المقالاتثقافة وأدب

في إحالة الموت/ الاستشهاد على الحياة، قراءة في “حالة حصار” لمحمود درويش

الإهداء: إلى المقاومة الفلسطينية التي تصنع ما عجزت عنه الدول العربية،  إلى غزة الصامدة رمز العزة تحية إجلال وإكبار أهدي هذا النص.

تصدير: “حاصر حصارك لا مفر…وإذا سقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر وحر” محمود درويش، مديح الظل العالي

مدخل: للقصيدة أن تكتب المعيش اليومي الفلسطيني المحاصر، للقصيدة أن ترسم صورة الفلسطيني المضرَّج بجراحه والمسربل بأوجاع الوطن. في بوتقة

الزمن المحموم الذي اصطبغ بجحيم الآلة العسكرية وما خلفته من دمار أكل الأخضر واليابس وأهلك الزرع والحرث والنسل، وسحق ومحق. للقصيدة أن تقول ما هو كائن وأن تبشر بما هو آت ولكن عليها أن تخجل من نفسها وهي تلاحق في كبد ما يخطه الفلسطيني كل يوم بدمه وبنانه نصوصا رائعة من الإبداع النضالي تنحني لها كل أشكال الإبداع الأخرى إجلالا وتعظيما. لقد وضعت الحالة الفلسطينية في آنيتها الراهنة، القصيدة كشكل من أشكال التعبير، في تنافس مع شكل جديد من التعبير لم يكن لها به عهد، إنه التعبير بالجسد، بالأشلاء، بالصمود في وجه الهدم والتجريف والتشريد والعراء، في وجه كل محاولات الاجتثاث والترحيل. هكذا عندما يرتقي الفعل الإنساني إلى مرتبة الإبداع تجد القصيدة نفسها مرتبكة وهي التي كانت في مثل هذه الأوضاع نبوءة وحلما ورؤية، القصيدة قد تصطبغ بالخطاب الأيديولوجي وهي في خضم الصراع فتصيبها أدران الإيديولوجيا. لا شك أن ارتفاع منسوب التوتر في الصراع العربي الإسرائيلي زاد من حدة الإبداع لدى أولئك الذين وهبوا أنفسهم للتصدي للغزو وللغزاة، هذه الحالة أصبحت معينا ومصدر إلهام للشعراء هكذا أصبحت “القصيدة” عالة على الحالة.

قصيدة محمود درويش المطولة “حالة حصار” الصادرة عن دار الريس (بيروت، 2002 ) تقصدت التأصل في الحالة فجاءت ترجمانا للوضع الفلسطيني في مأساويته. تقمصت القصيدة الحالة حتى لا تكون عالة، ومن داخل حالة الحصار هذه، تمكن الشاعر من رصد مسائل الحياة والموت، الفناء والشهادة، الزمان والمكان والعلاقة مع الآخر المحتل ليصوغها بأدوات شعرية وبرؤية فنية محكومة بخلفية فكرية، تكفر بالسائد لتكرس المختلف وتعمل على خلخلة ما ترسب في مخيالنا الجمعي من أحكام ورؤى أصبحت بحكم التداول والشيوع تمتلك سلطان البداهة.

1 – الزمان/المكان: الإحالة على الحالة

تمسح الإشارات إلى الزمان والمكان القصيدة كلها وكأنها ترسم خارطة الوطن بكل تضاريسه دون أن تضبط حدوده .إنها تشخصه في إطلاقية متعمدة فلا تدري وأنت تتماهى مع القصيدة أأنت في رام الله أم في جنين أم في غزة أم في اللد أم في يافا …يختلط المكان بالزمان ليحتضنا الطبيعة والإنسان ولتتكشف معالم المأساة التي سببها الحصار، ولكن من ركام الدمار تنبعث إرادة البقاء ومن رحم الكارثة يولد الأمل ومن الموت تبعث الحياة يقول درويش:

هنا عند منحدرات التلال أمام الغروب وفوهة الوقت

قرب بساتين مقطوعة الظل

نفعل ما يفعل السجناء

وما يفعل العاطلون عن العمل:

نربي الأمل

يصطبغ الزمان والمكان برائحة البارود ومنطق آلة الحرب فسجلات القول الملتصقة بكليهما، بقدرما تشي بما آل إليه الزمان والمكان بفعل الحصار فإنها في الآن نفسه تمهد لنشوء مفارقة عجيبة جوهرها ردود فعل الفلسطيني إزاء ما يتعرض له من تهديد متواصل يستهدف اجتثاثه من أرضه وطمس هويته الثقافية واغتصاب تاريخه. فكلما تعمقت جراح الوطن توالت بشائر النصر:

الزمان: فوهة الوقت، ليلنا المتلألىء بالمدفعية، مواليد برج الحصار،…

المكان: بساتين مقطوعة الظل، السماء رصاصية في الضحى، برتقالية في الليالي، حلكة الأقبية، عند مرتفعات الدخان، …

البشائر: نربي الأمل،  بلاد على أهبة الفجر، تحملق في ساعة النصر، نحب الحياة غدا، …للشاعر تلك النبوءة التي تسكنه، فتمكنه من الغوص في  جوهر الحدث ” الحصار” لسبر أعماقه واستجلاء أبعاده،

فبقدرما سيمتد الحصار سيرتد وبالا على فاعليه وستنقلب الأدوار ليصبح المحاصر متحكما بقانون اللعبة وبالزمن الذي سيستغرقه الحصار، المحاصر – أي القائم بالحصار – أصبح رهينة للمحاصر- من وقع عليه فعل الحصار – إلى أن يدرك أن ضحيته في بعدها الأنطولوجي السابق حتى على الحدث الإسلامي صلبة متماسكة، تستمد شموخها وأنفتها من تلك القيم التي تزخر بها المدونة الكلاسيكية للشعر العربي ولعل بيت عمرو بن كلثوم من معلقته صورة عن ذلك كله:

إذا بلغ الفطام لنا صبي   تخر له الجبابر ساجدينا

يقول درويش استلهاما من ذلك:

سيمتد هذا الحصار إلى أن نعلم أعداءنا

نماذج من شعرنا الجاهلي

” حالة حصار ” هي في عرف اللغويين نكرة مخصوصة تركيب لغوي يقع بين التنكير والتعريف. إنه يشي بوضع عابر لن يكتب له الإستمرار، وهي لحظة تاريخية إفتعلها الإحتلال في رده المتشنج على إرادة التحرر عند شعب قد ضربت جذوره في عمق التاريخ وفاح أريجها على سطح الجغرافيا. الحصار حالة زائلة فيها كثافة من وحشية بربرية قادمة من ظلمات التاريخ حالة منبعثة من نرجسية مريضة لا ترى سوى نفسها وأما الآخر/ المختلف فإلى الفناء. إن هذا الذي يستدعي الأساطير ليدعي حقوقا سماوية وأن هذا الذي يعلن جهارا أن الأغيار لا مكان لهم. إن هذا الذي سولت له نفسه أن يورط الآلهة في أن تقر له بأنه من طينة أخرى،يأتي الحصار وما سيترتب عنه ليكشف زيف تلك الادعاءات والمقولات يقول درويش:

سيمتد هذا الحصار إلى أن يحس المحاصر مثل المحاصر

أن الضجر

صفة من صفات البشر

إن للحصار آثاره المدمرة التي تمس مختلف نواحي الحياة إنه يصيب الإنسان والطبيعة وكذلك الإبداع. فالإنتقال من الطبيعة إلى الثقافة في الحديث عن الخسائر وإحصائها يشي بالدور الذي سيلعبه الإبداع في صياغة صورة الوطن المنشود الذي ينهض كعنقاء الرماد مكللا بالنصر.إن الفعل الإبداعي أضحى من المقدمات اللازمة للتحرر وهو يقع في صميم النضال الوطني، لأنه في مختلف أشكاله تصد واع للموت والفناء وأداة فعالة في مواجهة العدم .يضطلع الإبداع عند درويش بصياغة الإنسان الفلسطيني على مقتضى ما تقتضيه المرحلة ووفق رؤية تجذر نزوعه إلى التحرر وتنحته كائنا حرا مريدا ومن أجل ذلك تهون الخسائر  مهما تعاظمت وتصبح ” ثمنا” يليق بالهدف المرسوم، يقول درويش:

خسائرنا: من شهيد حتى ثمانية كل يوم

وعشرة جرحى

وعشرون بيتا

وخمسون زيتونة

بالإضافة إلى الخلل البنيوي الذي

سيصيب القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة

في رؤية صوفية ولدها ما خلفه الحصار من آثار على صعيد المعيش اليومي، ينتفي الإحساس بالوقت وتقوم مقامه رغبة في معانقة المطلق بحثا عن نسيان الألم. إنها الصعود إلى الله في مسار يهدف إلى التخلص من عذابات الجسد وكثافة المادة، وإلى الذوبان في المعيش اليومي،  لعل الألم ينقلب إلى أمل. فما بين حبل الغسيل وتنظيف العلم مساحة يصوغ من خلالها الفلسطيني تفاؤله وتعلقه بالآتي يقول درويش:

هنا عند مرتفعات الدخان على درج البيت

لا وقت للوقت

نفعل ما يفعل الصاعدون إلى الله

ننسى الألم

الألم هو:

أن لا تعلق سيدة البيت حبل الغسيل صباحا وأن تكتفي بنظافة هذا العلم

لتزداد ووطأة هذا الزمان وليشتد ضيق المكان، ولكن سيحتاج الفلسطيني لشيء قليل من المطلق اللانهائي للتنفيس عن حالة الإختناق هذه، فكيف سيقارب للشاعر مسائل الموت / الاستشهاد والحياة وقضايا الحرية والتحرر؟

2 – الموت / الاستشهاد والإحالة على الحياة

إن نص محمود درويش يكشف عما حرص العرب القدامى على لجمه وتدجينه وإقصائه نعني بذلك علاقة الشعر بمحنة الذات في مواجهة العدم ورعب أسئلة الوجود التي تجعل من الشعر نداء المتوحش في الذات، نداء ما لا يقبل الترويض والاحتواء وما يجعل من الكتابة فعل هدم للمتعاليات وتدميرا للمطلقات وإعادة إنتاج للذات. تلك الذات التي عمل الإحتلال على إجتثاثها وتهشيمها وتجريدها من كرامتها بسرقة أرضها وإسكات تاريخها مستندا في ذلك إلى خليط من الأكاذيب والتحريفات والتلفيق. لقد ظلت تجربة محمود درويش الشعرية تتشكل مهوسة بفكرة الحرية ومسكونة بها، فكثيرا ما جانبت بعض الدراسات النقدية الصواب حين تناولت هذه التجربة فعمدت إلى تمجيد السياسي فيها وإعلائه على نحو أصبح هذا النوع من القراءة إفقارا للشعر بتغييب منجزه الفني وحجب أسئلته الثاوية فيه واختزال مفهوم الحرية في الآني والظرفي والعابر. هل يمكن أن يصبح الموت الوجه الآخر للحرية في الرؤية الشعرية عند درويش، ولكن أي موت ذاك الذي يكون قادرا على الإضطلاع بتأسيس الجانب الأنطولوجي للحرية ؟ إنه الموت الذي يضفي على الوجود معنى ويمثل قاعدة صلبة للتحرر من كل القوى المكبلة، إنه بالتأكيد ليس ذاك الموت المجاني الذي يكون نقيضا للحياة لا غير، موت كهذا يعمق الشرخ بين الوجود والعدم فهو وليد رؤية سوداوية ترى في الحياة عبءا ثقيلا ينوء تحت وطأته الإنسان، وما الموت إلا سبيل للخلاص من ذلك. محمود درويش في “حالة حصار” يحتفي بالموت باعتباره مولدا للحياة. إنها الحياة في الموت، تلك رؤية تجعل من الحياة الخلفية الميتافيزيقية للموت ويصبح المقبل على الموت بهذا المعنى إنسانا قد بلغ ذروة التحرر من كل إرثه المكبل منعتقا من كل العوائق ومطلا على أفق جديد، ممسكا مصيره بيده ناحتا كيانه كما يشاء ووفق ما يشاء. يقول الشاعر متحدثا بلسان الفلسطيني المطل على حافة الموت:

لم يبق بي موطن للخسارة

حر أنا قرب حريتي وغدي في يدي

سوف أدخل عما قليل حياتي

وأولد حرا بلا أبوين،

و أختار لإسمي حروفا من اللازورد..

بالأمل المنشد إلى الآتي والمضمخ بالرغبة في الحياة، تلك الحياة التي لا تحيل إلا على ذاتها وحدها ما تشيعه هي من معنى، فالآتي هو المعيش المرتقب والمصطبغ بألوان الحياة دوما. إن التجدد المستمر جوهر الحياة إلى درجة يصبح فيها إستحضار الأفق الأخروي أمرا غير مفكر فيه:

نحب الحياة غدا

عندما يصل الغد سوف نحب الحياة

كما هي عادية ماكرة

رمادية أو ملونة..لاقيامة فيها لا آخرة

في أحد المشاهد الحميمية التي تعج بها ” حالة حصار ” تخاطب أم إبنها الشهيد في جنازته يبدو خطابها في حضرة الموت قائما على إيقاع متناغم ومصوغا من حيث الأسلوب على النفي ثم على الإثبات ثم على التأكيد ” إذا لم تكن …فكن ..كن..” ومن دلالات ذلك أن الإنفتاح الذي يلي كل إنغلاق، المعبر عنه بالنفي، يستتبعه إيغال في الإنفتاح على الحياة بمختلف أبعادها. إن التوالد الذي يشكل النسغ الذي يشد مختلف مكونات المشهد ذو بناء دائري يبدأ من السماء ليحط على الأرض ثم ليرتفع نحو السماء من جديد: المطر- الشجر – الحجر – القمر .إن الإنسلاخات les métamorphoses  التي يدعى إليها الإبن/ الشهيد بمقتضى الأمر التكويني ” كن ” الصادر عن أمه،  تشبها بالإله الذي يوجد الأشياء من عدم، تعلن عن إنبعاث الحياة من رحم الموت وتتوالى تبعا الأسماء الدالة على ذلك: الخصوبة، الرطوبة،  الحبيبة، لتكرس هذا المنحى يقول درويش:

إذا لم تكن مطار يا حبيبي

فكن شجرا

 مشبعا بالخصوبة كن شجرا

وإن لم تكن شجرا يا حبيبي

فكن حجرا

مشبعا بالرطوبة، كن حجرا

وإن لم تكن حجرا يا حبيبي

فكن قمرا

في منام الحبيبة،  كن قمرا [هكذا قالت إمرأة لإبنها في جنازته ]

فألفاظ الشهيد والشهادة والاستشهاد وكل تلك الصيغ المشتقة من الجذر (ش،ه، د )و رغم ما ترسخ في الضمير الجمعي من إحالتها على العالم الأخروي وآرتباطها به تظل في أبعادها اللغوية وفي معانيها الأصلية les denotations   وثيقة الصلة بالعالم الدنيوي. فالشهيد هو العليم بالأمور الظاهرة وهو الحاضر والشهادة هي اليمين والمشاهدة هي المعاينة والشهود هو الحضور وعالم الشهادة هو نقيض عالم الغيب. الشاعر معني بعالم الشهادة لأنه الفضاء الذي يعطي للإستشهاد/ الموت معناه، إنه الفضاء الذي يحتضن أحلام الشهيد وآماله،لكأن الشاعر يريد أن ينفض الغبار عن تلك المفاهيم السائدة والتي إستحوذت عليها المؤسسة الدينية ليعيد إليها ألق البدايات ولحظة البدء. هذه الرؤية من شأنها أن تفتك دلالات الاستشهاد من إحتكار التيارات الدينية لها وأن تسحبها على كل أطياف المشهد الفلسطيني، فسلالة الشهداء لا لون لها وماء الاستشهاد قد إستشرى في كامل الجسد الفلسطيني، بما في ذلك نواته الصغرى يقول درويش:

الشهيدة بنت الشهيد وأخت الشهيد

وأخت الشهيدة كنة أم الشهيد حفيدة جد شهيد

وجارة عم الشهيد[إلخ..إلخ…]

ولا نبأ يزعج العالم المتمدن.

إن لحظات الاحتفال بالشهيد وهو يشيع إلى مثواه الأخير، تتعرض بدورها إلى محاولة زحزحتها عن كثافتها الميتافيزيقية، ليجذرها الشاعر في بعدها الحياتي/ المعيش ولأن الاستشهاد ليس متاحا لأي فرد لأنه ينبع من نفوس شفت حتى أصبحت ترى في الموت حياة وترى أن إنعتاق الروح من كل الأغلال التي تشدها إلى الوجود في كثافته المادية نزوع نحو المعاني السامية والأهداف النبيلة. لقد أضحى الاستشهاد فعلا واعيا يتقصده المرء لأنه يدرك جوهره، فمن معاني “شهيد” حسب ما ورد في لسان العرب لإبن منظور هو فاعل الشهادة كما تعني أيضا من أهدي الشهادة.تبقى الشهادة مقاما يطلب عن إختيار حر وقد يدرك أو لا يدرك، ذاك المقام الرفيع يمنح صاحبه سلطة تتجلى في وصيته التي يخطها قبل وفاته مشترطا ومحذرا، يقول درويش:

الشهيد يحاصرني، لا تسر في الجنازة

إلا إذا كنت تعرفني، لا أريد مجاملة من أحد

الشهيد يحذرني، لا تصدق زغاريدهن

وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا

كيف بدلت أدوارنا يا بني وسرت أمامي

أنا أولا وأنا أولا

إن سلالة الشهداء يحكمها قانون التوارث والتعاقب، وإختلال هذا القانون قد يحدث إنخراما في قوافل الشهداء مما قد ينعكس سلبا على مشروع التحرر الوطني، لذلك يصرخ الأب بملء فيه في وجه إبنه الشهيد،و كأنه يحتج على القدر: أنا أولا وأنا أولا فمن المتعارف عليه هو أن تسلسل الاستشهاد يقتضي أن يكون الأب ثم يليه الإبن الذي يكون قد ترك عقبه، وذلك حتى تستمر قوافل الشهداء في التمدد حتى تحقيق الهدف. لا يكتفي الشاعر بإفراغ الموت من بعده الأخروي، بل إنه يعمد إلى محاورة بعض المفاهيم الميتافيزيقية كالروح التي يستدعيها إلى جولة في عالمنا الدنيوي، حيث تنزل من عليائها في ضيافته مبجلة لتقاسمه رغيفه ولتتذوق نبيذه المعتق، وهي إذ تفعل ذلك تعلق في شراك دنيا الأحياء، فتتبادل الأدوار وينقلب المآل فإذا بالجسد وهو المهوس دوما بعالم الغيب،يتوق إلى ما وراء الطبيعة، وإذا بالروح وقد تورطت في  فتنة الحياة وغوايتها تختار البقاء في عالم الحس وتفضل الجلوس على صخرة عالية متأملة،يقول درويش

على الروح أن تترجل

وتمشي على قدميها الحريريتين

إلى جانبي،و يدا بيد هكذا صاحبين

قديمين يقسمان الرغيف القديم

وكأس النبيذ القديم

لنقطع هذا الطريق معا

ثم تذهب أيامنا في إتجاهين مختلفين

أنا ما وراء الطبيعة أما هي

فتختار أن تجلس القرفصاء على صخرة عالية.

يحذر الشاعر من التلاشي في عالم الآلهة حيث الذات مدعوة للإنصهار في الغياب/ الغيب حد الذوبان،كما أنه في الآن نفسه يعتبر إنعدام المطلق بكل أشكاله من حياة الذات يزيد في عزلة الآلهة، كأن الشاعر يدعو إلى تصحيح العلاقة بين الذات والغيب بحيث لا تكون الذات ضحية لمعادلة تهيمن فيها الآلهة على الذات حد الإستلاب، فما تناسى المرء الجسد إلا أكلته الخيالات على حد تعبير أديبنا الراحل محمود المسعدي أو لمعادلة يضمر فيها المطلق حد التلاشي ويتأله فيها الإنسان لأن الآلهة لا تقام إذا هوت. إن ما يدعو درويش هو ضرورة الحضور في الغياب، بحيث عليها- أي الذات- أن تكون صلبة تبحث عن نفسها في موضوعها وأن تكون هي موضوع ذاتها .إن إستحضار الأفق الأخروي عملية واعية بالضرورة لأن مصدرها كيان قد صيغ على مقتضى جهد لا يني حت يضحى كسبا منحوتا يقول درويش:[إلى شاعر]: كلما غاب عنك الغياب

تورطت في عزلة الآلهة

فكن “ذات ” موضوعك التائه

و”موضوع ” ذاتك، كن حاضرا في الغياب.

يواصل الشاعر جدله مع المقدس،و لا يجد حرجا في محاورة النص القرآني في موضوع الشهادة والاستشهاد، وهو بقدرما يدرك ويتمثل ما أعده الله لأصحاب اليمين ولعباده المخلصين المتقين ( آنظر الآيات التالية سورة الصافات/ الآية 48، الدخان / الآية 54، الطور/ الآية 20، الواقعة/ الآية 22 ) وعلى رأس كل أولئك الشهداء أعد لهم نعيما مقيما كقاصرات الطرف عين، وحور العين…و غير ذلك من صنوف المتع إلا أن شهيد درويش يشيح بوجهه عن كل ذلك وينأى بنفسه عن كل تلك المحفزات/المغريات ويتمسك بحب الحياة وبعشق مبرح للحرية كدافع جوهري للفعل/ المقاومة. هكذا يتيح سلطان الشعر لدرويش تكريس متخيل جديد ينزاح عما عمل المتخيل الديني على فرضه وتثبيته من خلال نصوصه المقدسة، يقول الشاعر:

الشهيد يوضح لي: لم أفتش وراء المدى

عن عذارى الخلود، فإني أحب الحياة

على الأرض بين الصنوبر والتين

لكنني ما استطعت إليها سبيلا، ففتشت

جعنها بآخر ما أملك: الدم في جسد اللازورد.

إن ذاتا قد صاغها الشاعر، نافيا عنها دواعي الاستلاب والوهن ومصححا علاقتها مع المقدس/ المطلق، مجترحا من أجل ذلك متخيلا جديدا، رفع من أجله سلطة الشعر في وجه سلطة النص المقدس. هذه الذات التي ضخ فيها الشاعر أسباب القوة والإعتزاز تراها صارت قادرة على فرض رؤيتها والدفاع عن حقوقها وهي تحاور الآخر/ المحتل؟

3 – في محاورة الآخر/ المحتل

إذا كان هذا الذي تريد محاورته، يدعي نفس الشرعية التاريخية التي تدعيها ويشهر في وجهك سرديته التاريخية ويرفع الكتاب المقدس كما ترفع أنت في وجهه كتابك المقدس ورؤيتك للتاريخ، حوار من هذا النوع صعب بل يكاد يكون مستحيلا. إنه يقف على أرضية صلبة ومتماسكة لإثبات الوجود في أبديته المطلقة بحيث يعانق التاريخ الجغرافيا في وحدة لا تنفصم يقول درويش متحدثا بلسان الفلسطينيين الرافضين للتهجير والترحيل والتهويد:

واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا

ولنا هدف واحد واحد واحد: أن نكون

ومن بعده نحن مختلفون على كل شيء

إن الوجود/ الهوية يمثلان الأساس الأنطولوجي الذي يمكن أن ينبثق عنه الإختلاف دون أن يضر ذلك بالوحدة الوطنية وهو الذي يؤمن أيضا للفلسطينين أسباب البقاء والإستمرار كشعب ذي ملامح خاصة وهوية ثقافية متميزة. إن المختلف يملأ مناحي الوجود والإقرار به مقدمة ضرورية لتحقيق الكيان / الكائن الحر وما على الأعراف والدساتير والقوانين إلا ضبط توحش المختلف وتقنينه،لذلك لا يتردد الشاعر في تأصيل الإختلاف مناعة ضد كل محاولات طمسه أو تجاوزه، يقول الشاعر:

مختلفون على كل شيء، لنا هدف واحد: أن نكون

ومن بعده يجد الفرد متسعا لاختيار الهدف.

ضمن مسار العودة إلى الذات لتحصينها ضد كل ما يستهدفها من مخاطر الإبادة والإجتثاث، يشهر الشاعر السلاح البيولوجي / التناسل في وجه الإحتلال، ولئن كانت دعوته هذه تتقاطع مع ما ورد في الحديث النبوي الشريف:” تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة”، فإنها تختلف في مستوى الأهداف والأبعاد فدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لها غرض أخروي يجعل من أمة الإسلام موضع إفتخار بعديدهم يوم الحساب، في حين يعتبر الشاعر أن العامل الديمغرافي شكل من أشكال المقاومة، والتأكيد على ذلك من شأنه أن يوجه رسالة إلى العدو حتى يتخلى عن أوهامه في إقتلاع الفلسطيني من أرضه وترحيله، يقول درويش:

أن تقاوم يعني: التأكد من صحة

القلب والخصيتين ومن دائك المتأصل

داء الأمل.

صحيح أن كل ولادة جديدة هي أمل يتشكل، ولكن الشاعر، وحتى ينأى بنفسه عن كل ما يمكن أن توحي به دعوته تلك من تأثر بعقلية قبلية، أو تكون دعوته ذريعة لبناء خطاب إيديولوجي ماضوي، جعل من الأمل داء متأصلا، لأنه مساوق للحياة في مختلف مظاهرها، فالأمل عنده بوتقة تنصهر فيها كل الخطابات الإيديولوجية على الساحة الفلسطينية بحيث يكون الأمل حاضنا ومتجاوزا لها،لأنه أوسع منها بالضرورة.

يقحم الشاعر الآخر/ المحتل في المعيش اليومي ليدعوه إلى العودة إلى ذاته يكتشفها من جديد . لن يتسنى له ذلك إلا حين يقترب من ضحيته في تفاصيل حياتها اليومية. قد يدرك ساعتها أن هؤلاء الذين يحاصرهم بشر مثله. للتواصل مع الآخر يستخدم الشاعر تقليد الضيافة كأرضية متينة تتكسر فوقها كل الأحكام المسبقة، يقول درويش:

أيها الواقفون على العتبات ادخلوا

واشربوا معنا القهوة العربية

قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا

أيها الواقفون على عتبات البيوت!

اخرجوا من صباحاتنا،

نطمئن إلى أننا

بشر مثلكم

ينبش الشاعر في ما ترسخ في وعي اليهودي حول المحرقة، يستثير متخيله القريب، يذكره حين كان ضحية مطاردا معرضا للتصفية العرقية، يذكره حين كانت أمه نزيلة غرف الغاز، عله حين يتأمل وجه ضحيته الجديد يدرك أن هويته الشريدة لا يمكن أن تستعاد بقتل الآخرين وإبادتهم،فمهما كانت معاناتك ومهما كانت آلامك وعذاباتك فإن ذلك لن يبيح لك أن تأخذ حياة شعب لتصنع منها حياتك، ولا أن تجعل من البندقية وسيلة لإستعادة هوية على حساب هوية أخرى فسؤال الهوية لا يطرح من خلال البندقية،يقول درويش:[إلى قاتل]: لو تأملت وجه الضحية

وفكرت، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز

كنت تحررت من حكمة البندقية

وغيرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية.

للشعر القدرة على وضع فرضيات وخلق وضعيات تستند إلى مخيال إجتماعي خصب يوظفه الشاعر لصياغة رؤي مستقبلية للتعايش اليهودي/ الفلسطيني ترشح بتفاؤل مبالغ فيه ولكنه لا يخرج عن داء الأمل المتأصل فيه. تبدأ الفرضيات المتتالية بتأطير فيه من القسوة والعنف الشيء الكثير، فعل دنيء يأتيه المحتل [قتل امرأة حامل ] وهو جريمة مزدوجة تتلوها سلسلة من الوضعيات المبطنة بإدانات صارخة تفضي في النهاية إلى التنديد بعبثية ما يأتيه المحتل من أفعال، يقول الشاعر:[إلى قاتل آخر]: لو تركت الجنين ثلاثين يوما،

إذا لتغيرت الإحتمالات:

قد ينتهي الإحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار،

فيكبر طفلا معافى

ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك

تاريخ آسيا القديم

وقد يقعان معا في شباك الغرام

وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة )

ماذا فعلت بأسرتك الشاردة

وكيف أصبت ثلاث حمائم بطلقة واحدة ؟

تخفي محاورة الآخر حلما يراود العديد من المثقفين الفلسطينيين، سواء أكانوا في الداخل أم في الخارج، وقد عبر كل منهم عن ذلك الحلم بطريقته الخاصة وضمن إختصاصه. إنه حلم أن تكون فلسطين أرضا لجميع سكانها من اليهود والمسلمين والمسيحيين والعلمانيين بمختلف إنتماءاتهم الفكرية وأن يعيش الجميع في كنف دولة ديمقراطية واحدة حيث يكون  المواطن مهما كان إنتماؤه متساويا في الحقوق والواجبات. تأتي قصيدة درويش ” حالة حصار ” في أحد جوانبها لكسر الرؤية السارترية للآخر بما هو جحيم، وهي رؤية هيمنت على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على إمتداد عقود، فالحل لن يكون قطعا الفصل بين الشعبين في دولتين ففلسطين أصغر من أن تتسع لدولتين، وحدها الدولة ثنائية القومية هي الحل.(1)

الخاتمة: ” حالة حصار ” كتبت في مدينة رام الله المحتلة والمحاصرة فجاءت شكلا من أشكال المقاومة، كتبت في ظروف إستثنائية حيث أجبر الشاعر على تغيير طقوس الكتابة عنده. يتحدث عن ذلك في حوار مع القناة التلفزيونية المغربية الثانية، نشرته جريدة القدس العربي، يقول: ” معروف أن من عاداتي أنني لا أكتب إلا في الصباح وذلك منذ حوالي عشرين أو ثلاثين سنة ولا أستطيع أن أكتب شيئا في الليل أو بعد الظهر، إلا في هذه القصيدة ” حالة حصار ” لأن ضغط الحصار كان حادا وقويا إلى حد أنني في كل ساعة علي أن أحرر نفسي من هذا الحصار ولم أجد من وسيلة أو سلاح للمقاومة إلا بالإنقلاب على عاداتي في الكتابة، ولذلك كنت أكتب في الصباح وبعد الظهر وفي الليل أيضا، كنت أخبىء ما أكتب تحت المخدة خوفا من إقتحام الجنود، لأن الجنود كانوا يقتحمون البيوت في أية لحظة، فكنت أبعثر الأوراق وأخبئها في أمكنة قد لا يحصل عليها الجنود .(2) تلك ظروف الكتابة فهل بلغت القصيدة درجة عالية من الشعرية والجمالية ؟ يعترف الشاعر أن قصيدته جاءت في أقصى درجات التقشف الجمالي ومخففة من الإستعارات والبلاغة .(3) فإزاء قوة عسكرية غاشمة وإزاء أزيز الرصاص وأصوات المدافع بحث الشاعر عن برودة الكلمات وعن صوت منخفض وعن لغة مضادة ليحقق شعرية خاصة عملت على لملمة أجزاء من حياة مبعثرة، بل إنها بحثت عن حياة ما مفقودة داخل الحياة. إن المقاومة شعرا لا تقل خطورة عن المقاومة المسلحة. فنجاح الثانية رهين بقدرة الأولى على تقديم نفسها بوصفها سردية تحمل رؤية تاريخية للبقاء في وجه الإحتلال الإسرائيلي الغاصب.

الهوامش والإحالات:

1 – حول هذه النقطة انظر،المجلة العربية للثقافة، مجلة نصف سنوية (مارس – سبتمبر) السنة 23 / العدد 45 مارس 2004، عدد خاص بإدوارد سعيد (1935 – 2003 ) صص 126 / 127 وانظر الحوار الذي أجري مع محمود درويش، مجلة بيت الشعر،الكتاب 1،تونس، السنة الأولى، جوان 1996، ص 54 .

2 – جريدة القدس العربي،  السنة السادسة عشر، الأربعاء 23 مارس/ آذار 2005، ص 12

3 – نفس المصدر، ص 12 .
________
*الدكتور رمضان بن رمضان.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات