الأكاديمية

فن كتابة التقرير الإخباري التلفزيوني: تمازج الصورة والصوت والكلمة

تُعد كتابة التقرير الإخباري التلفزيوني من أصعب المهارات الصحفية، إذ تتطلب قدراً عالياً من الاحتراف والخبرة، لما تنطوي عليه من توظيف متقن لعناصر متعددة، أهمها: الكلمة المكتوبة، والمؤثرات الصوتية، والمشاهد المصورة الملتقطة من قلب الحدث. فالصحفي هنا لا يكتفي بنقل الخبر، بل ينسجه بصرياً وسمعياً، ليصل إلى المشاهد بأكبر قدر ممكن من الوضوح والتأثير.

ولا يمكن للتقرير أن يؤدي رسالته دون تناغم محكم بين هذه العناصر، فهي ليست أدوات مرافقة للخبر فحسب، بل مكونات جوهرية لبنائه. ويُعد ترتيب هذه العناصر والتنسيق بينها أمراً بالغ الأهمية، إذ أن أي خلل في التوازن قد يشتت ذهن المتلقي ويفقد التقرير قيمته الإخبارية أو الجمالية.

تهدف هذه المعالجة إلى تسليط الضوء على أهم المبادئ التي ينبغي مراعاتها عند صياغة تقرير لقناة إخبارية مرموقة مثل “بي بي سي”، حيث تُعد الدقة، والحياد، والبساطة، والاهتمام بالتفاصيل، من الركائز الأساسية في العمل التحريري.

تقريب الصورة إلى المتلقي

من أبرز وظائف التقرير التلفزيوني الناجح أنه يقرّب المفاهيم والأفكار المعقّدة من ذهن المشاهد، بلغة مبسطة وشكل بصري جذاب. ويستخدم الصحفيون في ذلك أساليب متعددة، كما فعل الصحفي جيريمي بوين في أحد تقاريره من بيروت، حين اختار زاوية إنسانية لطرح واقع سياسي معقّد.

ففي تقريره، التقى بوين بأحد فناني الشارع الذين يبيعون صور المشاهير، وسأله عن أكثر الصور مبيعاً. فأجاب البائع بأن صورة الزعيم جمال عبد الناصر ما تزال تحظى بشعبية، لكن صور حسن نصر الله تتصدر المبيعات حينها. لم تكن هذه الحكاية عشوائية، بل مقصودة، إذ أراد بوين عبر هذا المشهد البسيط أن يضيء على التحولات السياسية والاجتماعية في لبنان بلغة الناس وصورتهم.

هذا المثال يوضح كيف يستطيع الصحفي أن يستخدم المواقف اليومية لتقديم قراءة معمقة للمشهد السياسي، بعيداً عن الأساليب التقليدية المملة.

الصورة أولاً… ثم النص

من المبادئ الراسخة في إنتاج التقارير التلفزيونية، أن تبدأ العملية بالاطلاع على المادة المصورة المتاحة، لا العكس. فصياغة النص يجب أن تتوافق بدقة مع الصور المختارة، وليس مجرد محاولة لفرض الكلمات على مشاهد جاهزة. فالكتابة للصورة ليست مجرد وصف لها، بل هي فن يدمج الإيقاع السردي بالمشهد البصري، لينتج تجربة متماسكة ومؤثرة.

فالصحفي المحترف يكتب نصاً يتناغم مع الصورة، لا يغرق في توصيفها الممل، ولا يتجاهل وجودها. وتُحسب الجمل بعناية وفقاً لزمن المشاهد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المتوسط في اللغة العربية هو كلمتان لكل ثانية، أي أن ستين كلمة تستغرق نحو ثلاثين ثانية.

مثال تطبيقي: تقرير غزة

يُعتبر تقرير جيريمي بوين من قطاع غزة عام 2006 نموذجاً بارزاً يُستشهد به في المحافل المهنية. يبدأ التقرير بقصة مؤثرة لطفلة فقدت اثنين من أفراد أسرتها خلال القصف الإسرائيلي على شاطئ غزة. ويُوظف التقرير بشكل ذكي عناصر بصرية وصوتية قوية، مع ترك مساحة للصوت الإنساني والتفاعل العاطفي.

ويتجلى التوازن التحريري في إعطاء جميع الأطراف صوتها، إذ يتضمن التقرير تعقيباً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما ينقل وجهة النظر الإسرائيلية بشأن الحادث. وهو بذلك يلتزم بأعلى معايير المهنية التي تعتمدها “بي بي سي”، حيث الحياد والدقة والتوازن، مع الحفاظ على سرد مبسط وسلس.

الكلمات المفتاحية في النص البصري

من الحيل الذكية التي يلجأ إليها الصحفي التلفزيوني استخدام إشارات لفظية تُحيل إلى العناصر البصرية، مثل: “هذه الفتاة”، أو “في هذا المكان”، أو “على هذا الشاطئ”، ما يعزز ترابط النص مع الصورة ويقود عين المشاهد إلى التفاصيل المقصودة. غير أن الإكثار من هذه الإشارات، أو استخدامها دون داعٍ، قد يُفقد النص مرونته ويُثقله بالوصف الزائد.


البساطة هي السر

في النهاية، فإن سر نجاح التقرير الإخباري التلفزيوني يكمن في البساطة المتقنة: نقل القصة بلغة سهلة، وجمل قصيرة، وعناصر بصرية مدروسة، بما يخلق تفاعلاً صادقاً مع المشاهد. فالتوازن بين الصوت والصورة والكلمة هو المفتاح الذهبي للوصول إلى وجدان المتلقي، وجعل التقرير أكثر من مجرد خبر: بل تجربة شعورية وذهنية متكاملة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *