يقول بوذا ” نحن نتشكل بأفكارنا، نحن نصبح ما نفكر به، عندما يكون العقل نقياً تكون الفرحة ظله الأبدي “. ويقول جيمس هارفي روبنسون :” إن العقل الحديث حديث جزئيا لأن جوانب كثيرة منه ساكنة فينا منذ أيام ماضينا السحيق”.
1- مقدمة:
يقول آلفين توفلر، في كتابه المعروف صدمة المستقبل، مشددا على البنية المعقدة لمفهوم العقلية “إن كل شخص يحمل في داخل رأسه نموذجا ذهنيا للعالم، أي تصورا ذاتيا للعالم الخارجي، ويتكون هذا النموذج الذهني من عشرات فوق عشرات من ألوف الصور([1]). إنها نمط ذهني من التصورات الذاتية للعالم تساعد الإنسان على تحقيق تكيفه مع عناصر الوجود وتجعله يمتلك نمطا كليا من التفكير يعتمده في النظرة إلى خصائص الوجود.
ومن أجل أن يستطيع الإنسان أن يواجه التغير السريع والعاصف يجب على الفرد أن يغير من مخزونه من تلك الصور بمعدل يتناسب مع هذا الذي يجري به التغيير في داخل المجتمع ” ([2]). ” والمعرفة الجديدة إما أن توسع من سابقتها أو تنسخها وفي كلتا الحالتين فإنها تفرض على المعنيين بها أن يعيدوا ترتيب مخزونهم من الصور ([3]). ويصف توفلر آليات تغير الذهنية فيقول: ” إن أمواجا تلو أمواج من الصور الجديدة لا تني تهاجم دفاعاتنا وتهزم تصوراتنا الحقيقية في مختلف مجالات الحياة: في التعليم وفي السياسة، وفي الطب وفي العلاقات الدولية ([4]). وكنتيجة لهذا الغزو المتواصل فإن معدل تآكل الصور القديمة يرتفع باضطراد ([5]).
في هذه الصورة البديعة التي يقدمها توفلر لمفهوم العقلية، نجد أنفسنا إزاء مفهوم إنساني متمرد ومغامر، ونعلم منذ البداية بأننا سنواجه صعوبات منهجية في البحث عن تضاريس مفهوم قوام آلاف مركبة من الصور الذهنية. ويجب الاعتراف منذ البداية، أن مفهوم العقلية Mentalité من هذه المفاهيم التي تزداد غموضا كلما اشتد المرء في طلبها، وتزداد صورتها تعقيدا كلما ألحّ الباحث على التأمل في تضاريسها. وهو يشكل واحدا من المفاهيم الإشكالية التي تتداخل بصورة معقدة مع منظومة من المفاهيم المركبة ولاسيما هذه التي تثير الجدل الفكري منذ عهود بعيدة المدى في تاريخ العلوم الإنسانية([6]).
يشير مفهوم العقلية Mentalite إلى تكوينات معقدة واعية وغير واعية، شعورية وغير شعورية، حاكمة للسلوك الإنساني، إنها نظام معقد من المشاعر والأفكار والتصورات والقيم التي تجعلنا نتصرف على نحو ما، وننظر إلى الكون برؤية خاصة، ونقف من أشياء العالم موقفا محددا يفرضه هذا النظام بمؤثراته المختلفة. فالعقلية هي النظام الأكثر غموضا في تكوين الإنسان والأكثر أهمية وخطورة في حياته، وفي هذا الغامض تتحرك أكثر عناصر الوجود الإنساني وتتفاعل لتقدم للإنسان أكثر صيغه الإنسانية تكاملا. وبعبارة أفضل يمكن القول بأن العقلية تشكل الروح الخفية والغامضة التي تشكل الطاقة الأساسية للحركة والوجود الإنساني. وهي في النهاية نظام من السلوك والنظرة إلى العالم يتشكل ويتبلور في الأفران الثقافية للمجتمعات الإنسانية. وهذا يعني أن السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما فالفرد في أي مجتمع مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. “وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر “([7]).
يعد مفهوم العقلية من المفاهيم المركزية في مختلف العلوم الاجتماعية والآداب والإنسانية، ولاسيما هذه التي تفرض نفسها في مختلف أنماط التفكير والنشاطات المعرفية، ويتجلى هذا في تواتر استخدام هذا المفهوم بصورة ملحوظة في مختلف الحقول المعرفية ولاسيما الإنسانية منها. ويضاف إلى ذلك كله أن هذا المفهوم شائع الاستخدام في لغة العامة من الناس في مختلف الثقافات الإنسانية، وهذا من شأنه أيضا أن يضاعف من تضاريس الإشكالية المعرفية التي يطرحها هذا المفهوم.
ويلاحظ في هذا السياق أن مفهوم العقلية ما زال يعاني من التشويش والغموض في الثقافات الغربية المعاصرة، رغم المحاولات العلمية الجادة التي تواترت وتتابعت في سبيل تحريره من شروط الغموض التي تحيط به، سعيا إلى بناء هويته الخاصة، وترسيم حدوده مع مختلف المفاهيم التي تزاحمه وتتداخل معه بشبكة كبيرة من الإيماءات والدلالات والوظائف. وإذا كانت مسألة تحديد الهوية العلمية لمفهوم العقلية قد قطعت أشواطا في الثقافة الغربية، فإن هذا المفهوم ما زال يعاني غموضا أكبر بكثير في الثقافة العربية المعاصرة، وذلك على الرغم من الاستخدامات الكبيرة والتوظيفات المتواترة له في مختلف الأدبيات الاجتماعية والفكرية. وفي هذه النقطة العقدية يأخذ البحث في قضية العقلية أهمية متنامية تقتضيها متطلبات التنمية الفكرية لمختلف جوانب الحياة الفكرية في الثقافة العربية.
ومن الواضح أن البحث في قضية تطور العقلية الإنسانية يأخذ مكان الأهمية في الدراسات التاريخية والأنتروبولوجية منذ قرن من الزمن. وتدور المباحث الجارية في قضية العقلية حول منحنيات التطور الذي شهدته العقلية الإنسانية عبر التاريخ الإنساني. ومن هذه الزاوية يميز الباحثون بين ثلاثة مستويات في تطور العقلية الإنسانية، حيث يجري الحديث حول العقلية البدائية والعقل التقليدي ومن ثم العقل الحديث أو المعاصر.
لقد أولى الباحثون قضية العقل البدائي أهمية خاصة. وبدؤوا بدراسة سمات وخصائص هذه العقلية سعيا منهم إلى فهم طبيعة التطور العقلي والذهني الذي شهدته العقلية الإنسانية عبر التاريخ حتى المرحلة الراهنة. والسؤال المركزي الذي تطرحه المباحث الجارية في قضية تطور العقلية الإنسانية يدور حول أوجه التباين والاختلاف بين العقلية المعاصرة وبين العقلية البدائية ([8]).
ومن أجل تقديم تصور منهجي حول طبيعة العقلية التقليدية يتوجب علينا في البداية أن نميز بين العقلية البدائية والتقليدية ومن ثم نتعرض إلى المحاولات العلمية التي جسدها الباحثون والمفكرون في سبيل الكشف عن طبيعة العقل البدائي الذي يؤسس لاحقا لما يسمى بالعقل التقليدي من جهة والعقل الحديث من جهة أخرى.
ويعد ليفي برول Levy Bruhl من أبرز الباحثين والمنظرين في مجال العلاقة بين العقلية البدائية وبين العقلية الحديثة، حيث يقابل بين العقلية المنطقية Mentalité logique وبين العقلية ما قبل المنطقية Mentalité prélogique التي ينسبها إلى الإنسان البدائي([9]).
ويبين برول في هذا السياق بأن ذهنية البدائي تعتمد على منظومة من المبادئ والمعايير التي تختلف عن هذه التي تؤسس للعقلية الحديثة. فالبدائي لا يستطيع أن يرى العلاقات التي نراها نحن في الأشياء، وهو بالتالي يصف هذه الأشياء بطريقة مختلفة تماما عن هذه التي نعتمدها نحن، وذلك لأنه ينظر إلى الأشياء والأحداث والعلاقات القائمة بين الأشياء على أساس من المعايير المختلفة نوعيا عن المعايير التي نعتمدها نحن. وهذا يعني أن البدائيين يمارسون وظائف ذهنية مختلفة ويحاكمون الأشياء بطريقة أخرى غير هذه التي درجنا عليها. فالوظيفة العقلية عند هؤلاء تستجمع حضورها في صورة تصورات جمعية، إلى حد أنه يمكن لكل ثقافة أن تمتلك صورة خاصة للعقلية السائدة لديها.
فالتصورات الجمعية تكون مشتركة بين مختلف أعضاء الجماعة وهي تنتقل من جيل إلى جيل وتفرض نفسها على الأفراد ثم توقظ فيهم مشاعر وأحاسيس مختلفة. وهذه العملية ليست مجرد عملية عقلية خالصة بل نماذج مع مستويات وعناصر انفعالية ووجدانية. وهذا يعني أن العقلية البدائية تعبر عن حالة مشاركة مكثفة بين الإحساس والتجربة وهذا يتوافق مع حاجة مستمرة تعلنها ثقافتنا المعاصرة.
وفي إطار تحليله للعقلية البدائية يرى ليفي برول أن هذه العقلية تقع تحت تأثير تصورات بوجود قوى خارقة فوق طبيعية توجه الحياة وتحرك صيرورة الوجود، حيث تأخذ التجربة عند أفراد هذه الجماعات طابعا أسطوريا: فالحقيقة تؤخذ على أنها تنبع من الإيمان بوجود قوى وتأثيرات خفية. وهذه التصورات الأسطورية تتكامل فيما بينها بصورة تختلف عن المنطق الذي نعرفه في العصور الحديثة. وعلى أساس هذا التصور يستند ليفي برول في تسمية العقلية البدائية بـ “العقلية ما قبل منطقية Mentalité Prélogique”، وهذا يعني أن هذه العقلية تتوافق مع مرحلة سابقة للتفكير المنطقي، بحيث يمكنها أن توائم بين التناقضات المفارقة والتي تتنافر كليا مع طريقتنا المعاصرة في التفكير، وهذا يعني أنها تشكل طريقة أخرى في التفكير والنظر. ووفقا لمنطق هذه العقلية فإن الأشياء يمكن أن تكون هي نفسها وهي غيرها في الآن الواحد. فالرجل في بعض القبائل الهندية القديمة (بورورو BORORO) يعتقد في الآن الواحد أنه رجل وببغاء، وذلك لأنه يشارك في طبيعة هذا الحيوان بوصفة طوطما “Totem” لوجوده الخاص. وتأسيسا على هذا المبدأ فإن العقلية البدائية أقل قدرة من عقليتنا نحن المعاصرين على إجراء التحليل والتجريد وبناء المفاهيم.
ومن هذا المنطلق فإن عالم البدائيين عالم أسطوري تحكمه قوى فوق طبيعة ( Sur-naturelle). فالرجل البدائي لا يستطيع أن يفكر كفرد خارج دائرة الجماعة التي ينتسب إليها. وهو لا يستطيع أن يرى نفسه خارج دائرة الأشياء التي يملكها، مثل الأشياء الشخصية، كثيابه وآثار أقدامه، فهي جزء منه وتدخل في بنية هويته. وعلى أساس ذلك يعتمد البدائي عمليات سحرية مؤسسة على هذه العلاقة، وهي عمليات لا تفهم إلا إذا اعتبرنا أن التفكير البدائي مختلف كليا عن مبدأ تفكيرنا.
فالتأثير الانفعالي للقوى ما فوق طبيعية يوجد في أصل التصور الأسطوري وهو نفسه الذي يوقظ التجارب الخاصة ويحيها، ولا سيما هذه الشاذة فيها مثل تجربة الموت والأحلام والرؤى الأسطورية، وهي هذه التي تضع الإنسان البدائي في علاقة مع القوى الخارقة. وفي ظل هذه التجربة الأسطورية تتكون صيغة وعي جمعي قوامه نسق متكامل من الرموز والأساطير والطقوس. ولذلك فإن الإنسان البدائي لا يستطيع أن يدرك العالم بالطريقة التي ننهجها نحن، بل يدرك العالم عبر نسق من الفعاليات التي تأخذ طابعا ذهنيا وعاطفيا سحريا في آن واحد. فتجربة البدائيين تتكون عبر المعاناة الأسطورية وبطريقة حدسية. وبالتالي فإن منظومتهم الأسطورية ليست نتاجا لتجربة عقلية بل هي نتاج لمركبات انفعالية ووجدانية. وبالتالي فإن دور المنظومات الأسطورية لا يقف عند حدود تفسير الظواهر الطبيعية فحسب، إذ يتجلى بوصفه مشاركة وجدانية تأخذ صورة ردود فعل إزاء الخوارق الطبيعية. وتلك هي الطريقة التي يجب علينا أن نعتمدها لفهم الطقوس والرموز والمفاهيم التي تعود إلى العقلية البدائية.
فالطقوس تصنع الأساطير في سياق فعلها، وتحقق للأفراد المشاركة بواسطة تدخل الرموز التي لا تتمايز عما ترمز إليه، أي أنها تتشكل على نحو تتكامل فيه الحقيقة والرمز: الحقيقة وما يرمز إليها شيء واحد. وهذا يعني أن الممارسات الثقافية والدينية والسحرية تكوّن علاقات مشاركة بين الإنسان والقوى الأسطورية وبالتالي فإنها توجه هذه القوى لصالح الإنسان.
ويصل برول في هذه المرحلة الأولية من تفكيره إلى نتيجة خطرة وهي وجود قطيعة كلية بين العقليتين وأنه لا يوجد هناك أي تجانس بينهما ([10]). ولكن برول يستدرك في المراحل اللاحقة من أعماله وجود مراحل انتقالية تطورية بين العقليتين وأن القطيعة التي أعرب عنها في البداية تجانب الحقيقة الموضوعية.
وفي هذا المجال يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا لم يتخل البدائيون عن هذه التصورات الخيالية التي تتناقض بوضوح مع الحقائق الموضوعية الواقعية في كل لحظة؟ وهنا يجيب برول إن هذا لا يحدث لأن العقلية البدائية منفعلة أمام التجربة العادية وهي غير حساسة للتناقض. ولكن ما العلاقة التي تربط بين الذهنية البدائية والذهنية المعاصرة؟ هل يمكن القول بأن العقلية المعاصرة هي حصاد تطور العقلية البدائية عبر الزمن ونتاج لها ؟
هناك إجابات متعددة الاتجاهات حول هذه القضية. وفي هذا السياق يقدم ليفي برول عبر تحليله المنهجي منظومة من الأفكار والتصورات. يشير برول في سياق تصوراته التطورية إلى تطور نقدي حدث في عقلية البدائيين يميل إلى رفض بعض السمات السحرية والأسطورية السائدة، ومن ثم تنامي بعض المفاهيم التي مكنت هذه العقلية من الفصل المبدئي بين الرمز وما يرمز إليه وهذا الفصل يشكل بداية تطور في الإمكانيات المنهجية للعقل البدائي.
ويبدو أن ليفي برول في هذا السياق قد تخلى عن فكرته الرئيسية الأولى القائمة على الفصل القطعي بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرة([11]). وبدأ في هذه المرحلة من تفكيره يؤكد وجود مراحل انتقالية تفصل بين الثقافة البدائية والثقافة التقليدية، حيث يبين في هذا المقام أن العقلية البدائية – بصورتها اللامنطقية – لا تهيمن بصورة كليه على البدائيين، كما أن هذه العقلية لا يمكنها أن تختفي من حياتنا نحن المعاصرين. فهي تلعب دورا أكثر أهمية عند البدائيين وأقل أهمية عند المعاصرين. وإنه لا يمكن أن نتصور أبدا بأنه يمكن للإنسانية أن تتحرر نهائيا من الفكر الأسطوري والخيالي. وما هو مهم في هذا السياق هو أن الأساطير والخرافات تتواجد في العقائد المعاصرة، وأن المؤمن يجد اليوم في عقيدته شيئا آخر غير التفكير النقدي البارد وفي هذا مؤشر على أن العقلية البدائية لن تندثر كليا أبدا.
ومع ذلك إذا كان التطور نحو العقلية المعاصرة قد تحقق وأخذ مجراه فإن تفكير الإنسان لا يأخذ الطابع المنطقي بصورة كلية وذلك لأن العناصر الانفعالية لن تختفي أبدا في بنية التفكير العقلاني المعاصر([12]). ويضاف إلى ذلك كله أن العقلية الأسطورية لا تحجب عن الإنسان إمكانية التفكير والتطور العقلي المنطقي على نحو كلي. وهذا يعني أن العقلية الأسطورية تعيق التطور العقلاني ولكنها لا تمنعه بصورة كلية.
وقد تعرضت نظرية برول ولاسيما في أعماله الأولى، إلى انتقادات شديدة من قبل المفكرين والباحثين في هذا الميدان. وذلك لأن برول كان يفصل قطعيا بين مرحلتين من مراحل تطور المظاهر العقلية للحياة الإنسانية. وفي أصل هذا الفصل قد تكمن رؤية عنصرية أو قد تؤسس لمثل هذه الرؤية في التمييز اليوم بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية المعاصرة. ويمكن القول بأن هذه الانتقادات التي وجهت لنظرية برول جعلته يعدّل رأيه في أعماله المتلاحقة حول هذه القضية.
لقد استدرك الأنتروبولوجيون المتأخرون خطأ المتقدمين في القرن التاسع عشر الذين قسموا المجتمعات الإنسانية إلى بدائية يعوزها المنطق والتحليل، وإلى مجتمعات متحضرة لديها ملكة العقل والنقد ولا تستسلم لتفسيرات الغيب. “فاعترفوا حين معاينة المجتمعات الأولى بسخف القول ببدائيتهم، حين اكتشفوا خبرات تجريبية، وجداول تصنيف معقدة للموجودات والبيئة المحيطة بهم، ونظم فهم الكون وتفسير للعالم والحياة، يقف خلفها عقل منتج يماثل العقل الحديث في بنية نشاطه وآلية عمله ووظيفته”([13]).
فأغلب الباحثين يؤكدون اليوم وجود درجة كبيرة من التجانس النوعي بين العقلية التي كانت سائدة في المجتمعات البدائية وهذه التي تسجل حضورها في المجتمعات المعاصرة. فالناس في المجتمعات القديمة كانوا يمتلكون معارف غامضة عن الطبيعة وخصائص النبات وحركات النجوم وطبائع الحيوانات، وبالتالي فإن هذه المعلومات كانت تأخذ طابعا أمبيريقيا تجريبيا يجانس إلى حد كبير طبيعة المعلومات التي توجد في حوزة المجتمعات المعاصرة. وهذا يعني أن التباين الذي يمكن ملاحظته بين المظاهر العقلية في المجتمعات البدائية تباين في درجة التطور وتراكم الخبرات الإنسانية ولا يأخذ صورة تباين في النوع أو الجوهر. فالمرحلة التي يطلق عليها بدائية توجد في أصل تطور الحضارة الإنسانية ولعلها المرحلة الأكثر أهمية التي سجل فيها الإنسان حضوره الكوني، حيث استطاع وبوسائل بدائية جدا أن يسجل لنفسه الحضور والبقاء عبر سلسلة من الاكتشافات المتتابعة التي مهدت للإنسان المعاصر.
ويسجل ليفي ستروس Claud Leve – Strauss جهودا علمية كبيرة في دراسة أوجه التباين والتجانس بين العقليتين. وهو في هذا السياق ومن أجل المقارنة بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرة يقارن بين المهندس والفلاح القديم. فالفلاح يمتلك معلومات ومعارف عملية فعالة عن موضوع عمله، وهو بذلك يستطيع أن يصنع بعض أدواته وأن يفعل أشياء كثيرة في مكان وجوده دون أن يمتلك أية معرفة نظرية معقدة. أما المهندس فيمتلك معلومات نظرية وتجريبية متقدمة جدا بالقياس إلى الفلاح التقليدي. فمعارف الفلاح هي معارف ناجمة عن الخبرة والتجربة الحياتية، أما المهندس فمعارفه ناجمة عن علم تجريبي([14]). فالمعلومات التجريبية للفلاح هي حصاد ملاحظات دقيقة وصبورة وهي تتكون عبر عملية تراكم عبر الزمن. وهذا يعني أن هذه المعارف لم يتم التوصل إليها عبر فعاليات المنطق أو المخبر، بل هي نتاج عملية تغير زمنية طويلة جدا في سياق التطور الإنساني.
ويرفض كلود ليفي ستروس من جانبه استخدام مفهوم العقلية البدائية ويفضل استخدام مفهوم الفكر البدائي Pensée Sauvage وهو بذلك يريد أن يؤكد بأن التفكير عند البدائيين يعتمد على ذات المنطق الذي يعتمده الناس في المراحل الحديثة من التاريخ الإنساني ([15]). وعلى هذا الأساس يجب التركيز من أجل التمييز بين الذهنيتين على مبدأ الموضوعية والذاتية. وإذا كان التفكير المنطقي الخالص يعيد التجربة إلى عناصر مجردة فإن التفكير البدائي يباشر الحقيقة المعاشة دون توسطات تجريدية.
فالأسطورة على سبيل المثال تعبير إنساني متشبع بالدلالة والمعاني الانفعالية والسيكولوجية، حيث تنطوي على جانب من الحياة الانفعالية ومن المشاركة التي تتجانس إلى حد كبير مع نموذج العقلية البدائية. ومن هنا يمكن الحديث عن تجانس أو علاقة قرابة كبيرة بين العقائد والممارسات البدائية وبين الفلكلور والفنون الشعبية التي تؤكد حضورها في جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة ولا سيما في المناطق الريفية. يمكن أن نجد هذه المظاهر الأولية البدائية في الوسط المدني مثل: العرافين والمنجمين والسحرة.
وتأسيسا على طبيعة الحقائق التي أوردناها أعلاه فإن التمييز القطعي بين العقلية البدائية والعقلية الحديثة مفارقة علمية لا تصمد للمواجهة العقلية. ففي قلب الحياة المعاصرة اليوم، في البادية والريف والحضر، نجد مضامين العقلية البدائية التي تعتمد على مقومات وأسس سحرية وأسطورية تضرب جذورها في أعماق التاريخ الإنساني البعيد.
والسمات البدائية تتجلى بوضوح صارخ في كثير من مظاهر الحياة التقليدية Traditionnelle في مختلف جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويمكن للحياة التقليدية المعاصرة أن تسلط الضوء على طبيعة الحياة البدائية ومظاهرها. لأن في الحياة التقليدية المعاصرة ما يعكس طبيعة الحياة البدائية فيما يتعلق بطرق النظر والتفكير والتحليل والسلوك.
2- من العقلية البدائية إلى العقلية التقليدية :
يشار إلى العقلية البدائية بوصفها هذه التي سادت في مراحل تاريخية مغرقة في القدم، ولا سيما في العصور القديمة التي تسبق ظهور الكتابة أي قبل الألف السادس قبل الميلاد. وغالبا ما يشار بذلك إلى أنماط الإنتاج الرعوية، وإلى المجتمعات الإنسانية التي كانت تعتمد وسائل بدائية جدا في الحياة والوجود ولا سيما في العصور الحجرية والبرونزية.
ويشار إلى العقلية التقليدية عادة إلى هذه التي سادت في عصور ما بعد الكتابة وصولا إلى مرحلة اكتشاف الطباعة وبداية عصر النهضة في القرن الخامس عشر والسادس عشر. ومن المؤكد أن هذا الخط التاريخي الذي رسمناه يحمل تقطعات تاريخية لا يمكن أن تحدد. إذ يمكن لنا أن نجد في ثنايا العصر الذي نعيش فيه اليوم أنماط وجود بدائية كما يمكن أن نجد أيضا أنماط وجود وحياة تقليدية تعود بأصولها إلى مراحل ما قبل النهضة الغربية.
نعني بالحياة التقليدية أنماط السلوك والحياة التي تعتمد على تناوب مستمر لقيم الآباء والأجداد والمحافظة على أنماط السلوك التي عرفتها الأجيال القديمة.” ففي كل مرة يجري التمسك بطريقة للحياة أو للعمل أو التفكير، بحجة أنه “هكذا تم التصرف دوما” يمكننا الكلام على التقليد. وقد نظر فلاسفة الأنوار إلى التقليد بوصفه الطاعة العمياء لمجموعة من الأحكام الغامضة والمتباينة والمتناقضة، والتي لا تملك شيئا سوى كونها آتية من العصور الغابرة([16]).
تعود كلمة تقليد Tradition إلى اللفظة اللاتينية Traditio التي تعني تحول وانتقال وأصلها الفعل Tradere. ويميز قاموس ليتريه Littré الفرنسي بين أمرين في كلمة تقاليد:
– الفعل الذي يسلم شخص ما شيئا ما لشخص لآخر.
– تناقل أحداث تاريخية وعقائد دينية وأساطير من جيل لآخر بواسطة النقل الشفوي ودون أية براهين مكتوبة.
وهو مفهوم كاثوليكي ويعني تناقل المعارف الدينية والقدسية من مرحلة إلى أخرى.
وهذه التحديدات التي يعرضها قاموس ليتريه تعود في الأصل إلى مصادر حقوقية وقانونية رومانية قانونية.
وعندما نحاول تحليل بنية التقاليد ووظائفها يمكننا أن نميز فيها ثلاثة عمليات أو فعاليات هي ::
1-إنها عملية توسط ودمج ثقافي في سياق شروط الوسط المتحولة.
2- عملية حضور مستمر لتراث جماعة أو مجتمع عبر العصور.
3- علاقة بين المطلق التراثي والتجربة الاجتماعية.
ويتناول بودون Boudon مفهوم التقليد في معجمه النقدي بالتحليل حيث يقول في هذا الصدد معرفا بالمفهوم:” في كل مرة يجري التمسك بطريقة للحياة أو للعمل أو التفكير، بحجة أنه “هكذا تم التصرف دوما” يمكننا الكلام على التقليد. وقد نظر فلاسفة الأنوار إلى التقليد بوصفه الطاعة العمياء لمجموعة من الأحكام الغامضة والمتباينة أو المناقضة صراحة الطبيعة، والتي لا تملك شيئا سوى كونها آتية من العصور الغابرة”([17]).
وباختصار يمكن القول بأن التقاليد هي أفكار عصر سابق، هي تعبير عن الأمس” وهي الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى” ([18]).
والتقاليد تتأسس على معطيات الأساطير والقرابة والحكايات والأسرار الخاصة بكل جماعة ثقافية إنسانية. وقد تعمل التقاليد على تحقيق التكامل بين القيم الأسطورية القديمة مع القيم الجديدة. فالتبادل القديم الذي كان يتم بالسلع تخلى عن مكانه لنظام التبادل النقدي. ومع ذلك فإن التبادل القديم السلعي بقي يمارس دوره وبصورة محدودة في كثير من الثقافات المعاصرة. وهذا يعني أن المحافظة على التقاليد القديمة كما هي في وضعيتها التاريخية القديمة ليست فعلا ضروريا للحضارة الإنسانية. وعلى خلاف ذلك فالشعوب البدائية تعطي للتقاليد الدينية دورا كبيرا في حياة الجماعة. ولذا فإن هذه القيم تقاوم إكراهات الوسط الطبيعي وتحافظ على وجودها بدرجة عالية من اليقظة والاهتمام.
فالتقاليد ليست مجرد توسط أو دمج ثقافي فحسب فهي بوظيفتها التحويلية هذه تمكن الجماعة من تجديد ذاتها وتنقلها من حالتها التي كانت عليها إلى الحالة التي تتمثل فيما يجب أن يكون. والتقاليد لا تتحدد بالاتصالات الشفوية فحسب يمكنها أن تقوم على أساس إبداعي يتمثل في قدرة الجماعة على إبداع معاني رمزية أسطورية عبر الممارسات الحياتية اليومية لأفراد الجماعة. وبالتالي فإن هذه لممارسات لا تأخذ طابعا آليا بل تعبر عن حالة توافق بين المنتج والذي يعاد إنتاجه وإبداعه.
3- بين مفهومي التقليد والتخلف:
يجب علينا أن نفصل في التداخل القائم بين مفهومي التقليد والتخلف. فكثير من الباحثين يأخذون مفهوم التقليد بمضامين أيديولوجية قوامها أن صفة التقليد ترمز إلى التخلف بمختلف مضامينه ومعانيه. وعلى خلاف هذه الرؤية يمكن القول بأن التقليد لا يعني تخلفا بالضرورة بل يشير إلى مجموعة من السمات والخصائص السوسيولوجية المحددة. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن هذه الكلمة “التقليد” تنطوي على مضمون نسبي جدا. لقد أصبحت السمات والخصائص التي عرف بها عصر التنوير في أوروبا في حكم التقاليد وهذه التقاليد كانت ترمز وما زالت إلى أهم مرحلة حضارية في تاريخ أوروبا. وهذا هو الحال فيما يتعلق بمرحلة الحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى ولا سيما فيما بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين. وهو عصر ازدهار العقل والفلسفة والمعارف العلمية.
وعلى هذا الأساس فإن مفهوم التخلف يأخذ مساره بعيدا عن مفهوم التقليد. فالتخلف حالة اجتماعية ووضعية تاريخية تأخذ سمات سوسيولوجية محددة قوامها في الأصل الحالة التي لا يستطيع فيها مجتمع أن يواكب روح العصر فيما يتعلق بأنماط الحياة والوجود. وفي هذا يمكن لنا القول بأن حالة المجتمعات العربية المعاصرة متخلفة حتى بالقياس إلى العصر العباسي في القرنين التاسع والعاشر وذلك على الرغم من مظاهر الحضارة السائدة في القرن العشرين.
فالعرب في القرون الأولى للهجرة كانوا يشكلون حالة حضارية بكل المعايير العقلية والإنسانية ولا سيما بالنسبة لعصرهم. أما اليوم فإنهم يمثلون حالة تخلف حضاري وهذا يعني أن الروح الحضارية القديمة تسجل غيابها اليوم بكل المقاييس. ومن هذا المنطلق لا يمكن القول بأن القرون الأولى للهجرة كانت متخلفة بل كانت متقدمة في عهدها بينما نستطيع القول بأن العرب يعيشون حالة تخلف شاملة في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
فالتقاليد لا تتناقض مع العقلانية، والتقليد لا يعني في كل الأحوال حالة تخلف. أما التخلف فهو الحالة التي تشير إلى اتساع المسافة الفاصلة بين العقلانية وأنماط الوجود، أو هي الحالة التي يعتمد فيها المجتمع أنماط إنتاج قديمة مع إمكانية توظيف إمكانيات إنتاج حديثة: مثل استخدام أنظمة إنتاج رعوية وزراعية قديمة مع وجود إمكانيات أفضل. ويتأسس على هذا أن درجة العقلانية هي المؤشر الأساسي لحالة التخلف والتحضر. وهذا يعني أيضا تباينا بين مفهومي التحديث والتخلف. فالتحديث لا يعني بالضرورة حضارة أو تقدما. فالتحديث يدل على مظاهر الحضارة فإذا كنت استخدم تقنيات حديثة اليوم فهذا لا يعني بالضرورة أنني عقلاني وحضاري. فكثير من الخبراء والمتخصصين وأغلب الناس أيضا يستخدمون منجزات الحضارة من هاتف وتلفزيون وكمبيوتر ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم على درجة عالية من العقلنة التي تشير إلى حالة داخلية متنورة في النظر إلى الكون والوجود والحياة. وهذا يعني أن شخصا يعش اليوم في هذا العصر قد لا يكون على درجة من التنوير التي توازي حالة شخص عاش في العهد الإغريقي المتنور وتأثر بالفلسفة والفكر الإغريقي. وهذا يعني أيضا بأن الناس الذين يعيشون في هذا العصر ليسوا أكثر تنويرا وعقلانية من هؤلاء الذين عاصروا المعتزلة والأشاعرة أو إخوان الصفا، هؤلاء الذين كانوا يجادلون ويفهمون طبيعة الخلافات الفلسفية في عصرهم. ومع ذلك نقول ما كان سائدا في عصر الإغريق أو عصر المعتزلة يصبح الآن جزءا من التراث والتقاليد ولكنه ليس جزءا من التخلف الذي نعيشه في هذا العصر.
ويتأسس على ما عرضناه أن التخلف حالة من الوجود التي تتناقض مع درجة العقلانية التي حققها المجتمع الإنساني في مرحلة من مراحل تطوره. وبالضرورة فإن المجتمع العربي المعاصر يعيش حالة تخلف عصري شامل لأنه لم يستطع أن يواكب مستوى تطور العصر الحالي بمستوياته العلمية والمعرفية. فالجهل واللاعقلانية وغياب المعرفة العلمية وهيمنة الخرافة والرواسب الأسطورية واعتماد أساليب إنتاج بائدة وقديمة هي مؤشرات التخلف. أما التقليد فهو التراث الذي ما زال حيا بمعطياته الروحية والإنسانية. وهذا يعني أن التقاليد قد تكون في أصل التخلف إذا كانت تعبر عن حالة تخلف أو متخلفة بجوهرها. وقد تكون في أصل التقدم إذا كانت عقلانية وحضارية في زمنها وعصرها.
وعلى هذا الأساس فإن تقاليدنا العربية تحمل في مضامينها مؤشرات حضارية ومؤشرات التخلف. وكلما كانت هذه التقاليد عقلانية كانت حضارية وهي متخلفة إذا كانت مناهضة للعقل والعقلانية. وعلى هذا الأساس يجب التمييز بين التقليد وبين التخلف، فأحدهما لا يطابق الآخر بالضرورة، فهناك تقليد متخلف وهناك تقليد يومض بالعقلانية: استخدام الرعي في العصور القديمة حالة عقلانية أما استخدامه في العصر الحالي حالة من حالات التخلف.
ومع أهمية هذا التمييز فإن أغلب المفكرين العرب يستخدمون أوصاف التقليد بمعنى التخلف، وهم يصيبون عين الحقيقة، لأن تقاليدنا التي تعود إلى ألف سنة ماضية، هي تقاليد لم تشهد تواصلا في وميض العقل والمعرفة العلمية، منذ اللحظة التي توقف فيها نضح العقل، وعطاء الاختلاف، ووهج المعرفة الفلسفية، أي في حدود القرن الثالث عشر وما يليه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تتسم العقلية العربية بالطابع التقليدي أم أنها تشكل حالة حداثية تواكب مفهوم التخلف والتقليد في الفكر العربي: التخلف يساوي التقليد، والتقليد يساوي التخلف وذلك العصر وما يقتضيه من روح عقلانية؟ وهنا يتوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار توافق في مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية. ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال يمكن لنا أن نستند إلى آراء نخبة من المفكرين العرب الذي شغلوا بدراسة هذه القضية.
3- المجتمعات التقليدية :
غالبا ما ينظر الباحثون إلى “المجتمعات التقليدية” بوصفها مجتمعات شفوية قلما تعتمد التدوين والكتابة بصورة عامة، في حين ينظر إلى المجتمعات الحديثة، بوصفها المجتمعات التي قطعت أشواطا واسعة في ميدان الكتابة والاتصال الجماهيري والمعلوماتية “([19]).
في المجتمعات القديمة التقليدية لا تتشكل الجماعة على أساس الوعي الواضح العقلاني بأهمية التضامن الاجتماعي، بل تتكون هذه الجماعات بصورة عفوية على أساس علاقات روحية أسطورية رمزية تؤدي إلى تماسك الجماعة وتفاعلها في دائرتي الزمان والمكان على أساس علاقات قدسية. فالاختلاف الممكن بين الجماعات التقليدية والجماعات الحديثة ليس في اختلاف الفاعلين أو الناس بل يقوم هذا التباين على أساس التباين في الطقوس والعادات والتقاليد التي تحدد لكل فرد دوره ومكانه في إطار الحياة الاجتماعية. ففي الجماعات التقليدية نجد روحا واحدة تأخذ مكانها في داخل كل فرد وتنظم له العلاقة بينه وبين الطبيعة والآلهة والمجتمع.
يميز فريدمان Gerorges friedmann بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة وفقا لدالة العلاقة مع الطبيعة. فالإنسان الريفي يعيش في أحضان الطبيعة وفي علاقة مباشرة مع مكوناتها. وهو في إطار علاقته هذه يتشبع بآليات فعلها ومنهج حركتها وإيقاعات وجودها، ولذلك فهو يتكيف مع متطلبات ومقتضيات وتحديات الطبيعة الفيزيائية.
وعلى خلاف ذلك فإن الإنسان في المدينة التي تغمرها الحداثة ينفصل عن الطبيعة بشبكة معقدة من الآلات والأنظمة التقنية المعقدة والمعارف المتطورة. والإنسان هنا في هذه الحالة لا يخضع لضرورات الطبيعة وهو في هذه الوضعية يحاول أن يتكيف وفقا لمقتضى حاجاته ورغباته وطموحاته. وهو من هذا الموقع يسيطر على الطبيعة ويوظفها لخدمة غاباته وأغراضه. ويطلق فريدمان على هذا الوسط التقني بالوسط الجديد، وذلك لأن ظهور هذا النمط ما يزال حديثا جدا في تاريخ الإنسانية وهو ناجم عن الثورة الصناعية عبر التحولات التي اتجهت من العمل اليدوي إلى العمل الآلي واكتشاف المواد الأولية الجديدة فالمجتمع التقني يختلف عن التقليدي بأنه سبب ونتيجة في آن واحد.
يشار إلى المجتمعات التقليدية على أنها” تلك المجموعات البشرية التي تحكمها أنساق متماثلة من القيم الثابتة والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة، وهي المجتمعات التي تتحكم بها روابط عشائرية أو مذهبية والتي تفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسره تمسكا بالأصالة. وهي المجتمعات الأبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي في الأسرة (…) مجتمعات تخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية وتعتبره تهديدا لقيمها الخاصة، فالحذر قائم تجاه كل تحديث”([20]).
” إنها مجتمعات تأثيميّة تؤثّم أفرادها عندما يقدمون أفكارا جديدة ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم، وهي المجتمعات المعتصمة بهوية ثقافية ثابتة تناهض التغيير والتحول، وأخيرا هي المجتمعات التي لاذت بتفسير ضيق ومغلق للنصوص الدينية وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية الدينية الأصيلة وبالإجمال، هي المجتمعات التي لم تتمكن بعد من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفسيرات والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة ثانية، فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه فصارت تفكر وتتصرف في ضوئها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان”([21]).
تحليل هذا النص يبين لنا خصائص المجتمعات التقليدية وهي:
1- المجتمعات التقليدية هي تلك المجموعات البشرية التي تحكمها أنساق متجانسة من القيم الثابتة.
2- تستند هذه المجتمعات في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو طائفية أو عرقية ضيقة.
3- تتحكم فيها روابط عشائرية أو مذهبية قبلية ضيقة.
4-لم تفلح هذه المجتمعات في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسره تمسكا بالأصالة.
5- مجتمعات الأبوية يتصاعد فيها دور الأب الرمزي في الأسرة.
6- مجتمعات تخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية وتعتبره تهديدا لقيمها الخاصة، فالحذر قائم تجاه كل تحديث. فكل تجديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
7- مجتمعات تأثيميّة تؤثّم أفرادها عندما يقدمون أفكارا جديدة ويتطلعون إلى تصورات مغايرة، ويسعون إلى حقوق كاملة، فكل جديد هو نوع من الإثم.
8- مجتمعات معتصمة بهوية ثقافية ثابتة تناهض التغيير والتحول. إنها هذه المجتمعات التي تعيش في أنفاق معتمة يكون فيها شعاع الشمس مؤلما والرياح النقية مصدر إزعاج والخروج إلى العالم مغامرة غير مأمونة العواقب.
9- مجتمعات تعتمد تفسيرا ضيقا ومغلقا للنصوص الدينية وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية الدينية الأصيلة وبالإجمال.
10 – هي المجتمعات التي لم تتمكن بعد من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة، والشروح والتفسيرات والتأويلات الأرضية التي دارت حولها، من جهة ثانية، فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه فصارت تفكر وتتصرف في ضوئها، وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان”([22])
” أما المجتمعات الحديثة فهي تلك المجتمعات التي تتميز بحركة متواترة من النشاط العقلي والعلمي حيث تمكنت هذه المجتمعات من تحديث تكويناتها الاجتماعية والثقافية تأسيسا على تصورات متجددة فتحررت من عبء الماضي وتمثلت روحه ولكنها لم تقع في أسره وإنما أدرجته في تفاصيل حياتها، وانفتحت على المستقبل في حركة ناشطة وتعاقدت على صور واضحة حول مفاهيم الحقوق والواجبات والحريات والمشاركة الجماعية في كل شيء”([23]).
وتحيا المجتمعات التقليدية المعاصرة ازدواجية ثقافية وعقلية ذات طابع مركزي. وتتوزع هذه الازدواجية في شطرين مركزين للحياة الاجتماعية، حيث تعيش هذه المجتمعات على إيقاعات الحداثة الغربية ولا سيما فيما يتعلق بأنماط الحياة الاستهلاكية والوظيفية، وهي في الوقت نفسه تعيش في أنفاق مظلمة من الماضي البعيد الذي يتنافر على نحو شمولي مع معطيات الحداثة والحاضر. إنها مجتمعات تعيش زمنين مفارقين في آن واحد: زمن الحداثة وزمن القدامة. وبعبارة أخرى تعيش الحاضر استهلاكيا، وتعيش الماضي بأنماطه القيمية، إنها تعيش في العصر الوسيط وفي العصر الحديث في آن واحد. هذه الازدواجية الكبرى تضع هذه المجتمعات في مواجهة إشكالية تاريخية موجعة تفرض نفسها في مختلف تجليات الوجود الاجتماعي والثقافي.
وباختصار يمكن القول أن نقطة الفصل بين مجتمعين أحدهما تقليدي والآخر حديث أو حداثي إذا جاز التعبير هو الموقف من الزمن. فالمجتمعات الحديثة تعيش هاجس المستقبل بالدرجة الأولى فهي تنظر إلى المستقبل وتنظم أسباب وجودها للزمن القادم. أما المجتمعات التقليدية فهي هذه التي تعيش هاجس الماضي ماضي الآباء والأجداد وتراث الأجيال السابقة، وتحاول أن تحافظ على أنماط الحياة التي درج عليها الناس جيلا بعد جيل. وعلى أساس هذا الموقف من الزمن يمكن تصنيف الناس والمجتمعات الإنسانية على أساس تقليدي أو حداثي.
وهناك معايير أخرى للتصنيف تعتمد على طبيعة البنى الفكرية والذهنية. ومن أجل التمييز بين المجتمعات التقليدية وبين هذه التي تأخذ طابعا حداثيا يمكن لنا أن ندرس الخصائص الذهنية المجتمعات التقليدية والحداثية. وباختصار يعرف المجتمع التقليدي بمجموعة من الخصائص التي ينفرد به عن المجتمع التكنولوجي الحديث، فالمجتمع التقليدي يعرف باقتصاده البسيط عادة مثل الرعي والزراعة، ويكون هذا الاقتصاد قائما على مبدأ الكفاية، وتسوده في الغالب علاقات تقليدية تحكمها علاقات قبلية دموية إلى حد كبير، كما هو الحال في أغلب المجتمعات الزراعية في الوطن العربي على سبيل المثال.
وباختصار يمكن القول بأن” التقليد هو الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى” ([24]).
ويمكن لنا في هذا الخصوص استعراض الجدولين التاليين للمقارنة بين مظاهر المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث.
ويميز هشام شرابي بين المجتمع التقليدي البطريركي والمجتمع الحداثي وفقا لتباين الوضعية الخاصة بعدد من المقولات وذلك على النحو التالي:
4 – معايير العقلية التقليدية :
تتسم العقلية التقليدية بالنظرة الأحادية الجامدة إلى الوجود فالحقيقة خيار بين خيارين: حق وباطل، خير وشر، عدل وظلم وهي لا تقبل فكرة التعدد والتنوع والتناقض في بنية الكون فالوجود يرتدي لونا واحدا وحقيقة لا تقبل الانقسام والتجزئة([25]).
فالسمات التقليدية للثقافة العربية تتمثل في كينونة مجتمع إيماني إخواني (…) يتحدد برابطة النسب والعصبة ومن ثم فإنه لمن المستحيل عمليا أن نعترف بالإنسان الحر المتخلص من حتميات النسب والانتماء العصبوي. فالإنسان الفرد الحر في مجتمعنا مثار للريبة، وإن أفرط في استقلاله أو أبدي شكا أو خروجا فإن إخوانه ينبذونه، فيصبح شاذا أو خائنا، مرتدا أو كافرا، ملحدا أو زنديقا، رجعيا أو عميلا، محكوما عليه بالجحيم الأبدي، ومن واجب السلطة المقدس أن تقضي عليه لأنه خرق المحتوم والمكتوب”([26]).
فالثقافة التقليدية تغرس في وعي أفرادها قيم الخضوع للأمر الواقع، وتعزز لديهم الروح التقليدية القدرية التي تتمثل في القبول بما هو قائم، وعي بالتالي تجريد الفرد من روح المبادرة، وتقتل لديه الإحساس بالمسؤولية، وبالتالي فإنها تضفي الطابع القدسي على أغلب جوانب الحياة والتفكير، وتؤكد على الاتجاهات الماضوية بأخطر مضامينها، كما تسعى إلى تعزيز الأبوية وتغييب الروح النقدية.
تقوم العقلية التقليدية على الإيمان بوجود إرادة كلية صادرة عن قوى كونية خارقة وأن هذه الإرادة تحكم إرادتنا بصورة كلية أو جزئية. ويترتب على هذه الفكرة غياب الإرادة الإنسانية وتدني مستوى حضورها بصورة جزئية أو كلية. فالإرادة الإنسانية وفقا لهذا التصور ليس إرادة مبدعة أو حرة إنها حبيسة إرادات عليا ورهينة قوى كونية طبيعية متعالية تحدد لها مسارها واتجاهاتها ([27]).
ومن هنا يمكن القول أن الحياة التقليدية هي فعالية إنسانية قوامها إنتاج وإعادة إنتاج مظاهر الحياة التي دشنتها الأجيال السابقة والمحافظة على هذه المظاهر بما تنطوي عليه من قيم أعراف وتقاليد وعادات سلوكية. ولذلك فإن عنصر التجديد يسجل غيابه إلى حد كبير في نمط الحياة التقليدية، والتغير يكون عدميا إلى حدّ كبير. وهذا يعني أن الحياة التقليدية تتجسد في مظاهر وجود ستاتيكية ساكنة تناهض محاولات الإبداع والتغيير على مبدأ كل تجديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وهذه المجتمعات التقليدية غالبا ما تتجسد في مجتمعات القبيلة والريف والبادية والأحياء الشعبية القديمة في المدن.
أما الحياة الحديثة فهي هذه التي تعتمد مبدأ التجديد الدائم وروح والإبداع المستمر نحو كيان وجودي حضاري دائم النمو والاستمرار. ومثالها مجتمع المدينة الذي يعتمد في حركته على التجارة والصناعة والإبداع الفكري والإنساني بمختلف اتجاهاته وتياراته.
وبالطبع فإن مفهوم الحداثة والتقليد مفهومان نسبيان وهذا يعني قد يوصف مجتمع بكامله على أنه تقليدي كما توصف المجتمعات العربية الإسلامية على سبيل المثال، وهذا لا يعني غياب أنماط الحياة الحديثة بالمطلق. وكذلك غالبا ما نجد أنماط حياة تقليدية في مجتمعات حديثة جدا بالمعايير الحضارية مثل باريس ونيويورك ولندن وغيرها من المدن حيث تتواجد أنماط حياة تقليدية محافظة تقاوم التغيير وحركة التجديد المستمرة.
فالتقاليد، بصورتها العامة الإيجابية، خيوط الأزمنة القديمة التي ما زالت قائمة وحاضرة في الوعي. وهي في صورتها السلبية منظومة من الخرافات والعواطف والحكايات والأوهام التي تسيطر على مشاعر أناس حرموا من ضياء العقل وأنواره. والتقليد هو الأفكار والقيم والمعايير والمؤسسات ونماذج السلوك القديمة المرتبطة بالماضي، (…) التي تتميز بقدر من الثبات النسبي من جهة، كما يفترض أنه تم نقلها من جيل إلى جيل مما يعكس تقديرا واحتراما لها قد يصل إلى حد التقديس من جهة أخرى” ([28]). ومن أجل تحديد خصائص العقلية التقليدية والعقلية الحديثة يمكن أن نعتمد منظومة من المعايير والإشكاليات وأهمها:
4-1- معيار المحافظة والتجديد:
في المجتمعات التقليدية يتجلى دائما الموقف المجانف للتغيير والابتكار، حيث ينظر إلى كل محاولة للتغيير على أنها تهديد اجتماعي، وهنا يمكن لنا أن نلامس الروح التقليدية للعلاقة الذهنية مع الأشياء. وهذا يعني أن المحافظة Conservatisme هي سمة أصيلة في البنية العقلية المحافظة. والمحافظة هنا تضمن لهذه المجتمعات حماية ذاتية ضد كل ما يهدد الطابع التقليدي لوجودها كما أن هذه المحافظة تعد أساسا ذهنيا في عملية تكيف هذه المجتمعات.
فالتغير والتجديد Renouvellement حقيقة تتأصل في عمق العقلية الحديثة أما الثبات فهو قانون جوهري في السجل الداخلي للعقلية التقليدية. وهذا يعني أنه إذا كان التغيير من طبيعة الأشياء في جوهر العقل الحديث فإن الثبات في اصل الوجود يتبدى حقيقة لا تقبل الجدل في العقل التقليدي.
ومن هذا المنطلق يمكن التمييز ببين الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة وفقا لمبدأ المرونة والتصلب فهناك:
1- ثقافات دينامية حديثة تتميز بقدرة عناصرها على الحركة والتوالد والانتشار خارج إطارها الجغرافي، وقدرتها على الإقناع والتحدي وتلبية حاجات الأفراد.
2- ثقافات تقليدية: وهي ثقافات جامدة وذلك لانعدام الراوبط الوظيفية بين وحداتها وعناصرها، فإلى جانب حرية المرأة توجد عناصر عبوديتها والى جانب القانون يوجد الثأر. والثقافة التقليدية تمجد الماضي وتحتقر الحاضر وتتخوف من المستقبل ([29]).
4-2- معيار التفكير السحري:
يبين التحليل البنيوي للأساطير والذي أجراه ديميزيل (G.Dumezil) وليفي ستروس (C.Levi.Strauss) أن الأساطير نتاج منظم لخيال جمعي وهي تعبير عن لاشعور جمعي يقدم دلالة ومعنى لعناصر الحياة المادية والنفسية الخاصة بجماعة ما. فالبنى المشتركة التي توجد تحت غطاء الأساطير الخاصة بمجتمع ما تتوافق مع النسيج الداخلي للذهنية الجمعية الخاصة بالجماعة.
هذا وتؤدي الأسطورة وظيفة اجتماعية في مختلف المجتمعات الإنسانية (مالينوفسكي ( Malinowski فهي تعبر عن العقائد وترفع من شأنها وتحافظ على المبادئ الأخلاقية ثم تعززها. وهي تضمن فعالية المراسم الطقوسية وتزود الناس بالمبادئ العملية في مجرى حياتهم. باختصار تعمل الأسطورة على تعزيز التلاحم في إطار جماعة ما وذلك من خلال التأكيد على العناصر الثقافية الأساسية للهوية. ومن ثم فإن الدعم الذي تقدمه هذه الأساطير يتيح للجماعة أن تؤكد تماسك هويتها وأن تدفع أعضاءها للمساهمة في المشاركة في بناء الذهنية اللاشعورية.
يضج العقل البدائي والتقليدي أيضا بمظاهر التفكير الأسطوري La pensée Mythique. فالثقافة التقليدية متشبعة بمضامين الأساطير القديمة وهي بالتالي تأخذ طابعا أسطوريا في حركتها وهيئتها. وما نعنيه بالأسطوري هنا هو منظومة المفاهيم والتصورات التي تؤسس على أصول غير منطقية. ومن هذا المنطلق نجد أن أغلب المجتمعات، التي يقال عنها مجتمعات تقليدية أو أحيانا بدائية أو قديمة، تمتلك أسطورة الأصل التي تؤسس للتنظيم الاجتماعي القائم وتضفي الشرعية على المؤسسات السياسية السائدة.
ومع أهمية التقارب بين التفكير الأسطوري والتفكير الخرافي إلا أنه يجب التمييز بينهما وهذا التمييز نجده جليا عند فؤاد زكريا فالتفكير الأسطوري كما يقول “يعبر عن منهجية الشعوب البدائية في التفكير وفي تفسير الكون بمعنى أن الأسطورة كانت تلعب دور المعرفة العلمية في هذه المجتمعات التي لم تشهد ولادة العلم. أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، والأسطورة غالبا ما تكون تفسيرا متكاملا للوجود على حين أن الخرافة تتعلق بجزئية تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة”([30]).
وفي هذا الصدد يرى ليفي ستروس أن الأساطير Mythes تأخذ مكان العلوم في المجتمعات البدائية والتقليدية إلى حد ما([31]). وعلى خلاف ذلك فإنه يغلب على المجتمعات الحديثة في حياتها وفي منظوماتها الفكرية أنها تعتمد معطيات العلم والحقائق العلمية بدرجة واسعة جدا. فالحقيقة هي هذه التي تقوم على أسس عقلية وعلمية وبالدرجة الأولى وقلما توجد أفكار ذات طابع سحري أو أسطوري في هذه المجتمعات.
وفي هذا السياق يعرف إبراهيم بدران الخرافة بوصفها” علم لما قبل تاريخ العلم فهي الإرهاصات الأولى لتفسير الوجود و تفسير أحداثه([32]). ويرى أن العلاقة بين الخرافة و الحضارة علاقة عكسية وهي أكثر انتشارا في المجتمعات المتخلفة -ومنها المجتمع العربي- أو أكثر انتشارا في الطبقات الصغيرة و الأقل ثقافة. وفي معرض التميز بين الخرافة والعلم يعرف العلم بوصفه” ظاهرة إنسانية وهو موضوع و حصيلة الذهن البشري لتفسير الوجود و رصد حقائقه و هو نشاط ذهني مدعوم بالخبرة و التجربة و الممارسة ومستند إلى حقائق طبيعية قائمة فعلا “([33]). فالعلم جدلية متنامية بين الحقيقة كما هي كائنة في الوجود، وبين إدراك الإنسان لهذه الحقيقة و إحاطته بها وقدرته للتعبير عنها”([34]).
يقال عادة أن العلم يحرر العالم من أوهامه وهذا يعني أنه يستبدل بالتفسيرات العلمية التفسيرات الخرافية والأسطورية. وهو ينتقل بهذه المعارف من صورتها الذاتية إلى صورتها الموضعية اعتمادا على التجربة والمعرفة العملية. وهذا ما يطلق عليه ماكس ويبر Max Weaber العقلانية Rationality. والعقلانية تقوم على مبدأ أن الأشياء تجد تفسيرها في ذاتها وليس في قوى خارجة عنها مهما يكن أمر هذه القوى، سواء أكانت أساطيرا أو سحرا أو أرواحا أو آلهة. والحقيقة هي حقيقة ليس لأنها اكتشفت بل لأنها قابلة للتفسير منطقيا وتجريبيا. وفي المستوى العملي فإن العقلانية تدفع بإمكانية البحث إلى الأمام وبصورة مستمرة عن أدوات جديدة أكثر موضوعية وفاعلية لتحقيق أهداف محددة وقابلة للتحقق. هذا الوضوح في الاتجاه العقلي والتطبيقي للعقلانية كان في أصل الثورة الصناعية والتقدم الحضاري الشامل.
وفي سياق هذه التصورات يسجل السحر حضوره المستمر وهو يمثل قدرة بعض الأفراد على توظيف قوى وطاقات غير مرئية توجد في أصل الأشياء. والسحر له هدف عملي يسعى إليه ويحققه وفي هذا العدد يبين مالينوفسكي Malinowski حال أفراد التروبريانديس Trobriandais ولا سيما استخدامهم للسحر حيث يلاحظ أن التروبويانديس لا يوظفون السحر عندما يصطادون في البحيرات التي تفيض بالصيد بل يستخدمونه أثناء صيدهم في أعالي البحار حيث الخطر. فالخطر هنا يمارس الفعل الذي تقوم به الأسطورة في التفكير. وكلاهما السحر والأسطورة يؤكدان حضور المقدس. حضور المقدس والدنيوي في آن واحد وتكامل العلاقة الجوهرية بين الوجود الخفي والوجود المعلن لكينونة الأشياء ([35]). فالناس في المجتمعات البدائية وفق مثيرات ودوافع فوق طبيعية: الله الملائكة الأساطير القوى الخفية. أما المحرضات والدوافع في المجتمعات الحديثة فتأخذ طابعا اجتماعيا.
ومن هذا المنطلق يؤكد مالينوفكسي الوظيفة الحيوية للسحر في المجتمعات البدائية. فالسحر هو استجابة الإنسان الذي يشعر بالقصور والضعف وقلة الحيلة في عالم لا يستطيع التحكم بظواهره أو السيطرة عليه. فالسحر يسجل حضوره الكلي عندما تضعف مقدرة الإنسان العقلية على إدراك أسباب الظواهر ونتائجها في الآن الواحد ([36]). وفي المجتمعات البدائية والتقليدية غالبا يسجل الوعي العلمي غيابا كبيرا فيترك مكانه لعقلية سحرية تميل إلى امتلاك الواقع على نحو سحري كاستجلاب الحظ والنجاح، أو إبعاد الخطر والشر. وهذا يعني أن التفكير السحري يمتلك وظيفة معرفية تعمل على سد الثغرات في المعرفة السببية لظواهر الطبيعة ولا سيما ما غمض عنها، ومن ثم تشكل هذه العقلية السحرية منطلقا لتفسير العلاقات القائمة بين الناس وتحديد منطق الظواهر الاجتماعية وسببيتها. فالسحر في المجتمعات التقليدية هو ممارسة اجتماعية تهدف إلى تحقيق للرغبات ودرء المخاوف مصدر التهديد لأمن الإنسان في هذه المجتمعات إنها حيلة الإنسان العاجز في مواجهة التحديات الغادرة كما يرى مصطفى حجازي([37]).
4-3- معيار المقدس والدنيوي :
يشرح دوركهايم في كتابه الأشكال الأولى للحياة الدينية ([38]) كيف يمارس أعضاء المجتمع سيطرتهم على بعضهم بعضا عن طريق المعتقدات والطقوس الدينية، ويرى بأن السمة المميزة للدين هي تقسيم العالم إلى مملكتين متعارضتين جوهريا: تحتوي الأولى على كل ما هو مقدس والأخرى على كل ما هو مدنس ([39]). ويبين دوركهايم في هذا السياق أن الأشياء المقدسة هي هذه التي تصان بالمحرمات. ولا ينحصر المقدس في الآلهة والأرواح ولكنه يمتد ليشمل كائنات جامدة: صخرة، نبع، حصاة، قطعة خشبية وباختصار يمكن لأي شيء أن يكون مقدسا. ويرى دوركهايم أيضا أن الإله هو تعبير رمزي عن المجتمع. وبفضل الفصل بين المقدس والمدنس يمكن للإنسان أن يضع الأشياء في دائرتين: تشمل الدائرة الأولى (المدنس) كل ما يمكن أن يخضع للتساؤل والمعالجة والتجربة، أما الدائرة الثانية ( المقدس) فهي هذه التي تضم كل ما من شأنه أن يتعالى على التخمين والظنون والمعالجة. وبعبارة أخرى: المقدس هنا يأخذ هذا القطاع الذي لا يمكن للإنسان أن يبحثه أو يعالجه أو يلامسه هو المجال الذي يعلو على الشك وأو أوووأااااااااا
وعلى الطعن والنقد والتجريب، وهو المطلق القدسي الذي يعلو فوق التصورات والأوهام.
ومن الخصائص التي تعرف بها المجتمعات التقليدية هي حالة التواصل والتداخل بين الدنيوي profane والمقدس sacré. وفي هذا المجال يبيّن ميرسو إليادEliade Mircea أن البدائيين غالبا ما يعتمدون منهجا في تفسير الظاهر يقوم على تفسير الأشياء الظاهرة بأشياء أخرى خفية، وذلك انطلاقا بأن ما يرى ويشاهد ليس إلا جزءا من العالم الكلي. وهذا النسق الخفي من الأشياء والأفعال هو المقدس الذي يضفي صورة الكمال على الأشياء المادية ويعطيه دلالته الحقيقية: إذ أنه لا يمكن للأشياء أن تفسر نفسها بنفسها بل إن الحقيقة هذه الأشياء تكمن في الأنساق المقدسة لوجودها. والأنساق المقدسة هنا هي مصدر هذه الأشياء وحقيقتها ومن هنا يفيض المجتمع التقليدي بطابعه الرمزي ويمور بمعناه الأسطوري. وهذا النسق القائم بين المقدس والدنيوي ينسحب على الحياة الجمعية. فالحياة الاجتماعية تتكيف أيضا مع أنساق قدسية غير منظورة وتفسر بها([40]).
ومن هذا المنطلق فإن توزع المجتمع إلى طبقات متباينة، وتوزيع المنازل، ودورة السنة، أو الحياة الإنسانية هي مظاهر تفسر عبر القوى المقدسة. فعلى سبيل المثال: تكثر الاحتفالات في المجتمع التقليدي وهذه الاحتفالات تشكل مراحل في الدورة الزمنية للسنة وهذا يعني أن هذه الاحتفالات هي نوع من المشاركة بالأحداث غير المنظورة التي تتكرر في كل عام. وعلى هذا الأساس فإن إدراك الأفراد في المجتمع التقليدي لمجتمعهم والتفسيرات التي يقدمونها لأحداثه. تتكامل بالضرورة مع رؤية كونية تفسر الوجود الطبيعي والوجود الاجتماعي وتعيدهما إلى أصول قدسية عليا. وهنا يمكن لنا أن نفهم معنى الكونية Globalisme الشمولية التي تتسم بها العقلية التقليدية. ومع ضيق المجال الجغرافي لهذه المجتمعات فإنها وعبر رؤاها الأسطورية تجعل من نفسها مركز الكون والوجود.
لا يعني هذا أن المقدس يختفي من المجتمعات التكنولوجية. فالدين والمقدس يستمران في الوجود، وأحيانا يلاحظ نهوضا للحياة والنشاطات الدينية والقدسية. ومع ذلك فإن العلاقة بين المقدس والدنيوي تأخذ اتجاهين متكاملين في المجتمعات الحديثة: تمييز واضح ومتطور بين الدنيوي والمقدس وذلك في مستوى الوعي كما في مستوى المؤسسات هذا من جهة. وفي مستوى العمل السياسي العقلي يأخذ هذا التمييز اتجاهه في صورة الفصل بين السلطات الدينية والسلطات الدنيوية من جهة أخرى.
5- عقلية القطيع وإشكالية الفردية:
يعد مفهوم الفردية من أكثر المفاهيم إشكالا إذ يتضمن على نقائض بلا حدود ويأخذ طابعا أيديولوجيا([41]). وهذا يعني أنه يجب الاحتراز فيما يتعلق بمفهوم الفردية عندما يؤخذ على عواهنه، حيث يوظف هذا المفهوم في أغلب الأحيان توظيفا أخلاقيا سلبيا فيه تلميحات تبخيسية تحط من شأن الآخر الذي يوصف بالفردية ولا سيما في الثقافة العربية. وفي هذه الصورة السلبية للمفهوم يشار إلى صفة التسلط أو العزلة الاجتماعية وقد يشير إلى نزعة مضادة للجماعة معادية للتعاون مع الآخرين أو إلى الأثرة والأنانية أو التسلط وإلى عدد آخر من الصفات السلبية التي تحيط باستخدامات هذا المفهوم.
تعني الفردية واقعا اجتماعيا وثقافيا يستطيع فيه الناس، بوصفهم أفرادا، اختيار طريقة حياتهم وسلوكهم وممارسة عقائدهم،، مجتمع يضمن فيه النظام الاجتماعي والقضائي حماية حقوق الناس بوصفهم أفرادا غير مكرهين على التضحية أو التنازل عن شيء يعتقدون به ([42]).
وهنا يترتب علينا أن نميز بين الفردية والذاتية. فالفردية تعني أن يأخذ الإنسان موقفا معينا من قضية ما أو مجموعة قضايا وأن يكون الفرد بالضرورة واعيا بأبعاد موقفه. أما الذاتية فهي اللحظة التي يرى فيها الفرد أنه محور الوجود أو مركز الكون في مسار حياته الاجتماعية وأن يفهم الأشياء من خلال مصلحته الذاتية ([43]). وهذا يعني بالضرورة صورة من صور الأنانية. فالفردية هي شيء غير النزعة الذاتية أو الفردية التي تنضح بالأنانية والاستغراق في نرجسية لا حدود لها.
وفي هذا الصدد يجب التأكيد على أن مفهوم الفردية Individuality في صورته العلمية براء من كل هذه التوصيفات السلبية التي تعني الأنانية والذاتية والنرجسية. فالفردية مصطلح علمي يتضمن عناصر إيجابية مختلقة تماما عما ينسب إليه في الاستخدامات الجارية. فالفردية هي صورة الإنسان الذي يتمايز عن الجماعة أو الآخرين بطرقة تفكيره وعمله ونظرته للوجود. وهي حالة من حالات شخصنة الفرد أي إعطاء الفرد سمات وخصائص شخصية يتفرد بها ويكتسب عبرها هويته المميزة. في المجتمعات القديمة لا توجد هناك شخصية للفرد وخصائص يتميز بها عن الآخرين، ومع سياق التطور الاجتماعي يكتسب الفرد وبحكم الضرورة التاريخية وتقسيم العمل شخصية يتمايز فيها عن الآخرين. وهذا لا يعني أبدا التفرد والانفراد والعزلة والتضاد مع ما هو اجتماعي بل يعني أن الفرد يكتسب خصائص يتمايز فيها عن الآخرين في سياق التعاون والتكامل الاجتماعي. وتاريخيا غالبا ما ينظر إلى الفردية كمؤشر للتطور الاجتماعي والثقافي. وهذا يعني أن الفردية مؤشر حضاري يجسد حالة التطور التي استطاع المجتمع أن يحققها ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. فالطبيب والمهندس والعالم والمفكر وأغلب المتخصصين والمثقفين في المجتمع يعيشون حالة فردية فردانية بمعنى أنهم يمتلكون خصوصية فكرية واجتماعية ومهنية يعرفون بها ويتمايزون من خلالها ويكتسبون بها هوية خاصة تميزهم عن سائر الأفراد الآخرين في المجتمع.
في المجتمعات الحرة التي يأخذ فيها مفهوم الفردية حضوره إذ يعيش الناس في عالم يستطيعون فيه اختيار طريقة حياتهم، وفق عقائدهم الخاصة، ويسيطرون على معالم وجودهم بطرق مختلفة، وهم يمتلكون منظومة من الحقوق الفردية، والقانون يعمل على حماية هذه الحقوق الفردية، وعلى هذا الأساس فإن الناس ليسوا مجبرين على التضحية بشيء على أساس القيم الجمعية التي ينظر الناس على أنها مقدسة وأنها تتجاوزهم ([44]).
وهذا يعني في النهاية أن مفهوم الفردية يقابل مفهوم الجمعية، وبالضرورة فإن الفردية تعني الشخصية المتمايزة التي ترتكز إلى مبادئ الحرية والاستقلال الذي يحظى به الفرد في مسار نمائه الاجتماعي وتطوره الإنساني. ولا بد من الإشارة في هذا الخصوص أن مفهوم الفردية بما ينطوي عليه من مضامين عقلية وسياسية واجتماعية يعد من المفاهيم المؤسسة للنهضة الغربية في القرن الثامن عشر وما يليه من مراحل تاريخية.
في المجتمعات التقليدية، ولا سيما البدائية، تأخذ العقلية صورة العقلية الجمعية والقطيعية Mentalité de troupeau. فالفرد لا يستطيع أن يتصور وجوده على أساس مستقل لأنه يشعر بأنه جزء عضوي في الجماعة التي ينتمي إليها. فهو فرد في قطيع تحكمه معايير وقيم واحدة وهو بالتالي نسخة متكررة عن شخصيات القبيلة التي لا تغاير فيها. وهذا يعني أن وجود الفرد بوصفه كيانا مستقلا متميزا لا وجود له في هذه المجتمعات. ويعد دوركهايم من ألمع المفكرين الذين أشاروا إلى هذه القضية في مختلف أعماله ولاسيما في كتابيه تقسيم العمل De la division du travail social ([45])، والأشكال الأولى للحياة الدينية Les formes élémentaires de la vie religieuse ([46])،حيث يبين أنتطور المجتمعات يأخذ طابع الانتقال من التكامل الاجتماعي الآلي إلى التكامل العضوي، وذلك عبر عملية تقسيم العمل المستمرة. وفي هذا السياق يوضح أن التكامل في المجتمعات الأولية أو البدائية يأخذ طابع التكامل الآلي فالفرد صورة طبق الأصل ونسخة مكررة عن شخصية القبيلة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، وذلك بأفكاره وأسلوب تصوره للحياة ونمط حياته، وهذا بالطبع يعود إلى أنماط الحياة الاقتصادية البسيطة جدا التي تعتمد على الصيد أو الرعي أو الزراعة البسيطة، وجميع أفراد القبيلة يمارسون العمل نفسه وأنماط الإنتاج والسلوك عينها وهذا يعني وجود نوع من التكامل الآلي في داخل هذه المجتمعات. ومع تطور أساليب الإنتاج والعمل وظهور التخصصات يتفرد كل شخص في القبيلة باختصاصات معينة مثل التجارة والصناعة وتربية الحيوان والعمل الثقافي والمهني ويبدأ معها أفراد المجتمع بالتمايز ثقافيا وفكريا وسيكولوجيا ويبدأ المجتمع مرحلة جديدة يعتمد فيها على التكامل العضوي بين مختلف الوظائف الجديدة أو مع تقسيمات العمل وهذه هي سمة المجتمعات العصرية أو الحديثة. والفرد في هذه المجتمعات يمتلك خصوصيته واتجاهاته وفرديته على خلاف المجتمعات التقليدية التي تتطابق فيها شخصية الجماعة مع شخصية أفرادها حيث تغيب الفردية والخصوصية. وهذا يعني أن الروابط في المجتمعات البدائية تأخذ صورة روابط دموية قرابية جمعية بينما تأخذ طابعا ثقافيا فرديا في المجتمعات الحديثة أو المعاصرة. وفي المستوى الذهني يمكن القول بأن العقلية التي تسود في الجماعات الأولية أو القديمة هي عقلية القطيع وعلى خلاف ذلك تسود العقلية الفردية في المجتمعات التي حققت تقدمها الاجتماعي.
وتتضح فكرة دوركهايم في الصورة التي يقدمها أفلاطون في أسطورة الكهف حيث يبين كم هو صعب بالنسبة للفرد أن يتحرر من المألوف والمتعارف عليه. وهذا يعني أنه من الصعب جدا على الفرد أن يتمسك بمبادئ وقيم تتناقض مع عقائد الجماعة وقيمها لأن ذلك سيؤدي به إلى العزلة الاجتماعية بعيدا عن أقرانه ولداته.
ومع ذلك يمكن القول بأن الفرد لا يستطيع دائما أن يختبئ وراء حجاب العقائد والأيديولوجيات القائمة بل يجب عليه أن يتخذ موقفا يتكامل مع غاياته ومقاصده الفردية وهنا يمكن القول بأن عقلية القطيع تصب اللعنة على الوعي الفردي. وترى بأن الحماية الأساسية للفرد تكمن في عزوفه عن الاعتقاد بأي شيء آخر غير عقائد الجماعة أو الخضوع لأية سلطة أخرى غير سلطة المجموع. فالعرق والعائلة والدين تعمل على تشكيل الفرد ومنعه من أن يكون لذاته وأن ينصرف لمقاصده الفردية ومن أن يكوّن هوية فردية خاصة ([47]).
فالإنسان المختلف يشكل مصدر إزعاج وهو لا يشكل مصدر إزعاج لأنه مختلف بل لأنه يتصرف وفقا لإرادته الخاصة. وبالتالي فإن التصرف وفقا للإرادة الفردية يعني أن الفرد يحتكم إلى بصيرته وهذا بدوره يؤكد انفصاله عن الذكاء الجمعي وهذا يعني أنه ليس لأي فرد الحق في أن يعلن عن حق خاص به مهما يكن في المجتمعات القديمة ([48]).
وباختصار يمكن القول أن الفردية خاصة من خصائص التطور الاجتماعي وهي خاصة تتجسد في قلب الحياة الاجتماعية للمجتمعات الحديثة والمعاصرة. وعلى خلاف ذلك فإن الجمعية Collectivity تعد خاصة أساسية من خصائص المجتمع البدائي حيث يكون الفرد مجرد صورة عن الجماعة التي ينتمي إليها.
6- خاتمة:
يتضح فيما أسلفناه وسلطنا الضوء عليه أن فالعقلية هي الطريقة المألوفة التي يعتمدها الفرد أو المجتمع ككل في التفكير حتى في أكثر وضعيات الانفعال والإثارة. والعقلية تمثل نوعا من السلوك العفوي الذي لا يحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير والنظر. فالإنسان كائن ذهني عقلي وهو محكوم بعقلية تنمّط سلوكه وتوجه حياته كليا وذلك على خلاف الحيوان الذي يخضع للنزعة الحيوية الخاصة بوجوده وكيانه. ونحن عندما نستخدم الصيغة الجمعية للعقلية ” العقليات ” فإننا هنا نتحدث عن تفكير جمعي وعن عقل جمعي أو سيكولوجيا عقلية جمعية قطيعية. وعندما نتحدث عن عقلية الإنسان المعاصر مع مقارنتها بعقلية الإنسان الإغريقي أو مع العقلية التقليدية فإن ذلك يرمز إلى وجود تفكير جمعي بمواصفات محددة. والسؤال هنا هو كيف يمكن تحديد السمات الأساسية لهذا التفكير الجمعي؟ وما معيار التحديد الممكن؟ وما المجال الذي يغطيه حقل الدراسة في مستوى العقلية؟
إن التباين في العقليات أمر ملموس مع تغاير الزمان والمكان. وهذا التغاير يتزايد بازدياد المسافة الزمنية. فالعقلية التي سادت في العصر الوسيط تبدو لنا غريبة ومباينة للعقلية التي توجه مسار حياتنا. وفي هذا السياق يمكن القول بأن عقلية القدماء تتقاطع مع عقليتنا وإننا بالتالي عندما نقوم بتحليل تحول هذه العقليات الجمعية وتغيرها عبر الزمن ما بين عصر وآخر يمكننا بناء تاريخ للعقليات الإنسانية.
وقد يدهشنا جدا أن نعرف إلى أي حدّ كان أسلافنا القدماء يختلفون عنا بتصوراتهم ومعتقداتهم وأساليب حياتهم وأنماط تفكيرهم. فالدراسات التاريخية تصدم تصوراتنا الشمولية وتؤكد الطابع النسبي للأشياء والتصورات والقيم: فأسلافنا كانوا يمتلكون عقائد أخرى ونماذج أخلاقية مختلفة ومشاعر متباينة عن هذه التي نمتلكها. فتصوراتنا عن الأسرة والعائلة والزمن والمجتمع والقيم تختلف جوهريا عن هذه التي سادت في زمن الأسلاف القدماء. والفكرة الأساسية التي يقدمها لنا تاريخ العقليات هي فكرة واحدة: لا يوجد هناك شيء خالد أو كلي في حياة الإنسان الاجتماعية على مدى تاريخه المديد عبر العصور والحقب التاريخية. فنحن على سبيل المثال نعتقد أو ربما يخيّل لنا أن الشعور بالقيمة العائلية كان دائما قائما عبر الزمن عند جميع بني الإنسان. ولكن الدراسات التاريخية للعقلية تبين لنا خطل هذه الفكرة وبطلانها وإن الحالة لم تكن هكذا أبداً. فالجاذبية الجمالية التي تتميز بها شواطئ البحار وقمم الجبال قد تمكون قيما حديثة نسبيا، وذلك لأن أسلافنا كانوا يسبغون عليها قيما سلبية حول الأمرين وذلك لأن القدماء كانوا يخافون من البحر ويمتلكهم خوف مجانس من الجبال التي كانت ترمز إلى الخطر. هذا ويبين لنا المؤرخون أن أسلافنا القدماء كانوا لا يخافون ولا يذرفون الدموع أو يبكون للأسباب نفسها التي تخيفنا وتبكينا اليوم.
وباختصار، فإن المعطيات العامة لهذا التحليل التاريخي أصبت مألوفة ومعروفة ضمن ما يمكن تسميته الاتجاه الثقافي Culturalisme. والثقافوية هذه تمثل نزعة فكرية تعيد كل أنماط السلوك الطبيعي إلى أصول ثقافية وقد نجمت هذه النزعة عن تأثير الأنتربولوجيا البنيوية. فالثقافة وفقا لهذا التوجه هي التي علمتنا كل الأشياء التي نقوم بها: فهناك ثقافة للدموع، وأخرى للجنس، وواحدة للهضم، وثقافة للصحة، وثقافة للخجل، وللخوف، والنوم .
ويتميز الاتجاه التاريخي للعقلية ببساطته حيث يتمحور حول تساؤل بسيط في جوهره: كيف كان يعيش أسلافنا القدماء ( جنسيا، وصحيا، وعقليا، وروحيا …إلخ)؟ وهذا الأمر يتبع بتساؤل حول طبيعة الاختلاف الثقافي القائم بين الحقب والمراحل التاريخية؟ فالقدماء لا يبكون في المناسبات نفسها التي نبكي فيها نحن المعاصرين، ولا يعيشون الحياة الجنسية التي نعيشها نفسها، كما لا بنظرون إلى النظافة بمعاييرنا المعاصرة …إلخ.
ومن هذا المنطلق يمكن تبرير مفهوم العقلية من خلال الثقافة الطبيعية بمعنى أن الثقافة كانت في أصل الطبيعة على خلاف ما يجري الاعتقاد اليوم بأن الطبيعة متقدمة على الثقافة. فالمعيار الثقافي وفقا لهذا التوجه يحدد لنا نمط السلوك الذي نؤديه ويحدد لنا في الوقت نفسه ما يجب علينا أن نقوم به وما يجب علينا ألا نقوم به. وهذا يعني في نهاية الأمر أن الثقافي هو الذي يشرط ويحدد اجتماعيا البعد الطبيعي بوصفه بعدا ثقافيا. فعندما أشعر بالخجل واستشعر الجمال واشعر بالخوف عندما ابكي أقوم بكل هذه الأشياء لأنني تعلمتها وتعلمت القيام بها. وإذا كان المرء لا يمتلك ناصية الثقافة التاريخية فإنه سيعتقد بأن ما يقوم به من بكاء وحزن واعتقاد قد كان دائما قائما في التاريخ الإنساني. وهذا يعني أن هذه الأمور قد نجمت عن خلفية طبيعية.
والخطأ العام الذي نقع فيه دائما يتمثل في الاعتقاد بأن كل ما هو عادي هو طبيعي بالضرورة المنطقية. فما هو طبيعي ليس إنساني، أو ما هو طبيعي يؤسس على ما هو أبدي أي ما هو طبيعي. وبعبارة أخرى ما هو طبيعي يمتلك صفة كونية عامة. ونحن نمثل في سلوكنا الإنساني ما هو طبيعي بمعنى أننا نبحث عما هو ثابت ودائم. ونحن هنا مجبرين على تصديق أن كل ما كنا نعتقده طبيعيا كان ثقافيا. وهكذا يهدم تاريخ الفكرة التي تقول بأن الإنسان كان وسيبقى ويبرهن على أن الإنسان ليس كائنا أبديا أعطي دفعة واحدة وأنه لا يقبل التغيير والتبديل. فالماضي أمر مختلف عن الحاضر كما العقليات في الماضي مختلفة جدا عنها في الحاضر. وهنا يمكننا الحديث عن الإنسان في عصر النهضة والإنسان في العصر والوسيط والإنسان في العصر الروماني وفي العصر الإغريقي وهكذا دواليك. كما يمكننا أن نتحدث عن عقلية رجل العلم ورجل الأدب ورجل الفن …إلخ.
وفي صيغة العلاقة بين القديم والجديد في العقلية وكيف يتجدد الوعي تاريخيا بأشكال جديدة من التفكير نستحضر على سبيل الطرفة والمثال المرحلة التاريخية التي حوربت فيها «مانعة الصواعق»، بوصفها هرطقة دينية ، والكيفية الشرسة التي هوجم فيها مخترعها بنيامين فرانكلين من قبل رجال الدين، وذلك بحجة هو أن البرق غضب من الرب، وبما أنه غضب رباني فالكنيسة إذن محصنة، ولم يستطع أحد أمام هذا التفسير أن يعترض، وأصدرت السلطات بيانا «إنه من الفسق والكفر ادعاء أن الرب سيسمح للبرق بصعق إحدى الكنائس . ومن الطرائف التاريخية أنه في الفترة بين 1750 و 1783 قتل أكثر من 120 شخص من قارعي الأجراس في الكنائس في أوروبا بسبب الصواعق بينما صمدت بيوت “الدعارة ” التي وضعت مانعات الصواعق. ولم يتأذ أحد من روادها، وعلى الأثر فرض على الكنيسة أن تقر بمشروعية وضع موانع الصواعق على أسطح الكنائس واعترفت أخيرا بفوز العلمي أوهامها الكنسية . .
مراجع الدراسة وهوامشها :
[1] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمد علي ناصيف، الطبعة الثانية، نهضة مصر، القاهرة، 1990، ص160.
[2] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 162.
[3] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 160.
[4] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 166 .
[5] آلفين توفلر، صدمة المستقبل، المرجع نفسه ، ص 167 .
[6] Regardez: Herve Martin, Mentalités médiéval X1-XV, Nouvelles Clio. P.U.F., Paris, 1996,
[7] عبد الله عبد الدايم : التربية والقيم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال، المستقبل العربي، السنة العشرون، العدد 230، نيسان /إبريل، 1998، (صص 64-86)، ص80.
[8] نستخدم مفهوم البدائية إشارة إلى المجتمعات الإنسانية القديمة التي تسجل حضورها في مسرح الحياة الإنسانية في مرحلة سابقة للكتابة أو في مرحلة سابقة حيث وظفت أدوات بدائية جدا في عملية التكيف والصراع من أجل الوجود. وهذا يعني أن هذا المفهوم كما يوظف هنا لا يحمل أية مضامين أخلاقية أو مؤشرات تقلل من شأن هذه المرحلة أو أهميتها.
[9] -Lucien- levé – Bruhl, La Mentalité primitive, ALCANE, paris, 1922.
[10]– Guy rocher: Introduction a la sociologie générale, organisation sociale, point, paris, 1968, p101.
[11] حدث هذا التطور في أعماله الأخيرة التي رفض فيها بعضا من تصوراته الأولى.
[12] – Lucien- Lève – Bruhl, la mentalité primitive, paris, alcane, 1922, p 7.
[13] سيغموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1983، اللاذقية، ص57.
[14]– Claude Levi – Strauss, la pensée sauvage, Paris, 1962, pp (26 – 33).
[15]– Lucien- Lève – Bruhl, La Mentalité Primitive, Paris, Alcane, 1922, P8.ssss
[16]– ر.بوردون و ف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1986، ص196.
[17] -.بوردون وف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، المرجع السابق ، ص196.
[18]– عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة البحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.
[19]– ر.بوردون و ف. بوّريلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، مرجع سابق ، ص194.
[20]– عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، قضايا إسلامية معاصرة، العدد 19، 2002، صص164-183، ص164.
[21]– عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، ص165.
[22]– عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، صص164-183، ص165.
[23]– عبد الله إبراهيم، المجتمعات التقليدية في عالم متغيّر، المرجع السابق، ص165.
[24]– عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة البحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.
[25]-انظر، عياض بن عاشور، الضمير والتشريع: العقلية المدنية والحقوق الحديثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1968، ص18.
[26]– عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، المرجع السابق، ص17-18.
[27]– عياض ابن عاشور، الضمير والتشريع، المرجع السابق، ص16.
[28]– عبد الغفار رشاد، التقليدية والحداثة في التجربة اليابانية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1984،ص 25.
[29]– عز الدين دياب، الشخصية والثقافة: محاولة لفهم دور الفرد فى النهضة العربية المعاصرة، شؤؤون عربية، عدد4، حزيران/يونيو، 1981، (صص 125-138)، ص136.
[30]– فؤاد زكريا، التفكير العلمي، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1992،ص57.
[31]– Lucien- Lève Bruhl, La Mentalité Primitive, Paris, Alcane, 1922, P 104.
[32]– إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، من مركز دراسات الوحدة العربية، الفلسفة في الوطن العربي المعاصر: بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول الذي نظمته الجامعة الأردنية، بيروت، 1987( ص291 _306 )، ص303.
[33]– إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، المرجع السابق، ص304.
[34]– إبراهيم بدران، حول العقلية العربية، المرجع السابق، ص304.
[35]– B.Malinowiski, Magic, science and religion, GLENCO, the free presse, 1948, p.14.
[36]– Malinowski, myth in primitive psychology -London-kegan Paul -1926-p110
[37]– مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور، معهد الإنماء العربي، بيروت 1989، ص160.
[38]– Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, Le système totémique en Australie, Paris, P.U.F, 1960,
[39]– Regarde: A.R. Radcliffe – Brown: Structure et fonction dans la société primitive, POINTS, Paris, 1968, pp230-260.
[40]– Mircea Elide, Le sacré et le profane, Gallimard, collection (IDEA), Paris, 1965.
[41]– Alain Laurent, Histoire de l’individualisme, Que sais-je, No 2712, P.U.F., Paris, 1993, P.3.
[42] Charles Taylor, Les Malaises de la modernité, C.E.R.F., Paris, 1999, P.15.
[43] في مشاركة له في مناقشة ورقة سعدون حمادي: الوحدة الثقافية والتعليم ملاحظات أولية في مركز دراسات الوحدة العربية، دور التعليم في الوحدة العربية: بحوث ومناقشات وقائع القدوة التى نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط3،1983، ص36.
[44] Charles Taylor, Le Malaise de la modernite, Humanite Les Edition de CERF, Paris, 1999, P.10.
[45] Emile Durkheim, De la division du travail social, 110 Ed., P.U.F, Paris, 1986.
[46] Emile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse, 2O Ed. P.U.F., Paris, 1990.
[47] Alain Laurent, Histoire de l’individualisme, Que sais-je, No 2712, P.U.F., Paris, 1993
[48] Luis Dollot, Culture individuelle et culture de Mass, Que sais-je. No 1552, P.U.F., Paris. 1990.
__________
*أ.د. علي أسعد وطفة /جامعة الكويت – كلية التربية.
*المصدر: التنويري.