أخبار المجتمع

الحداثة .. إلى “بيت الطاعة”

فهمي جدعان

أقرّ “الحيوان الاقتصادي”، أخيراً، تحت ضربات الوباء التي لا ترحم، بأن الإنسان، وبتعبيرٍ أدقّ، حياة البشر تتقدّم على الآمر الاقتصادي. اعترافٌ صريحٌ بإخفاق المبدأ الرئيس الذي يؤسّس الحداثة في وجهها الرأسمالي الليبرالي المتوحش. والحقيقة أنه يتعيّن سحب هذا الاعتراف على كل وجوه “الحداثة” الأخرى، تستوي في ذلك “الحداثة الذاتوية” التي توجّه الذات الفردية المتفرّدة في فعلها وفي حياتها الأصيلة، وتجعل من المبادئ (كن ذاتك، اختر حياتك، وكن سعيدا ولا تتألم، وكن حكيماً فطناً، وكن متسامحاً) مبادئ حاكمة لحياة الذات في العالم.. ، والحداثة “التقدّمية” التي تحكم وجوه التغير في النموذج الثقافي الإنساني وفق سرديات التقدّم، والعقل (الموضوعي، والتقني الذرائعي)، والمساواة المقترنة بالفائدة والمنفعة، والاحتكام إلى “المعايير” الإنسانية، وعلمنة الدين، والإيمان بالأمة والوطن، والتحرّر من القيم التقليدية، والنمو الاقتصادي، والخلق والإبداع. تلك هي المبادئ والاتجاهات والنزعات والخصائص التي حكمت الحداثة في تبلورها الصريح في القرن السابع عشر واقترانها بالرأسمالية والليبرالية والرومانسية.

ما الذي يحدث في عصرنا، وفي هذه العقود الأخيرة من الزمان الذي نحياه اليوم؟ لا أحد يستطيع أن يرفع راية الإنكار: الإسراف والغلو، وخيبة الأمل، ورُهاب القلق، وخيانة العدالة، والمرارة، والتفاهة، والعدمية! يحدث ذلك في الفضاءين: الخاص والعام. في الفضاء الأول، فضاء الذات، نجمت أعلام “ما بعد الحداثة”: الفردانية المسرفة، الفراغ، اليأس وفقدان الأمل، الامتلاء الخاوي، تعثّر الأفعال والغايات، فقْد المعنى والقيمة، غياب الأصالة، الضياع في الزحام، الأنانية المفرطة والحمق، تجذّر التباعد والانفصال والإحجام عن تعميق عرى التواصل واشتداد النزعة “السارترية” و”جحيم الآخرين”. في الفضاء الثاني، الفضاء العام: قلة من البشر قليلة هي التي تصدّق كوندورسيه وفلاسفة الأنوار والدعوى الزاعمة أن العالم الإنساني دائم السير في طريق التحسّن والتقدّم. هذه السردية انهارت. أنهاها القرن العشرون باقتتاله الكوني وفظائعه المخزية ومظالمه الخارقة.. لم ينجم “تقدّم” إلا في اختراع الأسلحة المدمّرة للحضارة والإنسان! وفي الخداع! أما العقل فقد فقَد براءته بما هو أداةٌ عظيمةٌ لاكتشاف العالم ووعيه والتوافق مع منطقه العميق الأصيل. وبما هو الأداة اليقظة لتوجيه الحياة خارج إغراءات الحمق. وحين أراد ماركس أن يغيّره، لا أن يفهمه ويعقله، لم يفعل، في نهاية الأمر، إلا أن يفتح الطريق لنظم الاستبداد والهيمنة وسحق الحرية والأصالة الإنسانية.

لم يعد العقل أداةً لفهم الوجود ولتحديد القيم وتوجيه الأفعال وتوحيد البشرية، مثلما كان يريد أفلاطون وأرسطو والرواقيون، إنما أصبح ذا أغراضٍ ذرائعية، تقنيةٍ، أداتيةٍ ماديةٍ بإسراف، تهدف إلى السيطرة والهيمنة على أقدار البشرية.. أي أن المعرفة أصبحت الأداة الرئيسة للتدخل الاستعماري والهيمنة والاستبداد والاستعباد. تم سحق العقل بما هو أداةٌ ذات وظيفةٍ سامية، هي إنارة بني الإنسان وتوجيههم إلى طريق “الحياة الطيبة” والسعادة الآمنة والخير الجالب للمنفعة الأخلاقية الإنسانية المنزهة، أي إنه تم وأد الوظيفة التنويرية للعقل لصالح الوظيفة البراغماتية العملية الضامنة لسيطرة الأقوياء وعَسفهم وافتئاتهم، بما ينتجه من أسلحةٍ قاتلةٍ مدمرة وهيمنة واعتداء وتجبر وتدمير.. وقواعد عسكرية في كل بقاع العالم. العقل الذي تمرّد على السلطة الدينية وعلى الخرافة، وفتح الطريق لمزيدٍ من الاستنارة، بات أداةً لسلطاتٍ جديدةٍ أعتى وأظلم وأسْفه.

وما الذي أصاب سردية المساواة والخير العام؟ لقد تم تدميرها بالكامل. تنكّرت الليبرالية الجديدة لليبرالية الاجتماعية، وتقدّمت “السوق الداشرة” لتصبح المبدأ والوسط والنهاية! معزّزة بالجشع الرأسمالي الشنيع وبعبادة الكسب والمنفعة السادرة بلا حدود أو ضوابط، وباحتقار العدالة وغياب الخلق والرحمة، وتعاظم الفقر والبؤس والعوز، حتى في أعظم إمبراطوريات السوق. حلّت اقتصاديات السوق “الداشرة” الشرسة الآثمة، وأزاحت كل القيم الأصيلة التي وعدت بها الحداثة الأولى. حتى إذا جاء الوباء العظيم، وراح يعيث فساداً وجوراً، ويحصد الآلاف من أبناء الحداثة وغيرها، لم يجد ما ومن يقف في وجهه، وأفصحت “الحداثة الضالّة” عن عجزها المرعب قبالته.

الكل يقول إن العالم المتقدّم (أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا.. والآخرون) لم يكن مستعدّا لهذه الجائحة! العلم والطب والتكنولوجيا جميعاً تجد نفسها، حتى الآن، عاجزةً عن وقف الشر، لماذا؟ لا ينحصر الأمر في أن الطبيعة لا تكشف عن كل أسرارها ومخاطرها وافتئاتاتها مرة واحدة، إنما يتعلق الأمر أيضاً بأن الإنسان الجديد الذي بشّرت به الحداثة الأولى قد ضلّ الطريق، وضلل الحداثة نفسها، سواءً أكانت حداثةً “ذاتويةً” أم حداثةً “تقدّميةً”. لقد استبدّ بها شيطان الغلو والكِبر والحمق. لقد خطفت “السوق” الأوليغارشية الجشعة وفكرها المحافظ الجديد، اليميني، الشرس، الشّرير، كل الأسباب والأدوات القمينة بإصلاح الإنسان ومؤسّساته التي زعمت الحداثة إن الدين والكنيسة والقيم التقليدية حجرت عليه، وأعاقت تقدّمه وخيره، لكنها ما لبثت أن اقترفت تجاوزاتٍ وافتئاتاتٍ وحماقاتٍ أعظمَ وأفدحَ من تلك التي تُعزى إلى الدين والكنيسة والتقليد.
هل معنى ذلك ومُحصّله أن نعود إلى زمن التقليد؟ هل نذهب إلى التقليد؟ هل نذهب إلى النقيض، إلى حياة الزهد والتصوّف، مثلما تريد بعض العقول القاصرة؟ لا، بكل تأكيد. فالحداثة في مبادئها العظمى إرثٌ ثمينٌ لا تزال البشرية في حاجةٍ إلى تطوير أسسه وقواعده. والحيْدة عن طريقها الأصيل هي التي تفسّر الشرور التي انتهت إليها. ثمّة تقصيرٌ لا يُغتفر، تقصيرٌ يطاول صحة الإنسان وخيره في نفسه وفي بدنه. تجتمع على إنفاذه قوى السوق الداشرة، والإعلام المنفلت اللاأخلاقي، الذي يؤجّج المشاعر ويوغر القلوب وينشر الهلع والكذب، والفنون التافهة المؤذية، وشركات السلاح والصناعات “الشرّيرة” في العالم الرأسمالي المتوحش، وتراثٌ “استعماري” متأصلٌ في عقول وقلوب سياسيي اليمين، في أركان الغرب التقليدي الذي، على الرغم من كل شيء، يعاني اليوم من أشكالٍ جذريةٍ من الانحطاط. إنني أوافق تماماً على ما يذهب إليه ميشيل أونفري من القول (وقد أبان عن أسبابه ومسوّغاته)، إن الحضارة الغربية في حالة “انحطاط”، بدون أن يعني ذلك، عندي، أنني أروّج مذهباً سلفياً تقليدياً يلهج ويسعد بهذا “الانحطاط”، أو أنني أروّج ما يدافع عنه أصحاب “ما بعد الحداثة”، إنما لأذهب في محصّل القول إلى أن “الحداثة وخِرافها” قد ضلّتا الطريق، وإن علاقتنا بها، وعلاقة أهلها بها، لا ينبغي أن تكون في الذهاب إلى “الطلاق”، وإنما في ردّها إلى حدود العدل، أي في إرسالها إلى “بيت الطاعة”! لتعديل طِباعها النافرة والحدّ من نشوزها، بتجذير النزعة الإنسانية والأخلاقية وترسيخ بنيان العدالة والرحمة والتواصل والخير العام.


المصدر: العربي الجديد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات