كورونا وشجاعة الإيمان في عيد الفصح
رشيد سعدي
تحوَّلَت جائحة كورونا شيئًا فشيئًا إلى مأساة إنسانية، تتشكَّل فُصولها يومًا بعد يوم، مع إحساسٍ مُتَنامٍ بالعجز، أمام وباءٍ يُفكِّك الروابط الإنسانية، ويُخيِّم بظلال من الشَّكّ، حول كلِّ “أساطير” التقدم العِلميّ والحضاري؛ إذ شهِدَت الكثير من بلدان العالم انتحار الكثير من الأشخاص. فمثلًا: قبْل ثلاثة أيام، رمَت أُختانِ مغربيَّتان بنَفْسَيهما في بُحَيرة فينيسيا بإيطاليا، ووُجِدَتا مُمسِكَتَين بيَدَي بعضهما بعضًا، في مشهدٍ تراجيديٍّ يمتزج فيه الحُبُّ والموت.
أدَّت هذه المعاناة إلى عودة أدبيَّات الأوبئة أو “فلسفة الطاعون”، وأيضًا إلى ظهور نقاشات فلسفية عميقة، حول كَون الجائحة عقابًا إلهيًّا، أو مجرَّد وَباءٍ يجب على البشر أن يواجهوه وحدهم، دون التعويل على العَون الإلهي. فهل نحن وَحْدنا أمام هذا الشَّرّ؟ لقد انتشرت أغنية حزينة وعميقة للمغنِّية “روكسان كوط”، قد يجدها الكثير من المؤمنين/ات مستفِزَّة ومُجدِّفة. وهذه بعض كلماتها: “ألَا ترى الطفل الذي يتضوَّر جوعًا؟ ألَا ترى الجثث المكدَّس بعضها فوق بعض؟ مسرحية هزليّة من القذارة والدم، والله بجانبنا”.
في المَغرب، تداوَلَت بعض مواقع التواصل الاجتماعي، فيديو لطفل يُدعى زياد، أثناء نقله إلى المستشفى بعد إصابته بفيروس “كورونا”، حيث كان قد فقَد والدته التي أصابها الفيروس القاتل قبل أسبوع. وهنا، لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير، في رواية الفيلسوف والأديب الفرنسي ألبير كامو: “الطاعون”، التي تدُور أحداثها في مدينة وهران، التي بدأ يتفشَّى فيها وباءُ الطاعون ويَفتك بسكَّانها.
تتناول الرواية عبثيَّة الوجود الإنساني، وسؤال الشَّرّ في الوجود البشري، وقدرته على تفكيك قوة الإيمان وتدمير المرجعيات الأخلاقية. فذكَّرَتني معاناة الطفل زياد بأعمق لحظة في الرواية، عندما بدأ أبُ الكنيسة يَصيح ألَمًا -أمام معاناة احتضار طفل “بريء” ومَوته تحت وطأة الوباء-: “إذا كان الطاعون عقابًا للخُطاة، فلماذا يُعاني الأبرياء؟”. وأنا أسأل: “لماذا أُصيبَ الطفل البريء زياد؟”. مع ذلك القلق الذي اجتاح القَسَّ، يموت بِدَوره وهو يضمُّ صليبه إلى صدره. أمَّا بطل الرواية (الدكتور ريو)، فهو يرفض تَهرُّب الإنسان من مسؤوليته، والانهزام أمام قسوة الشَّرّ والألم، ويرى أنَّ الخلاص المشترَك للإنسانية، رهين بالتَّشبُّث بقيمَتَي الحياة والحُبّ من أجل الانتصار على الموت.
أعتقد أنَّ القدرة على بناء الأمل داخل تجربة الألم، تُشكِّل نقطةً عميقة، يلتقي فيها الفكر الفلسفي بالأديان. وهنا تَبرز الرمزية الكَونية العميقة لِعِيد الفِصح، الذي يحتفل به إخواننا المسيحيون/ات هذا العام يوم الأحد 12 نيسان/أبريل (حسب التقويم الغربي)، تَذكارًا -حسب العهد الجديد- لـ”قيامة المسيح”، بعد ثلاثة أيام من مَوته على الصليب. وبين الصلب والقيامة، تتأسَّس تجربة الإيمان بالإنسان القادر -بفضل ارتباطه بالحقِّ- على أن ينتصر على الألم والقلق أمام الموت، ويعيش الحياة الأبدية قبل الأبدية نفسها. هذه الولادة الجديدة، وهذا العيد الذي يأتي في الربيع بعد شتاء قاتم وبارد، هُما الأمل المشترك بين الأديان كلِّها، ويمنحانِها القدرة على بناء المسؤولية والْتِزام التعاطف مع الآخرين، من أجل هزيمة الشَّرّ والمَرض. هكذا، نصبح مؤمنين/ات بأنَّ الله لم “يتركنا”، رغم لحظات الشك التي اعترَتْنا أحيانًا.
عيد الفصح هو درسٌ لنا أيضًا، لأنَّ رمزية قيامة السيد المسيح تَعني الحضور الإلهي، الذي يمنحنا القدرة على التَّغلُّب على الكراهِيَة وكلّ أشكال الظُّلْمة، التي تَمنعنا كُلَّنا من استقبال النُّور الذي هو شرط الخلاص، وهو ما يسمِّيه الصوفيّة بـ”التَّخْلية” قبْل “التَّحْلية”. لقد علَّمَتنا مأساة فيروس كوفيد–19 أنَّ الأديان، لا يمْكن أن تستمرَّ في منح الوجودِ الإنسانيِّ معنًى، إلَّا إنِ استطاع المؤمنون/ات أنْ يتخلَّصوا من فيروسات العقل والروح، التي تجعل بعضهم لا يزالون يعتقدون أنَّ الوباء عقابٌ “للكفار” والخَطَّائين، وليس فرصة لكي يراجع كل البشر خياراتهم في اتِّجاهٍ أكثر إنسانية.
لا شك أنَّ الوباء سيتوارى وينهزم أمام العِلم، لكنَّ بعض العلماء يتحدثون بأوبئة أكثر خطورة، قد تواجهها البشرية. لذا، أعتقد أنَّ أهمَّ سؤال سيكون على الأديان أن تجيب عنه، هو هل الله لا يزال بجانبنا ويحبُّنا، حتى نولِّد الأمل من قلب المعاناة، ليس فقط لاهوتيًّا، بل من خلال بناء أخلاق التضامن بصفتها أخلاقًا كونيَّة.
تعني كلمة “فِصْح” في العِبريَّة: العُبور (إشارة إلى خروج بني إسرائيل من أرض العبودية). فيعيشها المسيحيون/ات باعتبارها تجربة روحية، للعبور من الموت إلى الحياة بقوَّة الإيمان. فلإخواني المسيحيين/ات أقول: عِيدُ فِصح مجيد، وعُبورٌ مبارَك لنا جميعًا، وتمنِّياتنا الشِّفاءُ العاجل للطفل البطل زياد، ولكلِّ المَرضى، والله أعلم.
المصدر: موقع تعددية.