المقالاتتربية وتعليم

صورة الطفل ومنزلته التربويَّة في فلسفة إيميل شارتيي(آلان)

” إنّ ثقتي وانتظاراتي هي مثل الشمس التي تُنضجُ ثمار هذا الإنسان” آلان “خواطر”

” الطفل إنسان أكثر من الإنسان كلّ إنسان غنيّ جدّا…الجميع أذكياء متى أرادوا، وكلّ فكر هو على وشك أن يفهم” ( آلان- أقوال في التربية)

” إن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته” ( آلان)

“لا يهمّك إلا شيء واحد أيّها الطفل الصغير، هو ما تفعل. فإذا أحسنت العمل أو أسأته، فهذا ما ستعرفه لاحقا؛ لكن أفعل ما أنت فاعله”.( آلان)

لم يزعم آلان يوما أنه “صاحب فلسفة للتربية ” ولا أنه يملك حتى ” نظرية في التربية” وهو “الفيلسوف- المعلّم” و” المربّي” الذي تتطابق لديه التربية والفلسفة تطابقا شديدا حتى لكأنّ ” الفلسفة لديه قول في التربية بالأساس، بل ربّما ” فنّ للتربية”، يمارس، وهو الذي قد مارسه طويلا بوصفه معلّما- لا على صعيد القول فحسب بل على صعيد ” الحياة” أيضا، ” فنّا”  يقصد “الإنسان” ” طفلا كان أو كهلا..”. ذلك أن الفلسفة لديه، ( على معنى كانطي) تردّ في نهاية المطاف إلى الإنسان لتكون ” انتروبولوجيا”، بناء للإنسان لا على صعيد التصوّر فحسب، بل بناء تربويا أيضا. وحيث كان الإنسان ” إنشاء تربويا ” كما يقول كانط بالذات، وكان مدار اهتمام الفلسفة، كانت ” التربية” في صميم القول الفلسفي. وبالفعل، فإنّ فلسفة آلان غالبا ما توصف بكونها ” فلسفة نقدية للتربية” طالما كان الإنسان مدار اهتمامها وغايتها القصوى ” الحكم على القيم”. إنّ فلسفة آلان، والحال هذه، تولي ” الطفل” اهتماما كبيرا، لا بوصفه موضوعا للتربية، بل بوصفه أولا وبالذات ” إنسانا” كامل الإنسانية، بل إنّه ” إنسان أكثر من الإنسان” كما يقول آلان( أقوال في التربية). لتتميز هذه الفلسفة بالذات في مسار تاريخ  الفلسفة- الكلاسيكية خاصّة- التي لم تولي ” الطفولة” ما تستحقه من عناية واهتمام بالرغم من زعمها الاهتمام بالإنسان . كأنما الطفل لديها” ليس إنسانا” أو هو كائن ” ناقص الإنسانية” في حين كان الإنسان بداهة، أيّ إنسان، والفيلسوف ذاته، في البداية “طفلا”. وبالفعل فقد كان الطفل ولوقت طويل في منظور الفلسفة ” عبئا” ( بمنزلة ” العبد والمرأة والمجانين والمسنّين في أزمان غابرة…)”  قبل أن يصبح “مواطنا” في الفلسفة المعاصرة .

 إنّ فلسفة آلان، وإن لم تتضمّن ” فلسفة للطفولة” ( وهي فلسفة “غائبة” على أيّ حال في تاريخ الفلسفة إلا من تصوّرات ليس لها قيمة في ذاتها ولا تأخذ معناها إلاّ في صلتها بالنظر إلى الفلسفة: الفلسفة خروج من حالة “القصور” ( ونموذجها الطفولة)إلى حالة ” الرشد ( كانط، أو أن الفلسفة تدرّب على” التوليد “، توليد الأفكار الكامنة في النفس مثل توليد ” الأطفال ” ( سقراط)، أو اعتبار الطفولة أصلا ” للأحكام المسبقة والآراء الخاطئة والتسرّع الخ ( ديكارت… )، بيد أنها ( أي فلسفة آلان) بربطها الفعل الفلسفي بالفعل التربوي تنحاز بوضوح إلى ” الطفولة” وتخرجها من الإهمال إلى الاهتمام. ولهذا نجد أن أغلب مؤلفات آلان الفلسفية، لا تخلو من ذكر ” الطفولة” موضوع اهتمام في سياقات مختلفة ( تربوية وأخلاقية وانتروبولوجية …) أو يكون ذكره حتى على سبيل المثال . وبالفعل فكتاب ” أقوال في التربية ” على سبيل المثال، يحتل فيه الطفل مركز الاهتمام على نحو يشهد “بفلسفة للطفولة ” ثاوية، عليها يقوم تصوّره للتربية والتعلّم والتعليم، بل وللحياة حتى. من أجل هذا سنتقصّى معالم هذه الفلسفة ” للطفولة” من خلال هذا الكتاب بالأساس، فنطرح على القارئ نصوصا منه نراهن على قراءته لها مباشرة، نصوصا ( في ترجمة شخصية) تشهد على هذه ” الفلسفة للطفولة”.

   دلالة الطفولة

الطفل هو أوّلا وبالأساس إنسان، بل ّ “كنز بشري” بعبارة آلان ومن اللازم ( أنتروبولوجيا لا أخلاقيا بالذات ) النظر إليه كذلك، بالرغم من بداهة هذا الأمر. من حيث أن الإنسان يكون أولا في البداية ” طفلا” قبل أن يصير” رجلا” أو ” إمراة”. تحيلنا الطفولة إلى ” وضعية للإنسان ” أو” حالة انتروبولوجية ” أو منزلة ” إنسانية” تتحدّد أولا من جهة ” السنّ، على معنى أن ” الطفل” ” إنسان صغير”، صغير السنّ. غير أنّ “صغره ” هذا لا يفضي ضرورة إلى أيّ اعتبار ” قيمي” يجعله دون ” الراشد “، أي الكبير في السنّ ” قدرا أو قيمة. يتعلقّ الأمر بمجرد اختلاف في الدرجة لا في النوع ولا في القيمة. فلكلّ كائن بشري في مراحل عمره خصوصيته وبالتالي قيمته الخاصّة. فالطفل ككائن بشري صغير السنّ، موجود خاصّ يتميّز ” بوضعية الطفل” التي يطنب آلان في وصفها وتحليلها خصائصها في سياق تربوي بالخصوص بأنّها تتميّزبـ:

 – العفوية : يقول آلان :”نعم يكون في حياته العفوية، بالتمام طفلا، وسعيدا بكونه كذلك، لكن بالنسبة إليكم، لا بالنسبة إليه“. لكن إذا كانت العفوية هنا تعني ” البساطة”، فليست أمرا “سيئا” . يقول آلان:” لن أقول فحسب عمّا هو بسيط بأنّه سيّء؛ بل سأقول عمّا نظنّه سهلا بأنّه سيّء. ” ذلك بساطة ” حياة الطفل ” بوصفه ” صغيرا البشر” لا تعني ” سهولتها” بل تعني أنّها لا تخلو من “تعقيد” خاص، يجعلها حياة ” تطلب ” الصعوبة”. يشهد بذلك ” إخفاقنا” غالبا، نحن الراشدون، في فهم الطفولة وما تطلبه حقّا وإدراك خصوصيتها وحسن التعامل معها. يقول آلان:” إنّي أشعر أنّ الإنسان حيوان ذي أنفة وصعب المراس. وفوق هذا، فالطفل إنسان أكثر من الإنسان. إنّ الطّفل المدلّل، طفل شبع مَدْحًا ولذّات جاهزة. ماذا يريد إذن، وماذا يريد الإنسان؟ إنّه يطلب الصّعب لا الممتع، وإذا لم يقدر على الاحتفاظ بهذا التصّرف الراشد، فإنّه يريد أن نعينه عليه. إنّه يستعجل لذّات أخرى غير التي تنساب بين شفتيه، يريد أوّلا أن يرتقي إلى أن يدرك مشهدا آخر للذّات؛ إنّه يريد في الأخير أن نرفعه، وهذه كلمة جميلة جدّا.” تعني العفوية إذن ” البساطة “( التي لا تتعارض مع التركيبcomplexité) ولا تعني ” السهولة ” و لا السذاجة” كما نعتقد . فالطفل يفكّر، يدرك ويميّز وتغلب على تصرّفاته عفوية مع ذلك.

– الخضوع لإيقاع النموّ : ويعني ذلك أنّ الطفولة مرحلة ضمن مسار عمري للفرد تتميّز بحركة النموّ الغريزي أو البيولوجي في اتجاه النضج والرشد أو اكتمال النموّ. ومن هنا فالطفل في هذه المرحلة واقع تحت حكم الغريزة والميولات والنموّ الطبيعيّ… يقول آلان :” ذاك هو نموّ الطفل، يصنعه دونكم، ولستم سوى مُسلّين”. ويضيف:” وأن يقفز و يصيح بعد ذلك بحسب الطبيعة الحيوانيّة”. ويضيف:” إنّه يريد في الأخير أن نرفعه، وهذه  كلمة جميلة جدّا، يدرك الطفل جيّدا معناها، بواسطة ما يخصّه، بهذه الحركة الطبيعيّة للنموّ. ” ويضيف :” فليس الطفل هنا في علاقة مع أشباهه؛ لقد أُخِذ من بين الكبار والشباب،  تحرّكه مشاعر جيّاشة  أثرها في اللحم.”

– سعة المستطاع وثراء القدرة : يؤكّد آلان في أكثر من موضع وفي أكثر من سياق أن للطفل قدرات ومستطاعا واسعا وثريّا، في معنى استعدادات علينا أن نقدّر أهميتها . ذلك أن للطفل استعدادات ذهنية وجسدية واسعة تؤهله للتعلّم والتعوّد والتكيف واكتساب المهارات والتدرّب الخ ..وانّه بهذا كائن يملك إرادة تحتاج دون شكّ بحكم صغر سنّه أن تشحذ وتنمّي بفعل التدريب على مواجهة الصعوبات. يقول آلان:” يجب أن يتعرّف الطفل على قدرته على التحكّم في نفسه، وبدرجة أولى أن لا يعتقد نفسه أبدا؛ يجب أن يكون له أيضا شعور بأن هذا الاشتغال عل ذاته صعب وجميل.” ويضيف :” إذ أن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته؛ ولكن ليس بأقلّ أهميّة جعل انتصاراته هذه شاقّة، وتحقيقها دون معونة من أحد..”. والحقّ أنه لا احد يعرف مستطاع الطفل .

– الطموح الواسع والتحمّس والحيوية: إنّ صغر سنّ الطفل وحركة النموّ الطبيعيّ لديه تجعلانه متحمّسا ونشطا وحيويا، مقبلا على ” اللذات” كما يقول آلان، تحرّكه المشاعر والانفعالات وقوّة طبيعته، يطلب تجاوز ذاته باستمرار. يقول آلان:” لا يعوزنا هنا الطموح؛ فالطموح نابض فكر الطفل. إنّ الطفولة حالة مفارقة نحسّ فيها أنّنا لن نبقى؛ فالنموّ يسرّع قهريّا حركة تجاوز الذات هذه، والتي، فيما بعد لن تتباطأ إلا كثيرا”. ولذلك فإن الطفل كما  يقول آلان:”يريد أن يخلّص من اللّعب بحيويّة؛ فهو لا يقدر على ذلك بنفسه، ولكنّه يريد ذلك من نفسه.” والحقّ أنه لا أحد يعرف مستطاع الطفل،”حتى العلماء، على أهمية ما توصلوا إليه من معارف بشأنه يقدّرها آلان أيما تقدير. .

– حبّ اللعب: إنّ حيوية الطفل وحركة النموّ الطبيعي لديه تحملانه على الميل إلى اللعب والصخب والحركة والهرج .يقول آلان:” يوجد من غير شكّ لدى الطفل، طيش، وحاجة إلى الحركة والصخب؛ إنّه نصيب الألعاب”. ويضيف:” ليس حبّ اللّعب مطلقا، هو ما يحمل الطفل؛ ذلك أنّه يتخلّص من حبّه للّعلب في كلّ دقيقة، إنّه المرور من الفستان إلى التبّان؛ تنقضي الطّفولة كلّها في نسيان الطفل ما كان عليه في العشيّة. لا يعني النموّ شيئا غير هذا. ولا يرغب الطّفل في شيء أكثر من أن لا يكون طفلا. طموحا يضعف باستمرار أمام إغراء اللعب؛ ثمّ، هل يكون اللعب المستمرّ مطلقا دون ندم ولا ملل. يطلب الطفل النجدة. إنّه يريد أن يخلّص من اللّعب بحيويّة؛ فهو لا يقدر على ذلك بنفسه، ولكنّه يريد ذلك من نفسه”.

– التمركز على الذات : ويعني أن الطفولة عالم خاص مغلق، له ” قوانينه الخاصّة” .بل هي مجتمع خاص ” لشعب الأطفال” كما يقول آلان، له ” برلمانه الخاص” بعبارة آلان، وله ضوابطه الخاصّة التي لا تختلف عن عالم الكبار فحسب، بل تفرض عليهم التعامل معها وفق منطقها. وهو ما يفسر ميل الكبار إلى التصرف كالأطفال بغرض ” فهمهم ” ومشاركتهم حياتهم الطفولية الخاصّة. وهو ما لا يستقيم غالبا بحكم أن الأطفال يرغبون في ” النضج” و” الرشد” خلاف ما نعتقد . يقول آلان:” لشعب الأطفال قوانيه المقدّسة، ويحتفظ بها لنفسه.” ويضيف مشيرا إلى لعب الكبار مع الأطفال :” . لا يجب على الكبار بالمرّة أن يلعبوا مع الأطفال. يبدو لي أن أكثر الجوانب حكمة هو أن نكون لطفاء ومتحفظين معهم مثلما نكون مع شعب أجنبي. حينما يجد طفل نفسه مفصولا عن الأطفال من نفس سنّه، فإنّه لا يلعب إلا وحده. “.وإذا كان الطفل يعيش عالمه الخاص على نحو خاص، فإنه مع ذلك يصبو إلى عالم الكبار . يقول آلان:” يكوّن الطفل فكرة عظيمة عن سنّ الرجولة؛ ولكن يجب مع ذلك أن يكون هذا الرجاء ذاته متجاوزا. لا شيء لهذا السنّ غير جميل جدّا.” ويضيف آلان :” بأنّ الطّفل لا يحبّ أفراح الطفولة كما تعتقدون. نعم، يكون في حياته العفويّة، بالتمام طفلا، وسعيدا بكونه كذلك، ولكن بالنسبة إليكم، لا بالنسبة إليه. إنّه يدفع لتوّه، بفعل الانعكاس، وضعه كطفل؛ ليتقمّص دور الراشد؛ وفي هذا يكون أكثر جديّة منكم؛ وأقلّ طفولة منكم، أنتم من يمثّل دور الطفل. فحال الراشد جميل لدى من يطلبه بكلّ قوى الطفولة”. ويضيف ّ مشيرا إلى ” المدرسة بوصفها ” فضاء تمارس فيها الطفولة حياتها، لا المدرسية فحسب، بل الفكرية والنفسية والاجتماعية . فالمدرسة مجتمع ” شعب الأطفال”.يقول آلان عنها :” هذا نسيج آخر للمجتمع وموضوع حسن لدارس الطبيعة، ولكن نادرا ما نتأمل فيه. يتشكّل هذا بواسطة الألعاب، حيث تبحث نفس الأعمار عن نفسها ضرورة. يجد الأطفال أنفسهم بالطّبع قد جمّعوا، وغرباء أكثر، في جمهورية ألعابهم، عن مجتمع التبادل منه عن المجتمع العائلي. ولكن كيف نحاول التحليل الدقيق لهذه المجتمع الآخر الذي لا يملك مطلقا صناعة حقيقية، وربّما ليس له مطلقا عواطف حقيقيّة، والذي يجد نفسه منصرفا لزمن إلى الحاجات وإلى أشدّ الضرورات؟ هكذا دائما لاشيء مأساوي في مسار الفكر، وأن اللعب ذاته يقود بالطبع إلى فكر اللعب، الذي يختار مشكلاته ويحدّها، وينكر النتائج”.

تتّضح إذن ممّا سبق، النظرة “الوضعية” للطفل بما هو فعليّا ” إنسان” مؤهّل بحكم ما لديه من قدرات ومؤّهلات إلى أن “يرتقي” في نموّه إلى منزلة ” الراشد” .  ولأنّ الطفل إنسان فلا مبرّر للنظر إليه ” قاصرا لا حول له ولا قوّة” وإن احتاج بحكم “صغره” إلى المعونة والتوجيه، معونة لا تبرّر ّأي نظرة سلبية تجعل منه ” عبئا” إنسانيا على الراشد. بل علينا النظر إليه ” نظرة إيجابية” بما هو ” ثروة” إنسانية تفتح أفقا ” لإنسانية” أفضل. طالما أنّ الإنسان يبدأ طفلا. أليس مصير البشرية رهين طفولتها؟! نلمس هذه النظرة الإيجابية التي تثمّن الطفولة في سياق تصوّر ” نقدي للتربية” لدى آلان، يحدّد المنزلة التربوية للطفل وشروط إمكان بناءها.

  المنزلة التربية للطفل:

  أ- التربية مَهَمَّة أو مشروع إنسانيُّ المقاصد:

  لئن كانت التربية تعني في دلالتها الاصطلاحية عملية تشريط وتهذيب وتكييف وربما “تطويعا “للفرد لنظام من ” القيم” والقواعد الخاصّة ووفق أسلوب مخصوص، فإنّ آلان يوسّع من دائرة فهمنا للتربية، أوّلا بالمطابقة بينها والتعليم، من حيث أنّ كل تعليم تربية وهما لا ينفصلان طالما كان الأمر يتعلّق بتنمية للقدرات والملكات وأن تحصيل المعارف لا ينفصل عن التربية، عن تدريب ” الإرادة ” في تحصيلها وتنمية روح المثابرة والجهد في ذلك. ثم إن التربية (بدلالتها كتهذيب) إذ تستهدف ” الإنسان”، أو الطفل بوصفه ” إنسانا”، كانت مسارا إنشائيا للإنسان يقصده في كل مراحل حياته وبخاصّة مرحلة الطفولة؛ وهي لدى ” المربّي ” مهمّة إنسانية ” يضطلع بها من منطلق المسؤولية التربوية والحضارية والأخلاقية تجاه ” الطفل ” أولا وتجاه الإنسانية. ولكن أيّ تربية للطفل جديرة بها كإنسان؟ ووفق أي أسلوب تربوي ندرك ” الإنساني” في الطفل ونرقى به إلى المرقى الذي نريد؟

ب – بناء المنزلة التربوية للطفل عند آلان : المقومات والأساليب والمقاصد

ينبني تصوّر آلان للتربية على مسلمات “إيتيقية ” وانتروبولوجية ” تفضي إلى استتباعات اجتماعية وسياسيّة …ذلك أنه لا معنى كما أسلفنا “لتربية الطفل” إلاّ على ساس انه ” إنسان”، كائن اجتماعي  يختصّ بالوعي والإرادة وله جسد أيضا، إنسانا يشكل وحدة متعدّدة المكوّنات والأبعاد. وهو ما يعني أنّ التربية إذن هي جهد إنساني ومسار، يشتغل فيه المربيّ على وعي الطفل وإرادته وجسده أيضا بغرض ” تنميتها” بفعل التمرين والتدريب …بيد أنّ فعل التربية هذا يجب أن يقوم على مبدأ إيتيقي يتمثّل في ضرورة تقدير قيمة هذا ” الكائن/ الطفل” بوصفه ” غاية في ذاته” واحترامه والحفاظ على ” كرامته” كإنسان. يستتبع هذا ” ديمقراطية التربية” بمعنى ” تساوي الأطفال ” في الحاجة إلى التربية وفي الغاية والاهتمام. وذلك على أساس مبدأ ” انتروبولوجي ” ” تساوي العقول “، تساو على المعنى الديكارتي ” في قوله ” العقل أعدل الأشياء بين الناس”. من هنا تقوم التربية على احترام ” عقل الطفل”. ووجه الاحترام عدم الحكم عليه أخلاقيا بأحكام من قبيل ” هذا الطفل بليد الذهن” والآخر كسول” ذلك أن الضرب من الحكم حطّ من قيمة الطفل وردّه، بعبارت آلان، إلى ” إلى جنس البهائم دون التمكّن من استخدام كل ما يملكه من فكر وبعث الحياة فيما جمد فيه“. ولما كان ” كل إنسان غنيّ جدّا” كما يقول آلان، بما يملكه من قدرات وإمكانيات، كانت التربية ليست سوى ” إخراج هذه القدرات إلى حيّز الوجود بتوفير مجال لتجسيد فعاليتها وقوّتها . ولا يجب على ” الأخطاء أو الزلاّت ” أن تبرّر الحكم بنقص في العقل أو قصور طبيعيّ لدى الطفل، إنما هي غلبة الأهواء والانفعالات  كما أسلفنا القول في شأن مميزات الطفولة أو هي بالأحرى قصور لدى الراشد / المربّي في معنى وجود خلل في مسار التربية…ذلك أن ” الجميع مبدئيا أذكياء متى أرادوا” مثلما يسلّم آلان. ولا وجود لمن لا يفهم مطلقا متى، كان سليم العقل طبعا، ” فكل فكر، كما يقول آلان”، على وشك أن يفهم ” . يستتبع هذا أنّ التربية ” حقّ مثلما هو التعليم بمعنى التسليم بـ ” ديمقراطية التربية والتعليم”. يقول آلان طارحا ضربا من ” التحدّي المساواتي” :” :” حينما يكون عبدا مثل إيزوب” فهوما يزال يفكّر” ويضيف:” أين نحن سائرون…إذا َبَنا الفقراء خطاباتهم وفق الحقيقة لا  الأدب؟” سؤالا يجيب عنه آلان بما يلي:” سيسير هذا العالم كما كان دوما يسير، إذا ما استأثر بكنز البشرية أولئك الذين هم أحقّ به. وعلى العكس، إذا ما أقبلنا على تعليم الجاهل فسنرى حينها الجديد“. يعني هذا أنّ ” البشرية كنز “،لا يجب أن يستأثر به البعض دون الآخرين . وان الطفل طبعا كإنسان ” كنز بشري” يحقّ للجميع ” الاستفادة منه” ولكن شريطة أن نحسن ” التعامل معه ” تربويا . يقتضي ذلك طبعا تربية ّ سليمة” وفق مناهج وأساليب “تثوّر ّ ” إن صح” التعبير، ما في الطفل من كنوز وتستكشف ” مستطاعه” في التفكير والقول والحركة الخ…

تربية الطفل : الأساليب والمقاصد

يحتكم آلان في تصوّره للتربية إلى ” منزع عقلاني” يذكّرنا بفلسفة كانط في “صرامتها ” وجدّيتها المفرطة أحيانا كثيرة.  وهو ما يجعل  فعل التربية فعلا يتميّز، كما هو شأن الفعل الأخلاقي عند كانط، بـ” الانضباط” ويحتكم إلى صرامة ” المنهج التربوي” وصلابة ” إرادة المعلّم أو المربّي” . وبالفعل، فإنّ فعل التربية يشتغل على عنصر أساسي، هو مقوّم بناء ” الطفل” كذات، بل بناء الإنسان عامّة، هو ” الإرادة”. ذلك أنّ الإنسان لا يكون كذلك إنسانا إلا متى ” أراد” . إنّ إرادته هي أساس إنسانيته وهو إنسان من حيث هو ” مريد”.  من هنا يؤكّد آلان على أنّ التربية ليست سوى ” شحذ للإرادة”، بتدريبها وتمرينها وتقويتها الخ .. يقتضي هذا طبعا  انتهاج ” الصرامة ” أسلوبا، مما يجعل عملية التربية للطفل عملا لا “صعبا” فحسب، بل عملا يتقصّى ” الصعوبة ” ويستثمرها في مسار البناء التربوي للطفل. يقول آلان:”  يجب أن يتعرّف الطفل على قدرته على التحكّم في نفسه، وبدرجة أولى أن لا يغترّ بنفسه أبدا؛ يجب أن يكون له أيضا شعور بأن هذا الاشتغال عل ذاته صعب وجميل. لن أقول فحسب عمّا هو بسيط بأنّه سيّء؛ بل سأقول عمّا نظنّه سهلا بأنّه سيّء. فالانتباه السهل مثلا ليس بالمرّة الانتباه؛ وإلاّ قلنا إذن بأنّ الكلب الذي يرقب السكّر منتبه. ثمّ إنّي لا أريد أثرا لسكّر؛ وتبدو لي الحكاية القديمة عن كأس مرّة طليت حافتها عسلا، سخيفة. أفضّل جعل حافّة كأس العسل مرّة. بيد أن ذلك غير ضروريّ؛ إنّ المشاكل الحقيقيّة هي أوّلا مرّة المذاق؛ ولن يفوز باللذّة إلاّ من تجاسر على المرارة. لن أعد إذن باللذّة، ولكنّي سأجعل من قهر الصعوبة غاية؛ ذاك هو الطُّعم المناسب للإنسان؛ ومن هنا فحسب يصل إلى التفكير بدل التذّوق.” ذلك أن ” استصعاب فعل التربية” أو اعتبار ” الاشتغال على الذات ” صعب” شرط جوهري في الارتقاء بالطفل ومساعدته على النموّ والتحصيل المعرفي والتوازن النفسي. لآجل هذا يؤكّد آلان في “فلسفته التربوية ” على ضرورة أن يتعامل الراشد مع الطفل بوصفه ذاتا ترغب في الارتقاء إلى ” حالة الرشد” بالمعنى الكانطي. وأنّ ذلك يعني أن لا يحاول الراشد النزول إلى وضعية الطفل والحرص على ” تملّقه” أو التقرب إليه . بل عليه أن يكون “صارما” في التعامل معه، صرامة لا تعني استبدادا ولا ” تعسّفا”، بل تعني “جديّة” لا تتعارض مع استعمال ” القوّة” إن لزم الأمر، خاصة حينما يتعلّق الأمر بفرض “الانضباط ” شرطا ضروريا للتعلم والتمرين والتربية الخ..من صورة كانت صورة ” المعلم” بوصفه “لامبال ” “قاس” قساوة معقولة يقول آلان:” . إن المعلّم الجيّد عندي هو من كان كثير اللامبالاة، ويريد أن يكونه، ويتدرّب على ذلك“. لذا فإنّ أفضل تعليم وأفضل تربية هي ما يعلّم الطفل الإيمان بقدراته ويعينه على ذاته بشحذ إرادته في التعلم الخ. يقول آلان:” إن أعظم شأن هو أن نمنح الطفل فكرة راقية عن مستطاعه، وأن نسنده بانتصاراته؛ ولكن ليس بأقلّ أهميّة جعل انتصاراته هذه شاقّة، وتحقيقها دون معونة من أحد. فموطن الضعف في المهمّ بذاته، استغنائنا عن مشقّة الاهتمام به، وكوننا لا نتعلّم الاهتمام به إراديّا. لأجل ذلك أزدري حتّى اللغة المنمّقة، طريقة في تيسير الانتباه. وليس على الطفل أن يكون قادرا على التغلّب على الملل والتجريد فحسب؛ بل لابدّ أن يعرف أيضا أنّه عليه قادر؛ هذا ما يلزم التشديد عليه، وليس لنا إلاّ أن نطبّق على ثقافة الفكر المبادئ التي لا يمكن لنا نسيانها حينما نعلّم رياضة الجمباز. اختبروا هذا المنهج الصارم، وسترون فورا طموحا حسنا، طموح فكر لا يملكه الكلاب.” ويضيف أيضا: “لا يتعلّق الأمر بالمرّة بتطويع صغار البشر، حينما يكون من أجل مصلحتهم. بل إنّه على العكس، لابدّ أن نضع بين أيديهم تعلّمهم الخاص، وهو ما يعني شحذ همهم. إذ لا توجد البتّة قيمة إنسانية غير هذه. وليس في نيّتي تعويد الإنسان على الضجيج المفاجئ، مثلما نفعل مع خيول الحراسة. وباختصار يبدو لي أنّ كلّ ما هو تعوّد، غير إنسانيّ“. يتخذ ألان من رياضة ” الجمباز” نموذجا ” للتربية الصارمة ” المتمثّلة في “شحذ إرادة المتعلّم”  بجعله يواجه الصعوبات ويسعى إلى التغلّب عليها . ويجعل من مدرّي الرياضة” هنا مثالا ” للمعلّم ” أو المربّي في ” صرامته” وجديته … نلاحظ هنا أن فعل التربية لدى آلان يستند إلى” إيتيقا للتربية” تسلم بضرورة التلازم بين ” مبدأ الإرادة وحرية الطفل وبضرورة استخدام ” القوّة” لتوجيه الطفل وتدريبه ..ذلك أن آلان لا يسلم ” بالرفق” أسلوبا في التربية كما يذهب روسّو وآخرون .بل يرى ” الإرغام ” ضرورة حينما يتعلّق الأمر بالتربية بوصفها لا تعويدا بل مسارا يعني ارتقاء الطفل نحو إنسانية أكمل قيميا يقول آلان في هذا المعنى :” ثمّ ألا يجب إرغامه أحيانا؛ فكثيرا من الفنانين انقادوا أوّلا إلى الإحكام والعزف وفق الإيقاع، ضربا بالعصا. ولتقدير النتائج وفق القيم الإنسانيّة، نفهم أنّ تربية كلّها رفق ينقصها شيء ما. لقد استفاق مونتاني على صوت الآلات؛  ولم يكن ذلك وسيلة لصنع موسيقيّ؛ فليس للإنسان إلاّ ما اكتسبه بجهد جهيد،  وأنّ أولئك الذين أعرضوا عن نهج المشقّة لا قيمة لهم. 

 ليس لكوني مع الضرب بالعصا. يروي بيار هامب، في كتابه الجميل حيث يقدّم لنا تاريخ المهن التي مارسها، حكاية صانع المرطبات الصغير، الذي تلقّى، لهفوة ارتكبها، قد تغفر له أوْ لا، ضربة مِسوط على رأسه، ضربة موجعة.

ولا يجب أن نستخلص وهن إرادته وأن ذلك أفضل له؛ إذ أنّ متعلّم الملاكمة ذاته هو الذي يريد أن يُضرب، وأن يعاقب على أخطاءه وفق القوّة لا الرأي. يقينا لأسلوب القوّة إفراطه. ينصح جون لوك في ”  مقالة في البيداغوجيا”، بضرب الكاذب الصغير ضربا مبرحا. ما الذي ينقص هنا؟ ينقص أن يطلب الطفل الكاذب بنفسه أن يضرب ضربا مبرحا. هنا مربط الفرس. يجب على الطفل أن يبحث بنفسه عن الصعوبة، و أن يرفض المعونة أو أن يُراعى جانبه. لا يجد طفل كهذا نفسه فحسب، بل إنّه المعتاد.”.

هكذا يرى آلان أن” القوة ” أو”الإرغام ” في مجال التربية لا تتعارض مع ما يسمّيه ” العظمة” grandeur أي مع منزلة قيمية رفيعة تتوافق مع  ” إنسانية الطفل” بوصفه “ذاتا” إنسانية. بل إنّ تحصيل ذلك أو إدراكه يحتاج ضرورة إلى شيء من القوّة. حدّدها آلان في معنى أن لا تكون تعسّفا أو ضربا مبرحا بالعصا أو إهانة الطفل أو استصغاره الخ …بل يعني فرض نظام يساعده على تقوية إرادته وشحذ همته في بلوغ أعظم المراتب. يتعارض هذا ضرورة مع أسلوب ” التملق” المتمثل في التوسّل ” باللعب” طريقة في التعلّم . فإذا كان الطفل، كما أشرنا سابقا،” ميالا إلى اللعب ” بحكم طبيعته أو غريزته، فهو” أميل” بحكم إرادته إلى ” جدية العمل ” . لهذا ما فتئ آلان ينقد  أسلوب” البيداغوجيين ” بوصفهم كما يقول :” أناس لطفاء” غير أنهم يجهلون ” طبيعة الطفل وخصوصية ” الطفولة” لا كمرحلة عمرية فحسب بل كمنزلة إنسانية أو كوضعية. يقول آلان:”    كلمة جميلة جدّا، يدرك الطفل جيّدا معناها، بواسطة ما يخصّه، بهذه الحركة الطبيعيّة للنموّ. فكّروا في ذلك، لا يعنيكم بعدُ غير كيانه بالأمس؛ سيصغّر نفسه قليلا إذن حتّى تستطيعوا إرضاءه، ولكن حذار من الازدراء. فالمخيف في الازدراء، هو ما فيه من ازدراء النفس، ازدراء للنفس مُتجاوز. ذاك هو نموّ الطفل، يصنعه دونكم، ولستم سوى مُسلّين. ولاشيء أكثر ازدراء من المُسلّي.” يقول الطفل لنفسه: ألعابي جدّ كافية لطفل الأمس هذا”.

لأجل ذلك لا أؤمن كثيرا بهذه الدروس المسليّة التي هي أشبه بتتمّة ألعاب. إنّها أحلام يقظة لأناس طيبون لم يتعلّموا المهنة. يقينا، من الأفضل أن نستشفّ الأسباب؛ لكنّ المهنة تعلّم بأشدّ قسوة وخشونة. يشير الجرس أو الصفّارة إلى نهاية وقت الألعاب والعودة إلى نظام أكثر صرامة؛ والتجربة تخبرنا أنّه لا يجب مطلقا أن يحدث المرور دون التفطّن له، بل على العكس يترك التحوّل الكلي أثرا بالغا في مظاهره. ترتفع اليقظة درجة؛ فهي لا تبحث إذن عن لذّة يلعقها، مثلما تفعل الكلاب؛ فما هي بشراهة، بل هي حرمان وصبر وانتظار يرقب من فوق ذاته. إنّ يقظة الكلب ليس اليقظة.” ويبرّر آلان لزوم تجنب ” التملق ” أسلوبا في التربية من قبل المعلم ولا حتى ” الأب”، في معنى ” الحرص على تسلية الطفل” بأنّ هذه الطريقة ” تفسد طباعه” وتدخل اضطرابا في مساره تكوّنه النفسي والأخلاقي أيضا . فهو القائل :”لا يجب على المعلّم بتاتا، من جهة أخرى، أن يقول:” أفعل هذا أو ذلك لإرضائي”. إنّه تعدّ على الآباء. وسيحسّ الطفل غالبا، وهو الذي يستحيي من هذا كثيرا، كلّ دلائل الحنان كضروب من الإكراه غير العادل. إنّ التّشديد على الحنان يزعج كلّ الذين لا يملكون الحقّ في نيله. من ثمّ تكون المشاعر الأبوية، لدى كلّ إنسان ما عدا الأب، سخيفة جدّا. وفي النهاية، لكلّ علاقة اجتماعية ميزتها الخاصّة؛ على الأب أن يتصرّف كأب وعلى المعلّم كذلك. للبعض أوهام حول هذا؛ يخشى أب أن يبالغ في الحبّ؛ ويتمرّن معلّم على الحبّ. أعتقد أنّ هذه الأوهام تفسد كلّ شيء؛ كُلٌّ عليه أن يكون ما يجب أن يكونه، وأنّ الانسجام ينشأ عن الاختلافات. حينما تطلبُ قُوَّةُ الانفعال، فذاك لأنّها ستغفر عن كلّ شيء. ولا يمكن للنفوذ على العكس، إلاّ أن يضعف بإرادته التنبؤ بالأفكار وإثارة الأحاسيس؛ إذ لو ادّعى الحبّ، لكان منفّرا، ولو أحبّ فعلا لكان دون قدرة. لقد لاحظت، وهذا أمر معلوم لدى من خبر المهنة، أنّ الطفل بمجرّد ما يكتشف في نفسه القدرة على مضايقة المعلّم فعلا بالكسل والتشويش، سرعان ما يفرط في ذلك. وعلى حدّ ما أعرف، فإنّ الفوضى تتبع بسرعة، كلّما انكشفت طبية القلب. وفي النهاية ليست المدرسة بالمرّة أسرة كبيرة. تتجلّى العدالة في المدرسة، التي تستغني عن الحبّ وليس لها أن تصفح، لأنّها فعلا لم تُهَنْ مطلقا. إنّ قوّة المعلّم حينما يوبّخ، هو أنّه لن يفكّر في ذلك بعد لحظات؛ والطفل يعرف ذلك جيّدا. ولا تصيب العقوبة إذن، من يفرضها. بينما يعاقب الأب نفسه من خلال طفله.” ويحاجج آلان في موقفه هذا بنماذج ” تربوية ” ذات بعد إنساني بـ” مونتاني وغيره، في جهده في تعلّم الموسيقى وضربه على ذلك الخ. دون أن ينسى الإشارة ضمنيا إلى معلمه وقدوته ” جيل لانيو”،  الذي أثر فيه بعمق ومنه يستمدّ أفكاره عن التربية بل  تجده يحاكي على ما يبدو( ووفق شهادات تلاميذه) ” أسلوبه في التعليم ” الذي كان آلان بالذات أحد ثماره.  

بيد انّه من الضروري هنا التنبيه إلى أن آلان لا يجد فى استخدام ” القوة” أو ” الصرامة ” وفرض “الانضباط” في التربية شيئا مناقضا للطبيعة البشرية . بل يراه متوافق معها بحكم أنّ الإنسان كما يقول :” حيوان ذي أنفة وصعب المراس ” وان تربيته تقتضي استخدام ” القوّة ” والإرغام . يقول آلان:” غالبا ما لاحظت منذئذ، بأنّ الطبيعة الإنسانية، مع الأطفال ومع الراشدين أيضا تتشكّل بيسر من خلال أحكام الآخرين، مثلما نمنح المشاركة في حوار في المسرح، لكن ربما أيضا لهذا السبب الأعمق، كونه لنا نوعا من الحقّ في الكذب على من يعتقد أنّنا كذّابون، وضرب من يجدنا عنيفين، وهكذا الشأن فيما يتبقى. ينجح الدليل المضادّ غالبا؛ لن نضرب أبدا من يضع يديه في جيبه، ولا نحبّ مغالطة الثقة الحقيقيّة. أستخلص من هذا بأنّه لا يجب إطلاقا التسرّع في الحكم على الطبائع، مثل أن نصدر حكما نهائيا بأنّ أحدهم غبيّ والآخر كسول. وإذا ما أشّرت على عبد فإنك تمنحه ضربا من الحقّ المتوحّش. من دون شكّ يوجد في أصل كل الشرور بعض الإدانة لتي نعتقد فيها؛ و، يذهب بنا هذا بعيدا في العلاقات الإنسانية، ويستدعي الحكم دليله، ويقوّي الدليل الحكم. أحاول أن لا أحكم أبدا من علٍ ولا حتّى من أسفل، إذ النظرات والسلوك دائما ما يتحدّثان كثيرا؛ وأتوقع الخير عقب الشرّ، وغالبا لنفس الأسباب؛ لا أخطأ في هذا الأمر كثيرا فكل إنسان غنيّ جدّا. أعتقد بالإضافة،  مع ذلك جازما بأنّ كل فرد يولد ويحيا ويموت وفق طبيعته الخاصة، مثل أنّ التمساح هو التمساح، وأنّه لا يتغيّر البتّة. لكن هذه الطبيعة تنتمي إلى نظام الحياة، إنّها فعلا فوق أحكامنا. إنّها أساس المزاج وبمثل نظام حياة، لا تنغلق لا على الخير ولا على الشرّ، ولا على فضيلة ولا على رذيلة، بل بالأحرى على طريقة يتعذّر تقليدها ومتفرّدة، في أن نكون صرحاء أو مخادعين، قساة أو محسنين، بخلاء أو كرماء. لاحظوا أنه يوجد فعلا اختلاف أقلّ بين إنسان شجاع في مقابلة، وهو نفسه، جبان في أخرى، فيما بين بطلين أو جبانين”.

لكن إذا كان من الضروري توخّي الصرامة في التربية فلابدّ كذلك من ” التسامح” ؛ تسامحا قائما على معرفة حقيقية ” بمجتمع الأطفال “، بطبائعهم . وهو يحتاجه كل مربي أو معلّم . يقول آلان في هذا الباب:” إنّ شعب الطفل هذا قادر على المحبّة والاحترام، أوّلا، ليس أبدا بأفكار، بل بقدرة الجميع على كل واحد؛ وتنطبع هذه الأحاسيس بقوّة بحيث يتبقّى منها شيء ما حتّى في العزلة. أوّلا، يجب فحسب أن يكون هذا الجمع منظّما، وموجّها، وفق الصمت والانتباه. الصمت مُعْدي بمثل الضحك. ولكن، إذا كان هذا المجتمع للأطفال قد هُيّأ للبداية بشكل سيّء، فقد ضاع كل شيء، وغالبا دون تدارك. يحرّك الضحك أكثر العقلاء والأكثر اطمئنان. إنّهم يشعرون جميعا إذن بأنّهم أجزاء لعنصر أعمى مثل البحر؛ إنّهم سرعان ما يشعرون بأنّ هذه القوة الجماعية لا يمكن مقاومتها. لا مكان هنا لّلياقة التي هي مألوف عائلي. إنّ الطفل في حالته المتوحّشة. لقد أصاب هذا أكثر من إنسان محترم ومخلص وحنون، باليأس. إنّ أولى الأفكار التي يمكن أن تنير المعلّم، في هذه الوضعية الصعبة، هو أنّه ما من شرّ في هذه الفوضى، ولا حتّى فكرة. إنّها آثار فيزيائية ناتجة عن العدد.. إن هذه الفكرة، إذا ما اتبعناها، فستقودنا إلى نوع من التسامح وأيضا إلى نوع من الصرامة. إذ لا يتعلّق الأمر هنا بالتقدير ولا بالحكم؛ بل بالمنع.  وإذا ما كان المعلّم يتصرّف بمثل قوّة فيزيائية، مناقضة مباشرة للفوضى، سينتصر على الفور. لا أفهم من هذا أنّه سيدخل في معركة؛ علاوة على ذلك أنّه لن يكون الأقوى؛ بل إنّه يتوفّر لديه أشكال من العقاب جدّ حسّاسة في هذا السنّ النشط والتي يكفي دوما، شريطة أن تكون صلبة على صورة القوى الطبيعيّة. لقد لاحظت عندما كنت طفلا بأنّ أولئك الذين يحفظن النّظام مثل أن يكنسوا، أو يرتّبوا العدّة، كانوا موضع خشية لأجل هذه اللامبالاة، التي تقضي على كل أمل.و، أولئك الذين يريدون الإقناع والاستماع والنقاش والصفح في النهاية عن الوعود، كانوا مكروهين، مستهزئ بهم، ولنقل مع الأسف، في النهاية ممقوتين؛ عوضا عن أن يكون الآخرون، بشرا دون قلب، في النهاية محبوبين.”

بيد أنّ أفضل ” إطار مجتمعي ” او أفضل مجال لتحقيق هذه التربية للطفل هو المدرسة . التي يراها في هذا آلان ” مجتمعا صغيرا” لشعب الأطفال” كما يقول . لها قوانينها الخاصة التي تتوافق مع “طبيعة الطفل” شريطة ان نجعل منها عالما لا يخضع لقوانين الراشدين بل تراعى فيه قوانين الطبيعة لدى الطفل. ولابدّ في هذا من الاستئناس بالعلوم النفسية وغيرها التي يرى آلان أنها مفيدة في هذا الباب وقد مكنت البشرية من معرفة بعض هذه القوانين . خلافا للبيداغوجيين الذين يجدهم آلان ” جاهلين ” بها، رغم عمهم  القرب من هذا العالم” لمجتمع الأطفال”. وجهل هؤلاء لا يختلف كثيرا عن جهل الآباء والأمهات وفشلهم في “التربية” لغلوّهم في الجهد إلى إرضاء الطفل أو التعسّف عليه دون ” علم ولا معرفة بمستطاعه وقدراته ورغباته .الخ. يقول آلان مؤكد على دور المدرسة في مجال التربية كيف تمثل إطارا لا يمكن تصوّر إمكان معرفة الطفل لقدراته دونها :”  إذا ما بحثنا عن الحدّ الأوسط الآن، فسنجد المدرسة. من لم يعرف أبدا المدرسة فلن يعرف شيئا عن فكره. هذا نسيج آخر للمجتمع وموضوع حسن لدارس الطبيعة، ولكن نادرا ما نتأمل فيه. يتشكّل هذا بواسطة الألعاب، حيث تبحث نفس الأعمار عن نفسها ضرورة. يجد الأطفال أنفسهم بالطّبع قد جمّعوا، وغرباء أكثر، في جمهورية ألعابهم، عن مجتمع التبادل منه عن المجتمع العائلي. ولكن كيف نحاول التحليل الدقيق لهذه المجتمع الآخر الذي لا يملك مطلقا صناعة حقيقية، وربّما ليس له مطلقا عواطف حقيقيّة، والذي يجد نفسه منصرفا لزمن إلى الحاجات وإلى أشدّ الضرورات؟ هكذا دائما لاشيء مأساوي في مسار الفكر، وأن اللعب ذاته يقود بالطبع إلى فكر اللعب، الذي يختار مشكلاته ويحدّها، وينكر النتائج. من البيّن جدّا أنّ ارتكاب طفل خطأ في الحساب لا يدمّره. يجد الخطأ هنا مكانه؛ نَمْحِي اللوحة فلا يبقى من الخطأ شيء. هنا يتظاهر الفكر باللامبالاة، التي لا خير فيها لوحدها، ولكنّها مع ذلك قيمة أوليّة، شأن القدرة على السقوط دون خطر الموت في رياضة الجمباز. هذا جديد؛ نكاد نلاحظ ثمار تنظيم للمجتمع حيث سيكون كلّ فكر حرّا ويحكم بذاته خلال لحظة قصيرة”. ولكن على الرغم من أهمية المدرسة في التربية وخطورتها في ذلك من جهة أثرها على الطفل، فإنّ أغلب المتدخلين في الشأن التربوي يجهلون قوانين هذا العالم وكثيرا ما يخفقون في تقدير أهميته . ربما بموجب ” الاستهانة” به أو عدم التوفّق إلى سبيل أقوم في دراسته . شأن علماء الاجتماع في نظر آلان أو علماء التربية الخ . يقول آلان:” أفلا يدرسون آداب الأطفال؟ هذا الشعب غير معروف بقدر كاف. كلّ يريد أن يحكم عليهم انطلاقا من الأطفال الذين يلاحظهم في العائلة ؛ خطأ منهجيّ، على عالم الاجتماع، بأفكاره المسبقة الخاصّة، أن يتجنّبه. فليس الطفل هنا في علاقة مع أشباهه؛ لقد أخذ من بين الكبار والشباب،  تحرّكه مشاعر جيّاشة  أثرها في اللحم. ففي المدرسة وحدها يجد شبيهه وندّه. وفي المدرسة هو آخر؛ أحيانا أفضل، وأحيانا أسو؛ ولنقل مختلفا. هذا ما يجهله تقريبا كلّ المعلّمين الذين يراهنون على الشعور، ولا يمكن للشعور أن يكون إلاّ ضعيفا جدّا.  لسنا آباء بمجّرد أمر. صحيح أنّ طفلا منعزلا هو عادة مهذّب أمام إنسان لا يعرفه؛ ولكن إذا ما جمّعتم أطفالا بنفس السنّ، فإنّ المشاعر القويّة ستنتج عن المحاكاة والعدوى. فإذا كنتم تعتقدون أنّ هذا الإنسان الجماعي سيشبه في ردود الأفعال وفي الآراء، وفي الأهواء، الأفراد الذين يكوّنونه، فأنتم تعيشون من خطأ إلى آخر، وستعرفون الشتيمة المستمرّة، تنطق بخمسين وجه. “ 

وبالفعل فالطفل في عالم المدرسة غيره في عالم البيت أو في الحياة العامة . فتصرّفه داخل المدرسة خاضع لقوانينها او بالأحرى لقوانين ” مجتمع الأطفال” داخلها. تشكل المدرسة عند آلان فضاء لحياة اجتماعية تنتظم فيها العلاقات على أساس العمر ( علاقات الأقران والأتراب الخ )  وتتراتب على أساس “التجانس ” في الطبائع والحاجات الخ لا على أساس الانتماء إلى العائلة التي تظل عالما آخر خارج المدرسة سرعان ما ينسى الطفل قوانينها بمجرد دخوله إلى المدرسة. من هنا فعلى التربية أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصية وعلى المربي أن يدرك ذلك جيدا حتى يكون كما يقول آلان ” شيئا آخر غير ” الأب”. شبيها بمدرب الرياضة أو معلم الموسيقى   أو ” القائد” يوجّه يرشد ويشتغل بالأساس على ” إرادة المتعلّم” لا على مشاعره وعواطفه شأن ما يؤكّد روسو أو ما يكون عليه الأب في تربية طفله. يقول آلان في ذلك :” إنّ وضعية الأب هي شيء آخر تماما. فمن جهة هو يحبّ ابنه، والابن يعرف ذلك؛ فللطفل هذه الوسيلة الرهيبة لمعاقبة أبيه بحمله على معاقبته هو. لكن الطفل يحبّ في المقابل هذا؛  وخاصّة أنّه هو وحده في سنّه أمام أبيه؛ وكلّ العائلة في تراتبها منظّمة وشاهدة . والجدير بالذكر، هو أنّ هذه السلطة الأبويّة هي عاجزة تماما عن التعليم، وهذا مفهوم. فمن جهة يُأخذ التعثّر في الخطّ مثل إساءة قلبية؛ ولكن كلّ حركة حقيقيّة للقلب تمحي في المقابل التعثّر في الخطّ. إنّ الإحساس، في هذا المجتمع المغاير الذي  هو المدرسة، لا يأخذ في الحسبان ؛ في معنى أّنّنا نغضّ الطرف عن كلّ شيء؛ وفي معنى آخر لا نغفر أيّ شيء . هنا لا تظهروا بتاتا حبّا ولا تنتظروا منه شيئا. لا يجب على النظام الذي يسري في هذا المجتمع أن يشبه في شيء نظام العائلة. لكن يجب أن نتابع وصف هذه الآداب التي لا يعرفها إلاّ قليل. كيف يحدث أنه لم يفكّر أيّ سيولوجي جدّيا في هذا؟        

ليس الطفل في عائلته هوهو نفسه؛ إنّه يستعير كل شيء، يحاكي ما ليس من سنّه؛ من هنا كان الملل المضطرب الذي لا نعرفه جيدا. هنا يكون الطفل مثل غريب، لأنّه لا يعيش لا المشاعر التي نعيرها له، ولا التي يعبّر عنها…. لا يجب على الكبار بالمرّة أن يلعبوا مع الأطفال. يبدو لي أن أكثر الجوانب حكمة هو أن نكون لطفاء ومتحفظين معهم مثلما نكون مع شعب أجنبي. حينما يجد طفل نفسه مفصولا عن الأطفال من نفس سنّه، فإنّه لا يلعب إلا وحده.

 المدرسة إذن هي شيء طبيعي. يجد فيها الطفل نفسه في وحدته؛ ثمّ إنّ التعلّم هو أيضا احتفال؛ لكن يجب أن يكون المعلم غريبا وعلى مسافة؛ فحالما يقترب ويتصنّع الطفولة، كانت الفضيحة. كما كان مدنّسا قد تسلّل إلى مجتمع سرّي. لشعب الأطفال قوانيه المقدّسة، ويحتفظ بها لنفسه. يشدّ هذا الرابط القويّ جدّا بين أصدقاء اللعب، أيضا الإنسان الواقعي، وسرعان ما يجعله صديقا على نحو ما لإنسان آخر لم يره منذ عشرين سنة، و تقريبا لا يعرفه قطّ. يكبر شعب الطفل إذن ويصير شعب البشر، غريبا عمّن يكبره، غريبا عن أولئك الذين يتبعونه. إنّ النقاش مع أخ أكبر صعب دوما ؛  وهو مع الأب تقريبا مستحيل؛ وهو أكبر طبيعية مع غريب من سنّ أخرى؛ أكثر طبيعية مع معلّم الخطّ أو العلم، أو الآداب الجميلة، لأنّ المعلّم يشعر بالاختلافات ويحفظها، بدلا من أخ أو أب يريدان الاقتراب والفهم، وسرعان ما يصيبهما الضجر لكونهما لم ينجحا في ذلك. حتّى أنّ المعلّم يجد نفسه سفيرا و مفاوضا بين شعب الأب وشعب الطفل.”

يثمّن إذن آلان دور المدرسة فيما أسماه الارتقاء بالطفل ” إلى سنّ الرجولة” وذلك بحذق ” فنّ الإرادة ” الذي لا يتصوّر آلان مجالا أفضل من المدرسة لممارسته.يقول آلان:” إنّ فنّ الإرادة هذا لا يتيه عن نفسه أبدا؛ لكنّني لا أرى كيف يمكن أن نكتسبه خارج المدرسة؛ ولن يناله كما يقول أفلاطون، من تأخّر تعلّمه.”

يتضح لنا إذن مما سبق أن تربية الطفل ّ شأن عظيم” عظمة الطفولة بوصفها ” البداية”، ولعلها بما هي كذلك محددة لمصير ” الإنسان”، أي للنهاية . ألم يقل روسوّ بأنّ “مصيبة الإنسان انه عاش طفلا”  منبها إلى خطورة هذه المرحلة؛ خطورة أكدها علم النفس بكل وضوح. لأجل هذا ثمّن آلان الفعل التربوي وجعل مركز اهتمامه وجعل من ” الطفل” مبحثا بارزا مؤكّدا على ثراء هذه الكائن وعظم منزلته وعلى كونه ما يزال ” مجهولا ” برغم التقدّم في دراسته . إنّ فلسفة آلان ذات النزعة العقلانية تطرح ” فلسفة للطفولة” واضحة المعالم . وتشهد بخطورة مبحث الطفولة الذي بات على أهمية قصوى اليوم. مع أنّ المشهد الفلسفي اليوم يؤكّد انّ مسألة الطفولة ما تزال في حاجة إلى انشغال فلسفي أوسع وأعمق، حتى لا يظلّ التوجّه إلى ” تعليم الفلسفة للأطفال ” على أهمية القصوى، أحد أبرز وجوه ” الممارسة الفلسفية” التي محورها الأطفال اليوم.   

ملاحظة : كل الشواهد المقترحة في هذا المقال من كتاب ” أقوال في التربية ” لآلان.
___________
*عبد الوهاب البراهمي: متفقد عام للتربية سابقا ( فلسفة).

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات