المقالاتفكر وفلسفة

علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاريخية

” إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء ” [1]/ كارل ماركس “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”

1- مقدمة:

يُعدّ الفيلسوف الاقتصادي الألماني كارل ماركس (Karl Heinrich Marx: 1918-1883) [2]– مؤسس النزعة الماركسية – واحداً من الآباء الخمسة الأوائل لعلم الاجتماع، ويصنف على أنه أكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الفكر السوسيولوجي المعاصر كما هو الحال في الفلسفة الحديثة، ولا غرو أنه ترك بصمته المميزة في مجال الفلسفة الاجتماعية الحديثة، وقد قدر له أن يؤسس لنظرية المادية التاريخية التي تشكل الإطار المنهجي والتاريخي لعلم الاجتماع الماركسي الذي استطاع أن يسجل حضوره في التاريخ بتدفق كبير من الأعمال والدراسات الهامة في تاريخ السوسيولوجيا العالمية.

ومع أن كثيراً من الباحثين يصنفون كارل ماركس من بين الفلاسفة أو الاقتصاديين فإنهم ينظرون بعين الاعتبار إلى الجوانب السوسيولوجية لفكره، ويقدرون عالياً إسهاماته في مجال علم الاجتماع. ويمكننا القول في هذا السياق: إن معظم أعمال ماركس وكتاباته العبقرية ة تبحث في المجتمع وفي ظواهره وقوانينه الاقتصادية والفكرية والسياسية، وقد لا نبالغ إذا قلنا: إن ماركس كان قد أراد للعلوم الإنسانية جميعاً أن تنحو نحواً اجتماعياً لتباشر المجتمع بالدراسة والتحليل والاستكشاف. ومن هنا جاءت دعوته التاريخية إلى تحويل الفلسفة من فكر يجول في الآفاق العادية إلى علمٍ اجتماعي مهيباً بها ألّا تقف عند حدود التفسير متطلعاً لها أن تسعى إلى التغيير ومن صلب هذا التوجه يقول: “كل ما فعله الفلاسفة حتى الآن هو تفسير العالم بطرائق مختلفة – لكن المهم هو تغييره”.

ولد كارل ماركس عام 1818 في مدينة ترير (Treves) -التابعة يومئذ لمملكة بروسيا- حالياً لأب يعمل في سلك المحاماة. درس في جامعتي بون وبرلين في مجال التاريخ والعلوم الإنسانية وفي رحاب هاتين الجامعتين درس كلاسيكيات الفلسفة الألمانية المثالية والمادية، وحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة، وكانت أطروحته تتناول مقارنة بين رؤى كل من ديمقريطس وأبيقور.. وقد سجن بسبب أفكاره وكتاباته الصحفية الثورية وطرد من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وانتقل إلى لندن ليعيش بقية حياته متخفيا متنكرا تحت أسماء مستعارة كثيرة، وأهم ما يميز حياته الشخصية والعلمية صداقته الأبدية مع فريدريك أنجلز الاشتراكي الألماني، التي بدأت في عام 1844 واستمرت بعد موت ماركس، إذ بقي إنجلز وفيا لماركس وعائلته حتى أنه ترك ثروته الكبيرة لأسرة ماركس بعد وفاته، وقد شاركه تأليف عديد الكتب ومنها: الأسرة المقدسة (Th Holly Family )، والأيديولوجيا الألمانية، والبيان الشيوعي.

أمل ماركس في عام 1841 أن يجد وظيفة أكاديمية نتيجة لحصوله على درجة الدكتوراة، لكنه تورط مع مجموعة من المفكرين المتطرفين الذين أفقدوه أي أمل حقيقي في حدوث ذلك. ومع اتجاهه للعمل في مجال الصحافة؛ تورط ماركس سريعاً في مشاكلَ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، ووجد أن عليه أن يضع فكرة الشيوعية موضع اهتمام.

2- مؤثرات ماركس:

لا يمكن للفكر السوسيولوجي أن يتشكل في الفراغ المعرفي، أو أن يولد في العدم السديمي، وإذا أردنا أن ندرك جيداً طبيعة علم من العلوم أو فن من الفنون أو نظرية من النظريات، يجب أن نبحث في المنطلقات الأولى وفي الأصول الأولى التي هيأت لهذا العلم التربة التي نما فيها وترعرع، وهذا يعني أن علم الاجتماع الماركسي، إذا صحت التسمية، لم ينشأ في الفراغ دفعة واحدة، ولم يظهر بوصفه قوة طفرية فرضت نفسها في الوجود. وتفضي التأملات الجارية أن الماركسية قد انطلقت من ثلاث منصاتٍ أساسية أهمها كلاسيكيات الفلسفة الألمانية المتمثلة في جدليات هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel:1891-1770) وفي ماديات لودفيغ فيورباخ ( Ludwig Feuerbach:1798-1851) ؛ وكلاسيكيات الفكر الاقتصادي الإنكليزي عند كل من ديفيد ريكاردو (David Ricardo: 1772-1823‏) وآدم سميث (Adam Smith: 1723-1790) وتوماس مالتوس (Thomas Malthus :1766-1834)؛ ومن صلب النزعات الاشتراكية الفرنسية في عصر التنوير والثورة الفرنسية ولاسيما الأفكار الاشتراكية لسان سيمون (saint Simon:1760-1825) وشارل فورييه (Chareles Fourier: 1772-1837) وجان جاك وروسو (Jean Jacques Rousseau: 1712-1778) ومعطيات الثورة الفرنسية. ويمكن القول: بأن الماركسية هي نتاج جدلي بين هذه الاتجاهات الثلاثية بين الاقتصاد الإنكليزي والفلسفة الألمانية والطوباوية الثورية الفرنسية. ويمكن التعبير عن هذه المؤثرات الثلاثة بالقول: إن ماركس تأثر بمعطيات الثورة الصناعية في بريطانيا، والثورة السياسية في فرنسا، الثورة الفكرية الفلسفية.

ويعد ماركس رائد الفكر النقدي في العصر الحديث ومن أكثر المفكرين النقديين في التاريخ جرأة واندفاعا وحماسة لأفكاره وتصوراته، وقد بدأ فلسفته بنقده للفلسفة المثالية الهيغيلية ممثلة في الفيلسوف الكبير هيغل والفلسفة المادية الألمانية ممثلة بفلسفة فويرباخ منادياً بالمادية الجدلية التاريخية، وانتقد الاشتراكية الخيالية تحت شعار الاشتراكية العلمية. وقد رفض النظرة الميتافيزيقية للعالم والتفسيرات المثالية للعالم والواقع، ورسخ مذهب المادية الجدلية التي تبحث عن أسباب تطور الأشياء في داخلها لا في خارجها، وهذا ينطبق على الطبيعة والمجتمع والفكر في آن واحد [3].

ويجب علينا في هذا السياق ألّا يفوتنا على الإطلاق الأخذ بعين الاعتبار أهمية الظرف التاريخي الذي احتضن ماركس، إذ كتب له أن يعيش ويعايش الظروف الاجتماعية المبكرة للثورة الصناعية، وأن يشاهد الصعود الكبير للنظام الرأسمالي في أوروبا، وما أفرزه من معطيات اجتماعية قائمة على استغلال الطبقة العاملة وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية، وقد شهد في سياق ذلك مختلف الأوضاع الاغترابية التي عاشتها الطبقات العمالية في زمنه والتي تمثلت في حرمان هذه الطبقة ومحاصرة وجودها الإنساني. ومثل هذه الوضعيات الاغترابية للطبقة العاملة وغيرها من الطبقات الاجتماعية المنكوبة أثارت اهتمام ماركس علمياً وإنسانياً وعاطفياً، وقد دفعه ذلك بوصفه مفكراً وفيلسوفاً اجتماعياً إلى تأسيس رؤية فلسفية عميقة حول العوامل والمتغيرات التاريخية والاجتماعية التي دفعت المجتمعات الإنسانية إلى هذه الوضعية من الانقسام الطبقي، والعمل على استجلاء القوانين الحاكمة لحركة التطور الاجتماعي والعوامل التي تدفع الطبقة العاملة إلى جحيم الاستغلال والقهر والهامشية. ويشكل هذا الاهتمام العلمي المنطلق الأول لتشكل النظرية الماركسية.

عرف ماركس بتعاطفه الإنساني الكبير مع الطبقات الاجتماعية المسلوبة والمنهوبة، وقد شكل عطفه على هذه الطبقات المحرومة أحد أهم العوامل الذاتية في تشكل رؤية ماركس ونظريته العلمية في حركة التاريخ الإنساني القائمة على الصراع الطبقي بين القاهرين والمقهورين أو بين الغالبين والمغلوبين. وقد بذل جهوداً كبيرة في تحليل عوامل نشأة الرأسمالية والقوانين التي تحركها وعوامل وجودها واستمرارها، ومن ثم عوامل فنائها وزوالها، ولذلك نجد أن ماركس كان يتحرك على ثلاثة محاور أساسية في تشكيل نظريته وهي: الدافع العلمي التاريخي والتعاطف الإنساني الشديد مع الطبقات الفقيرة، والرغبة الهائلة في إيجاد القوى الاجتماعية والسياسية للتغيير الاجتماعي؛ من أجل تحرير الطبقات الفقيرة. وتأسيساً على هذه الثلاثية شكلت الماركسية منهجاً فكرياً ثورياً للتقدم الإنساني، وأهابت بماركس أن يكون مفكراً ثورياً وثائراً في الوقت نفسه، وهب نفسه وعلمه للنضال في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية في مسار الدفاع عن المغلوبين والمقهورين في التاريخ الإنساني، ولذا نجده قد انخرط في التنظيمات السياسية والماركسية التي تدعوا علناً وبقوة إلى التغيير الاجتماعية والعمل على تحقيق مجتمع إنساني يخلو من الاستغلال والقهر والعبودية. وفي ظل أعماله ونضاله استحق ماركس أن يكوّن فكراً وعملاً ونضالاً “سبارتاكوس”[4] العصر الحديث، وقد ارتقى إنسانياً إلى الأب الروحي للفكر الثوري في المجتمعات الإنسانية المعاصرة.

درس ماركس طبيعة هذا الاستغلال وحلله وتنبأ بالنتائج التي سيفضي إليها، فهذا الاستغلال قد اتخذ صور شتى عبر التاريخ، من اقتصاد المرحلة العبودية إلى الإقطاعية وأخيراً إلى الرأسمالية، إذ انقسم أفراد المجتمع فيها إلى سادة وعبيد ثم إلى إقطاعيين وفلاحين، وأخيراً برجوازيين وعمال [5].

3- علم الاجتماع الماركسي :

على الرغم من آلاف المجلدات التي دُبّجت حول علم الاجتماع الماركسي – نسبة إلى ماركس – فإن ماركس لم يشأ رفض التسمية الوضعية لعلم الاجتماع ” (ٍSociology) التي صاغها أوغست كون وذلك لارتباطها بالفلسفة الوضعية التبريرية التي روج لها الوضعيون والبنيويون ووظفوها كقوة أيديولوجية لتكريس التناقضات القائمة في قلب النظام الرأسمالي وتبريرها والمحافظة عليه[6]. وهو في هذا التوجه والموقف يؤكد جميع الاتجاهات الأيديولوجية البرجوازية الموظفة في خدمة النظام الرأسمالي، وقد آثر كما يرى عدد من المفكرين بأن يطلق على السوسيولوجيا “علم المجتمع (Social Science).

ومن الغرابة بمكان أن ماركس لم يخصص أي عمل تحت عنوان ” العلم الاجتماعي” أو أي صيغة أخرى مرادفة “لعلم الاجتماع ” أو “علم المجتمع” ولم يشر إلى هذا العلم في كتاباته التي اتخذت طابعاً فلسفياً أيديولوجياً اقتصادياً، ولذا فإن عدداً كبيراً من المفكرين ينظرون إليه بوصفه عالماً في الاقتصاد أكثر منه عالماً في الاجتماع.

ومع ذلك فإن زخماً هائلاً من الكتاب والمفكرين يرون بأن كارل ماركس أحد كبار آباء علم الاجتماع ومن أكثر رواده أهمية وخطورة. وفي ظل هذه التوجهات عمل أنصاره وتلامذته على بناء نظريته السوسيولوجية تأسيساً على أعماله المهمة التي قدمها في مجال الاقتصاد والفلسفة التي انضوت على نظرية سوسيولوجية صريحة في مجال المجتمع وقانونياته الأساسية. وقد أودعت أفكاره الاجتماعية في النظرية التي أطلق عليها المادية التاريخية. ومن الطرافة أيضاً أن ماركس نفسه لم يستخدم أبداً مفهوم “المادية التاريخية”، وهو الاستخدام الذي ورد في كتابات زميله المفكر الكبير وصديق العمر فريدريك انجلز وقد ظهر استخدامه لأول مرة في كتاب فريدريك إنجلز ” (Friederich Engels)[7] الاشتراكية: الطوباوية والعلمية” في عام 1880.

ومن المفيد في هذا السياق أن مقولات المادية التاريخية مستمدة من مختلف كتابات وأعمال ماركس، ولاسيما كتابه المهم “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي” ((Contribution to the Critique of Political Economy)) الذي يعرض فيه كثيراً من مقولات المادية التاريخية أو هذه التي عرضت تحت عنوان المادية التاريخية “، ويبدو لنا أن أنصاره الماركسيين وضعوا أفكاره ونسقوها في كتب كثيرة تحت عنوان “المادية التاريخية” إشارة منهم إلى نظرية ماركس في المجتمع وقانونياته الأساسية. ويشار في هذا السياق إلى كتاب “المادية التاريخية” لماركس وإنجلز ولينين وهو كتاب يتكون من مجموعة كبيرة من المقالات والرسائل ومن المقاطع المختارة من مؤلفات ماركس وإنجلز ولينين قامت دار التقدم في موسكو بجمعها وترتيبها ترتيباً تاريخياً. وهذه المختارات تتناول قضايا المادية التاريخية وتعالج القوانين التي تتحكم بتطور المجتمعات ودور الثورات في هذا التطور، كما تتحدث عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وارتباط …البناء التحتي بالبناء الفوقي وتأثير الواحد في الآخر، كما تعالج دور الفرد ودور الجماهير في عملية التاريخ[8]. وقد عمل أنصاره في هذا الكتاب على تحليل الوقائع بدقة علمية، ورصد الخطوط العامة للتطور وفقا لنظرية ماركس وإنجلز، ورصد معالم المستقبل على نحوٍ علميٍ قائمٍ على معطيات مادية ملموسة. ويتألف الكتاب من قسمين كبيرين: الأول يتضمن مختارات ماركس وإنجلز في المادية التاريخية، والثاني يتضمن مختارات لينين في هذا الموضوع [9]. ويتناول هذا الكتاب قضايا ومقولات حول المادية التاريخية، والمنهج التاريخي، والبنية الفوقية والبنية التحتية، وعلاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، والصراع الطبقي وفضل القيمة، والدولة، والثورة، ودكتاتورية البروليتاريا، والأشكال التاريخية لاجتماعية الناس، دور الجماهير الشعبية، ودور الشخصية في التاريخ، الجانب الروحي للعملية التاريخية – أشكال الوعي الاجتماعي، وخصائص تطور الوعي الاجتماعي، والأيديولوجيا السياسية، والوعي الحقوقي، والأخلاق، والفن، والفلسفة. وغير ذلك من المقولات التي حاول فيها كارل ماركس أن يستجلي الحقيقة الاجتماعية وأن يتفحص دلالتها في رؤى شمولية متكاملة. وقد صدر عدد هائل من الكتب والدراسات تحت عنوان ” المادية التاريخية ” التي تبحث في أفكار ماركس وإنجلز، وفي مختلف القضايا التي تتعلق بالتطور الاجتماعي، وبنظرية ماركس في الماديتين الجدلية والتاريخية. وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.

 ولا بد من القول في هذا المقام: بأن علم المجتمع الماركسي يشكل سعياً مستمراً ومتواصلاً للكشف عن القوانين والديناميات التي تحكم المجتمع الإنساني في ديناميات تطوره؛ سعياً للتنبؤ بحركة التغير وتحديد المسار الاجتماعي لتطور المجتمع، وما يقتضيه هذا الأمر من تدخل وتخطيط لتحقيق التوازن الاجتماعي الخلاق في مسار تجاوز مختلف التناقضات السلبية، وتحرير الإنسان والمجتمع من كل أشكال الاغتراب والاستلاب والقهر والتمييز الطبقي أو العنصري.

ويمكن الاستدلال على أهمية الحضور السوسيولوجي في فكر ماركس من خلال العناوين الأساسية لأعماله الفكرية الكبرى بدءاً بكتابه العبقري المشهور “رأس المال ” الذي نشر في ثلاثة مجلدات، وهو من أكثر الأعمال العبقرية في القرن التاسع عشر، ويعد كتاب رأس المال Le capital (1867)، من أبرز الأعمال التي قدمها للفكر الإنساني، وهو العمل الذي يشتمل على آرائه ونظرياته في الاقتصاد والاقتصاد السياسي ويغطي ديناميات التطور الاقتصادي للمجتمعات الصناعية. وهنا يمكن الإشارة إلى عددٍ كبيرٍ من أعماله من مثل: (نقد فلسفة الحق عند هيغل،1843 )، و(حول المسألة اليهودية، 1843)، و (أطروحات حول فيورباخ، 1845)، و (بؤس الفلسفة، 1847)، و (أجور العمل ورأس المال، 1847)، و (الصراعات الطبقية في فرنسا، 1850)، و(الثامن عشر من برومير لويس نابليون، 1852)، و ( مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، 1859)، و ( نظريات فائض القيمة،3 مجلدات، 1862)، و (القيمة والسعر والربح، 1865)، و(الحرب الأهلية في فرنسا، 1871)، و( نقد برنامج غوتا، 1875)، و(ملاحظات حول فاغنر 1883)، و “المخطوطات الاقتصادية والفلسفية، 1844)، و(المذابح البلجيكية، 1969) و(أطروحات حول ڤويرباخ، 1845). ومن الأعمال التي قام بها بالمشاركة مع إنجلز[10]مخطوطات كارل ماركس الرياضية (1968) (الإيديولوجيا الألمانية، 1845)،[11] و (العائلة المقدسة، مع إنجلز، 1845)، و (بيان من الحزب الشيوعي، 1848)، و(الحرب الأهلية الأميركية، 1861). وهذه المؤلفات تلقي الضوء على الجوانب المعرفية والاجتماعية التي تنطوي على معظم أفكار ماركس الفلسفية والاجتماعية.

وباختصار يمكن القول: إن ماركس قد أسهم تاريخياً في صوغ علم المجتمع على نحو علمي، وجعل من البحث السوسيولوجي قوة معرفية تسعى إلى الكشف عن قانونيات التطور الاجتماعي التي يمكن أن تؤسس للتنبؤ بمختلف اتجاهات الحراك الاجتماعية، وأن ترسم حدود وأبعاد الظواهر الاجتماعية القائمة والمحتملة التي تتمثل في عمليات إنتاج وتوزيع الخيرات المادية في مختلف مراحل تطور المجتمع وفي سياق تفاعلاته الإنسانية. لقد حول ماركس هذا العلم المجتمعي إلى قوة معرفية تمكن الناس من الوعي بعوامل وجودهم وتحدد لهم مكانهم في عملية الإنتاج، وتساعدهم في عملية التحرر من كل أشكال الاستغلال والظلم الاجتماعي.

فالمجتمع وفق علم الاجتماع الماركسي يتحرك في عملية تطوره ونمائه وفق قوانين مستقلة عن وعيهم وإرادتهم ووعيهم، وهي قوانين تفرضها طبيعة الحياة الإنتاجية في المجتمع القائمة على التفاعل اللامحدود بين علاقات الإنتاج وقواه المادية التي يشكل البنية الاقتصادية التحتية للمجتمع، والتي على أساسها تتشكل البنى الفوقية المتمثلة في الوعي العام الجمالي والأخلاقي والحقوقي.

ويلاحظ في هذا المقام أن كثيراً من المفكرين يطابقون بين المادية التاريخية وما يطلق عليه علم الاجتماع الماركسي، ويرون أن هذا العلم (المادية التاريخية) يهدف في نهاية المطاف إلى تقديم المجتمع في صورته العلمية ودراسته وفق المنهجية الديالكتيكية التاريخية التي تنطلق من وصف الظاهرات الاجتماعية إلى التحليل العلمي له، وهو المنهج القائم على منهج التبصر والاستكشاف المنطقي في ضوء القوانين الجدلية الديالكتيكية. ويسعى هذا العلم إلى استنباط القوانين التاريخية المشتركة في مختلف المجتمعات في مراحل محددة من التطور التاريخي، كما يسعى هذا العلم أيضا إلى استكشاف القوانين الاجتماعية العامة التي تحكم التكوينات الاجتماعية ــ الاقتصادية الخاصة وتمييزها عن القوانين النوعية التي تحكم كل تكوين اقتصادي اجتماعي محدد تاريخياً [12]

4- من المادية الجدلية إلى المادية التاريخية:

تقدم الماركسية نفسها بوصفها نظرية شاملة لفهم الطبيعة والمجتمع في ضوء المادية الجدلية والمادية التاريخية. وتقوم الفلسفة الماركسية في المجتمع والتاريخ على نظريتين متكاملتين هما: المادية الجدلية (Dialectical Materialism) والمادية التاريخية. وتشكل المادية الجدلية (Historical Matecialism) [13]الجانب الفلسفي، بينما تشكل المادية التاريخية النظرية الاجتماعية التي تتمحور حول الواقع الاجتماعي التاريخي للمجتمعات الإنسانية في الفكر الماركسي على وجه العموم، وتعد المادية الجدلية تطويراً ماركسياً لفلسفة لودفيغ فيورباخ المادية التي كانت سائدة آنذاك وتخصيبها بالجدل الهيغلي بعد تجريده من مثاليته المفرطة.

وتمثل المادية الجدلية ” المكون الفلسفي للنظرية الماركسية، فهي الرؤية الفلسفية التي تنبثق عنها جميع قضايا النظرية، وتتلخص هذه الرؤية في النظر إلى العالم على أنه “كل مكونٍ من مادة متحركة حركة تصاعدية تؤدي إلى حدوث تغيرات متتالية. وتتسم المادية الجدلية من جهة أنها (مادية) بالاعتقاد بأن العالم مادة متطورة – لا إرادة إلهية فيها وأن العالم المادي موجود، سواء أشعرنا به أم لم نشعر، وأن الوعي والحس، ما هما إلا نتيجتان للمادة، فالوجود المادي سابق على الوعي ” [14]. أما كونها “جدلية” فيعني النظر إلى العالم بوصفه كلاً مترابطًا في حركة دائمة وتطور مستمر، وتنبع الحركة والتطور من التناقضات الكامنة في أجزائه جميعها، وتؤدي هذه التناقضات إلى صراع بين القديم والجديد، صراع ينتهي بالانتصار الحتمي للجديد، ويرى ماركس أن التناقض هو جوهر الأشياء، ومن ثم فهو شامل ومطلق، وتوجد التناقضات كأساس للتغير في كل العمليات والأشياء”[15].

ولا تعدو المادية التاريخية في نهاية الأمر أن تكون تطبيقاً للمادية الجدلية على قضايا المجتمع والتاريخ والظواهر الاجتماعية. والمادية الجدلية تمثل جوهر الفلسفة الماركسية ومنهجها ومنظورها الأيديولوجي في الحياة الكونية والوجود الإنساني. ومن المعروف أن ماركس قد تتلمذ على الفلسفة الجدلية عند هيغل [16] (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) بداية، ومن ثم طور فلسفته الجدلية بطريقة مغايرة للمثالية الجدلية الهيغيلية التي تتحرك في عالم الأفكار والتصورات والمثل خارج السياق المادي، مؤكدة أهمية الوعي وأسبقيته في الوجود والحركة على المادة، وعلى خلاف ذلك انقلب ماركس على مثالية هيغل الجدلية، وأكد أسبقية المادة جدلياً على الوعي فأهبط الفلسفة الجدلية الهيغلية من أبراجها المثالية العاجية إلى فضاء الواقع الإنساني بمشكلاته وتحدياته الوجودية، وعلى هذا النحو انقلب على المثالية الجدلية عند هيغل وجعلها مادية جدلية، واستطاع أن يوقف هذا الجدل الهيغلي على قدميه بعد أن كان يقف على رأسه.

تبحث المادية الجدلية عند ماركس في القوانين العامة التي تحكم تطور العالم المادي عمومية وجميع الجوانب الحية في الوجود والفكر والعالم، وتعتمد المادية الجدلية قوانين الجدل المتمثلة في ثلاثة قوانين أساسية: وحدة وصراع الأضداد، وقانون التحول الكمي إلى كيفي، وقانون نفي النفي، وتشمل أيضا منظومة القوانين التي تحكم الفكر والوعي في حركته وتطوره بوصفه انعكاساً لقوانين العالم الموضوعية. ولا يوجد اختلاف جوهري بين المادية الجدلية والمادية التاريخية فيما يتعلق بالقوانين الجدلية والمبادئ الأساسية، إلّا أن المادية التاريخية تشكل تطبيقاً حياً لقوانين الجدل في مجال التاريخ والمجتمع أي في مجال الحياة الاجتماعية والاقتصادية، إذ تسعى إلى استكشاف القوانين العامة التي تحكم تطور مختلف الظواهر الاجتماعية والتاريخية، وتبحث في العمليات التاريخية لتطور الحياة السوسيولوجية في المجتمع، وهي باختصار شديد، كما أشرنا، تطبيق القوانين العامة للمادية الجدلية في مختلف الظواهر الاجتماعية [17].

يحاول ماركس في ماديته الجدلية أن يوضح لنا حركة التاريخ والمجتمع ومختلف ظواهره وفقا للقوانين الجدلية، ويبين لنا كيف يجري الصراع في داخل المجتمع بين الطبقات الاجتماعية، وكيف ينتقل المجتمع من مرحلة إلى مرحلة، وكيف تتقاطع العلاقات بين جوانب الحياة الاجتماعية، ولاسيما بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وفق قوانين المادية الجدلية.

ويرى كثير من الباحثين اليوم أن المادية التاريخية تشكل “علم الاجتماع الماركسي” إذ يتم تطبيق قوانين ومقولات المادية الجدلية في دراسة وفهم مختلف قضايا الحياة الاجتماعية. ومن الواضح أن الماركسيين يرون أن المادية التاريخية تشكل نظرية علمية للتطور الاجتماعي ومنهجاً للتغيير في آن واحد [18]. وتنطلق هذه النظرية في تناول المجتمع بوصفه “وحدة اجتماعية – اقتصادية مترابطة في حركة مستمرة، وتغير دائم، يحتل فيه نشاط الإنسان وعلاقته بأخيه الإنسان المقام الأول، وقد طرحت الماركسية مفهوماً يعبر عن هذه الرؤية وهو: “التكوين الاقتصادي – الاجتماعي” Socio – Economic Formation الذي يعني أنموذجاً تاريخياً للمجتمع يقوم على أساس أسلوب إنتاجي معين، ويظهر بوصفه مرحلة في تطور المجتمع الإنساني[19].

وتعد ” المادية التاريخية جزءاً جوهرياً لا ينفصل عن الفلسفة الماركسية كما تُعد في الوقت نفسه دراسة علمية للمجتمع مما تعارفنا على تسميتها بعلم الاجتماع. ولا يوجد تناقض في أن تتضمن المادية التاريخية عناصر من كليهما، الفلسفة والعلم الاجتماعي، ولا يوجد تناقض في أن تتضمن المادية التاريخية عناصر من كليهما، الفلسفة والعلم الاجتماعي. ” [20]. وقد ” ذهب بعض الدارسين إلى أن المادية التاريخية جزء من علم الاجتماع ووصلوا من ذلك إلى عدم جواز اعتبارها جزءاً يندرج تحت الفلسفة الماركسية. وعلى النقيض من ذلك يؤكد آخرون أن المادية التاريخية ركن من أركان الفلسفة الماركسية. ويرفضون تناولها بوصفها فرعاً من فروع علم الاجتماع باعتبارها في أحسن الأحوال أساساً منهجياً ونظرياً ذا طابع عام لعلم الاجتماع[21]. ويقرر كل من روزنسال ويادن (M. Rosenthal and P. Yudin, ) أن « المادية التاريخية هي علم اجتماع علمي يشكل الأساس النظري والمنهجي للبحوث الاجتماعية العينية والعلوم الاجتماعية كافة[22]. ومهما يكن الأمر فإن المادية التاريخية تشكل إطاراً عاماً لما يكن أن نسميه بعلم الاجتماع الماركسي أو علم المجتمع الماركسي، وذلك لأن المادية التاريخية تشكل بوضوح نظرية ماركس وإنجلز في المجتمع وفي مساراته التاريخية، ويشمل ذلك مختلف التكوينات الاجتماعية الأساسية. وفيه نجد تحليلاً عميقاً لمختلف التفاعلات الحية في المجتمع، ويقدم رؤية علمية للظواهر الاجتماعية الكبرى، ويحدد لنا الملامح الأساسية لعملية التطور التاريخي في المجتمع بناء على حركة التناقضات الاجتماعية القائمة في داخل المجتمعات الإنسانية.

والمادية التاريخية كما يرى إنجلز: “هي قانون تطور التاريخ البشري، الذي عُدّ اكتشافه اكتشافاً يضاهي اكتشاف داروين لقانون تطور الأنواع، وهي علم يركز على تطور المجتمعات البشرية ويخضع ظواهرها للبحث والتفسير والتحليل، وقد جرى التعبير عن هذا الأمر من قبل كارل ماركس نفسه الذي يرى بأن نظريته هي شكل من أشكال التصور المادي للتاريخ ” [23]. وأخيراً “يجب ألّا يغيب عن البال أن المادية التاريخية، خلافاً للعلوم الاجتماعية الأخرى، هي علم فلسفي، منهجي، أي علم لا يدرس جوانب أو عمليات معينة من الحياة الاجتماعية، بل يدرس المجتمع، والحياة الاجتماعية بوصفها عملية متكاملة، في تفاعل جميع جوانبها وعلاقات بعضها مع بعض، وهو بالتالي نظرية عامة وطريقة لمعرفة المجتمع ” [24].

5- قوانين المادية التاريخية:

يرى ماركس أن قانونية الطبيعة تشمل القوانين الاجتماعية وتضمن لها نوعيتها، فالقوانين تحكم البشر والظواهر الاجتماعية بالضرورة وإن كانت أكثر تعقيداً منها في الطبيعية، وفي هذا الأمر يتساءل “آلان وودز” في مقالة له حول المادية التاريخية بقوله: ” لماذا يجب علينا أن نقبل بأن الكون بأكمله، ابتداءً من أصغر الجسيمات وصولاً إلى المجرات البعيدة تحدده القوانين، وأن السيرورات التي تحدد تطور جميع الأنواع محكومة بالقوانين، بينما تاريخنا، ولسبب مجهول، لا تحدده أي قوانين؟” [25] ثم يتابع هذا الأمر بقوله: “إن أولئك الذين ينكرون وجود أي قوانين تحكم التطور الاجتماعي يتعاملون مع التاريخ من وجهة نظر ذاتية وأخلاقية[26]. ويسترسل وودز بقوله: ” قبل ماركس وإنجلز، كان معظم الناس ينظرون إلى التاريخ على أنه سلسلة من الأحداث غير المرتبطة أو، إذا أردنا استخدام مصطلح فلسفي، مجرد “صدف”. لم يكن هناك أي تفسير عام، ولم تكن للتاريخ أي شرعية. ومن خلال إثباتهما لحقيقة أن كل التطور الذي تعرفه البشرية يعتمد في الأساس على تطور القوى المنتجة، تمكن ماركس وإنجلز من أن يقيما دراسة التاريخ على أساس علمي لأول مرة” [27]

يرى ماركس أن المجتمع جزء من الطبيعة والإنسانية صورة نوعية من صور الوجود الطبيعي، فالإنسان كائن يولد في الطبيعة ويغتذي منها ويتفاعل معها شأنه شأن أي كائن طبيعي يعيش فيها، ولا يمكن الفصل بين الإنسان والطبيعة على وجه الإطلاق، ومع ذلك فإن القوانين التي تحكم المجتمع تختلف نوعياً عن هذه التي تحكم الطبيعة وإن كانت لا تعاكسها ولا توجد في حالة تضاد معها. ويكمن الاختلاف بين قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع أن قوانين الطبيعة تحكمها العلاقات القائمة بين قوى الطبيعة ذاتها دون تدخل قوى خارجية عنها، وعلى خلاف ذلك فإن القوانين الموضوعية في المجتمع تتشكل من خلال التأثير المتبادل بين الناس، وهذا يعني بحسب التصور الماركسي ” أن المجتمع هو شكل خاص، وبكلمة أدق، شكل اجتماعي لحركة المادة. ولهذا فالسؤال يتحول هنا إلى صيغة أخرى: أيمكننا شرح هذا الشكل من الحركة بمساعدة القوانين التي اكتشفتها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا؟ [28]. وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال يرى الماركسيون ” أن الشكل الاجتماعي، ككل شكل معقد لحركة المادة، لا يمكن أن يُشرح أو يُفسر بقوانين الأشكال البسيطة لحركة المادة. ولهذا فان المحاولات لفهم التاريخ بواسطة القوانين التي اكتشفتها الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ضعيفة في أساسها وناقصة، فمع ظهور المجتمع الإنساني تظهر قوانين جديدة خاصة. إلّا أن هذا لا يمنع وجود بعض السمات العامة بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية. ولذا لا يمكن نفي إمكانية تطبيق بعض الطرائق ـ مثلاً، نظرية الاحتمالات الرياضية – في دراسة الظواهر الاجتماعية في حالات معينة. لكن المهم في الأمر هو فهم عدم إمكانية نقل العمليات الاجتماعية التاريخية نقلاً آلياً الى عمليات الطاقة والبيولوجيا وغيرها، لأن هذا يقضي حتماً على تلك الفوارق النوعية المميزة التي تفصل الأولى عن الثانية ” [29].

وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول: “إن المجتمع الإنساني جزء متمايز من الطبيعة، ولا يمكن بأي حال فصله عن بقية الطبيعة، وهو دائماً في حالة تفاعل معها، وهذا الجزء من الطبيعة الذي يتفاعل معه المجتمع بصفة دائمة ومباشرة ويتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه في آنٍ واحد يسمى البيئة الجغرافية وتشمل الطقس، والتربة، والأنهار، والبحار، والنبات، والحيوان، وتضاريس الأرض، والمعادن. الخ والبيئة الجغرافية شرط ضروري لنشاط الإنسان الإنتاجي ودون التفاعل مع الطبيعة لا يمكن أن يكون هناك عمل ولا نشاط إنتاجي [30]. وفي هذا السياق أيضا يقول ماركس: ” إن الناس خلال العملية الإنتاجية لا يغيرون. من الطبيعة فحسب، بل يغيرون من بعضهم بعضاً” فهم يستطيعون الإنتاج فقط نظراً لتعاونهم بشكل معين واعتماد نشاط كل منهم على الآخر”. فلكي ينتج الناس لابد أن يدخلوا في علاقات محددة مع بعضهم بعضاً وعن طريق هذه العلاقات يمكن أن يؤدى نشاطهم إلى الإنتاج وتغير الطبيعة. ولكن لابد من توافر ظروف طبيعية لكي يستطيع الإنسان أن ينتج ولكي تنشأ حياة اجتماعية وهذه الظروف شرط ضروري للحياة الاجتماعية ولكنها ليست ظروفاً كافيةً لقيامها “[31].

وفي هذا المسار يمكن القول: إن المادية التاريخية تدرس القوانين العامة الشاملة للمجتمع التي تختلف جوهريا عن هذه القائمة في المجالات العلمية كما هو الحال في الفيزياء والكيمياء والفلك وغيرهما، ويؤسس على ذلك أن المادية التاريخية تدرس المجتمع بوصفه كلاً حياً متفاعلاً متكاملاً يخضع لسطوة قوانين موضعية وهي في هذا السياق – أي المادية التاريخية – تعالج قضايا المجتمع في إطار وحدتها وتكاملها وخضوعها لثمة قوانين موضوعية ينتجها الناس في إطار تفاعلهم الاجتماعي والاقتصادي.[32]

ومن أجل تشكيل هذا الوعي القانوني بالظواهر الاجتماعية يجب على الباحثين أن ينطلقوا من معطيات الماديتين الجلدية والديالكتيكية لفهم القوانين الديالكتيكية التي تحكم حركة التطور في الطبيعة والمجتمع، وإدراك منظومة المفاهيم والمقولات الأساسية في الديالكتيك الماركسي.

وهنا يجب النظر في معطيات القانون الأساسي الذي ينطلق منه هيغل في جوهر فلسفته الديالكتيكية ما يمكن أن نسميه قانون الديالكتيك الثلاثي الحاكم للعلاقة بين الأطروحة وطباقها أو بين الفكرة ونقيضها. فمن المعلوم أن لكل شيء في عالم المادة والأفكار ما يناقضه، وبالتالي فإن العلاقة بين الفكرة و نقيضها أو الشيء ونقيضه يلزم عته حركة جدلية متكررة في أربع خطوات مستمرة الحدوث، وهذا القانون جعله هيغل في الفكر وماركس في المادة قانوناً كلياً شاملاً يفسر كل حركات التطور في الطبيعية والإنسان والفكر وتتمثل الحركة الرباعية لقانون الجدل في الصيرورة الآتية: [33]

1- الأطروحة (Thèse): وتعني الفكرة أو القضية أو الشيء كما يكون في الأصل والجوهر ويرمز لها بالحرف:أ.

2- النقيض (Antithèse) تنشطر الفكرة أو الشيء إلى قسمين متناقضين ويرمز لهذه الوضعية: لا أ.

3- المركب Synthèse)): يحدث الاندماج بين الطرفين بين الفكرة ونقيضها أو الشيء ونقيضه في كيان واحد أو مركب واحد يجمع بينهما؛ أي: بين النقيضين بما هو أفضل منهما بطريقة ينطوي فيها الكل على حقيقة متطورة أكثر لا تُوجَد في أي منهما بصورة منفردة، وهذا المركب الجديد يُوفِّق بينهما ولا يتعارض مع أي منهما.

4- ينفلق هذا المُركَّب الجديد وينشطر إلى شطرين متناقضين كما هو الأمر في الحالة الأولى وتتوالى العملية نفسها على نحو جدلي دائري متصاعد. وهذا يعني كل فكرة جدية تنشطر إلى طرفين ثم يندمج طرفاها في فكرة جديدة، وعلى هذا المنوال يتطور الفكر والعالم من مرحلة دنيا إلى مرحلة عليا في مختلف أحقاب الصيرورة الزمنية والمكانية. ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك في انقسام الخلية الحية على نحو ما يجري في التشكل الجيني للإنسان، إذ يكون خلية واحدة تنشطر إلى قسمين متكاملين، وهكذا تحدث عملية الانقسام والتكامل بصورة مستمرة إلى المرحلة التي يتكون فيها جسد الطفل، فيكون الجنيني في الشهر التاسع من العمر قد نضج واكتملت أعضاؤه واتخذ صورة إنسانية. وهذا يعني أن كل مرحلة جديدة من مراحل التطور في الانقسام الخلوي للجنين تعد أفضل من سابقتها وأكثر نضجاً. وهذا هو الأمر الذي يحدث في عالم الفكر والمادة بحسب النظرية الديالكتيكية.

ويعود الخلاف بين جدليتي ماركس وإنجلز في أن “هيغل يقدم منهجه الجدلي بصورة مِثالية مُتطرِّفة إذ يرى أن الواقع مُجرَّد انعكاس للفكرة أو للروح، إذ جعل من الجدل خطوات صيرورة الروح؛ الذي ينتقل من الروح الذاتي أو الروح في ذاته، الذي يتمثَّل في الطبيعة؛ إلى نقيضه أي الروح الموضوعي أو الروح لذاته، الذي يتمثَّل في الإنسان بالقانون والأخلاق والسياسة؛ ثم يصِل إلى الروح المُطلَق الذي يتمثَّل في الدين والفن والفلسفة؛ الجدل بهذا هو الفكرة إذ تُنمِّي ذاتها، أما الطبيعة فهي انحطاط الفكرة” [34].

وعلى عكس هذه الرؤية المغرقة في المثالية يقدم ماركس وإنجلز صورة أخرى عن هذه الجدلية مجلجلة بالطابع المادي الخاص الذي يؤكد أن الفكرة مُجرَّد انعكاس واقعي في الوعي وهذا يعني أنهما قد حررا الجدل من مثاليته الهيغلية وألبساه ثوباً مادياً خالصاً، وذلك هو مفاد الفكرة التي تتواتر دائماً وهي أن ماركس أوقف الجدل الهيغيلي على قدميه. وعلى هذه الصورة يتجلى لجدل الماركسي المادي في صورة قوانين لتفسير الظواهر في الطبيعية والمجتمع والفكر البشري. ومن المفيد في هذا المقام المرور على القوانين الثلاثية للجدل الماركسي المستوحاة من الجدلية الهيغيلية، وهي:

أولا – قانون التحول الكمي إلى نوعي: وهو القانون الأول وهذا القانون هو أساس التطور وآليته. النوع هو مجموع خواص الشيء، والتغير النوعي يكون تغيراً في حال الشيء وخواصه الجوهرية وتتجلى ملامح هذا القانون العلمي في مختلف الظواهر والأشياء المادية، إذ يأخذ التغيُّر صورة حركة انتقالية من التغيُّرات الكمية إلى التغيُّرات الكيفية، ويتواتر الأمر أيضا في عملية الانتقال من حالات كيفية إلى حالات كيفية أخرى كنتيجة للتغيُّرات الكمية المُتدرِّجة التي من شأنها أن تحدث طفرة في مَجال التطوُّر، ومثال ذلك تدرج ارتفاع درجات حرارة الماء التي عندما تصل إلى الدرجة المئوية تتبخر وتتحول من سائل إلى بخار، والبخار هو حالة نوعية أخرى من الماء نختلف عن الماء السائل كلياً، ومثال أيضاً عندما تنخفض درجة حرارة الماء إلى الصفر وما دونه يتجمد الماء أي ينتقل من حالة نوعية إلى أخرى والعكس صحيح. وفي هذا السياق يقول ماركس:” إنه في مرحلة ما من مراحل التطور، يؤدي التغير البسيط في الكم الذي بلغ درجة معينة، إلى اختلافات في الكيفية[35].

ثانيا – يشكل قانون وحدة وصراع الأضداد القانون الثاني في الجدل الماركسي، ويشكل القوة المحركة للتغيير والحركة والتجدد، وتبعاً لهذا المبدأ لا يمكن فصل الشيء عن نقيضه الذي قد يكون ساكناً في تكوينه، فالشيء قد يكون واحداً ويتضمن في ذاته نقيضين مفارقين ومع ذلك فهما يشكلان وحدة مترابطة. فالظواهر والأشياء تقع في حالة التناقضات الداخلية التي تكون في أصل التغيُّر وسبباً في الحركة المُستمِرة التي تعتري الأشياء في عالمي الفكر والمادة على حدّ سواء، وقد سماه هيغل بـ “مَبدأ السلْب”. وعلى الرغم من تنافر الضدين وتناقضهما فهما متلازمان جدلياً، وهذا التناقض أو الصراع هو أساس التطور والنمو [36]. وعلى هذا الأساس يمكن القول: بأن النمو والتطور يكمن في ” صراع الأضداد “. ويأخذ صراع الأضداد اتجاهين، فإما أن يكون التناقض والتضاد داخلياً في قلب الشيء وتقع ضمن ما يمكن أن نسميه بالتناقضات الداخلية أو الصميمية، وقد يكون تناقضاً خارجياً أي أن الشيء قد يقع في تناقضات مع أطراف خارجة عنه، وقد تجتمع في اللحظة الواحدة تناقضات الداخل والخارج فيكون الشيء متناقضاً في ذاته وفي صراع تناقضي مع الأشياء التي توجد في الوسط الخارجي، وهذه صورة كيميائية للتناقضات التي يدل عليها هذا القانون، وفي كليهما فإن التناقض الذاتي والتناقضات الخارجية تؤدي إلى نسق من التناقضات والتغيرات في آن واحد في الشيء نفسه بتأثير تناقضاته الداخلية وتناقضاته الخارجية، وهذه التناقضات تؤدي إلى التغيير في بنية الشيء وفي بنية الأشياء التي يتناقض معها. ومن ثم، فهناك نوعان من التناقضات: تناقضات داخلية تقع داخل الشيء الواحد، وتناقضات خارجية بمثابة صراع الشيء مع محيطه الخارجي. لذلك فالتناقضات الداخلية أهم من الخارجية. وفي هذا يقول ماوتسي تونغ: ”يعتبر الديالكتيك المادي أن الأسباب الخارجية هي شرط التبدل، والأسباب الداخلية هي أساس التبدل. والأسباب الخارجية إنما تفعل فعلها عن طريق الأسباب الداخلية. فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لا تستطيع أن تحول الحجر إلى كتكوت، لأن أساس التبدل في الأول يختلف عنه في الثاني” [37].

ثالثا – قانون نفي النفي وهو الفانون الثالث في المادية الجدلية: ويعبر هذا القانون عن الحالة التي يتم فيها التطور على إيقاع التنافي في عملية التطور والحركة، ويأخذ التنافي صورة تطور صدامي عنيف بين جديد التطور وقديمه، فكل مرحلة جديدة تشكل نفيا لحالتها السابقة على نحو متواتر، والنفي هنا لا يعني الفناء، فكل مرحلة تنفي المرحلة السابقة وتحفظها في آن واحد؛ النفي الجدلي هو نفي واحتفاظ معاً، ويضرب الجدليون المَثل على هذا بقانون الجبر: -1x-1= 1. [38]. ونعتقد بأن قانون نفي النفي يجسد سابقيه ( وحدة وصراع الأضداد وقانون التحولات الكمية إلى كيفية ) وكلاهما يشكلان ديناميتين أي عمليتين تؤديان إلى الثالث ” نفي النفي” فعلى سبيل المثال عندما تتراكم التغيرات الكمية لتحدث تغيرات نوعية فإن هذا التراكم يؤدي إلى حالة نفي للحالة النوعية السابقة مع المحافظة على بعض خواصها الجيدة، ومن ثم تعود التغيرات الكمية إلى عادتها في التراكم حتى تحدث ”القفزة“ النوعية فتنفي النفي السابق مع الاحتفاظ ببعض من الحالة السابقة، وعلى هذا النحو يتعاقب النفي بنقي جديد يولد حالة أفضل من جميع الحالات السابقة وهكذا دواليك. ومن المعروف أن حركة التطور الجدلي الماركسي تأخذ اتجاهاً متصاعداً نحو الأعلى أو الأفضل أو الأكثر تعقيداً، وهذا يعني أن هذا القانون يولد حركة تطورية لولبية متصاعدة في عملية التطور ويكمن تشبيه هذا القانون بوضعية التحول القائمة في دورة التطور من البيضة إلى الدودة ومن ثم إلى الشرنوقة والفراشة. فالفراشة التي تنبثق من الدودة تعد نفياً للدودة واليرقة وفي كل الأحوال فإن البيضة الدودية تشهد تطورات كمية وكيفية وتتصارع فيها الأضداد قبل وصولها إلى مرحلة الفراشة التي تختلف جوهريا عن الدودة، مع أنها تحمل في ذاتها أيضا بذور فنائها. وهذا يعني أن كل حالة فكرية أو مادية تحمل في ذاتها بذور فنائها وارتقائها من مرحلة إلى أخرى وعلى هذا النحو كما ” لا يستطيع المرء أن يسبح في ماء النهر الواحد مرتين لأن مياهاً جديدة تجري من حوله أبداً” كما يقول الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس صاحب نظرية التغير الدائم.

ويعبر جميل حمداوي عن هذا القانون بقوله: “يقصد بنفي النفي نقيض الأطروحة ونفيها. بمعنى أن الشيء له أطروحة (Thèse)، ونقيض(Antithèse)، وتركيبSynthèse)). فظهور الشيء الجديد من القديم يُعدّ نفياً للقديم. ولكن هذا الجديد بدوره يصبح قديماً، فيأتي جديد آخر ليصبح نفياً للنفي. ولابد من الاحتفاظ، في أثناء عملية نفي النفي، بالجوانب الإيجابية في المنفي، وتفادي سلبياته؛ لأن عملية نفي النفي تساعد على النمو والتقدم والازدهار، وإلّا أدى ذلك إلى التكرار والوقوف عند حدود دائرة مغلقة. ومن هنا، فالتاريخ، في المنظور الجدلي، يسير في خط مستقيم بشكل تصاعدي من الأدنى إلى الأعلى، في إطار تطور جدلي ديالكتيكي، يتصارع فيه القديم والجديد، ويتم هذا التقدم التاريخي في شكل حركة لولبية، ولكن تظهر من حين لآخر بعض الحوادث التي تتخذ طابعاً تكرارياً، فنقول: إن التاريخ يعيد نفسه: لكن هذا لا يؤثر في مسار التاريخ وتقدمه وتطوره إلى الأمام” [39].

وعلى هذا الأساس الجدلي لقانون نفي النفي يذهب ماركس وإنجلز كلاهما إلى تفسير الانتقال من تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى أخرى، ومن أسلوب الإنتاج المشاعي إلى أسلوب الانفتاح العبودي إلى أسلوب الإنتاج الإقطاعي ومن ثم إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي، ويبدو أن كل مرحلة جديدة من هذه المراحل تعد نفياً لسابقتها، فالعبودية تعد نفياً للمشاعية الأولى، والإقطاعية نفياً للمرحلة العبودية، وكذلك الرسمالية نفياً للمرحلة الإقطاعية. وفي كل مرحلة من هذه المراحل يعتمل قانون الصراع والتحولات الكمية إلى كيفية وقانون وحدة وصراع الأضداد. فالتناقضات القائمة بين وسائل الإنتاج وعلاقاته تؤدي إلى تراكم كيفي يؤدي إلى تغير أسلوب الإنتاج، وأسلوب الإنتاج الجديد يحمل في ذاته وحدة وصراع الضدين، طبقات تملك وطبقات لا تملك وسائل الإنتاج، وكل أسلوب جديد أو مرحلة اجتماعية اقتصادية جديدة تشكل ولادة جديدة على مبدأ نفي النفي.

وتشتمل المادية الجدلية على نسق منظم متكامل من المفاهيم الاستدلالية المنهجية التي تأخذ صيغة المقولات: من مثل: “الكم والكيف والِمقدار، العلة والمعلول والتفاعُل، المضمون والصورة، الماهية والمَظهر، الضرورة والحرية، الإمكان والواقع، الفردي والجزئي والكلي، الهُوية والاختلاف، الطرد والجذب، اللامُتناهي الزائف واللامُتناهي الحقيقي، القوة ومَظهر تحقُّقها، الكم المُنفصِل والكم المُتصِل، المُجرَّد والعيني … إلخ. والمَجال مفتوح دائماً أمام مَقولات أخرى يُمليها علينا التطوُّر الجدلي” [40].

وفي هذا لأمر نجد قولاً طريفاً معبراً للدكتورة يمنى الخولي عن القوة المنهجية للجدل الماركسي أو الهيغلي، إذ تقول:”وعلى هذه الصورة سنجدُ الدنيا كلها تسير وفقًا لإيقاع الجدل الذي لا يُفلِت من قبضته القوية شيء لا في العالم المادي ولا في العالم الروحي، حتى أن الخلافات التي تقع بين الرفاق داخل الحزب الشيوعي نفسه لا يُفسِّرها إلا ذلك الجدل الهيغلي العظيم! ” [41]لقد آمن ماركس وإنجلز إيمانًا راسخًا بأن ثمة قوانين موضوعية صريحة تحكم تطور المجتمع والتاريخ وترسم مساراته. وأنه لمن الضرورة بمكان استكشاف هذه القانونيات الحاكمة التي تمكننا من التنبؤ بالتغيرات المحتملة، والسيطرة على مسارها وتوجيهها توجيهاً إنسانياً نحو خدمة المجتمعات الإنسانية وتحريرها من كل أشكال الظلم والاستغلال.

6-قانونية المجتمع والظواهر الاجتماعية:

تجنب ماركس أن يعلن عن نفسه أبداً أنه عالم اجتماع، ولم يدر في خلده أبداً أنه يريد أن يؤسس لعلم اجتماع ماركسي، كما هو الحال عند ابن خلدون في عمرانياته، أو عند أوغست كونت في تسمياته السوسيولوجية، أو عند دوركهايم في إسقاطاته البنيوية. حتى أنه لم يؤلف أي كتب تحت تسميتي المادية التاريخية أو المادية الجدلية، ولم يوظف أيا من هذين المفهومين أبداً. وكلاهما أي مفهوما المادية التاريخية والمادية الجدلية من صناعة ماركسية لاحقة لهما. ولكن أغلب المفكرين الماركسيين اجتهدوا في عملية صوغ النظرية المادية التاريخية والمادية الجدلية وعملوا على تنسيق أفكار ماركس وإنجلز ضمن في سياق علم تاريخي اجتماعي يتناول المجتمع وقضاياه وقدموا لنا منظومة من التصورات الجدلية التي تحدد لنا مختلف أوجه الحركة والتغير والتفاعل في قلب المجتمعات الإنسانية. وفي المادية التاريخية يقدم المفكرون وصفاً دقيقاً محكماً لطبيعة المجتمع نشأةً وحركةً وتفاعلاً وازدهاراً. فالمجتمع يقدم بداية في حالته الساكنة ضمن الظروف التي أدت إلى نشأته، والعوامل البنائية التي يرتسم فيها والظواهر التي تتدفق في أوصاله.

والبداية في تشكل المجتمع لم تكن لتختلف عن تلك التي عرفناها عند ابن خلدون الذي تحدث مطولا عن طبيعة العمران ونشأته لأن قدرة الواحد من البشر تنأى على تلبية احتياجاته إذ هو يحتاج للكثرة حتى من أجل الحصول على وجبة واحدة من قوت يومه. فالاجتماع الإنساني ضروري بالطبع وقديماً قال الحكماء: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه. وعلى هذا النحو تبدأ الفكرة الماركسية بأن الإنتاج من أجل الحياة وتحصيل المعاش هو الذي يشكل اللبنة الأولى في تشكل المجتمع، وبالتالي فإن الدخول في عملية الإنتاج يقتضي تفاعلاً مع الطبيعة من جهة ومع المجتمع من جهة ثانية، وهذا يفرض على الفرد الدخول في علاقات اجتماعية اقتصادية مع الآخر، وهذا الأمر يقتضي وجود تشكيل اجتماعي يفرض على الأفراد نوعاً من العلاقات التي تتحدد بطبيعية الملكية والتملك لوسائل الإنتاج وقواه.

وهذا يعني أن الرهان الأساسي لقيام أي صيغة أو شكل من أشكال الحياة الاجتماعية يكون في عملية إنتاج الحياة والمعاش، وهذا الإنتاج يؤدي إلى تشكل الجماعة والمجتمع بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأن عملية الإنتاج ذاتها هي المعنية بتحديد هوية الفرد والجماعة. لأنه في عملية الإنتاج تتشكل شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع فيما بينهم أولاً وفيما بينهم وبين الطبيعة ثانياً. وعملية الإنتاج نفسها تؤدي إلى تطوير أدوات الإنتاج والإنتاج نفسه وذلك وفقاً للمبدأ الماركسي الذي يقول: عندما نغير في الطبيعية نغير أنفسنا في الوقت الواحد وهذا التغيير يؤدي إلى تطوير الإنسان والمجتمع في آن واحد.

وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول: إن قيام أي نوع من أنواع الحياة الاجتماعية لا يمكن أن يكون إلا عندما يتشارك الناس معاً في إنتاج احتياجاتهم المادية وضرورات وجودهم. وهذا هو الركن الأساسي الذي يؤسس لاحقاً لما يسمى بقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، الشرطان الأساسيان لتشكيل المجتمع أو ما يسميه ماركس بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية (Socio-Economic Formation). وذلك لأنه يترتب على الأفراد عندما ينتجون ضرورات وجودهم أن يصنعوا الأدوات والوسائل، وأن يكتسبوا المهارة والمعرفة لاستخدامها، وتلك قوى إنتاجهم، وهم في استخدامهم لقوي الإنتاج، لابد أن يدخلوا في علاقات إنتاج اجتماعية للإنتاج.

وفي هذا يقول كارل ماركس: “عندما ينتج الناس يدخلون في علاقات إنتاج معينة ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تتوافق مع مرحلة محدَّدة من مراحل تطوُّر قوى الإنتاج المادية الخاصة بهم. ويُكوِّن المجموعُ الإجمالي لعلاقات الإنتاج هذه الهيكلَ الاقتصادي للمجتمع؛ أي الأساس الحقيقي، الذي يقوم عليه هيكلٌ علويٌّ قانوني واجتماعي، والذي تتوافق معه أشكالٌ محدَّدة من الوعي الاجتماعي ” [42].

وقد جاءت ترجمة هذا النص عن في كتابه المعرفة “إسهام في نقد الاقتصاد السياسي ” على النحو الآتي: “يدخل الناس أثناء قيامهم بعملية الإنتاج الاجتماعي في علاقات محددة مستقلة عن إرادتهم. وتتوافق هذه العلاقات مع مرحلة محددة من مراحل تطور القوى المنتجة، ويشكل التفاعل بين قوى الإنتاج وعلاقاته الكيان الاقتصادي للمجتمع (البنية التحتية) أي البنيان الذي يشكل الأساس الذي تقوم عليه البنية الفوقية السياسية والقانونية التي تتوافق مع طبيعة أسلوب الإنتاج القائم في المجتمع، إذ ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما على العكس من ذلك فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ” [43] .

فالإنتاج الاجتماعي هو المنطقة الحيوية في التكوين الاجتماعي للحياة وفي هذه المنطقة تتقاطع مختلف أشكال التفاعل الإنساني مادياً وفكرياً وأخلاقياً، وقد شكلت هذه المنطقة الحيوية (الإنتاج الاجتماعي) منطلق التفكير الماركسي وذلك في بحثه عن طبيعة العلاقة الأولية التي طبيعة الحياة الإنسانية في المجتمعات البشرية، ونقصد العلاقة التي تتلاقى فيها وتتقاطع وتتفاعل مختلف الظواهر الاجتماعية في المجتمعات الإنسانية. فالمجتمع في نهاية الأمر هو نتاج اجتماع عدد كبير من الأفراد في جماعات منتجة، والإنتاج الاجتماعي يمثل نقطة التقاطع والتفاعل بين الأفراد والجماعات، ومن هذا المنطلق وحول هذه النقطة يتحرك الفكر الماركسي ويجول بحثاً عن فهم أعمق لطبيعة هذا الإنتاج وتأثيره بوصفه العلاقة الأولية الجوهرية بين الإنسان والطبيعية أو بين الطبيعة والمجتمع الإنساني .

إن بناء كل تشكيلة اقتصادية اجتماعية ( أي تشكيل المجتمع ) يتحدد بأسلوب عملية الإنتاج وشروطها، لأن الشرط الأول، كما أشرنا، يكون في إنتاج ما يحتاجه الناس من مأكل وملبس ومشرب ومسكن، ولأن الإنسان لا يجد هذه الخيرات المادية الضرورية جميعها جاهزة في الطبيعة، ما يضطره إلى إنتاجها ومن أجل إنتاجها يحتاج إلى أدوات الإنتاج ووسائله من مثل: المحراث المطاحن المداجن المصانع المعامل الآلات، وعندما تبدأ عملية الإنتاج تقوم علاقات الإنتاج، ويتوزع الناس في مجال تقسيم العمل، بعضهم في الزراعة، وبعضهم الصناعة بعضهم في الحرف وبعضهم يملك الأرض، والآخر يملك المصنع، وبعضهم يملك قوة عمله فحسب، وهذا كله يسمى علاقات الإنتاج. وغالباً ما تركز الماركسية على حضور طبقين أساسيتين إحداهما تملك وسائل الإنتاج (المصانع والآلات الأرض والعبيد ) والأخرى لا تملك إلا قوة العمل أي أن المجتمع ينقسم في عملية الإنتاج إلى طبقتين أساسيتين إحداهما تملك والأخرى تعمل، مثل: الفلاحين والإقطاعيين أو العمال والبرجوازيين أو العبيد والأسياد. ولذا، فان الإنتاج هو، دائماً وفي كل الظروف، أساس وجود الناس والضرورة الطبيعية الخالدة.. إلّا أن أهمية الإنتاج في حياة المجتمع لا تنحصر في تأمينه وسائل المعيشة للناس، هنا تبرز ” مأثرة ماركس وأنجلس الرائعة، بهذا الصدد، هو أنهما برهنا على أن الناس، إذ يقومون بإنتاج الخيرات المادية، فإنهم بذلك ينتجون كل قطاع حياتهم ويجددونه، أي أن الإنسان ذاته يتكون بوصفه كائناً اجتماعياً في الإنتاج. وأن أسلوب الإنتاج هو شكل معين لنشاط الأفراد المعيشي ونمط حياتهم المعين[44]. وباختصار شديد يمكن القول: بأن “المادية التاريخية علم يدرس المجتمع على نحو كلي، ويعالج قضاياه ن زاوية وحدة الظواهر الاجتماعية، كما تعالجه من ناحية تطوره المشروط بفعل القوانين الموضوعية التي تتحقق من خلال نشاط الناس” [45].

7-بنية المجتمع:

ينطلق ماركس وإنجلز في تصورهما من أهمية الاجتماع الإنساني، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون خارج السياق الاجتماعي الذي يوجد فيه، ولا يمكن تصور وجودٍ للإنسان إلا في المجتمع الذي يعيش فيه ولا تتحقق ماهيته إلا في دائرة تفاعلاته الإنسانية ضمن جدلية العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقاته وتشكيلاته. والمجتمع بالنسبة لماركس وإنجلز ليس مفهوماً مطلقاً في الفراغ، أو حقيقة مجردة متعالية في الفضاء، بل وجود واقعي حسي عياني يرتهن في تشكيل اجتماعي اقتصادي محدد. لقد بين ماركس في كثير من مناحي أعماله وتصوراته أن الوجود الاجتماعي يسبق الوعي الاجتماعي وكلاهما يشكلان في الوقت نفسه مجتمعاً محدداً بأسلوب إنتاج ينضوي في ذاته على البناء التحتي والبناء الفوق في علاقة دائمة جدلية بين أشكال الوعي والممارسة الاقتصادية في المجتمع. وقد بين مراراً وتكراراً أن أسلوب الإنتاج هو الذي يحدد الطابع العام للعمليات الاجتماعية.

يتضمن المجتمع مجموعة هائلة من الأفراد والتكوينات ومختلف الظواهر الاجتماعية: التكنيك والاقتصاد واللغة والثقافة والأسرة والحياة اليومية والمؤسسات السياسية وعمليات الإنتاج وأدواته ـ وتمتلك هذه الظواهر على استقلالها النسبي وتمايزها، ولها قوانينها وأنظمتها وديناميات تطورها. ومن الصعب جداً لأي باحث أن يقدم صورة متكاملة لهذه الظواهر والمكونات دفعة واحدة. ومن أجل هذه الغاية يقدم ماركس وإنجلز في نظريتهما حول المادية التاريخية صورة دينامية شمولية للمجتمع ترسمه في إطار هيكليته الهامة وتقدم تصوراً آخر للحركة الدينامية التطورية في هذا المجتمع ضمن تصورهما للمجتمع المادي التاريخي.

لقد بيّنا آنفاً أن عملية الإنتاج تؤدي إلى تشكيل مجتمع متغير وفقاً لقوانين المادية الجدلية التاريخية. ولا بد لنا من تقديم صورة أنموذجية ساكنة للمجتمع نستجمع فيها العناصر الأساسية التي يتكون منها في حالته السكونية. فالمجتمع أي مجتمع يتكون من عملية الإنتاج وهذه العملية، كما ذكرنا، تشكل نواة المجتمع في اللحظات الأولى لتشكله، وعندما تبدأ عملية الإنتاج يدخل الأفراد المنتجون في علاقة مع بعضهم بعضاً وفي علاقتهم بالطبيعية وتسمى هذه العلاقة علاقات الإنتاج التي تحدد طبيعة الملكية وطبيعة العلاقات بين الأفراد المنتجين. وعلى هذا النحو تشكل علاقات الإنتاج وقواه ما يسمى بالبنية التحتية للمجتمع التي تشكل الضوابط الأساسية للبناء الفوقي، الذي يتكون من المؤسسات والأفكار والقوانين والثقافات التي تشكل انعكاسا نسبيا للبناء التحتي. والبناء التحتي هو الذي يحدد معالم البناء الفوقي الذي يتمثل في المؤسسات والوعي. وهذه هي المكونات الأساسية للمجتمع. ويمكن أن نرصد هذه المكونات على النحو الآتي :

1- قوى الإنتاج (Production Forces ): وتشمل الطبيعة والموارد والخيرات والإنسان العامل المنتج.

كتب ماركس يقول في موضع القوى الإنتاجية في المجتمع: “إن الناس ليسوا أحراراً في اختيار قواهم الإنتاجية – التي هي أساس تاريخهم كله- لأن كل قوة إنتاجية هي قوة مكتسبة نتيجة نشاطٍ سابق، القوى الإنتاجية هي بالتالي نتيجة طاقة إنسانية مطبقة تطبيقاً عملياً، لكن هذه الطاقة نفسها متضمنة في الشروط التي وجد الناس أنفسهم فيها، في القوى الإنتاجية المكتسبة بالفعل في الجيل السابق والتي يستخدمونها كمادة خام لإنتاج جديد، هكذا يحدث التماسك في التاريخ الإنساني ويتشكل تاريخ الإنسانية… وينتج عن هذا بالضرورة أن التاريخ الاجتماعي للناس هو تاريخ تطورهم الفردي، سواء أكانوا واعين بهذا أم لم يكونوا، فعلاقتهم المادية أساس كل علاقاتهم، والعلاقات المادية هي فقط الأشكال الضرورية التي يتحقق فيها نشاطهم المادي والفردي…”. [46].

2- علاقات الإنتاج (Production Relations): وتشكل الإطار العام لعملية الإنتاج وعلاقاته أي علاقات الملكية والسيطرة. وتشمل الصورة العامة للعلاقات التي ينتظم فيها الناس في عملية الإنتاج وتوزيع الثروة والملكية. “وتعتمد علاقات الإنتاج على عنصرين أساسيين: ملكية وسائل الإنتاج، وتقسيم العمل وتنظيمه، “فالذين يملكون وسائل الإنتاج، يتحكمون في توزيع أرباحه، على الرغم من أنهم لا يسهمون بشكل مباشر في الإنتاج، أما الذين لا يملكونها، فيظلون خاضعين لمن يملكون، ولا يحصلون إلّا على قدر ضئيل من الأرباح، وينتج عن ذلك وجود تناقضات بين طبقة الملاك (وسماهم الطبقة البورجوازية) والطبقة العاملة (وأطلق عليهم ماركس طبقة البروليتاريا)” [47].

3- البناء التحتي (Infrastructure): يتشكل من علاقات الإنتاج + قوى الإنتاج.

البناء الفوق (Infrastructure) ويشكل مختلف المؤسسات والأنظمة والقوانين والأفكار التي تتحدد وفق معطيات البناء التحتي في المجتمع. وهو مجمل العناصر الأخرى –غير الاقتصادية- في المجتمع، ويتضمن البناء السياسي والتشريعي، والفلسفي والأخلاقي والجمالي والديني “وهناك علاقة جدلية بين البناء الفوقي والبناء التحتي فكل منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، ويتحدد موقع المجتمع في الواقع والتاريخ وفقاً لهذه العلاقة” [48].

4- أسلوب الإنتاج أو التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية تشمل الصورة العامة للتفاعل بين مختلف العناصر السابقة. وهذا يعني أن المجتمع قد يكون إقطاعياً أو رأسمالياً على سبيل المثال وليس الحصر. ولا يمكن فهم هذه الصورة الستاتيكية للمجتمع إلّا في دائرة حركته ودينامياته التاريخية .

8- الصورة الدينامية للمجتمع:

من أجل أن نفهم طبيعة المجتمع – أي مجتمع كان – يجب علينا أن نرسم المخطط الأساسي للحركة بين أجزائه ومكوناته ثم أن نحدد توجه الصيرورة في مختلف تكويناته الجزئية والشاملة على حدّ سواء. فالصورة الستاتيكية الساكنة لا تستقيم مع المادية الجدلية؛ لأن المادة ومنها المجتمع لا يوجد إلّا في حالة الحركة والصيرورة.

لو بدأنا بالعملية الإنتاجية التي تنمو بنمو قواها؛ الإنسان المنتج، وأدواته، والمتاح من الخيرات الطبيعية التي تشكل قوى الإنتاج. فالإنسان عندما ينتج يتغير ويتطور ويتشكل من خلال تفاعله مع القوى الطبيعية والقوى الاجتماعية، وهذا يعني أن قوى الإنتاج تتغير وتنمو، وهذا التغير والنمو يجد صداه مباشرة في علاقات الإنتاج، وهذا يعني أن تطور قوى الإنتاج تدريجياً ثم كيفياً يؤدي إلى تغيير علاقات الإنتاج؛

أي علاقات الناس فيما بينهم في أثناء الإنتاج ولاسيما العلاقة بين من يملك ولا يملك.

والشواهد التي يقدمها ماركس وإنجلز في هذا السياق متعددة ومتنوعة. لنأخذ على سبيل المثال تطور المجتمع الإنساني من مجتمع عبودي إلى مجتمع إقطاعي. فالمجتمع العبودي ينقسم إلى طبقتين أساسيتين طبقة العبيد وطبقة الأسياد، تاريخياً تطور قوى الإنتاج أساليب الزراعة وأدوات إنتاج الزراعة، وتطورت خبرات العبيد في العمل وتطور وعيهم، وقد أدى هذا إلى تناقض بين هذه القوة النامية المتجددة للعبيد والأرض والأدوات، ولم تعد علاقات الإنتاج القائمة بين العبيد والسادة مواتية لتطور الإنتاج والمجتمع. أي أصبحت علاقات العبودية القائمة على تملك العبيد معيقة لعملية التطور. فالسيد الذي يملك الأرض وجد أن عليه أن يطعم العبيد ويسكنهم ويوجههم وهذا الأمر يؤدي إلى تباطؤ كبير في عملية الإنتاج، ولاسيما مع اتساع الأراضي الزراعية وصعوبة السيطرة على العبيد وتأمين احتياجاتهم وإدارتهم، وعدم رغبة العبد في العمل تحت تأثير الضغط والإكراه وقد عرف التاريخ ثورات عديدة للعبيد بعد نمو وعيهم بوضعية العبودية، ولذلك بدأ الأسياد ينتقلون بوضعية الإنتاج وإعطاء العبيد حرية أكبر من خلال إطلاق حرياتهم والتعاقد معهم على العمل في أرض الأسياد وفق مبدأ المحاصصة، فاصبح العبد فلاحاً يمتلك حرية أكبر، وفي المقابل ينتج أكثر لصالح الإقطاعيين وعلى هذا الأساس انتقل المجتمع من أسلوب الإنتاج العبودي إلى أسلوب الإنتاج الإقطاعي، ومن ثم حدث في التاريخ الانتقال من أسلوب الإنتاج الإقطاعي إلى أسلوب الإنتاج الرأسمالي. وهذا يعني أن تطور قوى الإنتاج يؤدي إلى تغيير أسلوب الإنتاج. وهذا التغير يشمل التغيير في البنية الفوقية للمجتمع. فالمؤسسات والقوانين والأعراف والسلطة في المجتمعات الإقطاعية تختلف عنها في المجتمعات الرأسمالية. يشرح ماركس العلاقة الجدلية بين قوى الإنتاج وعلاقاته ويرى أنه عندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة درجة معينة عالية من تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة في هذا المجتمع التي تتمثل في علاقات الملكية، وعندما تشكل علاقات الإنتاج القائمة عائقا أمام هذا التطور في قوى الإنتاج تحدث النقلة التاريخية وينتقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى في صيغة أسلوب جديد يتحرك وفق صيغة جديدة من علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج.

ويترتب علينا في هذا السياق القول: “إن أي تشكيل اجتماعي لا يموت قبل أن يكتمل تطور جميع القوى الإنتاجية –في التشكيل الجديد- التي تفسح لها ما يكفي من المجال، ولا تظهر أبداً علاقات إنتاج جديدة أرقى، قبل أن تنضج شروط وجودها المادية في قلب المجتمع القديم بالذات، ولهذا لا تضع الإنسانية أمامها إلا المسائل التي تستطيع حلها “[49]. وعلى هذا الأساس فإن أي تشكيلة اجتماعية اقتصادية أو أي أسلوب إنتاج جديد لا يتشكل إلا عندما تنضج الشروط الموضوعية لوجوده والعوامل الأساسية لحركته، وهذا يعني أن قوى الإنتاج (وعي القوى المنتجة والموارد والأدوات والوسائل الإنتاجية) يجب أن تبلغ أعلى مستويات نضجها وقوتها حتى تتمكن من تكسير الإطار العام لعلاقات الإنتاج، ومن ثم الانتقال إلى بناء أسلوب إنتاج جديد.

ومن هذا المنطلق وتأسيسا على هذا النمو النوعي في قوى الإنتاج الذي يؤدي إلى تفسخ علاقات الإنتاج، يتحرك التاريخ في إنتاج تشكيلات اقتصادية اجتماعية جديدة متواترة صعوداً في تاريخ الإنسانية من تبدأ مع نمط الإنتاج البدائي ويرتقي إلى نمط الإنتاج الأسيوي صعوداً في اتجاه أسلوب الإنتاج العبودي، ومنه إلى أسلوب الإنتاج الإقطاعي فالرأسمالي فالاشتراكي، وصولاً إلى المجتمع الشيوعي المتخيل في عقل ماركس. وفي هذا السياق يرى ماركس أن النظام الرأسمالي القائم ينطوي في ذاته على بذور فنائه لأنه يشهد نمطاً من التناقضات التناحرية ونمواً كبيراً في القوى الإنتاجية التي تعتمل في قلب المجتمع البرجوازي، وتتجه إلى تحطيم العلاقات الرسمالية القائمة في اتجاه توليد تشكيلة اجتماعية جدية يفترضها ماركس على أنها المرحلة الاشتراكية التي شاهدنا نصيباً لم يكتمل منها في بعض البلدان التي اتخذت الاتجاه الاشتراكي في نموها وقد أخفق أكثرها كما تدل التجارب العالمية في هذا الميدان.

ومن الأمور الهامة جداً في منظور ماركس للتغير الاجتماعي أنه يبرهن دائماً على أن عوامل التغير والحركة الدينامية في المجتمع تكمن في المجتمع ذاته، “وهي ليست راجعة إلى عوامل خارجية كن مثل:العقل أو الفكرة المطلقة أو البيئة الجغرافية أو تزايد السكان أو التطور المزعوم للعقل أو الفكر، فالأفكار عند ماركس مرتبطة بأوضاع الحياة المادية” [50]. وبصياغة أخرى يرى ماركس “بأن قوى التغيير كامنة في المجتمع ذاته، وليست خارجة عنه، ويعود السبب في ذلك إلى ارتباطها بالأوضاع المادية داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية” [51].

وعلى هذا الأساس من قانونية التطور الداخلية القائمة بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج يحدد لنا ماركس خمس مراحل تاريخية في تطور المجتمعات الإنسانية تقابلها خمسة أساليب إنتاجية هي المشاعية والعبودية والإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية.

لقد أبدع ماركس أيما إبداع في اكتشاف هذه الكيفية القانونية التاريخية التي تفسر لنا تطور المجتمعات الإنسانية على طريقة التوالد والانبثاق، ويصف كل من كيللي وكوفازون هذه الطاقة الإبداعية بقولهما: “تتجلى مأثرة ماركس الخلاقة في أنه عمق المادية الفلسفية وطورها، فانتهى بها الى نهايتها المنطقية، ووسع دائرة شمولها من الطبيعة الى المجتمع، فجاءت نظرية علمية روعة في التناسق والانسجام تبين لنا كيف ينبثق ويتطور من شكل معين للتنظيم الاجتماعي شكل آخر أعلى في تطوره، وكيف أن المؤسسات السياسية تقوم بوصفها بنياناً فوقياً على أساس اقتصادي، وكيف أن مختلف الأشكال السياسية للدول إنما هي أدوات لتعزيز سيطرة الطبقات السائدة فيها، وأن النضال الطبقي هو أساس كل التطور، بل وقوته المحركة، فأعطى بهذا الإنسانية كلها، والطبقة العاملة بخاصة، سلاحاً جباراً للمعرفة – معرفة الواقع وطرائق تحويل هذا الواقع تحويلا ثورياً الى آخر أعلى يضمن للإنسان إنسانيته وسيره في خط التطور الصاعد وازدهاره”[52].

9-الصراع الطبقي محركا للتاريخ:

يأخذ مفهوما الطبقة الاجتماعية (Social Class ) والصراع الطبقي (Class Struggle) أهمية استراتيجية في الفكر الماركسي على وجه العموم. ويؤكد ماركس في مختلف مقولاته الفكرية محورية هذين المفهومين ودورهما الخطير في تفسير التطور التاريخي للمجتمع، وقد عمل على صقل المفهومين بدقة متناهية ووظفهما توظيفاً استراتيجياً معقلناً في تفسير حركة التاريخ الإنساني. ولم يكن ماركس أول من حدد مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي ووظفهما سوسيولوجياً، وهو لا يزعم ذلك أبداً، ولا يدعي أنه هو الذي اكتشفهما، بل يقرّ بدور من سبقوه في هذا الميدان من أمثال: سان سيمون وشارل فورييه، ولكنه وعلى خلاف من سبقوه استطاع أن يصقل هذا المفهوم بأبعاده التاريخية والاقتصادية وأن يحدد دوره ودينامياته في قلب الصراع الاجتماعي.

ويؤكد كارل ماركس وإنجلز أصالة الصراع الطبقي في مختلف مستويات التاريخ الإنساني، وأن هذا الصراع يشكل العامل الحاسم في حركة التاريخ الإنساني، وذلك لأن المجتمعات القائمة على الاستغلال تفرض بالضرورة وجود طبقتين رئيستين تقوم إحداهما باستغلال الأخرى والسيطرة عليها، وتأسيسا على هذه الرؤية للتاريخ يعلنان في البيان الشيوعي ( Manifest des Kommunistichen Partei:1848): ” إنّ تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية “[53]. ; كما يعلنان في الوقت نفسه “أن كل التاريخ السابق للإنسانية لم يكن إلّا تاريخاً للصراع الطبقي” [54]. وهذا ما يؤكده في البيان الشيوعي 1848 إذ يرى أن الصراع بين الطبقات وجد في جميع مراحل التطور الاجتماعي؛ لأن نظام الإنتاج يوجد دائماً طبقة مستغَلة وطبقة مستغِلة، طبقة مأمورة وطبقة آمرة. فيقول: “إنّ تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية” (البيان الشيوعي 1848) (The Communist Manifesto).

ويرى ماركس بأن الصراع الطبقي قد ظهر مع ظهور الملكية الخاصة وظهور العبودية القائمة على استغلال الإنسان للإنسان. فالملكية الخاصة شطرت المجتمع إلى طبقتين متناقضتين، إحداهما تملك وسائل الإنتاج والثانية لا تملك سوى قوة عملها، وهاتان الطبقتان توجدان في حالة صراع دائمة تؤدي إلى توليد أنماط إنتاج جديدة تحت تأثير الصراع الطبقي الذي يشكل المحرك الدينامي للتاريخ.

ويشكل الصراع الطبقي مفهوماً مركزياً في علم الاجتماع الماركسي، وهو المحرك الأساسي لديناميات التاريخ الاجتماعي. فالانتقال من مرحلة اجتماعية لأخرى، أو من تشكيلة اجتماعية لأخرى، أو من أسلوب إنتاج محدد إلى أسلوب إنتاج آخر يرتهن بمبدأ الصراع الطبقي بين الطبقات التي تملك وسائل الإنتاج وبين هذه لا تملك إلا قوة العمل. ويشكل الصراع الطبقي القانون الأساسي الذي يحكم حركة التاريخ في عملية تطور المجتمعات الإنسانية من المرحلة المشاعية إلى المرحلة الرأسمالية، فالصراع الطبقي بين السادة والعبيد أدى إلى الانتقال الجدلي إلى المرحلة الإقطاعية وعلى هذا النحو الجدلي أدى تفاقم الصراع الطبقي بين الإقطاعيين الفلاحين إلى ولادة المجتمع البرجوازي الرأسمالي الذي ينقسم إلى طبقة البرجوازية مقابل العمال أو ما يسمى بالبروليتاريا. وهو الصراع الدائم بين الحكام والمحكومين بين القاهرين والمقهورين، بين الذين يملكون وسائل الإنتاج وبين العُمال الذين لا يملكون ويقومون بعملية الإنتاج.[55]. ويبدو أن كل مرحلة وفقاً لقانونية نفي النفي تقوم على أنقاض المرحلة التي سبقتها، فالمجتمع البرجوازي الحديث تشكل على أنقاض المجتمع الإقطاعي القديم، ومع ذلك تبقى التناقضات الطبقية قائمة وتظهر أشكال جديدة من الصراع بدلًا من الأشكال القديمة.

وفي سياق هذا الصراع الطبقي الدائم يرى ماركس أن نفوذ الطبقة التي تحكم لا يتوقف عند حدود الهيمنة الاقتصادية على وسائل الإنتاج وقواه، بل تقوم بالسيطرة والهيمنة على وسائل الإنتاج الثقافية والفكرية وعلى المؤسسات المعنية بإنتاج الثقافة، والفن، والجمال، والحقوق في الوقت نفسه، وهي في موقع الهيمنة هذه تنتج الأفكار والأيديولوجيات والأنظمة الحقوقية التي تعتمدها في الدفاع عن مصالحها ووجودها وتعمل من خلالها على تشكيل الوعي الإنساني بما يناسب مصالحها وهيمنتها، وهو شكل من أشكال الوعي الاغترابي الذي يستلب الطبقات المهيضة ويستلب إرادتها ووعيها، وتشكل هذه المنظومة من الإنتاج الثقافي قوة أيديولوجية هائلة تحافظ عملياً على سلطة الطبقة السائدة وتحميها.

وفي خضم هذا الصراع المرير حول شروط الوجود يرى ماركس أن هذا الصراع يشكل في جوهرة قوة لتحرير المجتمع من تناقضاته التناحرية، والانتقال به من صيغة أكثر استغلال إلى صيغة أخفّ في مشهد الاستغلال، وهذا الصراع بالطبع لا يتم خارج الشروط الموضوعية لحركة المجتمع وتطوره. ويؤكد في هذا السياق أن طبقة البروليتاريا ستشكل القوة الثورية التي تبعث الأمل في تشكيل مجتمع اشتراكي جديد تنخفض فيه التوترات إلى حدودها الدنيا لتكون باعثاً على الحركة والتطور وليست باعثاً على العبودية والاستغلال. وهذا الأمر يتطلب من البروليتاريا أن توحد صفوفها في سبيل القضاء على الاستغلال القائم في المجتمع.

وقد أفضى هذا الصراع الطبقي والتناقضات الحادة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج إلى تتابع المراحل التاريخية في صورة أنماط إنتاج متعاقبة على النحو الآتي:

1- مرحلة المشاعية البدائية (Primitive Communal): وتمثل التشكيلة الاجتماعية الأولى أي المراحل البدائية في تطور الإنسان وكان الإنتاج في هذه المرحلة قاصر على تأمين الحاجات الملحة من خلال ما تقدمه الطبيعة؛ أي كانت قوى الإنتاج في حالة بسيطة جداً ولم يكن ثمة تباين اجتماعي طبقي لعدم وجود الملكية الخاصة أو وسائل إنتاج خاصة، والأفراد كانوا يحصلون على طعامهم بصورة مشتركة من خيرات الطبيعة التقاط الثمار والصيد الجماعي، ولم تتجاوز مطالب الناس في هذه المرحلة أكثر من تأمين الغذاء والحصول على الأمن والسكن.

2- المرحلة العبودية (Slave Society): وتمثل المرحلة التي بدأت بظهور الملكية الخاصة للأرض أو لوسائل الإنتاج، إذ بدأ الإنسان نفسه يتحول إلى أداة إنتاج؛ أي إلى عبدٍ ليس له أي حقوق. وانتشرت العبودية تحت تأثير الحروب وسيطرة الأقوياء الذين حولوا أسرى الحرب إلى عبيدٍ، ومن ثم إلى قوة إنتاجية في المزارع والخدمات وعلى هذا الأساس بدأ التقسيم الطبقي إلى عبيد وأسياد.

3- المرحلة الإقطاعية (Feudalism): أدى الصراع الطبقي بين العبيد والأسياد إلى تغير في نمط الإنتاج وانتهى بتشكيلة اجتماعية اقتصادية، هي تشكيلة المجتمع الإقطاعي الذي يتضمن طبقيتين أساسيتين هما: الإقطاعيون ملاك الأرض والفلاحون العاملون في الأرض و يمكن القول: إن العبد هنا قد أصبح فلاحاً يمتلك مزاياً أفضل من العبيد.

4– المرحلة الرأسمالية (Capitalism): مع تطور وسائل الإنتاج وقواه وحدوث الثورة الصناعية وتفاقم الصراع بين الفلاحين والإقطاع، وزيادة إسهام القطاع التجاري في عملية الإنتاج، بدأت مرحلة جديدة هي المرحلة الرأسمالية التي تتضمن طبقتين أساسيتين هما طبقة العمال والطبقة البرجوازية التي تلك وسائل الإنتاج ويكون شعارها من كل بحسب طاقته ولكل بحسب عمله.

5-  المرحلة الاشتراكية (Socialism): يتصور ماركس أن هذه المرحلة ستكون نتاجاً لتفاقم حدة الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة والبرجوازية. وهي المرحلة التي يختفي فيها الصراع الطبقي ويكون شعار هل من كل بحسب عملهه ولكلن بحسب حاجته، وقد حدثت هذه المرحلة في بعض البلدان من مثل: البلدان الاشتراكية التي شهدناها في البلدان الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وفي الصين وفي بعض البلدان الأخرى. إلّا أن هذه الاشتراكية المحتملة انكفأت على نفسها وعادت أغلب البلدان الاشتراكية إلى وضعية الإنتاج الرأسمالي، كما هو الحال في الاتحاد الروسي بعد أن خلع عن نفسه رداء الأيديولوجيا الماركسية.

6- المرحلة الشيوعية (Communism): يتصور ماركس على منهجية المفكرين الاشتراكيين الطوباويين (الخياليين) أن المجتمع الإنساني سيشهد في المستقبل مرحلة سادسة أطلق عليها المرحلة الشيوعية، تختفي فيها الملكية الخاصة ويختفي التناقض الطبقي، فتسود العدالة تماماً ويكون شعارها من كل بحسب طاقته ولكل يحسب حاجته. وهذه نوع من الأحلام الأيتوبية التي لطالما شهدنا كثيراً من فصولها لدى المفكرين الاشتراكيين الحالمين أمثال سان سيمون وشارل فورييه وغيرهم.

 ومن الواضح أن تطور المجتمعات الإنسانية في سياق تعاقب هذه المراحل يفسر بالقوانين المادية التاريخية المتمثلة في قوانين التحولات الكمية إلى كيفية ونفي النفي ووحدة وصراع الأضداد. وعلى هذا المنوال تتطور قوى الإنتاج فتؤدي إلى تغيير علاقات الإنتاج وهذا يؤدي إلى تغير في البناء الفوقي، وهذا بدوره يؤدي إلى توليد تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة تتمثل في المراحل التاريخية لتطور المجتمعات الإنسانية من مشاعية إلى شيوعية.

10- ديالكتيك الوعي والوجود:

تشكل نظرية المعرفة التي تعكس طبيعة العلاقة بين الوعي والوجود، بين الفكر والمادة جوهر النظرية الماركسية فلسفياً ومادياً. وقد شاهدنا عملية الانقلاب الثورية التي أحدثها ماركس ضد جدل هيغل. فالفلاسفة المثاليون وعلى رأسهم هيغل في عصره يرون بأن التاريخ لا يعدو أن يكون تاريخ الفكر والوعي والروح، وأن العالم المادي لا يعدو أن يكون انعكاساً للوعي أو تجلياً له في أفضل حالاته. وهذا يعني أن حركة التاريخ والطبيعة والوجود تبدأ مع الوعي وتنتهي به. وهي الفكرة المثالية التي نجدها عند مختلف الفلاسفة المثاليين منذ أفلاطون حتى كانط. وعلى خلاف الرؤية المثالية يرى الماركسيون أن الوعي ما هو إلا انعكاس للواقع الاجتماعي المادي وأن هذا الوعي يتطور بتطور معطيات الواقع، وفي هذا يقول ماركس قوله الشهير: ” ليس وعي الناس هو الذي يحدِّد وجودهم بل على العكس من ذلك فإن وجودهم هو الذي يحدِّد وعيهم ” [56] وقد أصبح هذا النص مفتاحاً لفهم التاريخ وإدراك العلاقة بين الوعي والوجود بين الفكر والواقع بين الروح والمادة.

وعلى هذا الأساس فإن البناء التحتي في المجتمع الذي يتكون من قوى الإنتاج وعلاقاته (البناء التحتي) هو الذي يحدد أشكال الوعي الإنساني أي البناء الفوقي الذي يتكون من نظام الأفكار والتصورات والأيديولوجيات والمؤسسات الفكرية التي تعبر عن الواقع الاجتماعي أو عن البنية التحتية في المجتمع. ومن هذا المنطلق يمكن القول: بإن مختلف مظاهر الوعي والأفكار والأيديولوجيات السائدة في تشكيلة اجتماعية ما تعبر عن التكوينات المادية والاجتماعية لهذه التشكيلة، ويبنى على ذلك أن معظم أشكال الوعي في المجتمعات الرأسمالية تعبر عن الأوضاع الاجتماعية وتشكل انعكاساً لها وتبريراً. فالأنظمة القانونية والأيديولوجيات في المجتمع الرأسمالي تعبر عن واقعية العلاقات الإنتاجية القائمة في المجتمع، وهي تصب في صالح النظام الاقتصادي الرأسمالي وتعبر عنه بصورة مؤكدة.

ومع أهمية العلاقة بين البناء التحتي الإنتاجي والبناء الفوقي الواعي، فإن هذه العلاقة ليست علاقة انعكاسية مباشرة بالمطلق أو علاقة آلية؛ بمعنى أن البناء الفوقي هو انعكاس بسيط وآلي، كما هو الحال في المرآة، إذ يرى ماركس أن المظاهر الواعية في البناء الفوق يمكنها أن تمارس دوراً في تغيير الواقع وأن تكون مؤثرة فيه وتسعى إلى تغييره.

ويمكن الاستخلاص بأن ماركس يؤكد استقلال الوجود الاجتماعي عن الوعي الاجتماعي، ويرى “بأن قوانين المجتمع مستقلة عن وعي الإنسان تماماً مثل قوانين الطبيعة، وهى أيضاً قابلة للمعرفة ويمكن للإنسان أن يستفيد منها في نشاطه العلمي، إلّا أن هناك مع ذلك فروقاً جوهرية بين الحياة الاجتماعية وقوانين الطبيعة، فقوانين الطبيعة تصور عمل قوى تلقائية غير واعية، بينما تصور قوانين التطور الاجتماعي أفعال كائناتٍ إنسانية ذكية تحدد لنفسها أهدافاً محددة وتعمل من أجل تحقيقها” [57].

فالوعي الاجتماعي يشكل أحد أهم جوانب الحياة الاجتماعية في المنظور الماركسي، ودونه أو من غيره لا يمكن للمجتمع – أي مجتمع أن ٍيقوم ويستمر في الوجود. ومع ذلك فإن هذا الوعي يرتبط جوهرياً بوجود الناس وحياتهم ونشاطهم الإنتاجي، ولا يمكن أن ينفصل عنه أبداً، وهذا يعني أن النشاط العملي للإنسان هو الذي يحدد معالم وعيه وطبيعته، وبالمقارنة فإن علاقة الحيوان بالطبيعة تتم مباشرة بواسطة أعضائه الطبيعية، وعلى خلاف ذلك فإن علاقة الإنسان بالطبيعة تقوم على توسط وسائل متعددة تتمثل في أدوات العمل ووسائطها، وهي الوسائل التي يعتمدها في تكييف الطبيعية والتكيف معها وهذا يعني أن وعي الإنسان يتشكل من خلال العمل وأدواته ولا ينمو بصورة طفرية في الدماغ والعقل أو في الأشكال العليا من التفكير [58].

ويؤكد ماركس في هذا السياق الدور التاريخي للإنسان بوصفه كياناً إنتاجياً فاعلاً في الطبيعة والتاريخ، فالتاريخ ” لا يفعل شيئاً، إنه لا “يملك ثروة هائلة”، و” لا يشن أي معارك”. إنه الإنسان، الإنسان الحقيقي، الإنسان الحي هو من يقوم بكل ذلك، إنه هو من يمتلك ويحارب؛ إن “التاريخ” ليس شخصاً منفصلاً، يستخدم الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة؛ التاريخ ليس سوى نشاط الإنسان الذي يسعى لتحقيق أهدافه» [59]. وكل ما تفعله الماركسية هو شرح دور الفرد بوصفه جزءاً من مجتمع معين، خاضع لقوانين موضوعية معينة، وبكونه، في النهاية، ممثلاً لمصالح طبقة معينة. وليس للأفكار وجود مستقل، كما أنه ليس لها تطورها التاريخي المستقل. وهذا يعني أن أفكار الناس وأفعالهم مشروطة بالعلاقات الاجتماعية القائمة، التي لا يعتمد تطورها على الإرادة الذاتية لهؤلاء الرجال والنساء، بل يعتمد على قوانين محددة. تعكس هذه العلاقات الاجتماعية، في التحليل الأخير، احتياجات تطور القوى المنتجة. وتشكل العلاقات المتبادلة بين هذه العوامل شبكة معقدة، غالباً ما يصعب رؤيتها. ودراسة هذه العلاقات هي أساس النظرية الماركسية للتاريخ.

ويبنى على هذه الرؤية أن الناس ليسوا مجرد “قوى عمياء في يد التاريخ”، وهم في الوقت نفسه ليسوا أحراراً بشكل كامل وقادرين على تشكيل مصيرهم بغض النظر عن الظروف القائمة التي يفرضها مستوى التطور الاقتصادي، وتطور العلوم والتقنية، الذي يحدد، في آخر المطاف، ما إذا كان النظام الاجتماعي والاقتصادي قادراً على البقاء أم لا[60]. وفي هذا السياق نفسه يشرح ماركس هذه المسألة في كتابه (الثامن عشر من بروميرو لويس بونابرت) قائلاً: «إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي. إن تقاليد جميع الأجيال الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء [61]. وهذا يعني بحسب ماركس أن الطبقة البرجوازية المسيطرة على القدرات الاقتصادية هي المعنية بتشكيل وعي الأفراد على نحو يستجيب لمصالحهم الاقتصادية والسيادية، وهو كما يراه ماركس شكل من أشكال الوعي الزائف الاغترابي الذي يستلب وعي الطبقات العاملة ويسلبها القدرة على حماية مصالحها ويجعلها في مهب السيطرة البرجوازية العمياء .[62]

وفي مسار تأكيد أهمية العوامل التاريخية في تشكيل الوعي يمكن القول: “إن المأثرة الحقيقية العلمية لمؤسسي الماركسية تكمن في اكتشافهم الطابع المادي الديالكتيكي ليس لتطور الطبيعة فحسب، بل المجتمع أيضًا، فعلماء الاجتماع قبل كارل ماركس توصلوا إلى استنتاج خاطئ، مفاده أن الشخصيات المرموقة في المجتمع، ملوك ورجال دين وقادة – هي وحدها خالقة للتاريخ، ولم يروا الدور الفاعل للشغيلة، أو الجماهير الشعبية في التطور التاريخي. إن معرفة قوانين المادية التاريخية تعطي الناس القدرة ليس فقط على التغلغل في ظواهر الحياة الاجتماعية المعقدة، بل وعلى التأثير فيها وتغييرها لصالح الشغيلة أو الجماهير، إن تغيير الواقع على أساس القوانين المعروفة حالياً هو تحقيق الضرورة التاريخية في التطور التقدمي البشري”[63].

11- علم الاجتماع الماركسي أيديولوجياً:

تتسم الماركسية بالطابع الأيديولوجي في خبرها ومبتداها، ولا يخفي روادها هذه السمة الأيديولوجية. فالماركسية جملةً وتفصيلاً نظرية طرحت نفسها للدفاع عن المسحوقين والمستغلين والطبقة العاملة التي تتعرض للاستغلال والقهر من قبل الطبقات الرأسمالية التي تسود وتهيمن.

لم يخف ماركس أبداً التوجهات الأيديولوجية للنظرية الماركسية، بل أعلنها صراحة بأنها علم وفلسفة ومعرفة تكرس في خدمة الطبقة العاملة وفي الدفاع عن مصالحها. ومع أن ماركس ينظر إلى الأيديولوجيا بصفة عامة على أنها وعي مزيف، إلا أنه يرى بأن أيديولوجيا الطبقة العاملة أي الأيديولوجيا الماركسية أيديولوجيا علمية تبحث في الحقائق وتريدها كما هي دون إضافات خارجية. فالحقيقة التي تبدو كالشمس هي أن الطبقة العاملة تتعرض للاستغلال وكشف هذه الحقيقية على كمالها يشكل الهدف الأساسي للنظرية الماركسية، والأيديولوجية الماركسية المكرسة للبحث عن الحقيقية تقف على النقيض الكامل من النظريات البرجوازية البنيوية والوظيفية والوضعية التي تعمل على إخفاء الحقائق وتزييفها وتبريرها ضد المسحوقين لصالح الطبقة البرجوازية.

ويرى الماركسيون أن “علم الاجتماع الماركسي جاء في غمرة الدفاع عن المصالح الطبقية للطبقات المسحوقة في وجه حزبية “علم الاجتماع البورجوازي” البنيوي الذي اندفع ليعبر عن مصالح البورجوازية، وقد وصف بأنه علم وضع نفسه في الدفاع عن قيم المجتمع الرأسمالي وإخفاء تناقضاته الطبقية، وهو العلم الذي لم يتوان عن تقديم نفسه محامياً عن شيطان العلاقات الرأسمالية وممارساته الوحشية ضد الطبقات المهيضة في المجتمع. ومن هذا المنطلق يقدم الماركسيون رؤيتهم العلمية للمجتمع والتاريخ ليوظفوها في استكشاف الواقع ونقده وتغييره نحو الأفضل ويبدو للماركسيين أن الطابع الأيديولوجي لا يتناقض مع المعرفة العلمية الرصينة للعلاقات الاجتماعية لأن البروليتاريا (الطبقة العاملة) تهتم شأنها شأن البرجوازية بالمعرفة الموضوعية لتناقضات الحياة الاجتماعية وتسعى إلى إيجاد السبل التي تمكنهم من العمل على تحقيق التقدم الإنساني في المجتمع والتاريخ.

ولقد تبدى هذا الطابع الأيديولوجي للدفاع عن الطبقة العاملة في “البيان الشيوعي” الذي صاغه كل من ماركس وإنجلز الذي على أساسه نادي ماركس العمال إلى الوحدة في البيان الشيوعي ويرفعه شعاراً ينادي العمال إلى الاتحاد :”يا عمال العالم اتحدوا ” (“Workers of the World, Unite! You have nothing to lose but your chains!”) وقد جاء هذا الشعار في البيان الشيوعي عام 1848 بلغة الهجوم وبنصه الآتي: “فلترتعد الطبقات السائدة خوفاً من ثورة شيوعية، فليس أمام البروليتاريا ما تخسره إلّا أغلالها، وأمامهم عالم يكسبونه، يا عمّال العالم، في جميع البلدان، اتّحدوا!”. فالبروليتاريا ” بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم هي الطبقة الوحيدة المرشحة كي تكون زعيماً لجميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم الرأسمالية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطاً ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم” [64].

ولا يقف ماركس عند هذا الحد، بل يذهب إلى دعوة المفكرين إلى ممارسة دوراً حاسماً في تغيير المجتمع وفي تفسيره، وعلى هذا الأساس يطلق مقولته الشهيرة القائلة: “لقد دأب الفلاسفة على تفسير العالم والمهم هو تغييره” وفي صياغة أخرى “كل ما فعله الفلاسفة حتى اليوم هو تفسير العالم بطرائق مختلفة – لكن المهم هو تغييره”.

عندما “ينظر الماركسيون إلى المجتمع لا يزعمون أنهم محايدون، بل إنهم يتبنون علناً قضية المستغَلين والمضطهَدين. لكن هذا لا يمنع على الإطلاق الموضوعية العلمية. إن الجراح المنشغل بإجراء عملية حساسة يكون ملتزماً أيضاً بإنقاذ حياة مريضه. إنه أبعد ما يكون عن “الحياد” تجاه نتيجة عمليته. لكنه ولهذا السبب بالذات سيعمل على التمييز بدقة متناهية بين مختلف مكونات الجسد البشري. وبالطريقة نفسها نسعى نحن الماركسيون جاهدين للحصول على تحليل علمي دقيق للسيرورات الاجتماعية، من أجل أن نتمكن من التأثير بنجاح في مسارها”[65].

12- تأثير ماركس :

وُصف ماركس بأنّه أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في تاريخ البشرية، ويتجلى ذلك في الانتشار الهائل للنقابات العمالية والأحزاب السياسية الماركسية في أنحاء العالم جميعها، كما يتجلى في عدد المثقفين الماركسيين الذي ينتشرون في مختلف أنحاء العالم. وقد وسم كارل ماركس عصره بميسمه الخاص وترك بصمته التاريخية في الفلسفة السياسية، وأحدث ضجيجاً في الفكر الاجتماعي وصخباً ثورياً هائلاً في الزمن الحداثي. ويعد ماركس من أكثر الفكرين والفلاسفة حضوراً وتأثيراً في القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد يستمر تأثيره قروناً عديدة في مجالات الفلسفة والاقتصاد والفكر الثوري الذي يتجلى اليوم في نشاط المفكرين الماركسيين الذين يسجلون حضورهم المدوي في الزمن الحاضر، وما زال تأثيره يشكل تياراً فكرياً عنيفاً في مختلف المذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة في مجال الأدب والسياسة والفلسفة والعلوم الاجتماعية، ولا غرو في القول: إن تأثير ماركس في المعرفة الإنسانية يأخذ طابعاً رسولياً كما يرى كثير من العلماء والمفكرين في سائر المراحل التاريخية بعد وفاة ماركس. وما ذكرناه من تأثير ماركس يتضاءل أمام الأهمية التي أعطاها له فرانسيس وين الذي يقول: “تاريخ القرن العشرين” هو “تراث ماركس” وذهب بيتر سنغر أن تأثير ماركس يأخذ طابعاً رسولياً في العصر الذي نعيش فيه وقد بين احد الاستطلاعات الـ بي بي سي بأن ماركس يُعدّ أفضل “مفكر في القرن العشرين ” [66]وكان السؤال طرحته هيئة الإذاعة البريطانية BBC على عدد من المثقفين من مختلف دول العالم قبل أشهر هو: من هي الشخصية التي كان لها عظيم الأثر في الفكر العالمي خلال القرن العشرين؟ وكانت إجابة غالبية هؤلاء هي: كارل ماركس. ” وعللوا ذلك بأنه ذلك الفيلسوف والمفكر والإيديولوجي الألماني الذي جال كثيراً باحثاً عن الحرية والعدالة الاجتماعية. وقد ذاع صيته وحمل أفكاره الكثيرون، منهم من سعد بها ومنهم من انتهى به الأمر إلى القبر أو النفي أو إلى غياهب السجون. علاوة على ذلك تسببت أفكار ماركس في تقسيم العالم إلى معسكرين معاديين لبعضهما بعضا فترة طويلة من الزمان” [67].

وما هو مهم بالذكر أن تأثير ماركس في بداية حياته المعرفية لم يكن كبيراً ولكن هذا التأثير تعاظم تدريجياً حتى أصبح تياراً جارفاً في الفلسفة والفكر الاقتصادي والاجتماعي وقد امتد ليضرب جذوره في مجالات الأدب والفن والسياسة والثورة ـ ولا يمكن لأحد أن ينكر بأن فكر ماركس قد أدى إلى اندلاع الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفييتي السابق وانتشار الفكر الاشتراكي في العالم وظهور دول اشتراكية ماركسية انتشرت في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا، وقد ظهرت أحزاب ماركسية في مختلف أنحاء العالم التي تقوم على أساس أفكار ماركس. وظهر عدد كبير من عمالقة المفكرين الماركسيين في مختلف الحقول العلمية من مثل: أنطونيو جرامشي وبيير بورديو وديدرو وبليخانوف جورج لوكاتش ولويس ألتوسيرو ليون تروتسكي وروزا لكسمبروغ، وجورج لوكاش، وتشي غيفارا، وأرنست ماندال، نيكوس بولانتزاس، وإريك فروم ؛ وفي العالم العربي يشار إلى مهدي عامل، وصادق جلال العظم، طيب تيزيني، سمير أمين. ويصعب حصر عدد السياسيين الذين تبنوا النهج الماركسي أمثال ستالين ولينين وتشاوسيسكو وماوتسي تونغ وغيرهم كثير.

ويلاحظ في هذا السياق أن الأنظمة الرأسمالية استفادت كثيراً من أفكار ماركس وخصوصاً بعد الكساد الكبير 1929 الذي كان موضع نبوءة ماركسية، لإقرارا بحتميتها، وقد وظف الفكر الماركسي من قبل أعدائه الرأسماليين في إصلاح وتجميل عيوب النظام الرأسمالي وباختصار دعونا نقول مع كيللي بأن الماركسية “أثارت، وما تزال تثير، أكبر ضجة عرفها تاريخ المجتمع الإنساني على صعيد الفكر والواقع معاً. فمنذ أن جاء ماركس ليتابع ويتم، على نحو عبقري، التيارات الفكرية الرئيسة الثلاثة في القرن التاسع عشر والتي تعزى الى البلدان الثلاثة التي كانت أكثر تقدماً في العالم: الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، والاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإنكليزي، والاشتراكية الفرنسية المرتبطة بالتعاليم الثورية الفرنسية بوجه عام، وغبار المعركة الأيديولوجية والسياسية ما انفك منعقداً فوق سطح هــذه الكرة وهو صراع عنيف تحقق فيه الماركسية النصر تلو الآخر في شتى الميادين [68].

وأخيراً نقول: إن الماركسية استطاعت بتأثيرها الخلاق أن تشطر العالم إلى شطرين أحدهما إنساني يؤمن بالحرية الإنسانية ويرفض الاستغلال والقهر ضد المسحوقين والفقراء ومختلف الطبقات الاجتماعية المهيضة وآخر رأسمالي يضع ثقله في مهاجمة الماركسية بوصفها نظاماً فكرياً خلاقاً معادياً للرأسمالية وهو الآخر الذي يشعر بالقلق والخوف من انتشار قيم الحق والعدالة الاجتماعية بين الإنسان والإنسان في مسارات الكرامة الإنسانية .ضد الظلم والقهر والجور والبهتان.

13- نقد ماركس والماركسية:

على مقياس النجاح والتأييد الذي لقيته الماركسية في العالم خلال القرنين الماضيين جاء النقد الهائل من كبار المفكرين البرجوازيين تارة ومن المفكرين الماركسيين الذي حاولوا النهوض بالماركسية على مقياس الحداثة وما بعدها في الزمن الحالي. وهنا يجب علينا في هذا المقام أن نميز ثلاثة تيارات من النقد الموجه إلى ماركس والماركسية:

يتمثل التيار النقدي الأول في النقد الأيديولوجي أي هذا الذي يحمل في ذاته أصباغ التحامل الأيديولوجي ضد ماركس والماركسية، ونعني به تيار المفكرين البرجوازيين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الأنظمة الرأسمالية والبرجوازية وقاموا بدور الهجوم التعسفي ضد الماركسية جملة وتفصيلاً. وهذا النقد مردود عليه ولا يحمل أي قيمة علمية لأنه لا يقوم على أسس علمية بل أسس هجومية مضادة للماركسية بوصفها فلسفة تدعوا إلى الحرية والكرامة الإنسانية في مواجهة المظالم الرأسمالية. وقد فنّد آلان وودز هذا التيار النقدي بقوله:” غالبا ما تبذل محاولات لتشويه الماركسية عن طريق نشر صورة كاريكاتورية عن أسلوبها في التحليل التاريخي، إذ ليس هناك ما هو أسهل من صنع دمية من القش وكيل الضربات لها. والافتراء المعتاد في هذا الصدد هو القول: بأن ماركس وإنجلز “اختزلا كل شيء في الاقتصاد”. لو أن هذا كان صحيحاً لكان في مقدورنا أن نعفي أنفسنا من ضرورة النضال الصعب من أجل تغيير المجتمع. فالرأسمالية ستسقط من تلقاء نفسها والمجتمع الجديد سيحل محلها من تلقاء نفسه، مثلما تسقط تفاحة ناضجة في حضن رجل نائم تحت شجرة. لكن ليس للمادية التاريخية أية علاقة مع هذه النزعة الجبرية” [69]. وقد سبق لإنجلز أن رد على هذا الادعاء السخيف في هذا المقتطف من رسالته إلى بلوخ، إذ قال: وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يشكل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية العنصر الحاسم، في نهاية المطاف، في التاريخ. ولم نؤكد لا ماركس ولا أنا أكثر من هذا أبدا. وبالتالي فإذا شوه شخص ما هذا الموقف، ليزعم أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد، فإنه يحول هذه الموضوعة إلى جملة مجردة لا معنى لها ولا مضمون”[70]. وباختصار فإن النقد القائم على أساس أيديولوجي يسقط تاريخياً لأنه تيار يريد التشويه والهجوم والإساءة إلى الفكر الماركسي بصورة عامة. وفي هذا المقام في مجال الاعتراض على نقاد ماركس الأيديولوجيين يقول: كيللية وكوفالزون “لقد جاء مذهب ماركس تتمة مباشرة لمذاهب أعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية، فأثار حفيظة وحقد العلم البورجوازي كله، هذا العلم الذي يدافع، بصورة أو بأخرى، عن العبودية المأجورة بينما الماركسية أعلنتها حرباً لا هوادة فيها ضد هذه العبودية فليس غريباً بعد هذا أن نرى غبار الصراع الدائر يزحم كل الأجواء “[71]. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى العمل الفائق لجالك دريدا ” أطياف ماركس ” الذي ينافح فيه عن ماركس ردا على نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ ونهاية الصراع الإيديولوجي بقوله” لقد توفيت الماركسية الستالينية وانقرضت أما ماركس الفيلسوف والمفكر فما يزال حيا بيننا “” أطياف ماركس”. نعم لقد توفي ستالين ولينين وتشاوسيكي وسيموت كل الطغاة في العالم وسيبقى ماركس الفيلسوف العالم ألقا تاريخيا يومض على دروب الفكر والحضارة الإنسانية.

التيار الثاني وهو النقد العلمي الموضوعي لماركس: وهذا النقد الذي نراه مناسبا لنا في هذه الدراسة إذ نعتقد بأن أي نظرية علمية وأي فكر مهما كان مستوى رقيه وتطوره لا يمكنه أن يكون كاملا على وجه الطلاق والنقد العلمي مشروع تاريخياً وهو لا يقلل من قيم النظرية الماركسية، بل ربما يعطها زخماً من القوة لا نقصده بالطبع. فمن وجهة نظرنا في مجال علم الاجتماع نقول: بأنه يؤخذ على ماركس أنه على الرغم من تشديده على الطابع العلمي لنظريته في المادية التاريخية، وتركيزه الشديد على الطابع القانوني لتطور المجتمعات الإنسانية، فإن هذه العلمانية قد اهتزت عميقا بتأثير الشطحات الطوباوية الخيالية الراديكالية التي جاء بها في نظريته حول الضرورة الحتمية لقيام النظام الاشتراكي العادل والنظام الشيوعي الأكثر عدلاً. ولم تكن تصوراته في هذا المجال أكثر من خيال وأوهام طوباوية. فالعدالة المطلقة بين البشر لا يمكنها أن تسود يوماً بصورة تامة.

وهذا ما أكده الانتصار الشيوعي في روسيا الذي أدى إلى قتل ملايين البشر في الصحراء السيبرية في زمن لينين وستالين وكانت هذه الأنظمة أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ البشرية. ومن الطبيعي هنا لا نحمل ماركس مسؤولية جرائم الشيوعيين في روسيا ولو استيقظ ماركس اليوم لصب اللعنة على الشيوعية والشيوعيين الذي حولوا مجتمعاتهم إلى جحيم وارتكبوا أخطر المجازر في حق الإنسان والإنسانية. ومن المهم بمكان هنا أن نقول: بأن تنبؤات ماكس فيبر كانت دقيقة في هذا المسار، إذ كان يكرر دائماً بأن الأنظمة الاشتراكية ستكون كارثية ضد الإنسان والإنسانية. ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين نجد بأن الأنظمة السياسية في البلدان الاشتراكية قد أصبحت أكثر الأنظمة السياسية في التاريخ استبداداً وقهراً وتمييزاً وتعطشاً للدماء. ومع ذلك كله لا نستطيع أن نوجه اللوم إلى ماركس، لأنه أراد خلاف ذلك وتوقع الأفضل للمجتمعات الإنسانية ولكن الواقع يقول لنا بأن توقعات ماركس قد أخفقت كلياً في مجال تنبئه بالنظام الاشتراكي أو حتى الشيوعي.

لقد أراد ماركس للماركسية أن تكون قوة أيديولوجية هائلة في الدفاع عن مصالح الفقراء والمسحوقين في هذا العالم وقد أراد بصدق لا نظير له تحرير العالم من بؤسه وشقائه. ولكن الماركسية السياسية – على عكس ما أراده ماركس – كانت أكثر الأنظمة وحشية ضد الإنسانية والإنسانية في الأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي جعلت من الماركسية غطاء لها. وتبين الدراسات في هذا المسار بأن ستالين قام بالقضاء أكثر من 20 مليوناً أو أكثر في معسكرات الغولاغ، وأنه قتل عمداً أكثر من ستة ملايين مواطن روسي. وتذكر مصادر أخرى أن ستالين تسبب بوفاة أكثر من 50مليون إنسان بين عامي 1927و 1953،وهذا العدد يزيد بخمس عشرة مرة عن ضحايا هتلر في أوروبا وبأربع مرات عن خسائر روسيا في الحرب العالمية الثانية وأربعين مرة عن خسائرها في الحرب العالمية الأولى!!

ويمكن الملاحظة أن علم الاجتماع الماركسي لم يكن علماً بالمعنى الدقيق للكلمة فالمادية التاريخية كما تبدو لنا هي فلسفة اجتماعية أكثر منها علم اجتماع، إذ تنطوي على مبادئ وتصورات منهجية عامة، ويضاف إلى ذلك أن ماركس بإجراء دراسات وبحوث عينية ميدانية إمبيريقة وبقيت المادية التاريخية تدور في فلكها الفلسفي المنهجي. ومع لا ننكر أن المادية التاريخية والجدلية التاريخية أصبحت منهجاً رسمياً لعلم الاجتماع الماركسي الحديث.

ومن أبرز الانتقادات التي وجهت إلى ماركس جاءت حول مقولة “ديكتاتورية البروليتاريا” التي شكلت كارثة كبيرة ضد الإنسانية إذ باسمها نفذت الثورات الاشتراكية ولاسيما الثورة البلشفية في عام 1917 وهي المقولة التي منحت الثوار الحق في ممارسة كل أشكال القتل والنهب والاستبداد والتدمير ضد الإنسانية والإنسان، وقد لا يكون غريباً هو القول: إن هذه الديكتاتوريات البروليتارية كانت من أبشع مهازل التاريخ الوحشية.

وخلافاً لرؤية ماركس يلاحظ النقاد أن الماركسيةقد تغلغلتفي عمق الأنظمة الرأسمالية من خلال النقابات والأحزاب الماركسية وأدى ذلك إلى تشكيلات هجينة رأسمالية اشتراكية في المعسكرين الشرقي والغربي، وبدأت تظهر أنظمة مختلطة ديناميكية: الحكومة البريطانية تُعدّ نظاماً مختلطاً برداء رأسمالي، والصين حالياً هي نظام مختلط برداء شيوعي. إذ من الصعب جداً إذا لم نقل من المستحيل الوصول إلى النظام الشيوعي الذي تحدث عنه ماركس على ضوء الإمكانات الحالية. كما أن ماركس لم يكن ليعلم بمستوى التكنولوجيا الذي سيحدث والذي خفف كثيراً جداً من الظلم على الإنسان وسهل عليه عمله وعملت الأنظمة الميالة للرأسمالية على استخدام هذه التكنولوجيا على أفضل وجه بما يضمن استمرار أنظمتها.

التيار الثالث: ويمثل الاتجاهات الفكرية الجديدة التي نقدت الماركسية وعملت على تطوير الفكر الماركسي في ضوء المستجدات التاريخية وعملت على تحرير الماركسية من سلبياتها التاريخية وسد مواطن الضعف والعجز والقصور في الفكر الماركسي على نحو شامل. ومن أبرز التيارات الماركسية الجديد يشار اليوم إلى مدرسة فرانكفورت بروادها وجمعت فلاسفة من مثل: ماكس هوركهايمر،والتر بنجامين،و هربرت ماركوز، و يورگن هابرماس الذين يشكلون تياراً نقدياً ماركسياً جديداً يعمل على تطويع الفكر الماركسي وتطويره وفق منصات الحداثة وما بعدها. ومن أهم المنظرين الجدد يشار إلى صمويل باولز، وديفيد جوردون، وجون رومر، وهربرت جينتيس، وجون إلستر، وآدم برزورسكي جوان روبنسون ومدرسة بييرو سيرافا للريكارديين الجدد. وكان للاقتصاديين البولنديين ميكاي كاليكي وروزا لوكسمبورغ وهنريك غروسمان وآدم برزورسكي وأوسكار لانج الذين نقدوا الفكر الماركسي الكلاسيكي دوراً كبيراً في تطوير وتكييف مفاهيمه مع مقتضيات العصر الحديث عصر العولمة والحداثة وما بعدها. ه

وقد عملت التيارات ما بعد الماركسية على نقد وتنقيح الفكر الماركسي وتطويره، ومن ثم العمل في نقد الرأسمالية والليبرالية الجديدة بتجلياتها وظواهرها وتاريخها وآلياتها وسياساتها وأزماتها. وقد عملت أيضاً على الاستفادة من المناهج الحديثة في حقول العلوم الإنسانية وإخصاب النظرية الماركسية به. كما أنها تحاول تقديم إجابات مبتكرة حول التطورات الجديدة في الفكر وفي الممارسة في عالم باتت التغيرات السريعة من أهم معالمه.

14-خاتمة:

يشعر المرء عندما يقارب الماركسية بالروعة العبقرية لماركس في إنتاجه لأعظم الأفكار في القرن التاسع عشر وتتميز هذه العبقرية بألقها الإنساني وفي التجليات الخلاقة لماركس بوصفه إنساناً وعالماً ومفكراً عظيماً في تاريخ الفكر الإنساني. وعلى الرغم من أهمية ماركس المفكر الفيلسوف فإن تألقه الأعظم يبرز في الجانب الإنساني وقد وضع نفسه على مذبح النضال من أجل الإنسانية والإنسان، ولا يستطيع المرء إلا أن ينحني لهذا الشغف الماركسي في الدفاع المستميت عن حقوق المظلومين والمقهورين في التاريخ، وفي هذا النضال الخلاق تكمن الروح الخالدة العظيمة لكارل ماركس وللماركسية التي لم تخذله في توجهاتها الإنسانية.

وإذا كان علينا هنا في هذه الخاتمة أن نركز على العطاء السوسيولوجي لماركس يمكننا ان نوجز أهم الأفكار السوسيولوجية التي قدمها في مجال علم الاجتماع، والتي تتمثل في تجاوز الدوافع المثالية الميتافيزيائية لنشاط الناس والتركيز على أهمية العوامل التاريخية في حياتهم ووجودهم لأن التاريخ لا يرتسم على صورة الإرادات والأفكار، بل ينطلق من المحددات التاريخية للوجود والحياة والإنتاج، ومن الواضح أن ماركس استطاع أن يردم الحدود الفاصلة بين الطبيعة والإنسان، وهي الحدود التي رسختها الفلسفات المثالية، فالإنسان والمجتمع كلاهما انبعاث خلاق في الطبيعة ومن الطبيعة، ولا يمكن الفصل نهائياً بين الإنسان والطبيعية لأنهما متلازمان في الحضور والغياب فالطبيعة هي الحاضن الوجودي للإنسان، والقانونيات التي تسري في الطبيعة تسري على الإنسان بكيفيات اجتماعية خاصة بالمجتمع والحياة الإنسانية.

لقد أكد ماركس وإنجلز في المادية التاريخية على الدور الحاسم الذي تؤديه الجماهير في صناعة التاريخ من خلال الإنتاج وفعالياته في تطوير الحياة والمجتمع. واستطاع ماركس برؤيته هذه أن يبرهن على خطل النظريات البرجوازية في علم الاجتماع وزيفها، وهي التي ترى “أن الرأسمالية هي النظام الطبيعي الأبدي غير القابل للتجاوز” [72]. فالتطور الاجتماعي يحدث وفق معطيات مادية إنتاجية وعلى إيقاع التفاعل بين قوى الإنتاج وعرقاته، والتاريخ كما أشرنا يصنعه الناس وليست هي الأفكار البرجوازية المحضة التي ترسم للمجتمع تخوم نموه وتطوره. والإنسان في هذه السوسيولوجيا الماركسية كائن متطور والناس، إذ يعملون يغيرون الطبيعية ويتغيرون معها في آن واحد، وهذا يعني أن التغير صائر بالقوة الاجتماعية الإنتاجية وليس من خلال تصورات مثالية زائفة عن دور الأفكار والأفراد في تطور التاريخ الاجتماعي. ومن أبرز الأمور التي يقرها ماركس وإنجلز أن المجتمع محكوم بقوانينه الجدلية وكل أشكال التطور مرهونة بالتفاعل الإنساني في قاع الإنتاج وليس في البنية الفوقية التي تبقى نتاجاً جدلياً طبيعيا للبنية التحتية.

ويمكننا في النهاية أن نقول: بإن ماركس قد شيد نظرية اجتماعية سوسيولوجية يمكن وصفها بأنها علم الاجتماع الماركسي الذي يبحث في قانونية المجتمع ويعمل على تحليل مختلف ظواهره وقضاياه ضمن رؤية محكمة تقوم على الرؤية الشمولية للمجتمع في تفاعله وتطوره الإنساني عبر الزمان والمكان.

توفي كارل ماركس متأثراً بوعكة صحية رؤية في 14 مارس 1883 في مدينة لندن وفقد العالم يومها فيلسوفاً لا يشق له غبار وقد دفن في مقبرة هاي غيت (Highgate Cemetery) وبعد أن خرب قبره بفعل الفاعلين من أعدائه أعيد دفنه مع عائلته في 14 مارس 1956 وقد نقش على ضريجه عبارته الشهيرة التي خطها وزميله إنجلز في البيان الشيوعي التي تقول: “يا عمال العالم اتحدوا!” ثم نحتت عبارة أخرى مقتطفة من أطروحاته حول فيورباخ، تقول: “لم يقم الفلاسفة سوى بتفسير العالم بطرائق مختلفة. لكن المهمة هي تغييره”. ويقول آلان وودز في هذا السياق: إن “النصب الحقيقي لماركس ليس موجوداً في مقبرة هايغيت. إنه ليس مصنوعاً من الحجر أو البرونز، بل إنه مصنوع من مادة أقوى بكثير وأكثر صلابة، إنه مصنوع من الأفكار الخالدة الواردة في أكثر من خمسين مجلداً. هذا هو النصب التذكاري الوحيد الذي كان ماركس ليرغب فيه. إنه حجر الأساس لحركة الطبقة العاملة العالمية وضمانة انتصارها المستقبلي”.

من الظواهر الطريفة أنَّ ما يحدث فعلًا بدلًا من أنْ تهزم البروليتاريا البورجوازية، تقضي الأخيرة على البروليتاريا تدريجيًّا. فتطور الآلات ومعدات الإنتاج صار يطرد العمالة بسرعة، والجديد هو الانتشار المتسارع للطبعة الثلاثية والروبوت، ويزداد العمل الخاص الفردي انتشارًا، وأصبح الآن من الممكن أنْ تحل مشاريع فردية محل المؤسسات الرأسمالية بفضل هذا التقدم. وقد أشار ماركس نفسه لتنامي ظاهرة الأتمتة كعلامة لنهاية الرأسمالية، ومما قاله في هذا المقال المعقد والعسير الفهم: “إنَّ الآلة تمتلك المهارة والقدرة بدلًا من العامل”… “يختزل عمل العامل إلى عمل مجرد”، ويقصد عمل ذهني… “إنَّ ارتفاع القدرة الإنتاجية للعمل وأعظم إمكانية لنفي العمل الضروري هو ميل حيوي لرأس المال”… “هكذا يعمل رأس المال في اتجاه انحلاله باعتباره الشكل السائد للإنتاج”

 وقد ظهرت كتل ضخمة من المهمشين وأشباه المهمشين، أغلبهم يعمل وينتج، بل أصبحوا يمثلون أكبر تهديد للنظام الرأسمالي. ولم تتنبأ أو تستوعب نظرية ماركس احتمال ظهور هذه الكتل كـ “طبقة” الجديدة ضخمة الحجم وجذرية التفكير، تعمل في الإنتاج والتوزيع والتبادل، وتضم مختلف التخصصات (سنحلل هذه المسألة في فصل خاص). كما لم تستوعب نظرية ماركس أو تتصور تحول مجموعات التكنوقراط إلى طبقة ضخمة العدد تسهم في إنتاج الفائض بنصيب كبير للغاية، بحيث أصبح العمال من أصحاب الياقات بلا أهمية في عملية الإنتاج الحديث [73] .

وفي النهاية يسرنا أن نختتم بقول ماركس وإنجلز الذي جاء في الفصل الخامس من العائلة المقدسة: ” التاريخ لا يفعل شيئا، إنه لا “يملك ثروة هائلة”، و” لا يشن أي معارك”. إنه الإنسان، الإنسان الحقيقي، الإنسان الحي هو من يقوم بكل ذلك، إنه هو من يمتلك ويحارب؛ إن “التاريخ” ليس شخصاً منفصلاً، يستخدم الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة؛ التاريخ ليس سوى نشاط الإنسان الذي يسعى لتحقيق أهدافه “[74].

مراجع الفصل وهوامشه:


[1] – Alan Woods , What is historical materialism? Marxism ,14 January 2016. https://www.marxist.com/an-introduction-to-historical-materialism/all-pages.htm

[2] – ولد كارل ماركس في مدينة هي ترير، في عام 1818 واضطر والده إلى اعتناق المذهب البروتستانتي كي تتاح له ممارسة مهنته في المحاماة. التحق ماركس بالمدرسة الثانوية في الثانية عشر من العمر وحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية بتقدير امتياز في سن السابعة عشرة. عاش كارل ماركس حياة هروب وتنقل من مدينة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى بسبب آرائه الثورية الراديكالية، وبعد حصوله على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة يينا سنة 1841 لم يستطع أن يجد وظيفة مناسبة فعمل في مجال الكتابة الصحفية، هاجر ماركس إلى باريس ومن ثم إلى بلجيكا وبعدها إلى بريطانيا ليقيم ويموت فيها في عام 1883. وخلال فترة إقامته في باريس توطدت علاقته برفيق العمر والإيديولوجيا فريدريك انجلز الذي كان نعم الصديق الوفي والداعم لماركس كي يستمر في مسيرة العطاء العلمي والمعرفي ..

[3]– عبد الصبور لكرمات، کارل ماركس: جدلية التناقض والصراع، جامعة ابن طفيل، كلية العلوم الإنسانية، 2020/2021. http://bitly.ws/z6fs

[4] – سبارتكوس التراقي: مجالد روماني، قاد انتفاضة العبيد في روما وهي إحدى كبرى الانتفاضات في تاريخ الأنظمة العبودية.

[5] – حسام الدين فياض، فلسفة علم المجتمع عند كارل ماركس: الإنسان صانعاً لتاريخه، أنفاس – من أجل الثقافة والإنسان، 3ديسمبر 2022. http://bitly.ws/z5Tk

[6]– عبد الصبور لكرمات، کارل ماركس: جدلية التناقض والصراع، جامعة ابن طفيل، كلية العلوم الإنسانية، 2020/2021. http://bitly.ws/z6fs

[7] – فريدريك انجلز (Friedrich Engels (1820- 1895) فيلسوف وعالم اقتصاد ألماني شارك في تأسيس النظرية الماركسية مع صاحبه ورفيق كفاحه كارل ماركس، شارك مع ماركس في عدد من المؤلفات في “البيان الشيوعي ” و “الأيديولوجيا الألمانية ” و ” العائلة المقدسة “. ويعود الفضل إلى إنجلز في مساعدة ماركس مادياً ومعنوياً من أجل التقدم في أعماله العلمية. كان إنجلز شريكاً في أحد الإسهامات الفكرية الأكثر شهرةً على مر التاريخ، وعلى الرغم من اعترافه بأنه كان الشريك الأقل نصيباً َ في هذا الإسهام، فلقد كان في واقع الأمر أكثر أنه وفقً تأثيراً من الناحية السياسية مقارنةً بشريكه صاحب النصيب الأكبر في هذا الإسهام، ويأتي َّ هذا التأثري من خلال شروحه لأفكار كارل ماركس التي أد ْت إلى انتشارها على نحو كبير.

[8] – ماركس، أنجلز، لينين، المادية التاريخية، دار الفارابي، دمشق، 1975.

[9] – ماركس، أنجلز، لينين، المادية التاريخية، المرجع السابق

[10] – قلما يشار إلى إنجلز عندما يجري الحديث عن المادية التاريخية أو عن الماركسية بصورة عامة، علما بأن الفضل في وجود ماركس يعود إلى الدعم الهائل الذي قدمه إنجلز مادياً ومعنوياً وسياسياً، على الرغم من كون إنجلز شريكاً في أحد الإسهامات الفكرية الأكثر شهرة على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه وفقاً لاعترافه كان الشريكَ الأقل نصيبًا في هذا الإسهام، فلقد كان في واقع الأمر أكثر تأثيراً من الناحية السياسية مقارنة بشريكه صاحب النصيب الأكبر في هذا الإسهام، ويأتي هذا التأثير من خلال شروحه لأفكار كارل ماركس التي أدت إلى انتشارها على نحو كبير.

[11] – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانيّة، ترجمة فؤاد أيوب، دمشق دار دمشق، دار دمشق، 1976.

[12] – مجدي مشعل، الماركسية والمجتمع -علم الاجتماع الماركسي، الحوار المتمدن-العدد: 4125 تاريخ 16/6/2013.  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=364396

[13] – من المثير للدهشة أن ماركس لم يستخدم مطلقًا عبارة «المادية الديالكتيكية» في كتاباته. وقد تمت صياغة هذا المصطلح في عام 1887 من قبل جوزيف ديتزجين وهو أحد أنصار النزعة الماركسية. وقد تم العثور على ذكر عرضي لمصطلح «المادية الديالكتيكية» في سيرة فريدريك إنجلز التي كتبها الفيلسوف كارل كاوتسكي،.أمّا ماركس نفسه فتحدث عن «المفهوم المادي للتاريخ» والذي أشار إليه إنجلز لاحقًا باسم المادية التاريخية. شرح إنجلز كذلك «الديالكتيك المادي» في كتابه «ديالكتيك الطبيعة» عام 1883؛ واستخدم جورجي بليخانوف أبو الماركسية الروسية، مصطلح «المادية الديالكتيكية» لأول مرة عام 1891 في كتاباته عن جورج فيلهلم فريدريك هيجل وماركس. كما حدد ستالين المادية الديالكتيكية والتاريخية بوصفها النظرة العالمية للماركسية اللينينية ووسيلة لدراسة المجتمع وتاريخه.

[14] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال، الحوار المتمدن-العدد: 3402 تاريخ 2011 / 6 / 20https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=264036

[15] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال، المرجع السابق.

[16] – جورج فيلهلم فريدريش هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) (ولد 27 أغسطس 1770 — 14 نوفمبر 1831) أحد أهم الفلاسفة الألمان، مؤسس المثالية الألمانية في الفلسفة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي. طور المنهج الجدلي الذي أثبت من خلاله أن سير التاريخ والأفكار يتم بوجود الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما. كان هيغل آخر بناة «المشاريع الفلسفية الكبرى» في العصر الحديث. كان لفلسفته أثر عميق في معظم الفلسفات المعاصرة.

[17] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع: دراسة نقدية، القاهرة: دار الهاني للطباعة والنشر، 2006. ص154

[18] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية، مرجع سابق .

[19] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية، مرجع سابق .

[20] – أحمد القصير، المادية التاريخية، الحوار المتمدن-العدد: 4664 تاريخ 2014 / 12 / 17  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=446389

[21] – أحمد القصير، المادية التاريخية، المرجع السابق.

[22] – M. Rosenthal and P. Yudin, A Dictionary of Philosophy, Progress Publishers, Moscow, 1976, p. 272.

[23] – أمين نصر، نظرة المدرسة الماركسية وتفسيرها للظاهرة التاريخية، النهار، 10/7/2022. http://bitly.ws/z6oV

[24] – كيله كوفالسون، المادية التاريخية، دراسة في نظرية المجتمع الماركسي، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، 2019. ص 34.

[25] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ الفصل الأول: ما هو التاريخ؟ الموقع العربي للتيار الماركسي، 17 فبراير، 2020.

[26] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ المرجع السابق .

[27] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ المرجع السابق .

[28] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، ترجمة أحمد داود، دار الجماهير، دمشق، 1967 ص11.

[29] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، المرجع السابق، ص 11.

[30] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق. ص155.

[31] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، 2006. ص157

[32] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، ترجمة أحمد داود، دار الجماهير، دمشق، 1967. ص 7.

[33] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، مؤسسة هنداوي، لندن، 2017، ص 36

[34] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، المرجع السابق، ص 37

[35] – محمد عابد الجابري: من دروس الفلسفة والفكر الإسلامي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2010، ص: 96.

[36] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، المرجع السابق، ص 37

[37] – محمد عابد الجابري: من دروس الفلسفة والفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص 95.

[38] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، مرجع سابق، ص 38

[39] – جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، الطبعة الأولى، الألوكة، 2015، ص 75. http://bitly.ws/z5kt

[40] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، مرجع سابق، ص 38

[41] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، مرجع سابق، ص 38

[42] – تيريز كارفر، إنجلز: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة: صفية مختار، مراجعة: مصطفى محمد فؤاد، لندن: مؤسسة هنداوي، 2017. ص 82.

[43] – K. Marx, A Contribution to the Critique of Political Economy, pp. 20-21.

[44] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، ترجمة أحمد داود، دار الجماهير، دمشق، 1967. ص 48.

[45] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية،المرجع السابق، ص 7.

[46] – ا.ب. شبتولين – النظرية العلمية في الطبيعة والمجتمع والمعرفة – دار الفارابي – بيروت – 1981 – ص174.

[47] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال، مرجع سابق.

[48] – حسني إبراهيم عبد العظيم، النظرية السوسيولوجية وقضايا الإعلام والاتصال، مرجع سابق.

[49] – غازي الصوراني، المادية التاريخية وأهم مقولاتها: التشكيل الاجتماعي – الاقتصادي والبناء الفوقي وقوى الإنتاج، الهدف، السبت 05 نوفمبر 2022 .http://bitly.ws/z6Py

[50] – حسام الدين فياض، فلسفة علم المجتمع عند كارل ماركس: الإنسان صانعاً لتاريخه، أنفاس – من أجل الثقافة والإنسان، 3ديسمبر 2022. http://bitly.ws/z5Tk

[51] – حسام الدين فياض، نظرية علم المجتمع الكلاسيكية عند كارل ماركس، المرجع السابق.

[52] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، ترجمة أحمد داود، دار الجماهير، دمشق، 1967. المقدمة: ص أ.

[53] – هرمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، مرجع سبق ذكره، ص (53).

[54] – رمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، ترجمة: عصام أمين، الفارابي، بيروت، ط1، 2008، ص (53). 

[55] – يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، المرجع السابق، ص 39.

[56] – جورج بوليتزر وآخرون: أصول الفلسفة الماركسية، ترجمة: شعبان بركات، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، الجزء:2، بدون تاريخ، ص (189).

[57] – سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع، مرجع سابق، ص154

[58] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، مرجع سابق، ص 64.

[59] – Marx and Engels, The Holy Family, Chapter VI

[60] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ الفصل الأول: ما هو التاريخ؟ الموقع العربي للتيار الماركسي، 17 فبراير، 2020.

[61] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ المرجع السابق،

[62] – مجدي مشعل، الماركسية والمجتمع -علم الاجتماع الماركسي، الحوار المتمدن-العدد: 4125 تاريخ 16/6/2013.  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=364396

[63] – أمين نصر، نظرة المدرسة الماركسية وتفسيرها للظاهرة التاريخية، النهار، 10/7/2022. http://bitly.ws/z6oV

[64] – حسام الدين فياض، نظرية علم المجتمع الكلاسيكية عند كارل ماركس، المرجع السابق.

[65] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ مرجع سابق.

[66] – BBC , World Marx the millennium’s ‘greatest thinker, Friday, October 1, 1999 Published at 10:29 GMT 11:29 UK.

[67] – محمد مسعاد، كارل ماركس فيلسوف القرن العشرين، ديدببليو، 23/1/2022 .http://bitly.ws/zgB3

[68] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية، مرجع سابق ص أ.

[69] – آلان وودز، ما هي المادية التاريخية؟ مرجع سابق.

[70] – Engels to Bloch, 21 September 1890, Selected Correspondence, p. 475

[71] – ف. كيللي و م. كوفالزون، المادية التاريخية مرجع سابق، ص أ.

[72] – غازي الصوراني، المادية التاريخية وأهم مقولاتها، مرجع سابق.

[73] – انظر يمنى طريف الخولي، ركائز في فلسفة السياسة، مرجع سابق.

[74] – Marx and Engels, The Holy Family, Chapter VI
____________
*علي أسعد وطفة/ جامعة الكويت كلية التربية.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات