عادةً ما تتردَّد على المهتمِّين بالشأن العامّ أو المختصين، من قبل من يؤمن بها ويدفع باتِّجاهها، أطروحة أو فكرة القبول بالأمر الواقع، بوصفها نتيجة طبيعيَّة، وأمر مسلَّم به لا يقبل النقاش أو التغيير، وهو طرح دائمًا ما تتبنَّاه السلطة والنخب القريبة منها أو التي تتَّفق مع مصالحها وخطابها الأيديولوجي، ويتمّ الترويج لها لمنع المواطنين، أو النخب المعارضة، من مجابهة الواقع الذي لا يرتضونه، لأسباب قد تتعلَّق بالظلم أو الفساد واللاعدالة، والرغبة بالانتقال نحو واقع وحياة أفضل، ممَّا يعني مجابهة حتميَّة مع السلطة التي رسمت وهيمنت على الواقع والفضاء العام. بالتالي إنَّ الترديد باستمرار لفكرة القبول به، يعني نوعًا من إضفاء طابع البلادة على عقول الناس، وهي عبارة عن كهف مقدَّس، من يحاول الخروج منه قد يواجه بقوة ضاربة تمحو كل من يهدِّد هذا الواقع.
هذه الفكرة ليست جديدة ولا وليدة هذا الزمن، فمثلًا نجد في التراث الإسلامي نوعًا من هذا الطرح الذي يدعو إلى أنَّ “دهر تحت حاكم ظالم ولا يوم أو لحظة فوضى”، أي ربط الاستقرار بعمليَّة الأمر الواقع، وأنَّ الحاكم الظالم أو السلطة الظالمة لهو أفضل وأحسن من محاولات الخروج عليهما، أو العمل على تهديد الأمر الواقع، الذي قد لا يؤدِّي إلى النتائج المرجوَّة، ولربما يزيد الأمر سوءًا، وهو خطاب يتَّفق مع الأطراف التي يخدمها بقاء الواقع على ما هو عليه، فأيَّة عمليَّة تغيير قد تهدِّد مكتسباتهم ووجودهم في السلطة والمغانم المرتبطة بها.
وفي الوقت ذاته هنالك سرديَّة تُردَّد باستمرار، بأنَّ من يحاول تغيير الواقع هو شخص حالم أو طوباوي، أو لا يفهم ما السياسة، وكيف تدار، وبأيَّة طريقة تستحصل المصالح، أي هي عمليَّة شيطنة وإقصاء ووصمة للرافضين لهذا الواقع أو ذاك، وصولًا إلى مرحلة التصفية إلا أنهم لا يدركون أنَّ التغيير يصنعه الحالمون. فلو سلمت البشريَّة بهذا الطرح، لما خرج الإنسان من الكهف، وقام بالثورات الزراعيَّة، الصناعيَّة، والتكنولوجيَّة، وصولًا إلى ثورات التقدُّم في الذكاء الاصطناعي والعوالم الافتراضيَّة في قرننا الحالي، ولمَّا ثار العبيد على أسيادهم، ولمَّا قامت العديد من الثورات ضدّ الظلم والطغيان والتخلُّف، ولمَّا خرج العديد من أصحاب الفكر، والفلسفة، والعلم، والتنوير، والوصول إلى القمر والفضاء، ولما رأينا كل هذا التطوّر والتقدُّم المادِّي والإنساني، الذي راكمته البشريَّة منذ آلاف السنوات. فكل هذا التطوّر ناتج عن الخروج على فكرة القبول بالأمر الواقع، ولم تزل البشريَّة مستمرَّة في عمليَّة التطوير والتغيير ولن تتوقَّف هذه المسيرة. إن ذلك ما هو إلا استمرارًا لنضال البشريَّة، ورغبتها الدائمة في تحسين شروط حياتها ونقل واقعها نحو الأفضل. إنَّ التاريخ في جزء كبير منه، يقوم على فكرة النضال ضدّ أي شكل من أشكال تحجير العقل البشري، والانحطاط به لكي يصبح الفرد منا كائنًا وظيفيًا مثله مثل بقيَّة الكائنات.
إنَّ هذه المقولة، لهي قرينة بالشعوب المتخلِّفة والدول الاستبداديَّة، الدول والشعوب التي ترفض التقدُّم والتطُّور، والمنغلقة على ذاتها، وفي الوقت ذاته تضرب كل من يحاول كسر التابوهات التي تقيِّدها. والتغيير الحقيقي يبدأ من رفض الواقع السيء.
ويتمّ طرح هذه المقولة بين الفينة والأخرى في العراق، عندما يثار نقاش بشأن الوضع العام، فالذي ينتقد الديموقراطيَّة الشكليَّة التي يتِّخذها النظام السياسي، أو سلطة الظل، أو العوائل ورجال الدين المتحكّمين، أو قوى السلاح، سيردّ عليه بأنَّ هذا هو الواقع وعلينا العمل بما موجود، فكيف يمكن القبول بفكرة التنافس بين شخص أعزل لا يمتلك السلاح وبين آخر يمتلكه؟ هنا انتفى أهم شروط عدالة التنافس السياسي، ومن ثمَّ فإنَّ السياسي الذي يضع بندقيته إلى جانبه، يراها ضامن لوجوده السياسي في حال تعرّضه لأي تهديد أو خسارة، وهو ما حدث فعلًا في انتخابات البرلمان عام (2021)، عندما رفضت قوى السلاح الإقرار بخسارتها، وفرضت نفسها على الرابح، وهدَّدت بقلب الأوضاع فيما لو تم تهديد مكتسباتها. هذا هو الواقع الذي يتمّ تبريره، والدعوة لقبوله تحت يافطة (القبول بالأمر الواقع).
يمكن القول، إنَّ الواقع هو مادة خام، ولا يوجد نمط محدَّد لفهمه، وهو خاضع لشروط الديالكتيك (مفهوم هيجل)، يشكله البشر كيفما يشاؤون، وبالطريقة التي تناسب بيئاتهم وأفكارهم وتقدّمهم، فهو لا يقتصر على تفسير واحد ولا رؤية محدَّدة، فمليارات من البشر، كل فرد منهم تقريبًا لديه فهم محدَّد لهذا الواقع، وقد يتَّفق مع الجماعة أو الشعب أو الدولة التي ينتمي إليها، أو قد يتعارض معها. وعليه فما يسمَّى بقبول الأمر الواقع، هو عبارة عن واقع مرسوم ومحدَّد من قبل الجهات التي تحقّق الإفادة منه، ومن ثمّ تعمل بعدها فرض فهمها على البقيَّة سواء بالقوَّة الناعمة، أو بالقوَّة الصلبة في حال تطلَّب الأمر. بالتالي وبحسب فهمي، إنَّ الحياة غالبًا ما يحكمها الصراع والتنافس، ولو حكم عليها بالإيمان بفكرة ثابتة واحدة تعبِّر عن الأمر، لأصيبت بالركود والخمول ومن ثم الموت، وهذا ليس من طبائع الأمور على الأقل هكذا تخبرنا المسيرة التاريخيَّة للبشريَّة. فلولا الصراع الذي خاضته الفئات الضعيفة والمهمَّشة والمظلومة ضدّ الوضع القائم، لما تحصَّلت على جزء يسير من حقوقها، فلا يمكن أن تنتظر من الفئات التي تهيمن تقديم التنازلات مجانًا أو من تلقاء ذاتها، فهذا لن يحدث. وأختم المقالة بقول ينسب إلى الفيلسوف فولتير نقلته من كتاب “توماس هوبز فيلسوف العقلانيَّة” للمؤلف إمام عبد الفتاح، يقول فيه فولتير: “المهمَّة الأولى للفيلسوف العقلاني أن ينظف القماش السياسي ممَّا فيه من جوانب لا معقولة، ذلك لأن الطريقة الوحيدة لكي تكون لدينا قوانين جديدة، هي أن ندفن القوانين القائمة كلها وأن نبدأ من جديد”.
_______
*د.عبدالله ناهض: باحث وكاتب/ دكتوراه فلسفة في العلوم السياسية/ تخصص الاستراتيجية.
*المصدر: التنويري.