهيلا وتعليما يحصلون على دخول ماليَّة أكبر كنتيجة طبيعة لما يمتلكون عليه من رأس مال بشري مكتنز في خبراتهم وكفاءاتهم ومستوى تعليميهم. وفي هذا المقام تشير نتائج إحدى الدراسات «إنتاجيَّة العامل الأمي ترتفع بنسبة 30 % بعد عام واحد من الدراسة الابتدائيَّة، وحوالي 320 % بعد دراسة 13 عاما، وتصل إلى 600% بعد الدراسة الجامعيَّة([26]).

ومنذ ستينات القرن الماضي حاول جاكوب مانسر Jacob Mincer أن يبرهن عبر نموذج نظري على وجود علاقة إيجابيَّة بين الدخل الاقتصادي للفرد وعدد سنوات الدراسة وتحصيله المدرسي، أي بين الدخل ورأس المال البشري المتراكم، وقد أعلن بوضوح أن دخول الفرد الاقتصاديَّة في ميدان العمل مرهونة بعدد السنوات التي قضاها في التعليم و بعدد سنوات الخبرة التي اكتسبها في ميدان العمل. وفي هذه المعادلة التي يطلق عليها ” عائدات رأس المال البشري” يحاول جاكوب أن يفسِّر الكيفيَّة التي تتمّ فيها ترجمة رأس المال البشري – الذي يحسب غالبا بعدد سنوات التمدرس – إلى رأس مال محض أو إلى عائدات ماليَّة. وقد ظهرت مئات المقالات والدراسات التي تنطلق من هذه المعادلة في دراسة عائدات رأس المال البشري في ميدان العمل والإنتاج[27].

ففي البلدان المتقدِّمة، التي تقرّ إلزاميَّة التعليم الابتدائي، تتمحور الدراسات الاقتصاديَّة حول عائدات التعليم الجامعي والعالي. وقد بيَّنت تلك الدراسات أن مردود الدراسات العليا يمكن احتسابه في مجال فترات زمنيَّة متباعدة، وأنه يصعب قياسه في فترات قصيرة ومحدودة نسبيا. وقد أوضحت تلك الدراسات أن قياس المردوديَّة الاقتصاديَّة للتعليم العالي مرهونة بمنظومة من المتغيرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي تتميَّز بطابع التغيُّر وعدم الاستقرار. فعلى سبيل المثال، إذا كان التعليم الجامعي ديمقراطيا يسمح لجميع الراغبين بالانتساب إليه، وإذا كانت الوظائف المناسبة لهذا التعليم غير متاحة لجميع الخريجين، بمعنى أن سوق العمل لا يتاح للجميع بحيث يكون العرض أكبر من الطلب، فإن ذلك سيؤدِّي بالضرورة إلى انخفاض الدخول الماليَّة والمردود الاقتصادي لرأس المال البشري. ويلاحظ الباحثون في هذا السياق بأن المردوديَّة الاقتصاديَّة للتعليم الجامعي غالبا ما تكون ضعيفة ومحدودة بالنسبة للأقليات العرقيَّة، وهذا الأمر ينسحب على أبناء الفئات الاجتماعيَّة المهيضة التي توجد في قاعدة الهرم الاجتماعي، وتتَّضح هذه النتيجة في اختلاف مردوديَّة التعليم الاقتصاديَّة بين الذكور والإناث، حيث تكون الجدوى الاقتصاديَّة للتعليم لدى الذكور أكبر منها لدى الإناث. وهذا كله يعبِّر عن حضور عنصر التمييز الاجتماعي في سوق العمل بصورة عامَّة.

وعلى خلاف هذه الصورة في البلدان النامية، حيث لا يكون التعليم الابتدائي إلزاميا أو مجانيا، فإن مردوديَّة رأس المال البشري تبدو واضحة ومرتفعة. وهذه النتيجة أسَّست منطلقا للسياسات التربويَّة في هذه البلدان التي اتَّجهت إلى تعزيز التعليم الابتدائي والأساسي، وقد استفادات هذه البلدان من المساعدات الدوليَّة والأمميَّة في دعم وتعزيز مسارات التعليم الأساسي والابتدائي.

وباختصار يمكن القول بأنه وفقا للمعطيات الميدانيَّة ونتائج الدراسات والبحوث بأن فهم تأثير رأس المال البشري أو تعليم الفرد في دخوله الماليَّة يجب أن يأخذ بعين الاعتبار متغيّرات وعوامل عديدة مثل: مستوى الالتحاق بالمدارس أي نسبة التمدرس، ومعدل سنوات الدراسة، والأصل الاجتماعي، وقوانين العرض والطلب على الوظائف، وهذا ينسحب أيضا على تأثير التعليم العام في العمليَّة التنمويَّة في المجتمع.

10- تأثير التعليم في النمو الاقتصادي للمجتمع :

تفيد أغلب الدراسات أنه عندما يرتفع مستوى التحـصيل العلمي في المجتمع فإن دخل المجتمع وإنتاجيته ترتفع أيضا. وتشير نتائج بعض الأبحاث إلى وجود علاقة قويَّة وجدليَّة متبادلة بين المستوى العلمي للعمل والدخل القومي، إذ يتَّضح أنَّ انتاجيَّة المجتمع ترتفع كلما تمَّ تدرّج القوى العاملة في السلم التعليمي، وبالمقابل فإن المستوى التعليمي لأفراد المجتمع يرتفع أيضا طردا مع نسبة ارتفاع الدخل القومي في المجتمع.

لقد تكاثفت الدراسات الماكرواقتصاديَّة التي تدرس العلاقة بين التعليم والناتج القومي، كما بين التعليم والتنمية في المجتمع على نحو كلي. وقد أكَّدت تلك الدراسات على أهميَّة التعليم ودوره الكبير في التنمية وزيادة معدّلات الدخل القومي. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى دراسة دريكر Druker التي تناولت أوجه العلاقة بين معدّلات التقدُّم الذي حقَّقه الاتِّحاد السوفييتي والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في مجال التكنولوجيا والتقانة وبين التقدم في مجال التعليم وتنميَّة رأس المال البشري في كلتا الدولتين. وفي إشارة منه إلى التقدم الهائل الذي حقّقه الاتّحاد السوفيتي في تقانة الفضاء وعلومه يرى دريكر أن هذا التقدُّم الكبير ليس نتاجا لديكتاتوريَّة البرولوتاريا أو للكومونات الزراعيَّة الجماعيَّة أو للتخطيط القومي بل هي نتاج للاستثمار المكثَّف في رأس المال البشري أي في التعليم وفي المصادر البشريَّة تحديدا([28]).

وتبيِّن إحدى الدراسات العالميَّة المقارنة، للعلاقة بين تكلفة التعليم بالتقدُّم الاقتصادي، أن اليابان تنفق نسبة عالية من الناتج القومي الاجمالي تقدَّر بـ 12.5% في مجال التعليم (وهي أعلى نسبة في العالم). ولذلك فهي تتمتَّع بتقدّم تكنولوجي واقتصادي لا نظير له في العالم([29]).

وقد تنامت الدراسات التي أكَّدت العلاقة الإيجابيَّة بين الإنفاق على التعليم وبين التقدُّم والتنمية، وقد بني على ذلك أن كثيرا من البلدان المتطلّعة للنمو – كما يقول أحد الكتاب العرب – ” قد علقت آمالها على التعليم كوسيلة لتحقيق التقدّم، حتى شاعت النظرة إليه على أنه (عصا موسى) يكفي أن نضرب بها بحر التخلّف لينشق مفسحاً طريق التقدُّم أمام البلاد المتطلِّعة إليها، ويكفي أن نلقيها على حياة الفقر والجهل والبطالة والمرض ليلتهمها واحدة بعد أخرى”([30]).

وعلى خلاف النتائج التي توصَّلت إليها هذه الدراسات المؤكّدة لأهميَّة التعليم في الناتج القومي، ظهرت اتّجاهات بحثيَّة مضادَّة ترفض أن يكون للتعليم هذا الأثر الكبير في عمليَّة التنمية وزيادة الناتج القومي، وترفض الفكرة التي تقول بأن التعليم يعد عامل كفاية لتحقيق النمو الاقتصادي. ويتبنى هذا التصوّر النقدي كل من فيزي Vaizey وديبيوفيز Debeauvais، حيث يقدمان نماذج حضاريَّة ليس للتعليم فيها هذه الأهميَّة التي تعزى إليه، وهذا هو حال بريطانيا التي حقَّقت تقدّما اقتصاديا هائلا وتنمويا كبيرا بكل المقاييس مع أن المستوى التعليمي لديها أدنى بكثير من بعض الدول الأوربيَّة. وهناك دول أخرى عديدة استطاعت أن تحقِّق نمواً اقتصادياً دون أن تحقق نهضة تعليميَّة موازية لذلك[31].

ومهما يكن أمر الدراسات الجارية في هذا الميدان فمن الثابت بالضرورة العلميَّة أن الاستثمار في التعليم يزيد من انتاج القوى العاملة عن طريق زيادة معارف تلك القوى ومهارتها، ولذا فإن زيادة مستوى التعليم القوى سيؤدِّي بالضرروة إلى زيادة الدخل وتحسين المستوى المعيشي للسكان المجتمع ويزيد من دخله القومي.

من الثابت بالضرورة العلميَّة أن الاستثمار في التعليم يزيد من انتاج القوى العاملة عن طريق زيادة معارف تلك القوى ومهارتها، ولذا فإن زيادة مستوى التعليم القوى سيؤدِّي بالضرروة إلى زيادة الدخل وتحسين المستوى المعيشي للسكان المجتمع ويزيد من دخله القومي.

فالدراسات والبحوث تؤكِّد بأكثريتها على أهميَّة التربية في عمليَّة التجديد والتقدُّم التقني والتنمية الشاملة للبلدان، ومع ذلك يصعب قياس هذا التأثير التنموي للتعليم نظرا لصعوبة توفير المعطيات الأساسيَّة والإحصائيَّة للتعليم في مختلف البلدان. ويعتقد الباحثون بأن هذه الصعوبة ناجمة عن صعوبات منهجيَّة في البحث العلمي تعود في لحمتها إلى غياب المعطيات الإحصائيَّة الكافية. ورغم ذلك تبين بعض الدراسات أن تطوّر مستويات الالتحاق والتمدرس لم تفلح في عمليَّة النهوض بالتنمية وهذا قد يكون ناجما عن ممارسات غير مواتية للعمليَّة التنمويَّة كما قد يكون ناجما عن تدني نوعيَّة المدارس والمؤسّسات المدرسيَّة سياسيَّة واقتصاديَّة.

لقد عمل الباحثون وبصورة مستمرَّة على تطوير أدواتهم لقياس العائدات الاقتصاديَّة للتعليم دون انقطاع، وفي ظل هذه الجهود شهدت اقتصاديات التربية نوعا من التجديد في طرائقها وأدواتها مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي. ومن اللافت للنظر أن هذا التطوير قد شمل أبعادا أخرى تتجاوز حدود الدخول الفرديَّة والتنمية. لقد استخدم الاقتصاديون في الستينات والسبعينات أدواتهم الإحصائيَّة لقياس تأثير التعليم في عمليات توظيف الآباء لأموالهم واستثمارها في تعليم أبنائهم، ومن ثمّ دراسة هذا التأثير في السلوك الاجتماعي مثل الزواج والخصوبة والانحراف والمشاركة في الانتخابات والممارسات الدينيَّة[32]. وقد بيَّنت هذه الدراسات أهمّيَّة رأس المال البشري ودوره في الدخل والتنمية، وقد وظَّفت هذه الدراسات معادلة مانسر Mincer الكميَّة (عدد سنوات الدراسة، عدد سنوات الخبرة) في عمليَّة قياس تأثير التربية في الدخل والتنمية. ويمكن القول في النهاية بأن بعض الاقتصاديين المعاصرين في مجال اقتصاديات التربية يقترحون تطوير مفهوم رأس المال البشري ليشمل مختلف الجوانب السيكولوجيَّة والنفسيَّة والسلوكيَّة التي قد تكون نتاجا لعمليَّة التمدرس الطويلة. وقد ركَّز هذا التوجّه على أهمّيَّة العناصر السيكولوجيَّة والعقليَّة في عمليَّة التنمية الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في مستوى الفرد كما في مستوى المجتمع. ويتَّضح في هذا السياق أن هذه العناصر تتعلَّق بقيم ومواقف واتِّجاهات وعادات الفرد كما تتعلق بنسق من المشاعر السيكولوجيَّة مثل: الثقة بالنفس، واحترام الذات، والعلاقة مع السلطة، والقدرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعيَّة.

ويعد اليوم رايمون بودون Raymond Boudon أحد كبار المهتمّين بالجوانب الاقتصاديَّة للتربية إذ قام بدراسة المسألة التربويَّة في الأوضاع الاقتصاديَّة للأسر والعائلات وبيّن أن صورة التعليم بدأت تأخذ مكانها في عقول الناس على أنها عمليَّة توظيف واستثمار وعائدات، حيث بدأ الناس ينظرون إلى المدرسة من خلال مفاهيم العرض والطلب والتوظيف والعائدات ([33]).

وفي هذا المجال تجدر الإشارة إلى الدراسة المهمَّة التي أجراها دونيزون Denison حول مصادر النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة والتي نشرت في عام 1962. واستطاعت هذه الدراسة أن تقدم نتائج إحصائيَّة هامة حول تأثير التعليم في الدخل القومي، ومن النتائج التي قدمتها أن 23% من نسبة النمو الاقتصادي تعود إلى تأثير التعليم في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وهذا يعني أن التعليم يعدّ من أهم العوامل في هذه الزيادة باستثناء قوَّة العمل نفسها[34]).

لقد استخدم دونيزون مفهوم وظيفة الإنتاج لقياس العلاقة بين التربية والتنمية وهو المفهوم الأكثر انتشارا في النظريَّة الاقتصاديَّة العائدة للسيد كوب دوكلاس Cobb Douglas، والذي يرى بأن إنتاج رأس المال والعمل يتم على أساس عوامل عديدة أهمها التقدّم التكنولوجي وتحسّن مستوى اليد العاملة([35]). وتبين تفاصيل هذه الدراسة أن 10% من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة ما بين سنتي 1929- 1957 يرجع إلى تحسّن مستوى التعليم سواء في زيادة عدد سنوات الدراسة أو زيادة أيام الدراسة، وأن نحو 21% من النمو الحاصل في المدَّة من 1929 إلى 1957 يرجع إلى تأثير التعليم أيضاً. كما قام دونيزون أيضاً بدراسة دور التعليم في زيادة النمو في أوربا في السنوات 1950 – 1962، وتوصل إلى إرجاع 5% إلى 15% من النمو إلى تأثير التعليم.

وفي هذا المجال من البحوث أرجعت دراسة قام بها شولتز 20% من النمو الاقتصادي الحاصل في المدة من 1929 إلى 1957 في الولايات المتّحدة الأمريكيَّة إلى تحسن مستوى التعليم. وهناك دراسات متعدّدة توصَّلت إلى نتائج مشابهة، ولكن ثمَّة دراسات أجريت على البلدان النامية توصلت إلى أن دور التعليم في النمو الاقتصادي كان ثانوياً، واتّجهت بعض الكتابات والدراسات إلى نفي أي دور للتعليم في التنمية الاقتصاديَّة، وعلى العكس من ذلك فقد وجدت بعض الدراسات أن الإنفاق الكثيف على التعليم قد لا يجدي في العمليَّة التنمويَّة، وقد يعود ذلك إلى طبيعة الظروف الاجتماعيَّة والتربويَّة التي تحيط بعمليَّة التنمية ذاتها، فبعض السياسات التربويَّة قد تنعكس سلبا على معطيات التنمية ومثال ذلك السياسات التي توسَّعت في التعليم الثانوي والعالي على حساب التعليم الأساسي والابتدائي، وقد أدَّى ذلك إلى إغراق أسواق العمل بفائض من القوى العاملة والخبرات المؤهّلة التي تزيد على حاجة هذه الأسواق من اختصاصات محددة أو من الاختصاصات التي لاتتلاءم مع حاجات الاقتصاد أصلاً.

ورغم التصوّر السلبي الذي تقدّمه تلك الدراسات للعلاقة بين التربية والتنمية فإنَّ قناعات الاقتصاديين وعلماء التربية المهتمين بهذا الموضوع بقيت راسخة بأن التعليم يسهم في النمو الاقتصادي، وأن تأثيره يزداد بزيادة مواءمته لحاجات الاقتصاد ومدى قدرته على تزويد سوق العمل بالأطر والكفايات والخبرات العلميَّة. وبقي راسخا أيضا على الأهميَّة الكبيرة التي يمارسها التعليم في التنمية الاقتصاديَّة والثقافيَّة ولاسيما في المجالات الصحيَّة والثقافيَّة، ويلح الخبراء في هذا السياق على ضرورة الأخذ بنظم الأولويات في تخطيط التعليم والتركيز على أولويَّة التعليم الابتدائي والأساسي نظرا لدوره الكبير في زيادة العائدات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

11- خاتمة نقديَّة:

تسجّل اقتصاديات التربية اليوم نفسها بين العلوم الاجتماعيَّة التي اكتسبت أهميَّة وخصوصيَّة كبرى، وتتمثل أهميتها في تناولها لأكثر قضايا الحياة المعاصرة أهميَّة وخطورة. فالعلاقة بين التعليم والحياة الاقتصاديَّة تفرض نفسها في حياة الأفراد والمجتمع على حدّ سواء.

لقد استكشفت اقتصاديات التربية المعالم المجهولة للعلاقة بين التربية والاقتصاد وبين رأس المال البشري والتنمية الإنسانيَّة، كما أضاءت كثيرا من الغموض الذي يحيط بطبيعة العلاقة الجدليَّة المعقدة بين المادّي والمعنوي في العمليَّة التنمويَّة بصورة عامَّة. ومهما يكن الأمر فإنَّ الدراسات الجاريَّة في هذا الميدان قد رسخت رؤى وتصوّرات علميَّة شاملة حول طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والتربية وأكَّدت أهميَّة الوظيفة الاقتصاديَّة للتربية.

وقد مكَّنت نتائج الدراسات الجارية في مجال اقتصاديات التربية الحكومات والدول والأفراد من توجيه سياساتها التربويَّة والاقتصاديَّة في المسارات المأمولة، واستفادت هذه الحكومات بدرجة كبيرة من معطيات البحث العلمي في ميدان التفاعل المعقّد بين التعليم والاقتصاد وبين رأس المال البشري والتنمية. وقد شكَّلت نتائج هذه الدراسات منطلقا للاستراتيجيات والسياسات التربويَّة في مختلف أنحاء العالم لمواجهة كثير من المعضلات السياسيَّة والاقتصاديَّة. ومن هذا المنطلق دأبت كثير من الدول على تطوير التعليم والتأهيل لمواجهة تحّديات التخلّف وتحقيق التقدُّم الاقتصادي والاجتماعي.

وتأسيسا على ما تقدَّم يمكن القول بأن اقتصاديات التربية تكتسب اليوم أهميَّة استراتيجيَّة سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وتشكِّل مدخلا رئيسيا من مداخل التخطيط الاجتماعي والتربوي للتنميَّة والتحديث والتطوير في المجتمع.

لقد بينا في هذه الدراسة مختلف المداخل الأساسيَّة لأقتصاديات التربية في مسارات التوظيف والتمويل والاستثمار والعائدات. وقدّمنا تصوّرا شاملا لمختلف المفاهيم والمقولات والدراسات الجاريَّة في هذا الميدان. وقد راعينا في تناولنا لهذه المسألة أهميَّة التأثير الذي يحقّقه التعليم في نمو المجتمع وتطوره الاقتصادي على نحو شامل.

وفي تناولنا لقضايا رأس المال البشري اعتمدنا منهجا يتّسم بالوضوح إذ حاولنا تناول عمليَّة التوظيف والاستثمار الاقتصادي في رأس المال البشري عبر العمليَّة التربويَّة في مستوى الأفراد وفي مستوى المجتمع، كما تناولنا بالدراسة والتحليل تأثير رأس المال المتشكّل في دخول الأفراد وفي النمو الاقتصادي للمجتمع. وقد جرى هذا التناول وفقا للمنهج المجهري “المايكرو اقتصادي ” من جهة والمنهج الشمولي “الميكرو الاقتصادي” من جهة أخرى. وقمنا بعرض عدد كبير وواف من الدراسات الاقتصاديَّة التربويَّة التي تناولت مختلف المسائل التي تتعلَّق بالتربية والاقتصاد ورأس المال البشري.

ولا بد لنا في خاتمة هذا البحث أن نسجِّل بعض الملاحظات النقديَّة التي سردناها جوهريا في مقدمة هذه الدراسة. وتتمثَّل إحدى هذه الملاحظات في أن بعض الدراسات الاقتصاديَّة الجاريَّة حول المدرسة قد اختزلت المسألة التربويَّة إلى بعدها الاقتصادي. وهذا يعني أن المدرسة تحت التأثير المتواتر لهذه الدراسات بدأت تفقد بريقها الثقافي والإنساني، وبدأت تفقد وظيفتها الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والثقافيَّة الني كانت تمثّل وظيفتها الحيويَّة عبر التاريخ الإنساني. لقد رسَّخت الدراسات الجارية القيمة الاقتصاديَّة للتربية وتجاهلت ما عداها، وأخضعت المسألة التربويَّة لمعايير السوق وقوانيه التي تتعلَّق بالعرض والطلب والعائدات والاستثمارات فحسب. وممَّا يؤسف له اليوم أن تأثير هذه النظريات والرؤى بدأت تنساب في عقول الأفراد والمربّين وأصحاب القرار، وبدأت النظرة الاختزاليَّة إلى المدرسة تتشكَّل وفقا لمعايير السوق من عرض وطلب. حتى أن معدي البرامج المدرسيَّة بدؤوا اليوم يبرمجون كل ما يتعلَّق بالمدرسة وفقا لمعايير النظرة الاقتصاديَّة الجامدة إلى المدرسة، وقد يؤدِّي هذا السيل الجارف من الدراسات والأبحاث والنظريات ذات الطابع الاقتصادي إلى اختزال المدرسة في بعدها الاقتصادي وحرمانها من تألقها الفكري والأخلاقي والإنساني.

مراجع الدراسة

  • إسماعيل محمد دياب، العائد الاقتصادي المتوقع من التعليم الجامعي، دار الوسيم / بيروت، 1990.
  • أنطون رحمة، اقتصاديات التعليم، مؤسَّسة الوحدة، جامعة دمشق، 1982.
  • حسين محمد جمعة المطوع، اقتصاديات التربية، ط1، الإمارات العربيَّة للنشر والتوزيع، 1987.
  • عبد المحسن حمادة، مدخل إلى أصول التربية، ط 2، جامعة الكويت، الكويت 2007.
  • عبد الله رشدان، الأثر الاقتصادي للتعليم العام في الأردن، المجلة التربويَّة،المجلد الثاني، العدد الخامس، 1985.
  • محمد يوسف المسيليم، اقتتصاديات التعليم واستثمار العنصر البشري، ط1، جامعة الكويت 2002.
  • مصدق الحبيب، التعليم والتنمية الاقتصاديَّة، دار الرشيد، بغداد، 1981.
  • منذر الشرع، الاستثمار في راس المال البشري، مدخل التكاليف والأرباح، ضمن: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيَّة، التعليم والعالم العربي: تحديات الألفيَّة الثالثة، الطبعة الأولى دبي، 2000.
  • نوفل، محمد نبيل، التعليم والتنمية الاقتصاديَّة، مكتبة الانجلو المصريَّة، القاهرة، 1979.
  • Adelman(I.) & Morris (C.), Economic Growth and Social Equity in Developing counries, Stanford University Press, Stanford, 1973.
  • Baudelot (p.) & Leclercq (F.), Les Effets de l’éducation, La Documentation française, Paris, 2005

– Ben-Porath(Y.),. The Production of Human Capital over the Life-Cycle, Journal of Political, Economy, 75 , 1967. pp. 352-365.

– Boudon (R.), L’inégalité des chances, Armond Colin, Paris, 1974.

– Bourdieu (P.) La reproduction P.U.F., Paris, 1971.

– Cherkaoui (M.), Sociologie de l’éducation, Que s’ais-je? N2270. P.U.F. Paris, 1970.

– Coleman (J.), Campbell (E.) , Hobson (C.) , Equality of Educational Opportunity, U.S. Government Printing Office, Washington, 1966.

– De Meulemeester (J-L,) l’économie de l’éducation fait elle des progrès ? une perspective d’histoire de la pensée économique” , Dulbea l, Université Libre de Bruxelles , brussels economic review – cahiers ECONOMIQUES de Bruxelles, VOL. 50 – N°1 Spring 2007.

– Denison(E.), Education, economic growth and gaps in information, Twin PressNew York, 1962.

– Diatkine(D.) Introduction à la Richesse des nations, Flammarion. Paris, 1999.

–  Druker, (P.) The Educational Revolution” in Education, Economy and Society. Halsey, Floud and Anderson, eds. (Free Press: New York). 1961.

-Hanushek(E.), The trade-off between child quantity and quality, Journal of Political Economy, 100 (11), 1992 , pp. 84-117.

– Gérard (A.) Aux sources de l’effet pygmalion », Recherches & éducations, n°5 | 2e trimestre 2003, [En ligne], mis en ligne le 15 octobre 2008. URL: http://rechercheseducations.revues.org/index218.html. Consulté le 29 mai 2009.

– Heckman (J.) Krueger (A.) , Inequality in America: What Role for Human Capital ?, M.I.T. Press, Cambridge, 2003

– Heckman (J.) , Lochner (L.) , Todd (P.), Fifty Years of Mincer Earnings Regressions », in NBER Working Paper, no 9732, 2003

– Hoxby (C.) , The Economics of School Choice, University of Chicago Press, Chicago, 2003.

– Mincer (J.), Investment in human capital and personal income distribution, Journal of Political Economy, N 66 (4), 1958. pp. 281-302.

– Smith (A.) , Recherches sur la nature et les causes de la richesse des nations, trad. franç. G. Garnier, 2 vol., GF-Flammarion, Paris, 1991.

– Vaizey(J.) & Debeauvais(M.) Economic Aspects of Educational Development , in Education, Economy and Society edited by Halsey ,1961.

-Watfa (A.) , L’interallié sociale dans l’enseignement supérieur français, université de Caen Comparée aux universités françaises, Thčse de doctorat, Université de Caen, Caen. 1988.

 

هوامش الدراسة [1] – المهندس فريدريك تايلور (Fedriek Tylor) (1856 – 1915) وكان يعمل مهندساً بإحدى الشركات الصلب في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، ونشر تايلور أفكاره في كتاب “الإدارة العلميَّة” عام 1911، وأوضح أن الهدف الرئيسي للإدارة هو الحصول على أكبر قدر من الإنتاج عبر تحفيز العمال وتجزئة العمل.

[2] – إسماعيل محمد دياب، العائد الاقتصادي المتوقع من التعليم الجامعي، دار الوسيم، بيروت، 1990، ص 27.

[3] – أنطون رحمة، اقتصاديات التعليم، مؤسسة الوحدة، جامعة دمشق، دمشق، 1982، ص 5.

[4] – Smith (A.) , Recherches sur la nature et les causes de la richesse des nations, trad. franç. G. Garnier, 2 vol., GF-Flammarion, Paris, 1991.

[5] – Diatkine (D.), Introduction à la Richesse des nations, Paris, Flammarion, 1999.

[6] – منذر الشرع، الاستثمار في راس المال البشري، مدخل التكاليف والأرباح، ضمن: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيَّة، التعليم والعالم العربي: تحديات الألفيَّة الثالثة، الطبعة الأولى، دبي، 2000، صص 111ص 112. 

[7]– Watfa (A.), l’interallié sociale dans l’enseignement supérieur français, université de Caen Comparée aux universités françaises, Thčse de doctorat, Université de Caen, Caen. 1988,P51.

[8]– Cherkaoui (M.). Sociologie de l’éducation, Que s’ais-je? N 2270, P.U.F. Paris, P 4.

[9] – منذر الشرع، الاستثمار في راس المال البشري، مدخل التكاليف والأرباح، مرجع سابق، ص 112.

[10] – De Meulemeester (J-L.) , L’Economie de l’Education fait-elle des Progrès ? Une Perspective d’Histoire de la Pensée Economique », Brussels economic REVIEW – Cahiers Economiques de Bruxelles vol. 50 – N°1 spring 2007.

[11] – Meme source.

[12] – Mincer (J.), 1958. “Investment in human capital and personal income distribution”, Journal

of Political Economy, 66 (4), pp. 281-302.

[13] – Ben-Porath (Y.), 1967. “The Production of Human Capital over the Life-Cycle”, Journal of Political, Economy, 75 (4), pp. 352-365.

[14] – حسين محمد جمعة المطوع، اقتصاديات التربيَّة، ط1، الإمارات العربيَّة للنشر والتوزيع، 1987، ص 129.

[15] – حسين محمد جمعة المطوع، اقتصاديات التربيَّة، المرجع السابق، ص 129.

[16] – عبد المحسن حمادة، مدخل إلى أصول التربيَّة، ط 2، جامعة الكويت، الكويت 2007، ص 207.

[17] – عبد المحسن حمادة، مدخل إلى أصول التربيَّة المرجع السابق، ص 207.

[18] – محمد يوسف المسيليم، اقتتصاديات التعليم واستثمار العنصر البشري، ط1، جامعة الكويت، 2002، ص 180، ص 148.

[19] – Heckman (J.). & Krueger(A.) , Inequality in America: What Role for Human Capital ?, M.I.T. Press, Cambridge, 2003

[20] – عبدالله رشدان ، الأثر الاقتصادي للتعليم العام في الأردن، المجلة التربويَّة ، المجلد الثاني، العدد الخامس، صص 11-31.

[21] Bourdieu (P.) La reproduction P.U.F., Paris, 1971.

[22] – Coleman(J.) , Campbell (E.), Hobson(C.), Mcpartland(J. ), Mood(A.) , Weinfeld (F.) , York (R.) , Equality of Educational Opportunity, U.S. Government Printing Office, Washington, 1966.

[23] – Ambroise(G.), « Aux sources de l’effet pygmalion », Recherches & éducations, n°5 | 2e trimestre 2003, [En ligne], mis en ligne le 15 octobre 2008. URL: http://rechercheseducations.revues.org/index218.html. Consulté le 29 mai 2009.

[24] – Hanushek (E.)The trade-off between child quantity and quality, Journal of Political Economy, 100 (11), 1992 , pp. 84-117.

[25] – HOXBY (C.), The Economics of School Choice, University of Chicago Press, Chicago, 2003.

[26] – مصدق الحبيب، التعليم والتنميَّة الاقتصاديَّة، دار الرشيد، بغداد، 1981، ص24.

[27] – Heckman(J.) , Lochner (L. ), Todd(P.) , Fifty Years of Mincer Earnings Regressions , in NBER Working Paper, no 9732, 2003

[28] – Druker (P.), The Educational Revolution, in Education, Economy and Society. Halsey, Floud and Anderson, eds. (Free Press: New York). 1961.

[29] — Adelman (I.) , Morris (C.), Economic Growth and Social Equity in Developing counries. (Stanford University Press: Stanford) 1973.

[30] – نوفل، محمد نبيل، التعليم والتنميَّة الاقتصاديَّة، مكتبة الانجلو المصريَّة، القاهرة، 1979، ص 5.

[31] – Vaizey(J.) , Debeauvais(M.), Economic Aspects of Educational Development, in Education, Economy and Society edited by Halsey et al (1961).

[32] – Leclercq (F.), Les Effets de l’éducation, La Documentation française, Paris, 2005.

[33] Boudon (R.), L’inégalité des chances, Armond Colin, Paris, 1974.

[34] Cherkaoui (M..) Sociologie de l’éducation, P.U.F, Paris,.1970,P38.

[35] – Denison(E.), 1962. “Education, economic growth and gaps in information”, Journal of

Political Economy, 70 (5), pp. 124-128.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات