“تعد نظرية جون ديوي البرغماتية ثورة فكرية في مجال النظر إلى قضايا الإنسان بروح جديدة تهدف إلى تحرير الإنسان من سطوة الميتافيزياء وهيمنة الأوهام الأسطورية لتضعه خارج الأنساق الأيديولوجية في مواجهة جريئة وموضوعية مع واقع الحياة والمصير الإنساني” علي أسعد وطفة
1- مقدمة:
يعرّف جون ديوي [1]بأنه فيلسوف أمريكا في القرن العشرين وأبرز رواد الفلسفة البرغماتية على وجه الإطلاق. كما يعرف بأنه أحد أبرز وأهم رواد التربية الحديثة وأكثرهم تأثيرا في الفكر التربوي وفي التجارب التربوية المعاصرة. ولا غضاضة في القول بأن فلسفة التربية البرغماتية التي أبدعها ديوي تطغى وتهيمين على الأنظمة التربوية العالمية بشكل شامل، ويبدو هذا الأمر واضحا لا لبس فيها عندما نأخذ بالمقولات التربوي التي طرحها ديوي ولا سيما الشعار الذي طرحه وهو ” إن التربية ليست إعدادا للحياة بل هي الحياة نفسها”، وإذا أخذنا بعين الاعتبار مقولاته التي تربط بين التربية والحياة العملية، أو بين التربية والحرية، وهي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها أركان التربية الحديثة في مختلف الأنظمة العالمية القائمة اليوم.
ولد جون ديوي في العشرين من شهر أكتوبر 1859 في مدينة بيرلنغتون بولاية فيرمونت في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي عام 1884 نال درجة الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز عن أطروحته “علم النفس عند كانط “. ثم عين أستاذا للفلسفة في جامعة ميتشغان، ثم انتقل وعين رئيسا بقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو، فأسس فيها مدرسة ابتدائية أطلق عليها ” المدرسة التجريبية”، فكانت المؤسسة التربوية التي بدأ يطبق فيها أفكاره التربوية ويجربها)[2](. وعلى أثر خلاف بين ديوي ورئيس الجامعة قدم استقالته في عام 1904، وانتقل للتدريس في جامعة كولومبيا، وبقي يدرس فيها ويكتب حتى أحيل على التقاعد عام 1931.
وتكمن عبقرية ديوي في أنه استطاع أن يلامس في نظريته الفلسفية فكرتين أساسيتين تداعبان قلوب الأمريكيين ومشاعرهم هما: الديمقراطية والعلم. واستطاع ديوي في معالجته العبقرية لهاتين الفكرتين أن يولد بينهما علاقة جدلية تتميز بالرشاقة والقوة والجمال، إذ أراد عبر هذا التخاصب بين الفكرتين أن يؤسس لفلسفة علمية في مجتمع ديمقراطي، فاستطاع عبر هذه الفلسفة أن يعبر عن الروح الثقافية لأمريكا الناهضة. وهذه الروح تتمثل في جدلية العلاقة بين العلم والديمقراطية حيث تكون المعادلة الفلسفية العمل على إقامة فلسفة علمية في مجتمع ديمقراطي، أو فلسفة ديمقراطية في مجتمع علمي، وتلك هي المعادلة الفلسفية لفلسفة ديوي البرغماتية.
وقد ديوي بأعماله العبقرية أن يرتفع إلى مصاف كبار العلماء والمفكرين في تاريخ الفكر الإنساني أمثال ليبنتز وديكارت ولوك وروسو وغيرهم من كبار الفلاسفة والمفكرين.
2- في مفهوم الفلسفة البرغماتية:
البرغماتية كما يقول وليم جيمس” اسم جديد لطريقة قديمة في التفكير “، إذ يعود مفهوم الروماتيزم Pragmatism إلى اللفظة اليونانية Payua بمعنى Action أي أداء، أو طريقة العمل وأسلوبه. ويعد شارل بيرس أول من استخدم هذا المصطلح في تسمية المذهب الذي أصبح يعرف لاحقا بالمذهب البرغماتي.
استوحى بيرس مفهوم البرغماتية من الفيلسوف الألماني كانط الذي تطرق إلى هذا المفهوم في كتابه المعروف “ميتافيزيقا الأخلاق “، حيث يميّز في كتابه هذا بين ما هو برغماتي وما هو عملي، فالعملي يشتمل على القوانين الأخلاقية التي يعتبرها كانط أولية (قبلية)، في حين يشمل البرغماتي قواعد الفن وأسلوب التناول اللذين يعتمدان على الخبرة ويطبقان في مجال الخبرة.
كان بيرس يعتقد أن قيمة الأفكار تكمن في التأثير الذي تتركه هذه الأفكار، أي في القيمة العملية لهذه الأفكار وفي النتائج التي تحققها. ومن أجل أن يصف العلاقة بين الأفكار وقيمتها العملية استخدم مفهوم الروماتيزم. وقد أراد باستخدامه لهذه التسمية أن تكون دلالتها واضحة لا لبس فيها تجنبا للمفاهيم الشائعة والمتداولة في عالم الفلسفة. وفي هذا الاختيار للكلمة كان يؤكد على أن هذه الكلمة ليست مستساغة أو محببة أو مألوفة، وأن ذلك يمنع شيوعها وانتشارها بين الناس فتحافظ على دقتها وأصالتها.
وعلى خلاف ما أراده بيرس وتوقعه صارت هذه الكلمة من أكثر الكلمات استخداما وشيوعا وتواترا في عالم الفكر والثقافة في القرن العشرين، حيث عرفت هذه الفلسفة التي صاغ ملامحها بيرس وجيمس وديوي عنوانا للفلسفة البرغماتية. وقد أُطلق على هذه الفلسفة كلمات أخرى مثل “الذرائعية والأداتية” Instrumentalisme و”النفعية” Utilitarianismes و”العملية” Utilitarianismes و”التجريبية” Expérimentalisme و”الإجرائية” Opérationalisme، ولكنها اشتهرت على الأغلب بمصطلح الفلسفة البرغماتية Pragmatism ([3]).
والبرغماتية لفظة تعبر في حقيقة الأمر عن الثقافة الأمريكية التي تتسم بطابع النزعة التجريبية والعملية، حيث يُنظر إلى الخبرة الإنسانية بوصفها معيارا لكل معرفة إنسانية، ويُنظر أيضا إلى الفكر كوسيلة تمكن الكائن البشري من تكييف نفسه مع البيئة التي تحيط به. فالبرغماتية في نهاية المطاف توظف للدلالة على أهمية وضع الفكر في خدمة الإنسان وفي خدمة مصالحه الحيوية، ومن ثم فهي تعبير عن رفض الأفكار والمقولات والنظريات التي تقود إلى نتائج عملية مفيدة.
تعد البرغماتية من أبرز التيارات الفلسفية التربوية وأكثرها أهمية في القرن العشرين. وقد نشأت هذه الفلسفة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونبغ في صوغها عدد من كبار المفكرين الأمريكيين ولاسيما شارل بيرس ووليم جيمس وجون ديوي. ويعد جون ديوي أكثر رواد هذه الفلسفة نبوغا وأهمية. وتجسد هذه الفلسفة الحديثة الروح الفكرية والعقائدية للمجتمع الأمريكي في القرن العشرين. فالبرغماتية تعبر عن طبيعة المجتمع الأمريكي المهاجر المغامر الحالم بالثروة والمجد، كما تعبر عن طموحات المهاجرين الذي استوطنوا أمريكا قادمين من مختلف أرجاء الأرض، عن المهاجرين الجدد الباحثين عن الفرص والمال والثروة والتملك والمجد. فالبيئة الأمريكية تمجد العمل وانتهاز الفرص والنجاح وكسب المال، وقد انعكست هذه القيم في معالم الفلسفة البرغماتية الجديدة تمجيدا لمبادئ النجاح والقوة والثروة ([4]).
لقد تأصل في عقول المهاجرين إلى أمريكا منظومة من الأفكار والقيم التي توجد في أصل البرغماتية. فـ “الغاية تبرر الوسيلة”، ومن ثم فإن مصداقية الوسيلة تكون في نتائجها العملية، فالوسيلة التي تدرّ الربح وكسب المال، هي وحدها الوسيلة الصحيحة والفعّالة! ولم يكن الوقت يسمح للمهاجرين بهذا الترف العقلي، الذي أوجد الفلسفة الإغريقية وغيرها من الفلسفات الهائمة في عالم الأفكار النظرية المجرّدة.
سجلت الفلسفة البرغماتية حضورها المميز في مختلف أنحاء العالم في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والتربوية، وشكلت بذاتها نموذجا فكريا تربويا وسياسيا ما زال يفرض نفسه في مختلف اتجاهات الحياة التربوية في العالم المعاصر.
وقد لقيت الفلسفة التربوية البرغماتية انتشارا لم تصادفه فلسفة من قبل في تاريخ الفكر التربوي القديم والمعاصر. وقد عرفت هذه الفلسفة بواقعيتها وإيمانها الكبير بالعلم والتجربة الإنسانية، حيث انعطفت لتتناول قضايا الإنسان ومشكلاته في القرن العشرين من منطلق التجربة والعلم والمعرفة العلمية. وقد قدر لها أن تحدث ثورة فكرية في مجال النظر إلى قضايا الإنسان بروح جديدة ومنهج أكثر جدة وأصالة وابتكارا. لقد عملت هذه الفلسفة على تحرير الإنسان من سطوة الميتافيزياء الفكرية، وحررته من هيمنة الأنساق الفكرية المثالية والأيديولوجية، ووضعته في مواجهة المصير الإنساني المفعم بمعطيات الواقع والمعبأ بحركة الحياة وقضايا التجربة الإنسانية الخالصة.
وتنطلق هذه الفلسفة من منظومة فكرية قوامها أن الإنسان مكره على العيش في عالم لاعقلاني يتعذر فهمه، وعلى هذا الأساس فإن الإنسان يجب أن ينظر إلى الفكر والمعرفة من خلال الوظيفة الأساسية للمعرفة، وبمقدار ما تقدمه هذه المعرفة للإنسان من قدرة على التكيف والاستمرار في السيطرة على مقدرات الوجود.
فالعالم كما تراه البرغماتية حشد من الأفكار والأحداث والقيم والحوادث التي لا تنتظم في بناءات منطقية، في تكوينات متناسقة متساوقة حيث تعم الفوضى وتحكم المصادفة وتنعدم الروابط السببية والمنطقية بين الأشياء. فالعالم الذي نعيش فيه كما يرى البرغماتيون هو عالم المصادفة والمصادفة الخالصة، لا بل هو عالم تحكمه عبثية وجودية تفتقر إلى المعنى والدلالة. ومن ثم فنحن مكرهون على العيش في هذا العالم، ومن أجل الاستمرار في السيطرة على الوجود يجب علينا أن نعتمد التجربة ونصطفي منها ما يمكنه أن يغني قدرتنا هذه على الاستمرار والوجود.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن هذا العالم ليس ماديا أو مثاليا، ومن ثم فإن أفكارنا ليست صورة مطابقة للعالم الموضوعي الذي نعيش فيه، بل هي أداتنا في السيطرة والديمومة والاستمرار. وهذا يعني أن أفكارنا هي أدواتنا في الوجود والهيمنة والتكيف. وليس المهم في أفكارنا هذه أن تكون موضوعية حقيقية، بل المهم أن تكون نافعة مفيدة فعالة، ومن هنا بالذات تأخذ البرغماتية سمتها الأساسية بوصفها فلسفة نفعية أداتية.
ترفض الفلسفة البرغماتية التجريد والحلول اللفظية للمشكلات الفلسفية، وتنأى عن الأخذ بالمبادئ الثابتة أو الأنساق الفلسفية المغلقة، وعلى خلاف ذلك تتجه إلى دراسة ما هو متعيّن وحقيقي وتجريبي، لا بغرض الكشف عن حقائق معينة، أو تحقيق نتائج يقينية ثابتة، إنما من أجل اتباع طريقة تساعد على تحقيق الأفكار والمعاني في العالم الخارجي ([5]).
فالجديد في الفلسفة البرغماتية أنها بدلا من الاهتمام بتحليل الأشياء والمعرفة وردها إلى أصولها البسيطة، كما فعل لوك وهيوم، جعلت اهتمامها منصرفاً إلى ربط معارفنا بعالم التجربة، لا من حيث النشأة أو الأصل، بل من حيث النتائج التي تترتب على هذه الفكرة أو تلك في عالم الواقع ([6]).
فالبرغماتية شكل من أشكال الوضعية، لأنها انصرفت عن التصورات الميتافيزيقية المجردة وارتبطت بالواقع الموضوعي. إنها أسلوب في توضيح الأفكار والمعاني لإزالة ما يشوبها من غموض. فالأفكار تصبح صادقة بقدر ما تساعدنا على أن نربطها بأجزاء من خبرتنا بطريقة تؤدي إلى سلوك ناجح في الحياة. ويضاف إلى ذلك أن علينا أن نستخرج من كل لفظ قيمته الفورية الفعلية، وأن نضعه موضع العمل في مجال خبرتنا، بحيث تكون قيمة الفكرة مرتبطة بنجاح السلوك الذي يؤديه الإنسان بناءً على اعتقاده في صحتها ([7]).
وترتكز الفلسفة البرغماتية في جوهرها على نسق من المبادئ الفلسفية أهمها:
1- الإيمان بالتغير الدائم والصيرورة الإنسانية المستمرة عبر الزمان والمكان.
2- رفض المطلقات والإيمان بنسبية القيم الإنسانية.
3- التأكيد الكبير على أهمية التجربة والخبرة في الفكر والحياة الإنسانية.
4-رفض الخوض في الميتافيزياء والأنساق الفكرية ذات الطابع النظري الخالص ([8]).
5- أن النجاح المادي الملموس دليل على صحة السبل المتبعة، لأن الحقيقة تكمن في نتائجها.
6- التجربة والطريقة العلمية هي السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة، ومن ثم فإن النتيجة من خلال التجربة هي الحكم النهائي على مصداقية التفكير.
3- ينابيع ديوي الفكرية وأعماله :
استطاع ديوي أن يكون الأكثر حضورا وتأثيرا في التأسيس للفلسفة البرغماتية، واستطاع بعبقريته التاريخية أن يؤسس لهذه الفلسفة بوصفها أكثر الفلسفات انتشارا وأهمية في عصره. ومن أجل بناء فلسفته الأصيلة كان على ديوي أن ينهل من عطاءات الفكر الإنساني بمختلف تجلياته وتدفقات عطائه. فاستقى من وضعية أوغست كونت، ونهل من ديالكتيك هيغل وجدلياته، وتشبع بعطاءات النظرية الطبيعية لروسو، وأقبل على النزعة العقلية التنويرية في فلسفة كانط، وشد الطلب في قراءة النزعة الإنسانية والواقعية عند إيراسموس ورابليه ومونتين. ولم يفته قط التفقه بوضعية دارون ونزعته الإحيائية. فضلا عن ذك كله استطاع أن يتلقف كل العطاءات الفكرية لسلفيه البرغماتيين جيمس وبيرس.
واستطاع ديوي أن يصهر هذه العطاءات في بوتقة النبوغ البرغماتي الذي عرف به، فأصدر للعالم فلسفة وفلسفة تربوية ارتقت إلى مرتبة السيادة الفكرية في مجال السياسة والتربية والثقافة والاقتصاد. وأصبحت البرغماتية بفضل الأعمال التي قدمتها الأبجدية الثقافية للقرن العشرين، وهي ما تزال تفرض نفسها بقوة شديدة في القرن الحادي والعشرين.
وقد عرف ديوي بغزارة العطاء الفكري حيث تتوجت جهوده العلمية في عدد من الأعمال الفكرية والعلمية ذات الطابع الموسوعي أهمها: ديمقراطية التربية، مقالات في المنطق التجريبي، التجربة والطبيعة، التجربة والتربية، التجربة والفكر، عقيدتي التربوية، عقيدتي الفلسفية، المدرسة والطفل، المدرسة والمجتمع، فلسفة التربية، كيف نفكر؟، الفن كتجربة. ويلاحظ أن هذه الأعمال كما تدلّ عناوينها تؤكد على مفاهيم الخبرة والتجربة التي تشكل إحدى أهم الركائز الفلسفية لنظرية ديوي التربوية. ومن مؤلفاته أيضا “دراسات حول النظريّة المنطقيّة” (1903)، “كيف نفكّر؟” (1910)، “الديمقراطيّة والتربية” (1916)، “محاولات في المنطق التجريبي” (1916)، “العقل الخالق” (1918)، “الطبيعة الإنسانيّة والسلوك” (1922)، “طلب اليقين” (1929).
ويعد كتابه “التربية والديمقراطية” من أعظم كتبه وأهمها في مجال التربية، حيث جمع فيه خطوط فلسفته وركزها حول النهوض بجيل أفضل ([9]). أما كتابه “عقيدتي التربوية” فلا يقل أهمية، حيث يضمنه أهم الأفكار التربوية ذات الطابع الفلسفي، ولذلك وصف هذا الكتاب بأنه دستور التربية الذي ينادي به جون ديوي ([10]).
4- الفلسفة والتربية عند ديوي:
يعرف ديوي التربية بأنها ” عملية مستمرة لإعادة بناء الخبرة”، والتربية وفقا لهذا المعنى هي عملية تنظيم دينامي مستمر للخبرة الإنسانية، وهي وفقا لهذه الصورة عملية نماء حياتية مشكلة لعقول الأطفال والناشئة، وبعبارة أخرى هي عملية التفاعل التي تتسم بالشمول والعمق بين الإنسان والبيئة، بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. ويؤكد ديوي بصورة متواترة ومستمرة في مختلف أعماله الفكرية أن “التربية هي الحياة وليس الإعداد لها “، وأن التربية عملية مجتمعية تمثل المركز الجوهري في البناء الاجتماعي، ومن ثم هي أخطر وسيلة يعتمدها المجتمع في تجديد ذاته ([11]).
إذا كانت كل فلسفة هي تعبيرا عن عصرها، فإن الفلسفة البرغماتية تعبير واضح الدلالة لطبيعة العصر الحديث في القرن العشرين. وإذا كانت كل فلسفة تعبر عن خصوصية تاريخية، ومن ثم إذا كانت كل إشكالية تاريخية تطرح بذاتها إشكالية فلسفية، فإن الفلسفة البرغماتية هي تعبير عن إشكالية الثقافة الأمريكية الناهضة في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن هذا المنطلق كان ديوي يؤمن بدور الفلسفة في التعبير عن الواقع وفي تغييره. فالفلسفة يجب ألا تقف عند حدود التفسير تفسير العالم بل يجب أن تعمل على تغييره. ومن ثم فإن كل فلسفة لا تؤدي إلى التغيير والفعل والتأثير هي فلسفة فارغة تفقد معناها وغايتها ودلالتها. ومن هذا المنطلق أراد ديوي للفلسفة البرغماتية أن تكون فاعلة ومؤثرة في الواقع، ومحركة للطموحات الإنسانية، وفاعلة في الثقافة وفي مجمل النشاطات الإنسانية الحيوية في عصره. ومن هنا أُريد للبرغماتية أن تكون فلسفة التغيير والتأثير، لا بل أريد لها أن تكون أداة المجتمع في السيطرة على المصير وفي رسم الغايات وتحقيق الأهداف المجتمعية الكبرى.
ومن الأهمية بمكان الإشارة في هذا السياق إلى تأكيد ديوي على الدور التربوي للفلسفة البرغماتية، لأن الفلسفة هي منطلق التغيير والمواجهة والتحدي فخليق بها إذا أن تنحني لمعالجة القضايا التربوية التي تحتل مكان الصدارة في فلسفة ديوي، حيث كان يطابق بين الفلسفة والتربية، إذ يرى أن الفلسفة هي النظرية العامة للتربية، ومن ثم يجب على هذه الفلسفة التربوية الجديدة أن تكون مؤثرة فاعلة عملية ونشيطة في بناء نظام تربوي يستجيب لطموحات الأمة وغاياتها المجتمعية الكبرى.
يعارض ديوي المفهوم الكلاسيكي القديم للفلسفة الذي يرى أن الفلسفة هي حب الحكمة والبحث عنها. فهذا التصور القديم للفلسفة ليس واردا في تصور ديوي؛ لأن الفلسفة أخذت اتجاها آخر في فلسفته يتمثل في معادلة الحياة التي تتمثل في ” التطبيق البصير لما نعرفه في السلوك وأمور الحياة “، ومن ثم فإن الفلسفة الجديدة التي شيدها ديوي تبحث في الغايات والقيم والاتجاهات التي توجه النشاط الإنساني بمختلف تجلياته الاجتماعية.
ومن هذا المنطلق عمل ديوي على تحرير الفلسفة الجديدة من طغيان المذاهب الفلسفية الموروثة ولاسيما تلك التي تفصل بين العقل والمادة وتبني على معادلة الصراع بينهما. لقد بيّن ديوي في هذا الاتجاه أن الفلسفة الحقيقية هي التي تتصل بالحياة وتعمل على تنظيمها وتوجيهها، وهي في هذه الصورة ليست شيئا آخر سوى التربية كما يؤكد في مختلف مقولاته. أما الفلسفة التي تنفصل عن الحياة فإنها تفقد معناها وتصبح فلسفة لفظية فارغة جوفاء لا معنى لها، ولاسيما تلك التي تأخذ من القضايا الميتافيزيقية موضعا مركزيا لها. فالتربية في منظور ديوي هي الفلسفة، والفلسفة هي النظرية العامة للتربية، والتفلسف يجب عليه أن يدور حول التربية بوصفها أكثر الاهتمامات الإنسانية ارتباطا بالفلسفة ذاتها.
فالعلاقة التي لا تنفصم عراها بين الفلسفة والتربية تتسم بالوضوح وتتميز بالأصالة. وبناء على ذلك فإن النظرية الفلسفية التي لا يكون لها تأثير في التربية هي خواء مصطنع. وإذا كانت التربية في حقيقة الأمر سعيا إلى تكوين ميول عقلية ووجدانية نحو الطبيعية والإنسان نفسه، فإن الفلسفة ستكون بالضرورة هي النظرية العامة في التربية ([12]).
5- نظرية المعرفة عند ديوي:
يرى ديوي -كما يرى أسلافه البرغماتيون– أن العالم الذي نعيش فيه عالم متغير متبدل متحول، وأن القانون الثابت الوحيد في الوجود هو قانون الصيرورة والتغير ذاته. فالعالم هو مملكة المصادفات والتحولات، والمعرفة التي نكونها هي خبراتنا الخاصة التي لا تعبر عن هذا العالم الخارجي بقدر ما تعبر عن ذواتنا الداخلية عن كينونة المعرفة الذاتية في أنوية الإنسان عينه وذاته. وتأسيسا على هذه الرؤية فإنه لا يمكن للإنسان أن يفهم العالم ويدركه عبر منظومات الأفكار والمقولات والصور؛ لأن العالم لا يتطابق مع طبيعة هذه التنظيمات الإنسانية للمعرفة، ولأن هذا العالم يتصف بالتغير الدائم والصيرورة الأزلية، فإنه يتجاوز حدود إدراكنا ولحظات وعينا به. فالعالم دائم التغير، ومن أجل أن ندرك هذا العالم ونفهمه يجب علينا أيضا أن نمتلك منظومة من المفاهيم والتصورات المتغايرة في صيرورة تكافئ صيرورة العالم التي لا تنقطع. وهذا يعني أن علينا عندما نريد أن ندرك ظاهرة من الظواهر أو أن نفهم فكرة ما أن نراقب هذه الظاهرة في مراحل نشأتها وتكونها وصيرورتها، وأن ندرك ما يعتريها من صيرورات وما يفتّ فيها من تغيرات.
فالموقف الفكري موقف ينشأ في دائرة التجربة وفي مسار الخبرة الإنسانية التي تتصف ذاتها بالتغير والصيرورة. وخلاصة الموقف البرغماتي كما يعبر عنه ديوي أن العالم متغير، وأن المعرفة نسبية، وأن معارفنا عن العالم لا تعدو خبراتنا التجريبية المتغيرة أيضا: إنها نسبية المعرفة وصيرورة العالم. وعلى هذا الأساس اعتقد ديوي ” أن التفكير الذي تثيره مشاكل الواقع إنما هو الوسيلة الوحيدة لفهم الوجود”.
6- نقد ديوي للمدرسة التقليدية :
يهاجم ديوي التربية التقليدية ومؤسساتها التربوية، ويرى أن هذه التربية قتلت روح الابتكار والإبداع عند الأطفال والناشئة، لأنها تعتمد على الحفظ والتلقين والترديد والنقل والتقليد والتكرار.
يوجه ديوي إلى المدارس التقليدية نقدا منظما وشاملا يتناول فيه مناهجها ومضامينها وأساليب التدريس فيها وأهدافها وغاياتها. ويمكن لنا أن نجد تفصيلا لانتقاداته هذه في كتابه المعروف “عقديتي التربوية”)[13](.
يرى ديوي في كتابه هذا أن التربية التقليدية تربية قسرية، وأن النظام التربوي في المدرسة التقليدية يقوم على القسر والإكراه؛ لأنه يعمل من الخارج ويريد تطويع طبيعة الطفل لإرادة خارجية جوفاء وعرجاء ([14]). ومن ثم فإن هذه التربية تنطلق من معرفة الراشد ولا تنطلق من حاجات الطفل واهتماماته؛ لأن محورها يقع خارج الطفل واهتماماته، فالمعلم والكتاب والمنهج هي المصادر الأساسية لهذه التربية، ولا نجد اهتماما بالتلميذ أو بالعالم الداخلي للطفل بما ينطوي عليه هذا العالم من اهتمامات وميول وحاجات)[15](.
هذا ويؤكد ديوي في كتابه ” المدرسة والطفل ” وجود اختلاف كبير وجوهري بين عالم الطفل وعالم الراشد، فحياة الطفل تدور في مجرى ميوله واهتماماته الحيوية في الوقت الذي تصمم فيه المناهج بمقياس الراشدين واهتماماتهم.
ثم يوجه ديوي نقده الحاد إلى مناهج المدرسة التقليدية ويتأجج نقده ويشتد ضد الثبات والجمود المخجل الذي نجده في هذه المناهج التي توضع مرة واحدة وإلى الأبد، فتبدو وكأنها نهائية وعصية على كل تحول أو تغيير أو تبديل)[16](. وينادي ديوي بالتخلي عن مفهوم المناهج الثابتة لصالح مناهج متغيرة مرنة تتجاوب مع حاجات الطفل واهتماماته.
ولا يقف نقد ديوي للمدرسة التقليدية عند حدود المناهج والمضامين، بل يتعدى ذلك إلى نقد الطرائق التربوية والأساليب المعتمدة في تربية الطفل وتعلمه. فالمدرسة التقليدية تعتمد على مبدأ الجهد في عملية التعلم في الوقت الذي تؤكد فيه التربية الحديثة على أهمية النوازع الداخلية للتعلم. فالاهتمام وتوليد اهتمام الطفل بمواد التعلم يشكل ركنا أساسيا في التربية الحديثة؛ لأن الاهتمام يشكل المولد الدينامي لحركة الفعل وطاقته الحيوية في العمل والنشاط والتعلم.
وفي اتجاه تجاوز هذه التربية الكلاسيكية يؤكد ديوي على أهمية التجربة والخبرة في العملية التربوية والتعليمية. كما يركز على أهمية التربية بالمشكلات الحقيقية التي تكون حافزا على التفكير والمبادرة والمبادأة عند المتعلمين. وهو في هذا السياق يرى أن المشكلات التي نواجه بها الأطفال يجب أن تكون حقيقية ما أمكننا ذلك، أي طبيعية المصدر وغير مصطنعة، ويجب أن تكون مرتبطة بحاجات التلاميذ واهتماماتهم، وذلك كي يكون التعلم اكتشافًا وابتكارًا وليس مجرد استظهار وتكديس للمعلومات.
7- منهج حلّ المشكلات :
يحدد ديوي وظيفة التفكير بغايات عملية نفعية. فالإنسان يفكر من أجل التكيف والعيش والبقاء على قيد الحياة، إنه يفكر إذا كانت لديه مشكلة يحاول التغلب عليها، ويفكر عندما يواجه تحديا يجب أن يتغلب عليه. فالمشكلات التي يواجهها الإنسان هي مصدر التفكير، وهي تضرب نفسها في أصل المعرفة الإنسانية، ولولا المشكلات التي يواجهها الإنسان لكانت حياته عارية عن التفكير. وهذا يعني أن التفكير هو دالة الإنسان في الصيرورة. وإذا كانت الكائنات الحية تتكيف وفقا لمبدأ الغريزة، فإن الإنسان يتكيف وفقا لمبدأ التفكير، والثقافة الإنسانية هي نتاج المواجهة الإنسانية مع ظروف الحياة والمصير.
فالتفكير لا يبدأ إلا بوجود مشكلة تواجه الإنسان. وإذا كان ماركس يقول “بأن الحاجة أم الاختراع“، فإن الحاجات الإنسانية توجد في أصل التفكير والمعرفة عند ديوي. فالتفكير لا يوجد إلا مع الحاجة التي تدعو إليه. ومن ثم فإن نجاح التفكير مرهون بمدى قدرته على إيجاد الحلول المناسبة للتحديات والمشكلات التي يواجهها الإنسان ([17]).
فالحاجة إلى حل المشكلات هي العامل المرشد دائماً في عملية التفكير، ومن ثم فإن المسائل التي تتطلب حلاً هي التي توجه عملية التفكير وتبعثها. والغموض الذي يقتضي إيضاحاً في طبيعة هذه المشكلات يؤدي دورا جوهريا في التحريض على التفكير وبناء المعرفة. فنحن نتوقف عن التفكير عندما نجد حلولا لمشكلاتنا، ومن ثم لا نستأنف التفكير إلا إذا عرضت مشكلة جديدة أو ظهر موقف محير جديد. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن التفكير يعمل على تحويل الموقف الغامض إلى موقف يتسم بالوضوح.
يقول ديوي في معرض التأكيد على أهمية التجربة والمشكلة في تشكل الوعي ” لكي نفهم الفكر يجب أن نلاحظه وهو ينشأ في مواقف خاصة، وهو يبدأ من مواجهة الكائن الحي للمشاكل والصعاب التي تصادفه فيأخذ في تكوين افتراضات يسترشد بها، وبعدئذ يخضع هذه الافتراضات إلى الملاحظة والتجربة “([18]).
8- الديمقراطية والتربية عند ديوي :
يرسخ ديوي منهجا متفردا في تأسيس التربية على أسس ديمقراطية. وقد أودع منهجه هذا في كتابه الديمقراطية والتربية. يرى ديوي أن الديمقراطية هي طريقة شخصية في الحياة، ومن ثم فهي ليست مجرد شيء خارجي يحيط بنا. فالديمقراطية هي جملة من الاتجاهات والمواقف التي تشكل السمات الشخصية للفرد والتي تحدد ميول وأهداف الفرد في مجال علاقاته الوجودية([19]). وهذا يعني أن الديمقراطية حقيقية تربوية متأصلة في أعماق الفرد وفي وعيه. ومن هنا يبرز دور الوعي بالديمقراطية في بناء اتجاهات شخصية جديدة عند الأفراد تساعد على مواجهة القوى المعادية للديمقراطية وعلى النجاح في هذه المواجهة. فالاتجاهات الديمقراطية المتأصلة في عمق الأفراد هي التي تمثل القدرة الحقيقية على حماية العطاء الديمقراطي والمنافحة عن وجوده. ومن ثم فإن حضور الديمقراطية سيفتقر إلى مغزاه ودلالته إذا لم يأخذ صورة عقيدة جوهرية في طبيعة الإنسان.
وحتى عندما تتجسد الديمقراطية بصورة قانونية، فإنها مع ذلك تبقى كلمة لا حياة فيها إذا لم تسجل في نسق الاتجاهات التربوية التي تؤكد أن الإنسان هو صنو الإنسان في مختلف جوانب وعلاقات الوجود والحياة اليومية الإنسانية.
يؤكد ديوي أيضا في رؤاه الديمقراطية هذه على أهمية الفردانية أو الجانب الفردي في حياة المجتمع؛ لأن الفردية تعبر عن روح التجديد والإبداع والابتكار، ومن ثم فإن الديمقراطية التي يسعى إليها هي تلك التي تحقق هذا التوازن الخلاق بين القيم الديمقراطية والقيم الفردية التي تتمثل في حرية الفرد. وعلى هذا الأساس يصف الديمقراطية التي ينشدها بأنها تلك التي ترمز إلى مقدار اشتراك أفراد الجماعة في مصالحها. إنها الديمقراطية التي يضحي فيها الفرد بكل ما يملك من طاقة وقوة في سبيل المجتمع، وهي الديمقراطية التي يضحي فيها المجتمع من أجل الفرد، إنها ديمقراطية التوازن الخلاق بين الفرد والمجتمع في صيرورة العطاء والتبادل وترسيخ القيم الحرة والديمقراطية.
9- التجربة عند ديوي :
تأخذ التجربة مكانة مركزية في فلسفة ديوي التربوية، إنها المبتدأ والخبر في كل تجربة تربوية وفي أصل كل معرفة فلسفية حقّة. فالتجربة ليست حدثا متفردا بل هي جوهر أصيل في تكوين الإنسان ذاته، إنها خاصة إنسانية يتفرد بها الإنسان ويعبر بها عن خصوصيته. والتجربة عند ديوي هي التدخل المنظم من قبل الإنسان في أحداث الطبيعة، إنها صيغة من صيغ التفاعل الجوهري بين الإنسان وفصول الحياة. وهي فضلا عن ذلك كله المصدر الوحيد للمعرفة والخبرة، لأنها تجسد العلاقة الفعلية بين الإنسان والوسط الذي يعيش فيه.
فالإنسان لا يمكنه أن يفهم العالم عبر منظومة من الرؤى والقيم والتصورات الذهنية المغلقة الجامدة والمتصلبة في دواوين العقل الإنساني؛ لأن فهم العالم بصورة موضوعية يعتمد على التجربة الفاعلة للإنسان في الوسط الذي يعيش فيه، وهذه التجربة هي التي تمنحه الفرصة في أن يكون كائنا عارفا وعاقلا بصورة إنسانية.
إن إيمان ديوي بأهمية التجربة يتجلى في منظومة أعماله العلمية التي سبقت الإشارة إليها مثل: في المنطق التجريبي، التجربة والطبيعة، التجربة والتربية، التجربة والفكر، الفن كتجربة. وهو في هذه الكتب جميعا يتوج التجربة الإنسانية بوصفها إكسير الحياة والمعرفة الإنسانية بمختلف وجوهها وتجلياتها.
10- مبدأ الاهتمام عند ديوي:
يبلور مبدأ الاهتمام أكثر جوانب النظرية التربوية عند ديوي أصالة وأهمية؛ لأن الطفل لا يمكنه أن يمتلك المعرفة ما لم يكن مستعدا لقبولها وما لم تحمل في طياتها ثقل الاهتمام الإنساني. فالإنسان يجب أن يتعطش إلى المعرفة كي يصبح عارفا، وهنا تبرز الضرورة القصوى لمبدأ الاهتمام الإنساني؛ لأن التربية الحقّة هي التي تستطيع أن تولد في الإنسان الحاجة إلى المعرفة، ومن ثم عندما تولد هذه الحاجة المعرفية فإنها تنطلق لا تتوقف أبدا. وإذا كان كلابارايد يقول بأنه لا يمكننا أن نكره حمارا على شرب الماء ما لم يكن عطشا، فإن إكراه الإنسان على اكتساب المعرفة ما لم يشعر بالحاجة إليها هو فعل يقع في دائرة الاستحالة، وإن المعرفة التي يكتسبها الإنسان من غير إحساس بالحاجة والأهمية هي معرفة هشة فارغة عرجاء، لا بل هي وهم معرفة ولا يمكن أن تكون معرفة حقيقية. ومن هنا يركز ديوي على أهمية بناء المعرفة على مبدأ الحاجة وما تولده هذه الحاجة من اهتمام أصيل في النفس الإنسانية.
يجب على المعرفة إذا أن توافق هوى في نفس الطفل والمعرفة التي لا تعبر عن اهتمام الطفل ليست معرفة؛ لأن عواطف الطفل وميوله تشكل نوابض العملية التربوية ومنطلق الفعل التربوي. وعلى هذا الأساس يجب أن نربط بين التربية وحاجات الطفل، وأن يكون ما يتعلمه الطفل وثيق الصلة بحاجاته واهتماماته.
وتأسيسا على ما تقدم يمكن لنا التأكيد على ملمحين أساسيين في مبدأ الاهتمام عند ديوي هما:
1- المعرفة لا تتأصل في عقل الطفل إلا إذا كان مستعدا لقبولها، ومن ثم فإن أي معرفة يتلقنها الطفل يجب أن توافق احتياجاته واهتماماته. فالمعرفة التي يسعى إليها الطفل هي التي ترتبط بالمشكلات التي يواجهها بحاجاته الحيوية. وهذا يعني أن كل معرفة تفرض من الخارج لا تتحول إلى معرفة حقّة. ومثل هذه المعرفة تتحول إلى معرفة مصطنعة لا معنى لها ولا طائل من ورائها.
2- ترمز تربية الاهتمام إلى الطابع الديمقراطي الذي يؤكده ديوي، فالمعرفة يجب أن تكون انسيابية غير قسرية، بعيدة عن كل أشكال القهر والاستلاب. وهذا يعني أن المعرفة لا تفرض من الخارج بطريقة الإكراه بل يجب أن تنبع من داخل الطفل وتعبر عن احتياجاته واهتماماته بالدرجة الأولى، وهذا يمثل منطلق مبدأ الحرية في العملية التربوية.
11- المنهج التربوي عند ديوي :
إذا كانت البرغماتية تؤكد عنصر الصيرورة في الوجود وتلح على مبدأ التغير الدائم، فإن ديوي يرفض المناهج المدرسية التي تتصف بطابع الجمود والثبات، ويدعو إلى مناهج متحولة متغيرة بتغير الظروف والأحوال الاجتماعية. فالمنهج المدرسي يجب أن يرتبط بحاجات الأطفال، وأن يتسم بالمرونة والقدرة على مواكبة التحولات والتحديات الاجتماعية في آن واحد. وعلى مصممي هذه المناهج أن ينظموها بطريقة تتميز بالبساطة والسهولة، وأن تكون متجاوبة مع مستويات الأطفال وقدراتهم على الفهم والتحليل والمحاكمة، وأن تكون فضلا عن ذلك كله قائمة على مبادئ الاهتمام وحل المشكلات والتجربة والواقعية والنفعية ([20]).
12- الأهداف التربوية عند ديوي :
يؤكد ديوي على أهمية بناء الأهداف التربوية وفقا لمبدأ الاحتياجات الإنسانية المتنامية التي تفرض نفسها في نسق الحياة الاجتماعية. فالأهداف التربوية يجب أن تشتق من الظروف الاجتماعية ومن مقتضيات الحاجات الإنسانية المتنامية. وهذه الأهداف يجب أن تكون مرنة قابلة للتغير والتطوير وفقا لتجليات الواقع وتحولاته المستمرة؛ لأنها يجب أن تتكيف مع الظروف المتغيرة للحياة الإنسانية بصورة مستمرة ودينامية. وتكمن وظيفة هذه الأهداف في إطلاق فعاليات الإنسان وتحريرها في اتجاه بناء الحياة الإنسانية الأفضل للفرد والمجتمع. فالأهداف بعبارة أخرى يجب أن تكون نابعة من عمق الواقع وقابلة للتطبيق ومعبرة عن ظروف الحياة ([21]).
13 – خاتمة نقدية:
عندما يبحر المرء في فلسفة ديوي البرغماتية يجد المرء نفسه غارقا في لجج العطاء الفكري لهذه الفلسفة التي سطرت هيمنتها على الفكر والسياسة والتربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وغني عن البيان أن هذه الفلسفة انتشرت وهيمنت في كثير من أصقاع العالم المعاصر. وليس غريبا هذا الأمر لأن هذه الفلسفة بطابعها المادي والعملي تعبر عن روح العصر وثقافته وتطلعاته وأنماط التفكير السائدة فيه.
وعندما يتأمل المرء في العمق الفكري لهذه الفلسفة يستطيع أن يدرك بعمق وببساطة أيضا أن هذه الفلسفة استطاعت أن تعبر عن العصر، وأن تركب أمواجه وتوجهها أيضا في الاتجاهات التي تحكمها طموحاته. فالبرغماتية استطاعت في بداية الأمر أن تعبر عن روح العصر، عن روح الثقافة الأمريكية في القرن العشرين. ولكن هذه الفلسفة لم تقف عند حدود التعبير، بل استطاعت أن تستجمع أمواج هذه الروح المتوثبة إلى النجاح والتفوق والقدرة وأن تركبها في اتجاه بناء مستقبل أمريكا ومستقبل العالم الحر. وبعبارة أخرى أدركت روح العصر واستطاعت أن تضبط إيقاع حركته، ثم عملت في اتجاه تنظيم هذا الإيقاع فدفعته بتسارع أكبر وانطلقت به نحو آفاق أرحب. لقد أدركت قيم العصر فولدتها ونظمتها وصقلتها في نسق فلسفي أصبح دستورا للسياسة والفلسفة والتربية في العالم المعاصر.
وعندما نقف مع ديوي هذا المفكر الفيلسوف الذي قضى حياته يبدع ويتفجر إبداعا في العشرات من الأعمال العبقرية في “التربية والديمقراطية ” في “المدرسة والمجتمع” في “العقيدة التربوية” في “المدرسة والطفل” وغيرها، نجد أنفسنا أمام خطاب متفجر بالعطاء بعبقرية هي عبقرية القرن العشرين في مجال التربية والسياسة والاقتصاد.
جون ديوي يسجل نفسه واحدا من أكبر منظري التربية في القرن العشرين، وما يزال يفرض نفسه في القرن علما من أعلام الفكر والثقافة في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك يحق لنا أن نسجل همسا بعض الملاحظات النقدية حول المعطيات الكبرى لهذه الفلسفة والنظرية.
لقد بالغت البرغماتية في تأكيد أهمية الطابع النفعي والعملي لمقولاتها ومفاهيمها، وروجت بذلك لموجة فكرية وأخلاقية ترسخ قيم الربح والنفع والنجاح المادي في الحياة، فشكلت بذلك ثقافة مثقلة بمفاهيم وقيم مفرغة من المضامين الأخلاقية. لقد عملت هذه الفلسفة على الترويج لقيم نفعية وعملية على حساب القيم الإنسانية الخلاقة التي تتمثل في العطاء والتضحية والبذل والاعتدال والكرم والسخاء. لقد شكلت قيم المصلحة والنجاح والربح والنفع والسيطرة والقوة القيم الدينامية للفلسفة البرغماتية، فعملت على تعزيز ما يسمى بالروح الفاوستية الجديدة المشحونة بطاقة التدمير والمحاصرة والقمع ضد الإنسانية والإنسان. هذه الروح الفاوستية الجديدة التي تتحد مع شياطين الشر والقهر بدأت تدمر النسيج الثقافي، بما ينطوي عليه هذا النسيج الإنساني من قيم أصيلة ذات طابع إنساني، بقيت متألقة في تاريخ الإنسانية وشامخة في أنساق الوعي الإنساني الخيّر الذي يرى أن الإنسان غاية لا بل هو غاية الغايات. لقد حولت البرغماتية الإنسان من غاية إلى وسيلة وأداة، ففرغته من مضامينه الإنسانية الحيوية وجعلت منه قيمة تتمثل في الربح والقوة والنجاح، إنه الإنسان الذي يتحد مع الشيطان ويجعل الغاية في أن يكون هو الأقوى والأجدر والأكثر غنى وسيطرة وهيمنة. لقد جعلت البرغماتية من الإنسان أداة ووسيلة وسلعة، فأفرغته من أبعاده الإنسانية وحولته إلى إنسان ذي بعد واحد يتمثل في بعد القوة والسيطرة والاستهلاك والنجاح بكل الوسائل الممكنة.
لقد تحولت مدارسنا اليوم إلى مؤسسات للتنافس والصراع والامتحانات، فجعلت من الأطفال مجتمعا من البرغماتيين الصغار الذين يضحون بكل شيء من أجل النجاح والفرص والعمل والتفوق. وهي بذلك عملت على إحياء النزعات المادية في نفوس الأطفال، فقتلت فيهم هذه الروح الثقافية المخضبة بالقيم الروحية والإنسانية الخلاقة والسمحاء. لقد أثقلت البرغماتية على الأجيال من حيث لا تدري؛ لأنها أحيت في عقول الأطفال وفي تكويناتهم الثقافية والروحية مبدأ الاهتمام والاهتمام فحسب، باعتبار أن هذا الاهتمام لا ينبع إلا من الحاجات والرغبات والتطلعات، فأقصت بذلك عملية تنمية الاحتياجات الإنسانية الخلاقة التي تتمثل في قيم العطاء والخير والتسامح. باختصار لقد أحيت البرغماتية التربوية في نفوس الأطفال هذه الروح الفاوستية المدمرة، واختزلت الروح الإنسانية وحاصرتها في حذاء صيني قديم.
[1] – جون ديوي (John Dewey) ( 1859 – 1952) فيلسوف وعالم نفس أمريكي، يعدّ أحد أهم مؤسسي الفلسفة البرغماتية، ومن أشهر أعلام التربية الحديثة على المستوى العالمي. ارتبط اسمه بفلسفة التربية لأنه خاض في تحديد الغرض من التعليم وأفاض في الحديث عن ربط النظريات بالواقع ـ ويعد من آباء التربية البرغماتية، وهو من أوائل الذين أسسوا المدارس التجريبية في جامعة شيكاغو..
[2]– محمود عبد الرزاق شفشق، الأصول الفلسفية للتربية، دار البحوث العلمية، الكويت، 1980.ص 381.
[3] – إبراهيم ناصر، فلسفات التربية، دار وائل للنشر، عمان 2001، ص 336.
[4]– ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985. ص 624.
[5] – ماجد محمد حسن، البرغماتية، الحوار المتمدن، العدد 816 تاريخ 26/4/2004 200، موقع الحوار المتمدن www.resgar.com
[6] – ماجد محمد حسن، البرغماتية، الحوار المتمدن، المرجع السابق.
[7] -ماجد محمد حسن، البرغماتية، الحوار المتمدن، مرجع سابق.
[8] – محمد منير مرسي، فلسفة التربية، عالم الكتب، القاهرة، 1993، ص 188.
[9]– جون ديوي، الديمقراطية والتربية، ترجمة متى عقراوي وزكريا ميخائيل، لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة الثانية، 1954.
[10]– ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985. ص 625.
[11]– أحمد علي الحاج محمد، في فلسفة التربية، دار المناهج، عمان، 2001، ص 92.
[12]– وليم كلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد أحمد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001، ص498.
[13] – John Dewy, My pedagogy, Creed, Chicago ,1897.
[14]– لمزيد من التفاصيل حول انتقادات ديوي للمدرسة التقليدية انظر: تيسير شيخ الأرض، فلسفة التربية عند جون ديوي، مجلة المعلم العربي، العدد 5 تموز/ آب/أيلول، 1985 (صص361-379).
[15]– تيسير شيخ الأرض، فلسفة التربية عند جون ديوي، مرجع سابق، ص 366..
[16]– Regarde : John Dewy, l’école et l’enfant, Tra. L.S. Pedoux, Edition Delachaux et nie stèle, Paris ,1947.
[17]– انظر: محمد سعيد العشماوي، البرجماتية: نظرة أمريكية للعالم، مجلة العربي، العدد 471، فبراير، 1998.
[18]– نقلا عن: ول ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص 628.
[19] – John Dewey: La démocratie créatrice et la tâche qui nous attends, Texte d’une conférence préparée en 1939 par Dewey a l’occasion d’un congrès organisé en l’honneur de ses 80 ans. in: Horizons philosophiques, Vil5. No2, 1997.
[20]– كوثر عبد الرحيم شهاب الشريف، المنهج البرغماتي والتطبيق التربوية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1980.
-[21] انظر : سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 198، يونيو، 1995.
______
*علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت
*المصدر: التنويري.