-تقديم أولي
يعدُّ ابن خلدون من أبرز الفلاسفة والمفكّرين المسلمين اشتغالًا على التاريخ وعلى فلسفة التاريخ عامَّة،إذ تركت مؤلفاته وآراؤه وأفكاره حضورًا خاصًّا،وموقعًا متميزا في تاريخ الفكر الإنساني بصفة عامَّة، فهو من أبرز من انتقد الرواية التاريخيَّة الشفهيَّة التي سادت بين المتقدِّمين والإخباريين،واعتبر علم العمران البشري علمًا مستقلا، ومدخلًا ضروريا للممارس وللمشتغل على التاريخ وعلى فلسفته، فهو بهذا الاعتبار والوصف يعد فيلسوفا ومؤرِّخًا جمع بين التاريخ وبين فلسفة التاريخ ، وعمل على نقد وتحصين التاريخ من الروايات الكاذبة ومن النقول الزائفة، واعتبر التاريخ أحداثًا ووقائع تجري وفق قوانين وسنن محكومة بظروفها السياسيَّة، وبقوانينها الاقتصاديَّة، وبطبائعها العمرانيَّة والدينيَّة والبشريَّة، تتميَّز هذه الأحداث التاريخيَّة بالحركيَّة، ويحكمها قانون السببيَّة،فهي أحداث لا تحدث بدون سبب، ولا تقع بدون هدف، أعني تقع بشكلٍ اعتباطي .
ابن خلدون وعلم الاجتماع
اختارت كثير من الدراسات الجامعيَّة والبحوث الأكاديميَّة أن تجعل من ابن خلدون مؤسِّسًا لعلم الاجتماع قبل روّاده ومؤسّسيه الأوائل،فهو سبق زمنه، وتقدَّم على عصره، وعلى روّاد هذا العلم وهم الفيلسوف سان سيمون ت 1825م، واغست كونت ت1857م، وعلى إميل دوركايم ت 1858م،وهربرت سبنسر ت1903م،الذين ساهموا في تأسيس وتشييد هذا العلم المسمَّى بعلم الاجتماع، والسند في هذا الاختيار هو حضور مفهوم علم العمران الذي تداوله ابن خلدون بشكل كبير في كتابه المقدّمة، وهو مفهوم يترادف ويقترب دلاليًّا مع مفهوم علم الاجتماع، بالمقابل فإنَّ من الدارسين من يتحفَّظ من إدراج ابن خلدون مؤسِّسًا لعلم الاجتماع، وسندهم في هذا التحفُّظ أنَّ العلوم تأسَّس عبر سياقات لا يكون فيها للريادة أي اعتبار، بحيث يتداخل فيها الابستمولوجي بالتاريخي، وعادةً ما يكون الدَّاعي إلى هذا العلم هو الحاجة والضرورة ، فلا مجال للاعتباطيَّة أو العفويَّة في نشأة العلوم، وفي قيامها واستمراريتها وديمومتها، وإنما تنشأ العلوم تبعًا للحاجة إليها،وتغيب بالمرَّة هذه العلوم بغياب الدَّاعي والحاجة إليها.[1]
ابن خلدون بين قراءتين
اختارت بعض الدراسات والبحوث،لا سيما التي اتَّجهت إلى قراءة التراث العربي الإسلامي والخلدوني إلى أن تجعل ابن خلدون سابقًا لزمنه، ومتقدِّمًا على عصره، في تأسيسه لعلم الاجتماع، ومن الذين أخذوا بهذا الاختيار الدكتور حسن الساعاتي في كتابه: علم الاجتماع الخلدوني: قواعد المنهج[2].
والدكتور حسن الساعاتي هو الذي شغل رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، وتولى عمادة كليَّة الآداب بجامعة بيروت،فهو يعترف بصريح العبارة أنَّ ابن خلدون هو المؤسَّس الأوَّل لعلم الاجتماع في العالم أجمع، شرقيه وغربيه، وقد سبق في ذلك ” سان سيمون، وأوجست كونت” واميل دركايم، [3]وهو الذي يعده الغربيون “مؤسسا لعلم الاجتماع “.
بموازاة مع هذا يعترف الدكتور حسن الساعاتي في جانب آخر أنَّ ابن خلدون هو أوَّل من تكلَّم عن علم الاجتماع بوصفه علمًا مستقلًّا بموضوعه،ومتميِّزًا بخصائصه التي تميّزه عن غيره من العلوم.[4]
والسند في هذه الدعوى أن علم العمران البشري الذي تحدَّث عنه ابن خلدون يتقارب دلاليا ومفهوميا مع علم الاجتماع كما هو محدّد في المعاجم المختصَّة في علم الاجتماع.[5]
وعلى نفس هذا الاختيار سار الدكتور علي عبد الواحد وهو الذي عاش مع مقدّمة ابن خلدون لسنوات طويلة، إذ صرح في كتابه علم الاجتماع بقوله: “…. فمن بحوث ابن خلدون في “المقدمة” يتألَّف إذن علم مستقل. وقد سمَّاه ابن خلدون بعلم العمران البشري أو الاجتماع الإنساني،وهو العلم الذي نسميه اليوم السوسيولوجيا أو علم الاجتماع، لأن قوام هذا العلم هو دراسة الظواهر الاجتماعيَّة للكشف عن القوانين التي تحكمها وتخضع لها…ّ [6].
بهذا التصريح الواضح يكون ابن خلدون سابقًا على عصره وزمنه في تأسيسه لعلم الاجتماع [7].
بل الأكثر من هذا، يعمد الدكتور علي عبد الواحد وافي إلى التأكيد في فصل عنونه:
“إنشاء ابن خلدون في مقدمته لعلم جديد وهو ما نسميه الآن بعلم الاجتماع “إلى هذا الحدّ وقف تفكير السابقين في فهم الظاهر الاجتماعيَّة أما ابن خلدون فقد هدَّته تأمّلاته ومشاهداته العميقة لشوون الاجتماع إلى الاعتراف أن الظواهر الاجتماعيَّة لا تشذ عن بقيَّة ظواهر الكون وانها محكومة بقوانين طبيعيَّة تشبه القوانين التي تحكم الفلك والطبيعة والحيوان والنبات.
هذا هو جوهر منهج ابن خلدون في البحث،وهو المنهج الذي لا يزال إلى وقتنا الحاضر عمدة الباحثين في علم الاجتماع”.[8]
ومن العبارات التي تتردَّد عند عبد الواحد وافي أن ابن خلدون هو مؤسِّس علم العمران وهو علم الاجتماع، وعلم التاريخ الاجتماعي.[9]
وعلى نفس الاختيار ذهب الباحث عبد الغني مغربي في كتابه:الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون الذي ترجمه محمد الشريف بن دالي إلى اللغة العربيَّة، واظهر في التقديم أن المقدِّمة تحمل تجليات وأفكار تنتمي في مجملها إلى علم الاجتماع،ما ينبغي منه الاعتراف بريادة وتأسيس ابن خلدون لعلم الاجتماع.[10]
لكن مهما قيل عن هذا الإشكال،فإنَّ ابن خلدون لا يخرج عن النسق الفكري والثقافي الذي كان سائدًا في زمنه وعصره، لقد نصَّ المستعرب الفرنسي جورج لا بيكا في مداخلته التي عنونها:”المقاربة الدينيَّة في فكر ابن خلدون ” أنَّ إغفال أو إهمال البعد الديني في المقدِّمة، وفي فكّر ابن خلدون بصفة عامة من شانه أن يجعل المقاربة الفكريَّة لفكر ابن خلدون ولتراثه غير مكتملة،يشوبها النقص ،لأنَّ المعطى الديني،كان من أبرز مركّبات ومكوّنات الفكر الخلدوني.[11]
محمد عابد الجابري بين التحفظ والاعتراف
من الإشارات الأولويَّة التي يقف عندها محمد عابد الجابري، ويراهن عليها في قراءته لابن خلدون،هي المعارضة الشديدة،والمصادرة القويَّة لمن يقول بان ابن خلدون سبق زمنه وتخطى عصره ليكون هو الرائد الأول، والمؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، قبل عالم الاجتماع الفرنسي إميل دركايم [12]،لان هذا التصريح من شانه أن يفوت الفرصة لاستكشاف وإظهار الإشكاليَّة العامة والسياقات التاريخيَّة التي كانت ثاويَّة في المتن الخلدوني، وشاغلة لابن خلدون في مساره الفكري والعلمي[13].
إن هذا الخلل المنهجي وسوء الفهم الذي وقع فيه كثير من الدارسين ،وسقط فيه قراء الخلدونيَّة،يعود إلى هذا البعد، وهو أخذهم بالمنهج التجزيئي في قراءة المتن الخلدوني،لأنَّهم لم يقاربوا المتن الخلدوني في سياقه الشمولي وفي بعده الكلي من حيث هو متن مركب من جميع المؤلفات والكتب والنصوص التي تركها ابن خلدون،ومحكوم بظفريته الزمانيَّة، وإنما اكتفوا واقتصروا على كتاب المقدّمة بمفرده وعلى نصوص بذاتها، وأغفلوا باقي المؤلفات الأخرى، وهذا هو عين الخلل ومؤشر السقوط الذي سقط فيه عدد من الدارسين والباحثين في قراءتهم لمقدّمة ابن خلدون.[14]
إضافة إلى هذا الثغرات المنهجيَّة المشار إليها، فان هذه الدراسات التمجيديَّة، لم تكلف نفسها عناء النظر إلى المتن الخلدوني في سياقه التاريخي وفي نسقه الابستمولوجي والمعرفي،وهو السياق الذي جعل فكر ابن خلدون محدد في إشكاليَّة كتابة التاريخ وفق القانون الذي يحكم العمران البشري.
لقد كان القصد من كتابة المقدمة عند ابن خلدون هو أن نجعل من علم التاريخ علما يرتفع التاريخ فيه ويرتقي عن سرد الأحداث إلى الممارسة العلميَّة التي قوامها وأساسها التحقق من الحدث التاريخي في موافقته للحياة وللواقع.[15]
أن القول بالريادة والأسبقيَّة والتميز في تأسيس علم الاجتماع لا يضيف ولا يقدم شيئا إلى ابن خلدون،مادام ابن خلدون كان يحمل مشروعا كبيرا و إشكاليَّة مركبة تختزل وتتحدد في إعادة كتابة التاريخ وفق رؤيَّة علميَّة جديدة تحتكم الى العمران البشري.[16]
وما يخلص إليه الدكتور محمد عابد الجابري أن الخلدونيَّة “مشروع نطري وواقع حضاري،إنها في أن واحد نظريَّة في التاريخ العربي،وجزء من هذا التاريخ نفسه ،وعلى الرغم ن أنا أكدنا ونوكد ان ما يستهوينا ويبهرنا في الخلدونيَّة هو أنها تحدث إلينا عما لم نستطع نحن الكلام فيه بعد، فلابد من التأكيد من جهة أخرى انه لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألفيناها واقعيا، وبعبارة أخرى يجب أن نتجاوز بالتحليل والنقد الخلدونيَّة كواقع حضاري ما زال يكبل ويقيد مجتمعنا لنحصل على الخلدونيَّة الجديدة كنظريَّة مستقلَّة نخطِّط لنهضتنا”[17].
استنتاج
ما يمكن قوله في نهايَّة هذا البحث هو إن القول والتصريح بالريادة والأسبقيَّة في موضوع تأسيس ابن خلدون لعلم الاجتماع ،من شانه أن يفوت الفرصة لاستكشاف وإظهار الإشكاليَّة العامة والسياقات التاريخيَّة التي كانت ثاويَّة وحاضرة بشكل مضمر أو بشكل علني ومصرح به في النص والمتن الخلدوني،ولاسيما في كتابه المشهور المقدمة، فمشروعه في التاريخ وفي فلسفة التاريخ يعد من أهم وابرز المشاريع الفكريَّة والفلسفيَّة الرائدة التي اشتغلت على قراءة نظم ومعارف التراث العربي الإسلامي.
لقد ترك ابن حلدون بصمات قويَّة ممتدة في تاريخ الإنسانيَّة، وهذا يعود أن كتاب المقدمة جاءت حاملة لخطاب تاريخي غير مألوف ولا معتاد بين علماء التاريخ المسلمين.
وعليه نقول فمهما قيل عن هذا الإشكال المتعلق بالريادة والأسبقيَّة والتأسيس في تشييد علم الاجتماع، فان ابن خلدون يبقى علما متميزا في تاريخ الإسلام من خلال دعوته وتصريحه بالارتقاء بعلم التاريخ من سرد الإخبار إلى تأسيس التاريخ وفق العمران البشري.
[1] نحن والعلم للدكتور سالم يفوت:31
[2] صدر عن دار النهضة سنة : 1981
[3] – إميل دوركايم *1858-1917 عالم اجتماعي فرنسي هو الذي أرسى القواعد المنهجي والعلميَّة لعلم الاجتماع، وجعل الشأن التربوي والاجتماعي،جزءا لا يتجزأ من مشروعه العلمي السوسيولوجي من ابرز ما كتب:علم الاجتماع والتربيَّة،قواعد علم الاجتماع.
[4] علم الاجتماع الخلدوني الدكتور حسن الساعاتي: 66
[5] لمزيد من التعاريف والتجديدات لعلم الاجتماع يراجع:المعجم النقدي لعلم الاجتماع لريمون بودون المؤسسة الجامعيَّة للدراسات والنشر1986:ص: 99
[6] علم الاجتماع لعلي عبد الواحد وافي:ص:69
[7]: علم الاجتماع ومدارسه مصطفى الخشاب القاهرة: منشورات دار الأنجلو المصريَّة،1983ص: 3
[8] علم الاجتماع لعلي عبد الواحد وافي:ص:22
[9] دراسات إسلاميَّة للدكتور حسن حنفي:101
[10] صدر هذا الكتاب عن ديوان المطبوعات الجزائريَّة السنة : 1988
[11] : المقاربة الدينيَّة في فكر ابن خلدون لجورج لابيكا محاضرة ألقيت بمركز الدراسات البحوث الاجتماعيَّة والإنسانيَّة :12دجنبر:2005.
[12] – إميل دوركايم *1858-1917 عالم اجتماعي فرنسي هو الذي أرسى القواعد المنهجي والعلميَّة لعلم الاجتماع، وجعل الشأن التربوي والاجتماعي،جزءا لا يتجزأ من مشروعه العلمي السوسيولوجي.
[13] طبعت هذه الأطروحة أزيد من عشرة طبعات أخرها طبعة مركز دراسات الوحدة العربيَّة سنة : 2014.أما الطبعة الأولى فكانت سنة 1984بدار النشر المغربيَّة
[14] – هناك تحقيق علمي أخر له من الأهميَّة العلميَّة من حيث التوثيق لنص المقدمة، وهو تحقيق علي عبد الواحد الوافي بحيث عمد علي عبد الواحد وافي إلى إخراج مقدمة ابن خلدون إخراجا علميا دقيقا .
[15] التراث والحداثة لمحمد عابد الجابري:ص:.212
[16] –: طبعت هذه الأطروحة أزيد من عشرة طبعات أخرها طبعة مركز دراسات الوحدة العربيَّة سنة : 2014.أما الطبعة الأولى فكانت سنة 1984بدار النشر المغربيَّة.
[17] نحن والتراث :قراءة معاصرة لتراثنا الفلسفي المركز الثقافي العربي الدار البيضاء السنة: 1982ص: 488
__________
*الدكتور محمد بنعمر.
*المصدر: التنويري.