المقالاتسياسة واقتصاد

المثقَّف والقضيَّة الفلسطينيَّة

ما معنى أن يكون المرء مثقَّفًا؟ يكتسي هذا السؤال صبغة استنكاريَّة، إذ إنَّ الإجابة عنه قد تبدو واضحة في الوهلة الأولى، وأنَّ طرح هذا السؤال لا يجوز من الأساس، لأنَّه بمثابة إعادة النظر في الشخصيَّة المثقَّفة، لكن السؤال هنا ضروري جدًّا، خصوصا في خِضَمِّ حمأة القضايا التي باغتت المجتمع العربي في الآونة الأخيرة، وأصبح الرأي العام محتضنًا لها، ولا شك أنَّ القضيَّة القوميَّة الرئيسة اليوم هي القضيَّة الفلسطينيَّة، وهنا نجدِّد سؤالنا: ما معنى أن يكون المرء مثقَّفًا إزاء هذه القضيَّة؟

يمكن أن نقدِّم إجابتين عن هذا السؤال، كل إجابة تنطوي على معنى يحمله المثقَّف، ونقصد بالمعنى هنا، السِّمَة التي تسِمُ الشخصيَّة المثقَّفة، وتميِّزها عن غيرها من الشخصيَّات.

السِّمَة الأولى هي سمة سلبيَّة في ظاهرها، لكنها تُبطِنُ أكثر ما تظهِر، وهي كما حدَّدها سارتر، أنَّ المثقَّف ليس مهنة ولا وظيفة وإنَّما هو موقف، معناه أنَّ المثقَّف معني بجميع القضايا والإشكالات والأحداث التي يحبل بها واقعه، سواء المحليَّة منها أو الوطنيَّة أو القوميَّة أو العالميَّة، ويتجلَّى جوهر الموقف أنَّه لا يعترف بالخصوصيَّات ويخترق جميع المواضيع، حتَّى التي لا تعنيه، فقد يقول قائل في أحد الدول العربيَّة، إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة هي قضيَّة شعب، وأنا لا أنتمي إلى هذا الشعب، فلماذا سأتجشَّم مشقَّة حمل همومه، والحقيقة أنَّ هذا لا يعدو إلا أن يكون ضربًا من الحياديَّة، وأنَّ الحياديَّة لا نعتبرها موقفًا، ومن يتبنَّاها ليس بمثقَّف، ومعنى أن تحيد عن موضوع وتنسلخ منه يحيل إلى شيئين: أوَّلها الانطواء على الذات والذي يسفر عن حالة من الانغلاق والانسداد والتنكُّر للشخصيَّة القوميَّة والثقافيَّة، وثانيهما الهروب من العالم.

ويفضي ذلك إلى خطرين: خطر يترصَّد الشخصيَّة والشخص، وخطر يهدِّد قيم الإنسانيَّة والتضامن والتعاضد. ومنه يجب التعامل مع القضيَّة الفلسطينيَّة كما تعامل الفلاسفة والمفكِّرون مع حدث 11 سبتمبر 2001، من أمثال جان بودريار ونعوم تشومسكي وإدغار موران ويورغن هابرماس، إنَّ هؤلاء يستحقُّون لقب المثقَّف، لأنَّهم أدلوا بمواقفهم إزاء هذا الحدث دون أن يمتثلوا لأي سلطة أو قوَّة قهريَّة، ولم يتواطؤوا مع أيِّ جهةٍ كانت، بل وأكثر من ذلك، قد قارع هؤلاء وسائل الإعلام التي نفخت في الحدث وحاولت أن تخلق حدثًا وهميًّا هوَّلت فيه ما وقع، والأسوأ من ذلك أنَّ هذا الإعلام روَّج لأفكار مغلوطة وأذاع لأيديولوجيَّات كان مقيَّدًا بها لكونه تحالف مع القوة الأمريكيَّة المسيطرة آنذاك، ومارس تأثيرًا كاسحًا على الرأي العام، وهو نفس التأثير الذي يمارسه الإعلام ذاته حيال القضيَّة الفلسطينيَّة، إذ إنَّهُ يمنح الميكروفون للإسرائيلي لتُسمَع صرخته، ويتحاشى متعمِّدًا الصرخات والآهات الأليمة للأطفال الفلسطينيِّين حتى كاد لا يُسمَع أنينهم، إنَّ الميكروفون أضحى هو السلاح الذي يوظِّفه الإعلام ليمحق أي روح تستنجد العالم الإنساني. ناهيك عن حصر زاوية رؤية العالم في صورة ذلك الإسرائيلي الذي ينزف دمًا، دون إظهار الجانب الآخر حيث تلك الأُمّ التي تتوجَّع، وذلك الأب الذي يتأوَّه، وذلك الطفل الذي يتألَّم، وحينئذ أصبحت الحجارة أكثر فتكًا من الرصاصة.

وانطلاقًا من هذا، يتَّضح أنَّ المثقَّف سيقف بين موقفين؛ موقف يحارب فيه المغالطات التي تستشري في المجتمع عن القضيَّة الفلسطينيَّة، سواء كانت تاريخيَّة او اقتصاديَّة او سياسيَّة، وذلك بسدّ المنابع الكاذبة التي تنهل منها، كالتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، فتكون وظيفته الرمزيَّة تنوير الرأي العام،  وموقف يبدعه إزاء القضيَّة، حتى ولو كان هذا الموقف ضدّ التيَّار السائد ويمكن أن يجني على صاحبه ويلات التعيير والتشنيع، عملا بالأمر الكانطي: “استعمل عقلك بجرأة”، والحقيقة أنَّ في إبداء الموقف الكثير من المجازفة والمخاطرة، بيد أنَّ القضيَّة لا يمكن أن تتَّضح إلا بسيل المواقف التي تتعاطى لها، وهذا هو السبيل الوحيد من أجل إقبار التهليلات الطاغية ذات الزاوية الواحدة، وفي ذلك كسر للجمود وتبديد للمألوف وقلقلة للرائج وزلزلة للنزعة الحياديَّة. ويجب أن نوضح أنَّ المثقَّف ليس هو ذلك الذي يرفض أو يقبل، بل هو الذي يقول “لا، ولكن” أو “نعم، ولكن”، إنَّه لا يستخدم لغة التعميم لكي يريح باله، وإنَّما يستثني دائما، ففي الإجابة القاطعة نظر، لكن الإجابة المفتوحة إعادة للنظر.

السِّمة الثانية تتمثَّل في العضويَّة، أو ما يسميه غرامشي بـــ” المثقَّف العضوي”، وهو المثقَّف الذي يتغلغل إلى أعماق المجتمع ليسبر أغواره ويستنكه أسراره، ويستخدم في ذلك تقنية الملاحظة بالمشاركة، فتجده عضوًا يدأب على شحذ الهمم طامحًا إلى نهضة الأمم، وهو لكي يحقِّق هذا الطموح لا يتسمَّر هناك في الأعلى، بل يمارس دورًا محدَّدًا في الحياة العامَّة لواقعه ومجتمعه، ونعتقد أنَّ الحقيقة الأساسيَّة هنا هي أنَّ المثقَّف فرد يتمتَّع بموهبة خاصَّة تمكّنه من حمل رسالة ما، أو وجهة نظر ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع، ويكفل الإفصاح عن الرأي أو الموقف للمثقَّف أن يجعل شخصيّته متميِّزة، إذ إنَّ الشخص المثقَّف يتحدَّد انطلاقًا من علمه بالمنظومة الفكريَّة لمجتمعه واحتراسه منها، أي أنَّه يخوض الحرب دون أن يستلَّ السيف.

إضافة الى ضرورة انصهار المثقَّف في واقعه ومجتمعه، يتحتَّم عليه أيضا، أن يذوب في حاضره، عالما بمختلف الدواليب والآليَّات التي تحرّكه، وهذا الحاضر يتجسَّد اليوم في حالة الاحتقان الذي لم يسبق أن حدث بين حركة المقاومة حماس والجيش الصهيوني، حيث يحمل المثقَّف على عاتقه مساءلة هذا الحاضر، مساءلة تخلو من الانحياز والاتِّكال، دون أن يغفل الجذور الضاربة في الأعماق والتي نسجت خيوط القضيَّة، إذ لا يمكن أن نفهم الحاضر في لحظته، وأن نعتبره ماضيًا متجدِّدًا، إنَّه ماضٍ يتكرَّر، ولكنَّهُ يتَّخذ أشكالًا وأبعادًا توهمنا ببزوغ جديد لم نكن شاهدين عليه، فدور المثقَّف هنا هو الحفر في الأعماق من أجل فهم هذا الحاضر وكذا جمع الشتات المبعثرة من الملفَّات المطمورة حول هذا الموضوع. وإذا أتقن الدور، حينها يمكنه أن يستلَّ السيف ويخترق ساحة الحرب، فالسيف هو المنهج، والحرب هي الموضوع .

وفي الأخير، يمكن القول إنَّ ندرة المثقَّفين العرب ساهم بشكل كبير في سطوة الأفكار الشائعة على العقول، وهكذا أرادتها السياسات الماكرة أن تكون، على اعتبار أنَّ مجال السياسة هو مجال المصالح، وأنَّ زمن الطوباويات اللامعة والأفكار المثاليَّة قد ولَّى وانقضى، وبهذا المعطى وقع انشطار مهول بين الدول وشعبها، فالدولة لا تهمّها الحرب بقدر ما تهمّها الغنائم، وأمَّا الشعب فله رأي آخر، تعمل فيه المشاعر والأحاسيس، حيث – وفي اللحظات المريرة – تنبجس أواصر التضامن والتآزر، وتنبلج قيم الحبّ والودّ والإخاء، وخير دليل على ذلك حملات التضامن في جميع أنحاء العالم مع الشعب الفلسطيني.  
______
* إبراهيم ماين: طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب، حاصل على شهادة الدراسات العامَّة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة في جامعة ابن زهر أكادير .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات