ما بعد العلمانيَّة؛ الدِّين في صلب انشغالات العالم المعاصر
البابا يبارك سيارة فيسكر الكهربائية، ويبدي موافقته على استعمالها !
ماذا لو كان هذا خبرا مروَّجا في الصحافة العربية عن رجل دين مسلم ؟! أكيد، ستقوم الدنيا ولن تقعد، وسيجهز علمانويونا )العلمانوية laïcisme) كل أسلحتهم الإيديولوجية الفتاكة لمجابهة تدخل الدين في الصناعة !!!
الخبر نقلته القناة الألمانية DW في تقرير لها عن ماركات السيارات التي يستعملها البابوات من الميرسديس إلى بي إم دبليو…. وأخيرا وليس آخرا، سيارة فيسكر الكهربائية التي ينقل التقرير أن البابا فضلها على سيارة تيسلا التي عرضت عليه هدية من إيلون ماسك في سياق حملة إشهارية يتدخل فيها الدين في الصناعة والتجارة !!!
ولا ينسى التقرير أن يبهدل صناعة السيارات الفرنسية التي لا يتجاوز انتشارها حدود إفريقيا الفرنكفونية ! فقد رفض البابا استعمال علامة رونو صنف كونغو لانعدام شروط الأمان فيها، لكنه استعمل، مضطرا/خائفا على سلامته ! علامة داسيا صنف دوستر من أجل التعبير عن تضامنه مع فقراء العالم !!!
واهم، إذن، من يروج من إيديولوجيينا الرومنسيين لخراب الكنائس وموت البابوات ! الدين المسيحي كان، دوما، في صلب الحياة العامة، في أوربا، منذ انشغال “ماكس فيبر” بالعقلنة الدينية في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ” حينما ربط بين الإصلاح الديني وبين نشوء الرأسمالية، وكذلك هو الدين اليهودي الذي يوجه المشروع الصهيوني عن بعد.
هذا، ليس تنظيرا فلسفيا مجردا، كما قد يجادل علمانويونا الرومنسيون، بل إن الفاتيكان، اليوم، هو القلب النابض للنظام الرأسمالي، والبابا يجول العالم، شرقا وغربا، لمباركة الشركات والترويج للعلامات التجارية، ومباركة كل مظاهر الانحراف الرأسمالي من منظور ديني. الرأسمالية فرضت المثلية الجنسية لتخريب بنية الأسرة، وفتح الباب لاستهلاك البطن والفرج، بما يذره عليها من أرباح بتريليونات الدولار، ويأتي البابا لشرعنة هذا الانحراف الرأسمالي عبر إضفاء القداسة على فعل مدنس، إنهم أبناء الله يقول البابا بعدما غرف من الأبناك ما يشبع غريزة الفاتيكان كمقابل ل(فتواه) !!!
نظام القيم كان، وسيظل، موجها للحركية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي صلب نظام القيم يحضر الدين. ولذلك، فقد بدأ يتبلور حقل فكري جديد، مع تصاعد حركة الانبعاث الديني، يدخل ضمن ما يطلق عليه دراسات ما بعد العلمانية، فقد بدأت أبرز الجامعات الغربية تعكف، بتعمق، على دراسة الحيوية الفائقة للخطاب الديني في عالم العقود الخمسة الأخيرة، وقدرته على اجتذاب قطاعات واسعة من الجماهير في كل مكان. وفي منأى عن هذا التحول، ظلت الثقافة العربية أسيرة ثنائية الصراع بين العلمانية والدين، التي أسس لها التنوير الغربي ونقلها عبر الحقبة الكولونيالية إلى المناطق المستعمرة.
تحديث التفكير الديني: قوة الدين في المجال العام، تأليف: هابرماس، تيلر، بتلر، ويست، تر:فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر، ط:1، 2013، ص: 13(بتصرف)
اغتراب العلمانوي العربي مزدوج، إذن، فهو مغترب عن مجتمعه الملتزم بقيم الدين الإسلامي، وفي نفس الآن هو مغترب عن المجتمع العالمي المعاصر الذي تجاوز التأويل الإيديولوجي للدين، كما ترسخ مع الثورة الفرنسية وبعدها مع الثورة الشيوعية، ودخل في حركية نقد ذاتي تقودها تخصصات علمية توظف آليات التحليل الأنثربو-سوسيولوجي.
*المصدر: التنويري.