هل كان كانط مسيحيا مؤمناَ؟ اللاهوت الأخلاقي في الفلسفة الكانطية
“إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه”
إيمانويل كانط، «الدين في حدود مجرّد العقل»
1- مقدمة:
شكلت الأخلاق، وما تزال، المضمون الأساسي للتعاليم الدينية في كلّ العصور وفي مختلف الأديان السماوية والشّرائع الأرضيّة. وقد ارتبطت، على مدى التاريخ، بالتربية الدينية ارتباطا جوهريا. وجاءت كلّ الأديان والشّرائع مُشبعة بروح القيم الأخلاقية التي شكلت ركيزتها ومحورها الرّئيس. ويعبر النَّبِيِّ الأكرم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبلغ تعبير عن البعد الأخلاقيّ في الدّين بقوله: “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ “. والحقّ أنّ هذه الأديان والشّرائع كرست نفسها لتأصيل القيم الأخلاقية في الإنسانية، وجعلت منها بوصلة هداية للناس كافّة في سلوكهم وحياتهم.
وقد شكلت الوصاية الدينية على الأخلاق واحدة من أصعب المعضلات الفلسفية التي واجهها كانط في مسيرته الفكريّة، وكان عليه أن يتعامل مع هذا التحدي بقدر كبير من الأناة والصبر والحكمة والحذر. ويتمثل الجانب الأكبر من هذا التحدي في المفارقة التكوينية الكامنة في شخص كانط التي تتمثل في التعارض بين شخصية كانط بوصفه فيلسوف النقد والعقلانية من جهة وبين شخصية كانط الكاهن الذي تلقى تربية دينية صارمة في المدرسة والأسرة. ويزداد هذا التعقيد عندما نأخذ بعين الاعتبار هواجس كانط حول المسألة الدينية بشكل عام، وما احتدم في نفسه من صراع داخلي ونزعات شكوكية حول العقيدة الدينية، ولا سيّما حين نستحضر في أذهاننا الصراع القائم في ذاته بين الإيمان الصارم بالعقيدة الدينية في طفولته ورفضه النقدي الشامل للممارسات الدينية الكنسية في عصره.
ولعلّه لا يخفى على المهتمين بفلسفة كانط الأخلاقية أنه عاش حالة تمزق كبير بين أفكاره الفلسفية بجنوحها النّقديّ الصّارم، والإيمان الصوفي الطّهوريّ الذي رَسُخ فيه منذ مرحلة طفولته. وإذا أجملنا قلنا إنّه الصّراع الكبير بين كانط الفيلسوف وكانط الكاهن المؤمن، بين كانط المفكّر الحرّ الذي تكوّن واكتمل في رحاب النقد والعقلانية فيلسوفاً نقدياً فذاً لا نظير له في العصر من جهة، وبين كانط الذي ربّته أمٌ قديسة كرست حياتها لتزرع الإيمان في قلبه وتنمّي اللاهوت في عقله وروحه من جهة أخرى.
كما يجب ألا ننسى أن كانط ترعرع في مدرسة “الفريدريكية” الدينية على تقاليد كهنوتية صارمة. ويلاحظ النقاد في هذا الخصوص أن تفكيره الفلسفي كان متذبذبا بين الإيمان الديني الصوفي الصارم وبين الروح النقدية القائمة على تصورات فلسفية شديدة التعقيد. وقد يجوز لنا أن نرجح أنه استطاع في خاتمة مسيرته الخروج من هذا المأزق بإيمان ديني عقلاني يشبه إلى حدّ كبير إيمان سبينوزا[1] المعتمد على العقل في إدراك السمو المتعالي للذات الإلهية.
يقول ديورانت في هذا السياق: “إن الخلاف كبير بين حياة هذا الرجل الخارجية وبين أفكاره الهدامة التي هزت العالم وأرجفته رعبا. ولو قدر سكان كونسبرج خطورة هذه الأفكار البالغة لارتاعوا من وجود هذا الرجل بينهم أكثر من خوفهم من جلاد ينفذ حكم الإعدام بالناس فقط. ولكن الناس لم يروا فيه إلا أستاذا للفلسفة. وعندما كان يخرج ويمر بهم في ساعة خروجه المحددة التي لا يحيد عنها كانوا يُحيّونه بهزّ رؤوسهم تحية الصداقة ويضبطون ساعاتهم” [2]. وعلى هذا الأساس، يصف ديورانت كانط بالجرأة الفكرية العظيمة، إذ يقول: “لم يكن كانط فيما دعا له مبتذلا وهيابا أو رجعيا محافظا. والعكس هو الصحيح، فقد كان جريئا وشجاعا في إنكاره اللاهوت النظري، وإنكاره أن يكون الدين قائما على العقل. لقد أثار ما ذهب إليه من خفض الدين والنزول به إلى مجرد إیمان أخلاقي جميع رجال الدين في ألمانيا فقاموا بالاحتجاج. وتطلب عاصفة احتجاج رجال الدين في ألمانيا شجاعة كبيرة من كانط. وقد أبدى شجاعة نادرة عندما نشر وهو في سن السادسة والستين كتابه (نقد ملكة الحكم) وأعقبه بكتابه (الدين في حدود العقل الخالص) الذي نشره وهو في سن التاسعة والستين“[3].
ويقرّ كانط في غي كتابه “الدين في حدود العقل” بوجود غاية كلية للكون يسعى إليها، وفي هذا الإقرار دليل على سموّ الوجود الإلهي، ولم يكن مثل هذا الإقرار بالوجود الإلهي قائما في في كتابه الأول «نقد العقل الخالص»، إذ لم يجد الأدلة الكافية حينها على هذا الوجود. ويستند في منظوره هذا على تجليات الجمال في الكون، وذلك لأن هذا الحضور الجمالي يرتبط بالقصد من غايته، ولا ريب في أن الجميل والجليل يستكشفان روعة التناسق في هذا الكون ويدلان على وحدته السامية وكأن عقلا كونيا ساميا قد رسمه ووضع تصميمه الجمالي المدهش.
والخلاصة التي يطمئنّ إليها نقّاد كانط هي أنّه كان فيلسوفاً مؤمنا بإله يقرّه العقل ويجد مستقره في الضمير الأخلاقي بوصفه مطلقة ًحدسيةً حيّة. ومما لا شك فيه أن كانط خرج عن التصنيفات الكلاسيكية لمسألة الإيمان الديني والإيمان العقلي. وقد سيطرت عليه في البداية النزعة الإيمانية الطّهوريّة التي غرستها أمه فيه وعززتها مدرسية بصرامتها الدينية المعهودة. ويبدو أن كانط استطاع أن يرتقي لاحقا إلى مستوى الإيمان العقلي القائم على التفكير النقدي الحر في الإرادة الإلهية. وقد تناول نيتشه هذه الوضعية الخاصة بالفيلسوف في كتابه «المسيح الدجال»، فوصف نجاحه بنجاح عالم لاهوتي أكثر منه نّجاحا فلسفيّا عبقريا. وفي حقيقة الأمر لم يخالجنا شك بأن الروح الإيمانية كانت شديدة التأصل في عقل كانط على الرغم من الهجوم النقدي الذي وجّهه إلى الكنيسة والممارسات الدينية في عصره.
2- الدين في حدود العقل والأخلاق:
بدأ اهتمام كانط بالمسألة الدينية مع صدور كتابه الموسوم بـــــــــ “الحجة الوحيدة الممكنة للبرهنة على وجود الله” (Der einzig mögliche Beweisgrund zu einer Demonstration des Daseins GottesWikipedia site:emirate2. wiki) في عام 1769. ويرى كثير من النقاد أن هذا الكتاب يشهد على حضور نوع من القلق الفلسفي في نظرة كانط إلى المسألة اللاهوتية [4].
استطاع كانط لاحقا أن يبلور رؤيته اللاهوتية وموقفه من الدين بشكل واضح في كتابه المشهور “الدين في حدود العقل” (La religion dans les limites de la simple raison) الذي صدر في عام 1793. وقد خصص هذا الكتاب لمعالجة القضايا اللاهوتية والبحث في علاقة الدين بالعقل في مختلف المستويات. وتميّز في كتابه هذا بقدرته الفائقة على تناول مختلف القضايا اللاهوتية برؤية عقلانية ثورية جديدة للدين. والمهم في هذا العمل أن كانط أسس الدين على دعامة الأخلاق وقدم تصوراته النقدية للدين وطقوسه الشكلية السائدة في عصره. وقد افتتح تصدير الطّبعة الأولى من كتابه هذا – “الدّين في حدود العقل” – بالإعلان عن أطروحته المركزية حول العلاقة بين الدين والأخلاق، مبيّنا استقلال الأخلاق عن الدين لأنها تقوم على مفهوم الإنسان، ولذا لا تحتاج إليه أبداً بل هي مكتفية بذاتها. ويتضمن هذا الإعلان أن الأخلاق هي الأساس في الدين وليس العكس، أي أن يكون الدين أساسا للأخلاق[5]. فكانط يرى أن الدين هو القانون الذي يوجد فينا، وهذا القانون هو حتما القانون الأخلاقي الذي يمثل جوهر الإنسان وكينونته. وعلى هذا الأساس يرتقي القانون الأخلاقي – كما نفهمه نحن – إلى مستوى الإرادة الإلهية التي غرسته في أعماق الإنسان[6]. وإذا أردنا صياغة أخرى قلنا: إنّ الدين وفق كانط هو: “أخلاق مطبقة على معرفة الله، وإذا لم يرتبط الدين بالأخلاق، فإنه ليس إلا بحثا عن النعم” [7]. ويمكن أن نستقرئ من هذا كله أن كانط يؤسس الدين على الأخلاق ويعطي الأخلاق أولوية وسبقًا على الدين نفسه.
وقد أثار كتاب كانط المذكور غضب السلطات الكهنوتية – وكان هذا الأمر متوقعاً من كانط نفسه – وقد تعرض لتوبيخ الملك فريدريك وليم الثاني الذي أصدر أمرأً ملكياً يتضمن تهديداً صريحاً لكانط يدعوه فيه إلى التوقف فورا عن الكتابة في أمور الدين. وقد أجابه بالقبول، فتوقّف عن تناول الدين حتى نهاية حكم الملك، ثم استأنف نشاطه الفكري النقدي في مجال اللاهوت الديني وقضاياه في كثير من أعماله ومقالاته ومحاضراته.
ويركز كانط في كتابه على تحليل العلاقة بين الدين والأخلاق، فيقدمها بصورة مختلفة عما هو معهود وسائد في علم الأديان. ويتمثّل هذا الاختلاف في تقديمه الأخلاق على الدين، فالأخلاق عنده تقودنا حتماً إلى الدين. وعلى هذا النحو، تتسع الأخلاق لتصبح فكرة مُشرّع عظيم يقع داخل الإنسان ويتغلغل في أعماقه. ولا يتردد كانط في القول إنّ الدين الحقّ يقوم على واجباتنا الأخلاقية بوصفها أوامر إلهية. ويتضح بالتأمل العميق أن هذا النمط من الإيمان القائم على الأخلاق يرسخ الاستقامة الأخلاقية في عقل الإنسان ووعيه. وعلى هذا الأساس يرى كانط أن الدين هو دين أخلاقي في جوهره، أو بالأحرى دين يتجسد في القيمة الأخلاقية ويزدهر بقوانين الأخلاق. وهذه الرؤية الكانطية للأخلاق تنطلق من مبدأ “استقلال الإرادة الأخلاقية عند الإنسان” التي لا يمكن أن تخضع لأي سلطة خارجية مهما كان نوعها ومصدرها. وعلى هذه الصورة يرفض كانط النزعات الفلسفية التي ترى أن الأخلاق تقوم على سلطة إلهيّة، وذلك ما دام من المستحيل أن يخضع القانون الأخلاقي لأي سلطة خارجية عنه. وتأسيسا على هذه القانونية – “استقلال الإرادة والقانون الأخلاقي “- يرفض كانط تأسيس الأخلاق على الدين واللاهوت أيا كانت صيغتهما ومهما كانت تجلّياتهما، وعلى خلاف ذلك كله يرى أن الدين نفسه لا يمكن أن يقوم إلاّ على الأخلاق.
3- رؤية كانط للدّين:
كان كانط بروتستانتيا ورعاً من حيث الانتماء والتربية، ومع ذلك كانت مسألة الإيمان في فكره غائمة يشوبها كثير من التردد والتناقض. وقد تضمن كتابه الأول «نقد العقل المحض» إشارات قوية على موقف ديني إلحادي من حيث المبدأ، إذ يقول: باستحالة البرهنة على وجود الله عن طريق العقل والأدلّة العقلية، وهو بذلك يقوض أسس الأديان جميعها، لأن الله كما يراه مفهوم مجرد لا يستطيع العقل أن يرقى إلى معرفته بأدواته الخاصّة، كما يذهب إلى ذلك في كتابه «الدين في حدود العقل». ومن ثم يعود في كتابه النقدي الثاني «نقد العقل العملي» ليؤكد وجود الله وجودا حدسيا، أي إنه يمكننا إدراكه بالإيمان المحض الخالص وليس بواسطة البرهان العقلي. فنحن – حسب كانط – لا نستطيع إثبات وجود الله أو عدمه بالبرهان، وكل ما بوسعنا هو أن نركن إلى الإيمان بوجوده أو عدمه. ويجب ألاّ يغيب عن بالنا في هذا السياق أن كانط كان يؤمن بقوة العقل وقدرته اللامتناهية على استكشاف العالم المادي واستجواب الطّبيعة الفيزيائية، ولا سيّما في مجال العلوم الطبيعية وفي الرياضيات، ومع ذلك وضع حدودا لهذا العقل يتعذر عليه أن يتجاوزها، وهي الحدود التي يبدأ بعدها الإيمان بالله وملائكته [8].
يمكن القول، إذن: إنّ كانط كان مؤمنا بالله إيمانا حدسيا لا يعتمد فيه على البراهين العقلية التي لا يمكنها أن تتجاوز حدود الظواهر الطبيعية. وإذا كان العقل في مذهبه عاجزا عن بلوغ حقائق الأشياء في ذاتها (الشيء في ذاته Noumena) فكيف لهذا العقل أن يقدر على الوصول إلى حقيقة الذات الإلهية وهي أسمى معاني الوجود المتسامي على كل أشكال الحس؟[9]. وهو ما يعني أن كانط “يُرجع الإيمان إلى وجدان الإنسان وشعوره الداخلي النفسي.. أي إلى الضمير أو (القانون الأخلاقي)“[10].
وهذا هو الأمر الذي يؤكده ويل ديورانت في كتابه «قصة الفلسفة»، إذ يقول: “إن ما يسترعي النظر في فلسفة كانط أنه أعاد في كتابه النقدي الثاني إحياء فكرة الله، وحرية الإرادة والخلود التي دمرها في كتابه الأول”[11].
فنحن لا نستطيع أن نثبت وجود الله بالبرهان ولا أن نثبت عدم وجوده، لكننا نستطيع أن نؤمن بأحد به إيمانا عرفانيا حدسيا ينبثق في القلب ويتجذر في الوجدان. وفي الوقت الذي حافظ فيه كانط على أهمية العقل في العلوم الطبيعية وفي الرياضيات عارض مذهب هيوم التجريبي – الحسي، وترك فسحة للإيمان بالدّين[12]. ويعتقد شوبنهور في هذا السياق أن كانط كان في حقيقة الأمر متشككا في الدّين نفسه، ولكنه تردد في هدم إيمان الناس إشفاقا على الأخلاق العامة من أن يصيبها الدمار[13].
ويبدو أن كانط قد “كشف عن الأسس العقلية الواهية التي يقوم عليها اللاهوت الشعبي من غير أن يمّسه، ودعمه بطريقة أكثر نبلا بجعله الإيمان يقوم على الشعور الأخلاقي. وكأنه أدرك الخطأ الناجم عن هدمه اللاهوت القديم، فاتجه إلى اللاهوت الأخلاقي يستمد منه بعض الدعائم الواهية المؤقتة عسى أن يظل البناء قائما ليتمكن من الفرار قبل أن تسقط أنقاضه عليه. وهكذا فإننا نجد “هيني” يمثل كانط بطريقة كاريكاتورية هزلية مقصودة إذ يقول: “بعد أن هدم صرح الدين، يسير في نزهته المعتادة مع خادمه “لامب”، وفجأة يرى الدموع تجري في عيني خادمه الكهل، فتأخذه الشفقة ويحاول أن يثبت للعالم أنه ليس مجرد فيلسوف عظيم بل إنسان طيب وصالح أيضاً ويريد أن يدخل السعادة إلى قلب خادمه الذي لا يستطيع أن يعيش بغير إله[14].
3 – 1 – مواقف كانطيّة جريئة:
على الرغم من إيمان كانط الأصيل بالذات الإلهية – إيمانا يقوم على الحدوس الساكنة في الأعماق– فقد كان على خلاف عميق صدْعُه لا يُرأب مع قساوسة الكنيسة وكهنتها، إذ كان يحمل لهم عظيم الازدراء والاحتقار. ومع ذلك كان كثيراً ما يتجنّب مهاجمة العقائد الكنسية ولاهوت الكنيسة كي يدرأ عن نفسه أذى السلطات الدّينيّة القائمة وشرّها. وربّما لم يكن يؤمن بالهرطقات الدينية المسيحية التي تقول بتجسد الله في يسوع المسيح، ولم يكن على الأرجح يؤمن بالتثليث، ولا بالصلب، ولا بعقيدة الفداء. وكان يرى هذه التصورات مجرّد شعوذات دينية لا تحمل أي قيمة عقلانية. ومن هذا المنطلق، شنّ كانط هجوماً عنيفاً ضد رجال الدين في عصره، مناديا بالتخلص منهم تّأسيسا للدّين الحقّ الصحيح القائم على أداء الواجبات الأخلاقية، لأن الدين في جوهره لا يكون إلا إقرارا بالواجبات الأخلاقية بوصفها أوامر إلهية. وكان كانط متطلّعا إلى اليوم الذي يتحرر فيه الدين تدريجيا، وبصفة نهائيّة، من كل التعاليم والبدع والطقوس المؤذية التي تقوم على أساس الإيمان الكنسي، وهو الأمر الذي يمهد عملياً لتشييد الدين الحقيقي الذي يقوم على العقلانية والقيمة الغائية للواجب في الإنسان والإنسانية.
ويرى كانط في هذا الاتجاه أن التوراة (العهد القديم) كتاب مفرغ من القيمة الأخلاقية الحقيقية إن لم يكن معادياً أصلاً للأخلاق، وقد أشار إلى هذا الموقف السّلبيّ في كتابه «تهافت جميع المحاولات الفلسفية في الإلهيات» الصّادر في عام [15] 1791. وجاء فيه قوله: «إن عقلنا عاجز كل العجز عن تبصيرنا بالعلاقة بين العالم والحكمة السامية… وعلى الفيلسوف ألا يؤدِ دور المحامي الخاص في هذا الأمر، وعليه ألا يدافع عن أي قضية يعجز عن فهم عدالتها، ولا يستطيع إثباتها بطرق التفكير الخاصة” [16]. ورفض كانط كلّ المحاولات الفلسفية المعقدة التي سعت عبثا إلى إثبات اللاهوت والعقائد الدينية بواسطة الفلسفة، فالإيمان بالنسبة إليه يقوم على أساس العقل الفطري ومسلماته الأساسية وحدوساته الاثني عشرية[17]، وهو العقل الذي أطلق عليه العقل النوميني (Noumène) [18] أي العقل الفطري “الوهبي” الذي وهبنا الله إياه. وهذه الطّريق الحدسيّة قوة متسامية ترانسندنتالية تستطيع معرفة الأشياء التي لا تخضع للتّجربة ولا تحتاج إليها، مثل: أن الاثنين أكثر من الواحد، والجزء أصغر من الكل. .. الخ [19].
وحمل كانط بشراسة على التّعصّب الدّينيّ في مختلف تجلياته وتمظهراته السياسية والاجتماعية، وقرر أن هذا التعصب يشكل مصدر الشرور والمآسي والحروب المذهبية التي مزقت ألمانيا ودمرت أوروبا خلال حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648). وهي الحرب الضروس التي دارت رحاها بين الكاثوليك والبروتستانت، وأدت إلى مقتل الملايين من الرجال والشباب والأطفال. ويرجع كانط هذه المآسي المروّعة إلى السمة التعصبية للدين في مفهومه التقليدي. ومن هذا المنطلق كانت دعوته الّتي تنادي بالتّخلّي عن المفهوم الظلامي للدين والعمل على إقامته على أسس تسامحية عقلانية ونقدية. كما دعا إلى تحقيق المصالحة التاريخية بين العلم والإيمان، أو بين الفلسفة والدين. وربّما يكون قد كرّس أكثر أعماله الفلسفية لتحقيق هذه المصالحة، وعمل على تأسيس الدين وفق مبادئ تنويرية يكون فيها الإنسان غاية في مطلق حالاته، وذلك على نحو يستحيل فيه على الدين أن يكون سببا للخلاف والتنازع والحروب بين البشر. فالدين – الذي يؤدي إلى الموت والحرب وسفك الدماء – لا يستحق التقدير والاحترام لأنه دين شرير يتناقض مع القيمة الغائية للإنسان. ولذا كان كانط يبحث عن دين تنويري يقوم على تأصيل التسامح والقوى الحرة في الإنسان، ولا سيّما حرية الوجود والمصير.
يقرّ كانط بأن الأديان تتشكل في دوائر زمنية وتتحدّد في أبعاد مكانية، أو لنقل إنّها محكومة في نشأتها بظروف الزمان والمكان، وهو الأمر الذي يفسر لنا وجود أديان وعقائد كثيرة متنوعة في مختلف أنحاء المعمورة. وقد دفع هذا المعطى كانط إلى التساؤل عن إمكانية قيام دين عالمي كوني يَدين به البشر جميعاً دون استثناء. ويبدو أن كانط وجد أنه يمكن تأسيس دين عالمي يقوم على الأخلاق، وهو الدين الذي يصلح لأن يكون دينا حقيقياً للبشر كلهم. وذلك لأن دينا يقوم على الأخلاق يستطيع أن يعبر عن مصالح البشر الحقيقيّة ويجسد طموحاتهم الإنسانية في كل زمان ومكان. ومثلُ هذا الدين سيعبّر عن القيم العليا التي يلتقي حولها الناس جميعاً مثل قيم المودّة والتراحم والسلام والإحسان والتقوى والإيمان بالله [20].
3 – 2 – رفض الطّقوس الدّينيّة:
دفعت هذه النّظرة إلى الدين، بوصفه تصميما ذهنيا أخلاقياً أصيلا في العقل الإنساني، كانط إلى اتّخاذ موقف نقدي صريح ضد التدين القائم على الممارسات الطقوسية الجامدة. وتجسد هذا الموقف رفضا مطلقا لكل أشكال التصور الكنائسي للدين بطقوسه الإيمانية التقليدية. وعُرف عنه – في هذا السياق – أنّه كان يكره المشاركة في الطقوس الدينية لمّا كان رئيسا لجامعة كونغسبرغ ( في حين تقتضي التقاليد الجامعية أن تكون مشاركة القيادات الجامعية ضرورة وظيفية قصوى ). ولم يُخف حنقه من الطّقوس الدينية والشكليات الرسمية التي تمّ فيها اختزال الدين إلى مراسم لاهوتيّة عمياء جوفاء. وقد جاء في خطاب بعثه إلى صديقه يوهان لافاتر(Johann Kaspar Lavater )[21] إقرار واضح برفض التصورات الدينية السائدة والطقوس التي تجسدها، إذ يقول: “لا الشهادة بالإيمان ولا التوسل بالأسماء المقدسة ولا أي مراعاة للطقوس الدينية يمكن أن يساعدك على الظفر بالخلاص“[22]. وكان كانط يرى أن صلاة الضراعة تشكّل نوعاً من المداهنة والتملق لله[23]. ويبني على نقده هذا فكرة أن الإيمان الحقيقي هو ذلك الذي يقوم على علاقة مباشرة – دون واسطة – بين المؤمن والله.
كما يلاحظ كانط “أن المزامير (أو ما تُعزف به الأناشيد الدينية) والصلوات والتردد على الكنيسة، كلّ ذلك ينبغي فقط أن يُعطيَ الإنسان دفعا جديداً من القوة والشجاعة للتحسن، أو كذلك ينبغي ألا تكون تلك الممارسات سوی تعبير صادر عن قلب يحدوه تمثُّل الواجب. وتلك ليست حسنات البتة، وإنما هي استعداد للحسنات فحسب، فلا يستطيع المرء أن يرضي الكائن الأسمى إلا بأن يصبح إنسانا أفضل”[24]. ويعني هذا في المُجمل أن كانط كان يعتقد بعدم “جدوى الطقوس الدينية والعبادات الخارجية في تقويم الأخلاق؛ وقصارى ما تستطيعه هي أن تبث في القائم بها قوة جديدة على إصلاح نفسه أخلاقياً” [25].
إنّ الدين عند كانط أعظم من طقوسه، وتندرج هذه الرؤية في مسار تصور عميق يفيد بأن المقولات الكبرى التي يدّعي الدين تفوقه في استيعابها، مثل: فكرة الله، والنفس، والخلود، والعالم، ليست إلا امتداداً طبيعيّاً لوظائف العقل البشري المصمم طبيعيّاً وفق مسلماته العقلية وبديهياته القبلية الفطرية، ويعني هذا أن التصورات الدينية الحقيقية تنبجس من صميم العقل الإنساني، وتتحرك في أعماقه الوظيفية، ولا يمكن أن تكون في جوهرها خارجة عنه بل مستقرة فيه على نحو قَبْلي.
وفي الحقيقة لم يُخف كانط قط هذه النّزعة الفلسفية في تأسيسه للدين على الأخلاق، إذ يرى أن جوهر الدين يقوم على الفضيلة الأخلاقية بالمطلق. وهو في هذا السياق يقف موقفا سلبيا واضحاً من اللاهوت الذي يعتمد على الممارسات الشكلية الطقوسية والأيديولوجية، ويفصل بين الدين بوصفه “لاهوتا” وبين الدين بوصفه ممارسة إيمانية حقيقية. ويقرر تربوياً فصل اللاهوت عن الدين والتربية، إذ يقول:”ينبغي ألا نبدأ باللاهوت، وإن الدين الذي لا يبنى إلا على اللاهوت، لا يمكن أبداً أن يشتمل على شيء من الأخلاق، إننا لا نجد فيه إلا الخوف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا نجد فيه إلا خططا ونيات تقودها فكرة الجزاء، ولا ينتج عن هذا إلا عبادة خرافية، لهذا يجب أن تكون الأخلاقية هي الأولى، ثم يتلوها اللاهوت وهذا هو ما يسمى بالدين”[26].
وعلى هذه المنهجية فصل كانط بين تعليم الدين وتعليم الأخلاق، ورأى أن تعليم الأخلاق يجب أن يسبق تعليم الدين نفسه [27]. وهذا لا يعني أبداً أن تعليم الدين يجب ألا يبدأ إلا بعد انتهاء تعليم الأخلاق، بل يجب أن يتزامن معه في بعض المراحل، لأن التعليم الديني الحقّ يحمي الأطفال من غائلة التصورات الدينية الزائفة، وهذا يعني أنه يجب على الطفل أن يمتلك تصوراً متكاملاً في الغاية والمنهج لمفهومي الله والواجب، وهذا من شأنه أن يحمل الأطفال على الشعور بالهيبة والمهابة إزاء العناية الإلهية [28].
3 – 3 نقد الوعظ الأخلاقيّ الدّينيّ:
وجه كانط نقداُ منهجياً لاذعاً حادّ النّبرة للتّربية الأخلاقية الترويضية التي اعتمدتها المؤسسات التربوية الدينية القائمة في زمنه وروّجت لها. وكان يَعيب على هذه المؤسسات أنها تقيم التربية الأخلاقية على الدين، فيما يجب أن يقوم الدين على الأخلاق ويستمد قوته من التربية الأخلاقية. وقد ذهب إلى أنه إذا أردنا أن نربي الطفل تربية دينية صحيحة، فيجب علينا أن نبدأ معه بترسيخ القانون الأخلاقي الذي يحمله في أعماقه، وهو القانون الذي يمثل الضمير الحيّ الساكن في وجدان الإنسان، وهذا يعني أن علينا – بدءاً – أن نعرّف الطفل بالقانون الأخلاقي الثّاوي في أعماقه قبل أن نعرّفه بالمفاهيم الدينية المجردة الخارجة عنه.
ولَشُدّ ما كان كانط كارهاً لأسلوب الوعظ الديني الذي يشكل – حسب رأيه – حالة موجعة من الترويض العدمي للأطفال، فهو يدفع بهم في النهاية إلى مهاوي الردى ويحيد بهم عن مسارات القيمة الأخلاقية الكبرى، ووجد أن هذا الأسلوب ينمي في نفوس الطلاب الكذب والخداع والمكر والخروج عن الصراط المستقيم، كما يؤدي إلى التّخلّق بالطّبع الجلف والخشونة والعنف، ويُفقد القدرة على التفاعل الإنساني مع ظروف الحياة.
وكان هذا النقد في الغالب موجها لأنماط الوعظ الديني الذي كان سائدا في الكنائس والأديرة، والذي كان يعتمد في تلقين المبادئ الأخلاقية أو مَلء القلوب بالإيمان. ويوضح كانط أن الدعوة إلى مكارم الأخلاق في هذا الوعظ لم تتوخّ القيام بالواجب الأخلاقيّ تمثّلا لقيمته الذاتية بل لتوقّي العقاب الإلهي. فالوعظ الديني يعلّم الطفل قول الصدق لأن الكذب محرم من قبل الخالق، ولكنّه لا يعلّمه قول الصدق من أجل الصّدق، أي بوصفه غاية في ذاته، بل تتحول الغاية إلى وسيلة تلبّي معنى الدّين السّطحيّ. ولا يخلو هذا المسلك من خطر في التّنشئة الأخلاقيّة للطفل، لأنّه سيتصور أن الكذب -على سبيل المثال وليس الحصر- مشروع لو لم يحرمه الدين. وهنا يرى كانط أنه يجب على التربية، على خلاف ما هو سائد في الأديرة والمدارس الدينية، أن تعلم الأطفال رفض القيم السلبية لأنها سلبية معادية للطبيعة الأخلاقية عند الإنسان، وهو يصوغ هذه الفكرة بهذه العبارة البليغة قائلا: يجب أن نعلم الطفل أنه “لا يجوز فعل الشر حتى لو صادف أن الله لم يحرمه أبدا“، وهذا يعني أن كانط يعترض على الربط بين القيمة الأخلاقية والغاية النّفعيّة. فالقيمة الأخلاقية قائمة بذاتها صادقة بنفسها سامية بكيانها تفرض نفسها لأنّها – كما يشير اسمها – قيمة وليس لأنها وسيلة إلى تحقيق غاية أخرى، فقول الصدق لا يكون إلا من أجل الصدق وليس من أجل غاية أخرى مثل رضى رب العمل أو رجل الدين. وفي كل الأحوال يجب على القيم الأخلاقية ألا تتحول إلى وسيلة لغاية أخرى كما كان سائدا في عصره، وما زال سائدا في عصرنا أيضا. وتأسيسا على ما تقدم يمكن القول إنّ كانط كان يلح على أهمية تعليم الأطفال المبادئ لذاتها وليس لغايات تدرّ بالنّفع، فيجب أن يدركوا أن الخير خير في ذاته وأن الشّر شرّ في ذاته، وأن احترام هذه المبادئ واجب أخلاقي مطلق في ذاته.
ومن الطّبيعيّ – بناء على ذلك – أن يكون نقد كانط شديداً لأسلوب الوعظ الأخلاقي الذي يعلم الأطفال السير بمقتضى الواجب الأخلاقي خوفاً من الله وطلباً لثوابه، لأن الواجب الأخلاقي – في حقيقته الجوهريّة – يتعارض كلياً مع نوازع الخوف والطّمع. وقد أكد مراراً أن الواجب يقوم على الإحساس الداخلي الحرّ بقيمته الأخلاقية دون قهر أو خوف أو رهاب.
وعلى سبيل الاختصار كان كانط “يدعو إلى رفض السلوكات المسيئة في ذاتها، وليس لكونها محرمة بفعل قوة إلهية. وإنّنا لنسمعه يقول في هذا الخصوص: “أليس في غاية الأهمية أن نعلم الأطفال، منذ نعومة أظفارهم، مقتّ الرذيلة، ليس البتّة لأن الله حرمها فقط، بل لأنها في حد ذاتها مقيتة ! وإلا، سينتهون فعلاً بيسر إلى الاعتقاد بأنه يمكنهم فعل الشر، وأنه فضلاً عن ذلك قد يجوز فعل الشر لو صادف أن الله لم يحرمه، كما سينتهون بيسر إلى الاعتقاد بأن الله بالذات يمكنه فعلاً مرة واحدة أن يقوم باستثناء. إن الله هو الكائن الأكثر قداسة: فهو لا يريد إلا الحسن ويوجب أن نمارس الفضيلة بناء على قيمتها الخاصة”[29]. فالرذيلة في العرف الكانطي “شرّ” لأنها كذلك في ذاتها، وليس لأن الله حرمها بل لأنها تتنافى مع الطبيعة الأخلاقية للإنسان، وهذا يعني أن الطفل يمتلك في ذاته شعورا أوّليّا بقانون الواجب، وهو القانون الذي يجب على المربي تنميته وتقويته في نفس الطفل [30].
وعلى هذا الأساس يرى كانط أن الإنسان يحتقر نفسه ضمنياً حين يكون فاسداً، “وهذا الاحتقار يقوم في الإنسان نفسه، ولا يوجد فقط لكون الله قد حرّم ارتكاب الشّر، ذلك أنه ليس من الضروري أن يكون المشرّع هو أيضاً مؤسس القانون. فالأمير يمكن أن يأمر بمنع السرقة في بلاده، ومع ذلك لا يمكن وصفه بأنه مؤسس قانون منع السرقة، وبهذا يتعلم الإنسان أن يرى أن سلوكه الحسن هو وحده الذي يمكن أن يجعله جديرا بالسعادة. والقانون الإلهي يجب أن يتجلى في الوقت نفسه قانوناً طبيعياً، لأنه ليس اعتباطيا”[31].
4- التّصادم مع رجال السياسة والدين:
أثارت مواقف كانط من الدين وطقوسه حفيظة رجال الدين، كما أثار كتابه “الدين ضمن حدود العقل“حفيظة الملك فريدريك غليوم الثاني وغضبه. وهو الملك الذي وطه رسالة تهديد إلى كانط – مستنكرا – لافتاً نظره إلى أنَّ استخدامه للفلسفة يسيء إلى العقائد الأساسية. ولما كان كانط حذراً من مغبة التعرض لنواهي الملك أعلن خضوعه لإرادته مطلقاً عبارته المأثورة المشهورة: “ربما لا أقول كل ما أعتقد به لكن لن أقول شيئاً لا أعتقد به“، وهو ما يعني أنّه لم يساومْ بشأن مشروعه، وكان يلجأُ إلى الصمت وهو أضعف الإيمان. وقد تعرض كانط لهجوم شرس واسع من قبل المفكرين والفلاسفة في عصره، ووصفه بعضهم بـ”فيلسوف الدمار الشامل لكل شيء “، وذلك بعد أن وضع حدودًا جديدة دقيقة للمعرفة الإنسانية، واستطاع أن يكشف أن الأرض التي يمكن أن تتحرك عليها المعرفة الإنسانية اليقينية أصغر بكثير من اعتقاد كثير من الفلاسفة” [32].
وأثارت أفكار كانط في هذا المجال أيضاً جدلا فلسفيا حول هويّته الدينية الإيمانية، فذهب فريق إلى القول: إنّه قديس من نمط جديد، في حين ذهب فريق آخر إلى تصنيفه فيلسوفاً ملحداً. وفي كل الأحوال يرى كثير من النقاد – ولعلّه الرأي الأصوب – أن كانط كان مؤمنا بالله وفق منهجيته الأخلاقية التي تستند إلى الضمير والحدس الداخلي العميق في الإنسان، وهو إيمان لا يعترف بالبراهين العقلية، وذلك لأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يتوغل في جوهر الحقائق المطلقة بل هو مُوظّف لفهم الظواهر الطبيعية واكتناهها. وتبقى حقائق الأشياء في ذواتها غاية عقلية لا تدركها حتى العقول الكبيرة. وكأنّنا بكانط يريد أن يقول إن الذات الإلهية جوهر مطلق وحقيقة مطلقة. وهذه الحقائق الكلية تقع خارج حدود العقل، أي إن العقل غير قادر على تناول هذه المفاهيم المطلقة، ويريد بذلك أن الإيمان بالله إيمان يقوم على الفطرة الأصيلة للإنسان ويومئ إلى الحسّ الأخلاقي الغائر في أعماق الإنسان. وهذا الأمر يجسد المبدأ الذي يقول إن الله يدرك بالقلوب لا بالعقول، وهو يفيد بأن الإيمان بالله يكون تسليما قائما على الحدس لا على برهان عقلي واضح على وجوده.
5-خاتمة:
يتجلى جانب من توهّج العبقرية الفلسفية عند كانط في تناوله للمسألة الدينية. وقد قدر له أن يقارب هذه المسألة المعقدّة القائمة على ثلاثية اللاهوت والأخلاق والتربية مقاربة عبقرية تتصف بالذكاء والجرأة. واستطاع في دائرة هذا التناول أن يحدد أوجه التباين بين الدين بوصفه إيمانا وبين الدين بوصفه ممارسة شكلية مؤسساتية. وفي هذا المدخل أن يقدم ظريته الأخلاقية القائمة على وشائج العلاقة القائمة بين ثلاثية الأخلاق والدين والتربية دون أن يجهل الحدود الفاصلة بين هذه الحقول المعرفية الثلاثة.
وبإمكاننا أن نتبيّن من خلال طرح كانط هذا أنّه لم يفقد إيمانه الراسخ بالله، على الرغم مما أبداه من جموح نقدي فلسفيّ. وقد رسخ إيمانه تأسيسا على الضمير الأخلاقي بقطع النّظر عن البراهين المستحيلة على الحضور السامي لواجب الوجود. وقد منحنا الفرصة النادرة للتّمييز بين الإيمان اللاهوتي الشكلي المشحون بالطابع الأيديولوجي والإيمان الحقيقي الذي يرتكز على الجوهر الأخلاقي، مؤكدا أن تحقيق الأهمية القصوى للبحث عن الفضيلة الأخلاقية بوصفها غاية عليا للوجود. وقد مكننا أيضاً من فهم عميق لجوهر الدين الذي يقوم على الخير الأسمى والفضيلة الأخلاقية الأشمل.
وفي هذا النشاط الفلسفي المتوج بالعقلانية استطاع كانط أن يقنعنا بأن الأديان الطقوسية غالباً ما تكون متشبعة بالأيديولوجيا والآثام والشرور الكامنة في مضامينها التعصبية. فاللاهوت الشكلي يجردنا من الإحساس الأخلاقي الذي يجب أن ينبع من ذواتنا بمعزل عن الشكليات الطقوسية التي تضعف العقل وتكسر فيه هذا النزوع الأخلاقي الأصيل إلى الحكمة والفضيلة والقيمة الأخلاقية. وقد قدّم لنا كانط في مختلف توجهاته الفكرية في مجال العلاقة بين الدين والأخلاق رؤية جديدة كلياً إلى لدين، وذلك عندما يربط جوهرياً بين الدين والخير المطلق، بين الدين والواجب، ومن ثم بين الدين والسعادة. فالدين لا يكون دينا حقّاً ما لم يرتبط بسعادة الإنسان وخيره المطلق، وهذا الأمر يتمثل في قوله الصريح:”إن فكرة الله لا يمكن عزلها عن فكرة السعادة وفكرة الفضيلة، وإن فكرة الله مرتبطة دائماً بمفهوم المثال الأسمى أو مفهوم الخير” [33].
ولا يدهشنا أبداً موقف كانط الجريء في مواجهة الطقوس اللاهوتية بالتّحليل الصّارم والنّقد الصّريح والرفض الباتّ، وهو الذي قد عايشها ونشأ في أجوائها المتخمة بالزيف والغباء والرياء. وقد وجد أن هذه الطقوس تتنافى مع العقل والبداهة والفطرة والقيمة الأخلاقية على وجه الإطلاق. وقد وجد في سياق تناوله لهذه الشكليات أن الدين الذي يبنى على اللاهوت لا يمكنه أبداً أن يكون دينا أخلاقياً، لأن مثل هذا الدين اللاهوتي يقوم على التّعارض مع القيمة الأخلاقية والفضيلة. وقد وصفه (أي الدين اللاهوتي) بأنه دين يقوم على العنف والتهديد والخوف والعقاب والثواب، وهي منظومة من الفعاليات التي تتناقض مع القيم الأخلاقية وتتعارض مع مفاهيم الحرية والمسؤولية والعقلانية والإيمان بالواجب.. فالإنسان الغائي لا يمكن أن يكون إلا كائناً حرّاً عقلانياً خيّرا، وهو الجوهر الذي يجب أن يتحقق فينا ويتأصل في أعماقنا. ويؤكد كانط في هذا السياق على التعارض الكلي بين الدين بصورته اللاهوتية الطقوسية الشكلية وبين الأخلاق بوصفهما منظومة من القيم الإنسانية الخيّرة التي تجعل من الإنسان كائناً حرّاً غائيا يغمره الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية. وتأسيسا على هذه الصورة يؤكّد كانط أن الدين يجب أن يقوم على الأخلاق، ومن غير الأخلاق سيتحول إلى مهزلة شكلية، لأنه يفقد جوهره الخيّر ومضمونه الحقيقيّ القائمين على الإيمان بالله والإنسان. وفي سياق تصوره النقدي للعلاقة بين الأخلاق والدين يخطّ لنا كانط رؤية جديدة يربط فيها بين ثلاثية الدين والأخلاق والسعادة، ويرسم لنا صورة متميزة لطبيعة العلاقة بين هذه المكوّنات..
وكما لاحظنا يرفض كانط مختلف الطقوس الدينية التي توهم القائمين عليها بأنها تقوم بعملية التهذيب الأخلاقي الأطفال، ويرى أن هذه الطقوس الشكلية لا تعدو أن تكون أكثر من هرطقات ترسخ الخوف والقلق والتوتر في نفوس الأطفال، وتحوّل الذات الإلهية من قوة سامية إلى أداة عقاب وتهديد مستمر، فتجعل المرء يستبطن موقفا داخليا لاشعوريا ضد الدين والرموز الدينية التي اختُزلت وظائفها في التخويف والترهيب والعقاب. وهذا متناقض مع التربية الأخلاقية الكانطية التي لا يمكنها أن تقوم إلا على الثقة بالنفس والأمل والحرية والإيمان بالإنسان غاية. وهذا يعني أنه لا يستقيم أن يكون الإنسان غاية كلية ضمن صيرورة العبودية التي يمارس فيها القساوسة الدين وطقوسه الشكلية شتّى صنوف الإرهاب.
[1] – باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza): فيلسوف هولندي من أهم فلاسفة القرن السابع عشر ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي. امتاز سبينوزا باستقامة أخلاقه وخطّ لنفسه نهجا فلسفيًا يعتبر أنّ الخير الأسمى يكون في “فرح المعرفة” أي في “اتحاد الروح بالطبيعة الكاملة“.
[2] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 348.
[3] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 354.
[4] – محمد علي البار، حسان شمسي باشا، وعدنان البار، الأخلاق أصولها الدينيّة وجذورها الفلسفية، مرجع مذكور.
[5] – Kant, la religion dans les limites de la simple raison, Trad. J. Giblin ( Paris: J. Vrin, 1992) p. 23.
[6] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 75.
[7] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 158.
[8] – انظر: روبرت آندرو آرييل، كانط والبراهين اللاهوتية، بطلان الحجة على عدم وجود الكائن الواجب، روبرت آندرو آرييل، مجلة الاستغرابـ، العدد خريف -2017. صص153- 164.
[9] – حيدر خضر، إيمانويل كانط الفيلسوف الشاهد على الحداثة والناقد لعيوبَها، مرجع مذكور، ص 319.
[10] – وائل القاسم، عن «كانط» ونقد العقل المحض/الخالص، مرجع مذكور.
[11] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 371.
[12] – حيدر خضر، إيمانويل كانط الفيلسوف الشاهد على الحداثة والناقد لعيوبَها / مجلة الاستغراب، خريف 2017. صص 313-326، ص 324.
[13] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 371.
[14] – ويل ديورانت، قصّة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 371.
[15] – Emmanuel Kant, “On the Miscarriage of All Philosophical Trials in Theodicy(1791),” Edited and translated by Allen W. Wood and George di Giovanni,, Cambridge University Press, 2012.
[16] – انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، دار كنوز المعرفة، عمان، 2010.
[17] – يرى كانط أن المسلمات العقلية مفاهيم متأصلة في عقل الإنسان على نحو فطري خارج سياق التجربة، وهي مفاهيم ذهنية مطلقة ومعلومات قبلية وتتمثل في اثني عشر مفهوما موزعة في أربع فئات، وكل فئة تشتمل على ثلاثة مفاهيم قبلية: تختص الفئة الأولى في قضايا (الكمية) وتشتمل على: أ- الوحدة ب- الكثرة ج- الكلية (أي الكل). وتختص الثانية في (الكيفية) وتشتمل على: أ- الإيجاب، ب- السلب، ج- الحصر. وتتمحور الثانية في مفهوم (النسبة) وتشتمل على: أ- الذاتية والعرضية، ب- العلية والمعلولية، ج- المشاركة أو المقابلة. وتركز الأخيرة على مفهوم (الجهة) الذي يشمل: أ- الإمكان والامتناع، ب- التحقق الإيجابي أو السلبي، ج- الوجوب أو الإمكان. وهذه المفاهيم القبلية الأدوات الأساسية للتفكير النظري عند الإنسان.
[18] – يعرّف النوميني (Noumène) بأنّه الشيء في ذاته، أو هو كلّ ما يجاوز نطاق التجربة والإدراك الحسّي؛ إذن فهو حقيقة مجرّدة من مسلّمات العقل العملي، وهو الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي، وهي حقائق مجرّدة تأخذ صورة مسلّمات العقل العملي القبلية التي تدرك بالحدس العقلي مثل كالحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله.
[19] – انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، مرجع مذكور. ص ؟
[20] – محمود سيد أحمد، مشروع كانط للسلام الدائم: أسسه ومصادره، مجلة العلوم الإنسانية، العدد 23، صيف 2014. صص 40-59. ص 44.
[21] – يوهان كاسبار لافاتر ( Johann Kaspar Lavater ) 15) نوفمبر 1741 – 2 يناير 1801( فيلسوف وشاعر وعالم فيزيائي لاهوتي سويسري.
[22] – وانت كرستوفر أندزجي كليمو فسكي، أقدم لك كانط، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2002، ص 12.
[23] – كرستوفر وانت و اندزجي كليموفسكي، أقدم لك كانط، المرجع نفسه، 2002. ص 12.
[24] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 76.
[25] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 158.
[26] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 158.
[27] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 159.
[28] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 159.
[29] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 23.
[30] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 158.
[31] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، مرجع مذكور، ص 158.
[32] – وائل القاسم، عن «كانط» ونقد العقل المحض/الخالص، الجزيرة، مرجع مذكور.
[33] – نقلا عن: حيدر خضر، إيمانويل كانط الفيلسوف الشاهد على الحداثة، مرجع مذكور، ص 319.
_____________
*الدكتور علي أسعد وطفة.
*المصدر: التنويري.