المقالاتفكر وفلسفة

المفارقات والمصطلحات المفارقة في تاريخ الفرقة الناجية

منذ أن دوَّن ابنُ جرير الطَّبَري (ت. 310 هـ) تاريخَه، وأبو عبدالله محمَّد الواقدي (ت. 207 هـ)، والبلاذري (ت. 279 هـ)، وابن عساكر الدمشقي (ت. 571 هـ) كتاباتهم، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت. 548 هـ) كتابه الملل والنِّحل، وآخرون كُثُر، كان هناك سؤال عن المدى الذي يمكن فيه للدِّين أن يشكِّل المجال العربي العام [1]، بدلاً من أن ينجح المشروع العربي القديم في أن يكون له أثر نقدي وعقلي في الفعل العام، وبدلاً من أن يمنح الحافز الأخلاقي بتشكيل الضمائر، وبدلاً من أن ينحت عميقاً وطويلاً لنقل العرب من عهد “جاهليَّة” إلى عهد “ما بعد جاهلية”. رغم ذلك وجدنا أنفسَنا غارقين في خطابات سدَّدت قَنَاتُها في نحر وعي الأمة[2].

يعصف التاريخ بعقول متابعيه بقسوة، عندما يجتزئ من أحداث الأمة فقرات منتقاةً ليدوِّن منها “سرديَّتَه”، وقساوةً أخرى، عندما يفتقد التاريخ إلى الأخلاق، ليصنِّفَ المتنازعين، بلا رحمة، في سياق أحد السَّبيلين؛ أهلِ خير أو أهلِ ضلالة[3].

تاريخنا الديني تاريخ تخصَّص بتشريح معنى الإسلام الشامل الحاضن للتنوع، بتفكيكه ضمن حقول فكرية، ومن ثم تَحْتِيتَه في سياقات موضوعيَّة ومحليَّة، يستحيل معها، عند خوض ضبابيات تفاصيل خصوصيات الأحداث والنزاعات، معاودة التمكن من رؤية مقاصد الدين العليا.

الإسلام الجميل الذي أُنزل ليخاطب العالَمين، وليكون مُلكاً للجميع، كلَّما أُسْقِطَ من سموِّهِ يفقد شيئاً صالحاً كان مناسباً للجميع، ليصبح بعدها حقلاً معرفيّاً مملوكاً من قبل نخبة. إنها نخبة تحتكر كتابة التاريخ، وتُحَسّنُ لنا الانحياز لا إلى الاتحاد خلف “القرآن” العظيم، بل إلى الافتراق باختيار جماعة دينية، والنفور من بقية الجماعات، متجاهلين قوله تعالى: “إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ”. فالحقيقة التاريخية التي تصلنا هي “حقيقة” الفرقة “النَّاجية الصَّادقة” المخلصة القابعة في “المركز” والدَّاعمة للحكم، والمدعومة من قِبَله. إنها حقيقة تُحرِّم أنْ يكونَ “للرُّعاع” الهامشيين “شُذَّاذِ” الآفَاقِ الَّذين خرجوا عن الجماعة وتعمَّقوا في أقطاب المعمورة، أيَّ نبرةِ صدقٍ أو نصيبٍ من الحقيقة.

اليوم، ونحن نقفُ أمام شاشاتِ التِّلفاز وقنوات اليوتيوب، نجدُ أنَّ التَّاريخ يجدِّد قسوتَه على مشاعر المؤمنين، عندما نسمع الجماعات الدينية لا تمثِّل ديناً بقدر ما تمثِّل معارضةً دينيَّة لِبعضها البعض. مع ذلك، فقد استمدَّت كلُّ حركة فيها قوَّةً كبيرة من المصادر الدينية. إنه تاريخٌ يضعُ عامَّة المسلمين المستهلكينَ للخطابات الدينية الماضويَّة أمامَ مفترق الطرق، وهو تاريخٌ يرغمنا على الاختيار والتَّنقيب عنِ الإسلام بين آلافٍ من كتبِ التُّراث، تاريخٌ يرغمنا على البحث عن مَنْ يمثِّل الإسلام اليوم أفضل تمثيلٍ من بين الجماعات الدينية المعاصرة. نذهب جميعا كمتسوِّقين، ونقف أمام حوانيت المكتبات وجمعيات وأحزاب وحلق ومجالس تحوي جماعات، لنستمع إلى شيوخها وهم يسوِّقون بأعلى أصواتهم أفكاراً عن جودة ومتانة رواياتهم، ويشهرون أمام أعيننا شهاداتٍ توثِّق أدلَّتهم، مكرِّسينَ حججهم على أنَّهم بلا شكٍّ الفرقة المهديَّة الناجية، يقول لسان احدهم: “أقبلوا عليَّ وخذوا مني كلَّ الكلِّ، واتركوا كلَّ الآخرِ، فلا ترجوا خيراً مِنْ أهلِ البِدَعِ، وإنْ بدى لكم بعضُ الخير منه”.

الجماعة والحكم

أصرَّت بعض الجماعات الدينية على رفض الفصل بين الدين والدولة؛ جماعاتٌ تنشر إلى اليوم في أدبياتها:

“إن المراد بالسياسة ما يتعلق بنظام الحكم، وتدبير شؤون الدولة، والتعامل مع الدول الأخرى، والضوابط الشرعية لهذا الباب، وهي بهذا الاعتبار جزء من الدين بلا ريب، فإن حق التشريع والحكم في الإسلام لا يكون إلا لله تعإلى، وهذا الأصل ـ وهو حق التشريع ـ ليس من مسائل الفقه، أو الفروع، بل هو من مسائل التوحيد، والإيمان، وقواعد الإسلام”[4].

فأشهرت شعار أن الدين يصلح للدنيا تماماً كما أنَّه صالح للآخرة. صلاحيةٌ لا تميِّزُ بين التَّعبير عن رأيٍ حول مشهدٍ سياسيٍّ، وبين التَّدخُّل في شؤون الدولة، بل اعتمدوا منطقاً يسمح لهم بالتدخل المباشر في شأن الدولة الدنيوية، بلا قواعد واضحة تنظم آلية “الفصل والوصل”. إنه اندفاع أدى إلى إبراز خطاب يتربع فيه الدين بقوة في كل محتويات المجال العام، منافسين بذلك الدولة، وهو مشهد اختزل المسافة بين شيخ الدين ومهامه، وبين رجل الدولة ومهنته. هذا التداخل الديني الفج بالدولة جعل مشهد رؤية أصحاب اللحى الطويلة والعمامات يقفون على منابر المساجد لخلق تعاطف الجماهير الدينية معهم، ويقفون على منابر الدنيا السياسية، ليمارسوا القبض على الدين وشؤون الدولة بلا حدود، أمراً مألوفا. تصرُّف الجماعات الدينية غير المدروس أرغم الدولة علـى رسم حدود صلبة لمفهومها السِّيادي الرافض لتعدِّي الشيخ على مجالات الدولة. مع إصرار الجماعات الدينية على خوض السياسة المتعدي على الدولة، ومع تصميم الدولة على رفض التدخل في تخصصاتها، تم إقحام علاقة الدولة مع الجماعات الدينية في تاريخ جدلي ذي طابعِ صراعٍ قاسٍ رسم سمة أصيلة من هوية العرب.

عندما يقسو التاريخ في نحر الدولة وإبادة الجماعات

هذا التاريخ العربي القاسي عشناه منذ أن قرر الإنكليز والفرنسيون إنهاء حقبتهم الاستعمارية-الكولونياليّة في عقود القرن المنصرم. حينها وجد العربيُّ نفسه في زمن مبهم يسميه إدوار سعيد “ما بعد كولونيالي[5]”. هو زمنٌ لم يخلُ من قسوته الضارية. خاضت فيه دولة ما بعد الكولونياليّة تجربة التحرر من الوصاية الكولونياليّة؛ تجربة اكتشاف الدولة لذاتها ومكونات هوياتها، والذهاب إلى أبعد الحدود في رسم حدود صلبة لسيادتها، ومارست فيه الدولة عملية العصا والجزرة مع الجماعات الدينية، التي رفعت شعار أن “الله” سمح لها بمنافسة الدولة في الشأن السياسي.

الدولة الصلبة التي صنعتها القوى الكولونياليّة، وسلمتها مهمة إدارة جغرافيا البلاد والعباد عبر من بقي من المستعمر كمستشارين، أكسبت الدولة البراعة في إتقان لعبة “الإِبْقَاء والإِفْنَاء” مع كل حزب أو جماعة تنافسها. والأهم أنها أتقنت سياسة خلق وظيفة “نفعية” متعددة الأوجه للتعامل مع الجماعات الدينية[6]، فعندما يبرز أي خطر بسيط من الجماعات الدينية تقوم الدولة باستنفار معنً صلباً لمفهوم سيادتها، مبرِّرة لاستخدام العصا الغليظة لتهشيم الجماعات الدينية العاقَّة. هنا تتحول الدولة إلى رمز للمدنيّة والحَدَاثَة في مواجهة ما دعتها بالرجعية الدينية الماضوية. نهضت هذه الفكرة المُقَوْلَبَة في قالب سهل للتداول في المجتمع، وهي فكرة يفهمها كل عربي ليبرالي علماني مدني، يتطلع إلى المضي في تحديث وطنه ومؤسساته الثقافية والمعرفية، فأول ما يسمع الليبرالي المدني العربي خطاب الدولة عندما تكون فيه نقيضاً للدين، يسارع إلى الوقوف في خندق واحد مع الدولة المدنية العلمانية ضد العدو الدائم المتمثل فيما صورته الدولة على أنه جهلٌ دينيٌّ ماضَوِيٌّ.

كما أن هناك وظيفة أخرى برعت الدولة في لعبها عن طريق تقريب الجماعات الدينية الموالية لها. فبطبيعة الحال هناك حاجة دينية لكل مسلم ومسلمة لا غنى عنها. إنها علاقة تصالحية تؤدي إلى تحقيق مصالح البشر وإسعادهم في الدنيا من أجل نعيم الآخرة، وقد برعت الدولة في هذا الميدان بتكريس مشهد الحاكم وهو يصلي خلف الشيخ في صلاة العيدين والمناسبات الدينية، ليكون عنواناً ذي اعتبار رمزي هَويّاتَي، ينجح من إيصال فكرة دينية الدولة، وحَضن الدين، وغمر رجاله برعايتها وحبها وعطفها.

نجحت الدول العربية في حقبة ما بعد الكولونيالية في جعل الدولة مركزاً صلباً شبه جامد، ومن خلال هذا البناء دخل العربي حداثته وفهمها؛ حداثةً شُيِّدت على غرار أنموذجٍ تكون فيه الدَّولة صلبةً وعميقةً ومطلقة، فاستقرت حداثة العرب في قوالب شيدت منذ نصف قرن، ولكن هذا البناء الصلب للدولة لم يواكب سيولة ما بعد الحداثة التي انتقل اليها الغرب منذ مطلع الألفية الثالثة، ومع انفتاح قنوات العولمة تدفقت، وبأثر رجعي، سيولة ما بعد الحداثة الغربية إلى مخيلة الشباب العربي[7]؛ شباب تمكن من رؤية أنواع من التجارب؛ تجارب المجتمع العربي في إطاره المحلي، وهناك تجارب المجتمع كمكوّن من المكونات العالمية المعاصرة في بنية كونية عملاقة واحدة.

في هذه المرحلة اتفق فريق من الشباب على ضرورة استنساخ نسخة عربية معدلة من المشروع العلماني الغربي؛ نسخة مستنسخة من تلك المؤسسات العدالية المقتبسة من تجارب أنضجتها قرون من الحراك المدني الأوروبي المناهض لإكراه الدولة كما هو المشاهد بعد أحداث غزة المؤسفة. إنه مشروع تكون فيه الدولة معلمنة، ويكون فيها المجتمع متعدد، والعلمانية أحد مكوناته، وتتقاسم في بنية عملاقة مع فرق أخرى بناء المجتمع المحلي والعالمي. إنها أفكار تعمل من خلال قناعة أن المجتمع الناجح هو مجتمع لا يختار الناس الذين يشاركوننا الوجود، بل علينا تقبُّل الآخرين على أساس أنهم منح وُجدت نتيجة شروط مادية وتاريخية وسياقية لا فرصة للاختيار فيها، ويكون التعايش هو المتاح الوحيد. كما أن الشباب العربي طرح على طاولة البحث قضية إمكانية فسح المجال العام أمام الدين ليشارك في صياغة القرارات، وهم شباب كانوا يفكرون بطريقة إبداعية لفك عزلة المتدينين الطويلة، وإخراجهم من عالم العبادة الفردية، بإشراكهم، كطرف من مكونات المجتمع، في النقاش العام من أجل الوصول إلى الصالح العام.

في تقديرات هذا الشباب العربي العدالي ترسخت قناعة أن دولة بأيدولوجية صلبة، كنواة لمشروع التحديث العربي في حقبة ما بعد الكولونيالية، هي قضية جُرِّبت وانتهت صلاحيتُها. لم يدم الزمن طويلا وإذ بشباب يبحث عن مدنية ما بعد حداثية سائلة، ليحلها محل مباني حقبة حداثة الدولة الصلبة؛ شباب أراد أن يُغْني نقاشات بناء الدولة كمآل من مآلات النقاشات في المجال العام، وهو يدعو إلى دولة منسوجة بمفاهيم عدالية عولميّة سائلة، ودولة مغسولة بمياه تستمد حياتها من ينبوع ما بعد حداثي. إنه شباب كان يسعى إلى إزاحة ما شُيّد من مزاعم الدولة الصلبة التي تدَّعي الحداثة، والتي انبثقت منذ حقبة ما بعد الكولونيالية قبل أكثر من نصف قرن.

الربيع العربي وإحياء زمن ما قبل الكولونيـالية

لم تشخص الجماعات الدينية مشهد الربيع العربي بعين فاحصة ثاقبة، حيث فهمت أن العودة إلى الماضي هو مطلوب الساعة، وهو مطلوب الجماهير، وهو المنقذ تحت شعار؛ “لن ينجو الخلف إلا بما نجا به السلف”. فقفزت الجماعات الدينية على الفرصة الذهبية التي أطلق شرارتها شباب ما بعد حداثيين، وحصدت الجماعات الدينية نتائج الانتفاضات العربية التي انطلقت منذ عام 2010-2011. إنها جماعات دينية خاصة، تخيلت الصراع من خلال استراتيجيتها الاستذكارية، فأخذت مفهوم المعاناة من زمن آخر ووظفتها سياسياً لمعارضة زمن الحاضر، فجلبت الماضي الذي ترجع إليه لإنعاش الحاضر.

الدين؛ الذي هو موضع تأمل وعبادة، أصبح مع وثبة ممثليه إلى الحكم موضوعاً للجدل، ومادة للنقاش الصاخب؛ لأنه أعاد العرب إلى زمن ما قبل الكولونيالية؛ زمن الدولة العثمانية آخر ممثل للحكم الديني، ووجد المثقف العربي، الذي أراد أن يؤسس لدولة مدنية ما بعد حداثية عولمية، أنه يعود ليدرس كتابات جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده. إنها كتابات تحكمها جماعات دينية ذات مرجعية ماضوية. إنه مشهد قاسٍ ومربك للشباب ما بعد الحداثوي حتى أخمص قدميه.

مع تعاظم المشهد توسع اهتمام الباحثين بدراسة الجماعات الإسلامية، خاصةً عندما خطفت جماعات دينية سياسية عدة (متفرعة بشكل أو بآخر من جماعة الإخوان)، الحكم من براثن الأنظمة الصلبة والعميقة، التي جثمت لعقود على منصة الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن. وقد حُرِّرت مقالات وطبعت كتب لا حصر لها وعقدت ندوات فكرية في مراكز الفكر العالمية المعنية بالشرق الأوسط وحول ظاهرة دخول الجماعات الدينية إلى مباني الدولة كحاكمين، حيث تطرقت هذه الدراسات إلى البحث في قابلية الجماعات الحاكمة لمفاهيم الديمقراطية والقانون والدستور، والتي قد تتعارض مع مفهوم الشريعة الإسلامية. كما تحدثت هذه الدراسات عن الفرص المتاحة لتطوير حكم إسلامي متصالح مع الزمن المعولم والحداثة. “بيد أن هذه الاستهلالات سرعان ما ارتكست، فحزب النهضة التونسي تنحّى عن السلطة في كانون الثاني/يناير 2014، في خضم اضطرابات سياسية؛ وإسلاميو ليبيا أبلوا بلاءً سيئاً في الانتخابات التشريعية التي جرت في أواخر حزيران/يونيو 2014، والأكثر مدعاة للذهول، كان الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجيش المصري وأطاح فيه بمحمد مرسي، أحد قياديي جماعة الإخوان الذي انتخِبَ رئيساً في العام 2012، ما أشعل حملة قمع عنيفة ضد هذه الجماعة في طول المنطقة وعرضها”.

“هذه الانتكاسات لم تقوّض المكاسب السياسية قصيرة العمر التي حققتها الأحزاب الإسلامية وحسب، بل عرقلت كذلك الاستراتيجيات التدرُجية التي حيكت بتأنٍّ ودراية، ونالت من معتقدات إيديولوجية واستراتيجية عريقة، وأعادت تشكيل تضاريس الأحزاب الإسلامية. قُبيل الانتفاضات العربية، كانت معظم الأحزاب الإسلامية تطرح استراتيجيات سياسية، وهياكل تنظيمية ومواقف إيديولوجية، مُستقرة نسبياً، ويمكن استقراء مسارها. بيد أن الاستهلالات السياسية للعام 2011 والارتكسات اللاحقة في السنوات التالية، فرضت متطلبات جديدة على هذه الحركات، فالمناورات المُتسرِّعة والجامحة، حلّت مكان الاستراتيجيات السياسية الحذرة بعيدة المدى، حين انبرى الإسلاميون لاقتناص الفرص الجديدة، والرد على تحديات مُستجِدة. واليوم، تجد معظم الأحزاب الإسلامية نفسها تخوض غمار بيئة مجهولة المعالم، وتعاني من أشكال جديدة من قمع الدولة، والاستقطاب الاجتماعي، والمتاعب التنظيمية، والتنافسات الإقليمية، والعداء الدولي، والتنافس داخل صفوف الإسلاميين[8]”.

مكَّنت الفورة المعاصرة مع الربيع العربي والصاخبة الجماعات الدينية من الوصول إلى الحكم وإدارة الدولة. إنها خطى متسارعة من تهشيم أنموذج “الدولة” وليدة مرحلة ما بعد الكولونيالية، وإحلال دولة بمذاق ديني يستمد أفكاره من منظرين ينتمون إلى حقبة الدولة العثمانية/ما قبل الكولونيالية. هي تجربة قصيرة نظرت خلالها الجماعات الحاكمة إلى العلاقة بين الأمة والدولة من وجهة نظر أحادية، كما لو أن الأمة من خلال ممثليها هي التي تسعى دائماً إلى توفير دولة لنفسها. لكنها قصرت عن رؤية عملية مضادة ومكملة مهمة، وهي أن من يحكم الدولة عليه أن يبقيها حية من خلال خلق إحساس من الانتماء المشترك لكل مكونات المجتمع، ومن خلال تعريف هوية مشتركة جامعة غير نافية للآخر. كانت تجربة حملت أخطاء قاتلة، وأدت بسرعة إلى انتكاسة، ومع انتكاستها انهارت شعبية جماعات دينية كثيرة، فتراجعت شعبية جل الجماعات الإخوانية وجل الجماعات السلفية وجماعات الدعوة. إنه وضع كان فيه الصعود سريعاً ومباغتاً وكانت الارتكاسة فيه أسرع وأوجع؛ وضعٌ أشبه ما يكون بالفناء، وذوبان أصحابه وحتٌّ لأفكار وهويات جماعات دينية، وهي حالة جعلت فرصة عودة الجماعات، بنفس الأسماء وبنفس الأفكار إلى سابق أوجها، أمراً شبه مستبعد، فاستقال من تلك الجماعات من تنبه إلى هذا الأمر، وبدأ يعيد حساباته حول أفكار أخرى، بعضها متطرف وأخرى أكثر مرونة. وضع أشبه ما يكون بفناء مقومات الجماعات الدينية. لكن هناك جماعة دينية ما زالت صامدة عبر قرون من التجارب والمنعطفات والانتكاسات؛ جماعات تعلمت فن البقاء والاستدامة، وهذا هو موضوع اللحظة؛ كيف تتمكن جماعة “التصوف” من مواصلة واستدامة البقاء؟

الهامش

-[1] قضية حيادية المؤرخ ومدى تأثير أجنداته على إنتاجه موضوع تطرقتْ إليه عدة دراسات. فأغلب المؤرخين كانوا ندماء السلاطين أو واقعين تحت مراقبتهم وسخطهم. هذا أمر يشكل ضغط على المؤرخ كما أن قضية حدة الجدل حول القضايا الإسلامية الكبرى والفتن القديمة عج بعجاجه فوق الأحداث، مما غم على المتتبع فرز أجندات الرواة من الحقائق التي وقعت. الباحث الألماني كلاوس كلير اهتم بدراسة المصادر التاريخية الإسلامية المبكرة، من أجل العثور على مفاتيح فهم الآلية الداخلية العاملة في تلك المصادر. أقبل كلاوس كلير على قراءة نقدية نجدها في كتابه “خالد وعمر: بحث نقدي في مصادر التأريخ الإسلامي المبكر”. ترجمة محمد جديد، ونشر قدمس للنشر والتوزيع – دمشق.

-[2] الاهتمام بتاريخ الفضاء الإسلامي العام وطريق انفعالات وتجاوب عامة المسلمين معه دراسات لم تلاقِ رواجاً كافياً لدى الباحثين العرب. من أهم الكتب التي نُشرت حول تاريخ المسلمين في المجالات العامة هو كتاب “The Public Sphere in Muslim Societies”

والذي أشرف على تحريره كل من Miriam Hoexter, Shmuel N. Eisenstadt, and Nehemia Levtzion

مريام هوكسلار، صمويل آيزنستاد وونيميا ليفتزن. كما أحيل في هذا الخصوص كتابي المتوفر مجانا على الإنترنت:

PUBLIC SPHERE OF SUFIS AND SALAFIS IDENTITY CONSTRUCTION THROUGH

PUBLIC REASONING IN EAST ARABIA

-[3] بالرغم من أن حديث الافتراق قد صُنف كحديث موضوع وقد ضعفه ابن حزم في الفصل، وكذلك الشوكاني في الفتح الرباني، إلا أنه حديث غذَّى مخيلة المؤرخين وكتابات الملل والنحل وأهل الحديث. روى أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجه بأسانيدهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: “افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة”. وهذا موقع د. محمد بن إبراهيم السعيدي المسمى “سلف للبحوث والدراسات” ينافح عن الحديث ويتَكَلَّفَ ويتجشم بمَشَقَّة إثبات صحته وحجيته. مشروع الفرقة والإفتراق مازالت تغذي الوقت الحاضر لكي يستمر تخيل فرق النار وفرقة الجنة الناجية. (https://salafcenter.org/166/)[4]- ما الأدلة على أن السياسة جزء لا يتجزأ من الدين: https://www.islamweb.net/ar/fatwa/253348/[5]- أطلق إدوارد سعيــد في محض تحليلاته للحـقبة الاستعمارية التي تعرف بالكولونيـالية بحوثاً عدة شملت الخـطاب الاستعماري الاستشراقي. استطاع إدوارد سعـيـــد من تفكيك الخطاب الفكـــري الكولونيــالـي الذي سـعى للهيمنــة والسيطرة على الشرق المخترق معرفيـاً بواسطة مؤسسـات سلطوية أهمها المعرفة. كما أنه بحث في فــتـرة ما بعد الكولونيـاليـة أو المخلفات الكولونيالية وتبعاتها على الأمة العربية. حول مثل هذا نحيل القارئ إلى كتاب إدوارد سعيد “الثقافة والإمبريالية”، من منشورات دار الآداب، بيروت لبنان. كما أن إعجاز أحمد يوسع مفهوم الكولونيالية في كتابه “في النظرية: طبقات، أمم وآداب. كتاب من ترجمة ثائر ديب ومن منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات في عام 2019[6]- قد لا نبالغ عند التحدث عن “أزمة” عند التحدث عن مفهوم الدولة في أربع حقب. حقبة ما قبل الكولونياليات ونموذج الدولة حينها، وحقبة الكولونياليات ونموذج الدولة حينها، وحقبة ما بعد الكولونياليات ومفهوم الدولة الصلبة، وحقبة دول الربيع العربي تونس ومصر ونموذج الدولة الشعبية الدينية/المدنية. للمزيد اطلع على كتاب “أزمة الدولة في الوطن العربي”، من تأليف نخبة من مفكري العالم العربي، نشره مركز دراسات الوحدة العربية في عام 2011 (https://carnegieendowment.org/2011/01/11/ar-event-3253).[7]- عالم الاجتماع البولندي زيجومنت باومان (1925-2017)، تطرق إلى جدلية الصلبانية والسيلانية في سلسلة من الكتب من أهمها كتاب “الحداثة السائلة”. يشرح الأستاذ إياد السمعو الحداثة السائلة على أنها مصطلح أطلقه عالم الاجتماع زيجمونت باومان للوضع الحالي للعالم ليجعله على النقيض من الحداثة “الصلبة” التي سبقتها. وفقًا لبومان، فإن الانتقال من الحداثة “الصلبة” إلى الحداثة “السائلة” خلق بيئة جديدة وغير مسبوقة. لمساعي الحياة الفردية، حيث واجه الأفراد بسلسلة من التحديات التي لم يسبق لها مثيل من قبل. لم يعد لدى الأشكال والمؤسسات الاجتماعية الوقت الكافي لتوطيدها ولا يمكن أن تكون بمثابة أطر مرجعية للأعمال البشرية وخطط الحياة طويلة الأجل، لذلك يتعين على الأفراد إيجاد طرق أخرى لتنظيم حياتهم. للمزيد انظر “الحداثة السائلة” من تأليف زيجومنت باومان وترجمة حجاج أبو جبر ونشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر في عام 2016.[8]- (مارك لينش، 2016)، (https://carnegie-mec.org/2016/12/16/ar-pub-66511).
______
*د. محمد الزكري القضاعي: باحث من مملكة البحرين.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات