المقالاتفكر وفلسفة

كارل ياسبيرز؛ الوجود من معنى الحريَّة إلى حريَّة المعنى

سيغموند فرويد

 إنَّ الزمن الذي يتخبط فيه إنسان اليوم بلا هوادة، زمن نشازي يحكمه منطق الموت والنهاية، منطق النسبيَّة واللاحقيقة، فقد أعلن نيتشه موت الإله، تلاه إلغاء فوكو لإنسانيَّة الإنسان، وعصف هايدجر بالفلسفة القديمة، وتهشم العقل بألسنة اللهب التي زفها فرويد ولاكان وكارل يونغ في معترك الفلسفة بما هي كذلك، ودق هوركايمر وأدورنو المسمار الأخير في نعش ذلك الإنسان المسكين حين أسطروا مبادئ الأنوار وأضفوا عليها طابع الأيديولوجيا التي ما فتئت تسطو على الألباب، تبخترت وتبخرت وأفلتت لأنها لم تجدي في تصميم خطة عمل، خطة للآفاق والأعالي، وماتت اليوتوبيات مع باومان حين وصفها في كتابه الحياة السائلة بأنها وطأة العاجل غلبت عليها فقوضت التفكير في الآجل. مات كل شيء وانقرض الإنسان في كل هذا الشيء، إلا شيء واحد هو الواقع، هكذا تكلم ماركس، فالإنسان سليل واقعه ومحايث له، لا يفارقه، يكون مرآة له، يحاكيه ويتماهى معه بحذر، ويحمل على عاتقه ثقل تغييره وقلب موازينه. لكن الظاهر أن الواقع نفسه قد مات، فما كان في هذا الزمان سوى نسخ من الواقع، نسخ باهتة وشاحبة. إنه عالم السورياليَّة بلغة جان بودريار، ما معناه أن هذا الواقع الذي كان يتسنى منه الإنسان تحديد وجوده، قد انقطعت الصلة به، والمشكلة هنا تكمن أساسا في انبثاث حالة من التيهان والضلال؛ فالحياة المعاصرة يسود فيها نضوب المعنى وتفشي العدميَّة واستفحال العبث وشيوع التشاؤم وانطفاء التفاؤل وخمود الأمل، حياة لا يسعنا إلا أن نصفها باللاحياة، تفتقد لذاتها، وتذبل فيها أوراق المعنى، بعد أن أخفقت المتع الحسيَّة عن أن تملأ الفراغ الروحي الذي أحدث فجوة عميقة بين الإنسان والحياة، شرخت فتوقا بجانبها تدعو إلى التأهب لسقوط البنيان، وأي بنيان، بنيان الإنسان بما هو ” داخل ” أو بما هو نفسه في داخله، ذاك الشيء الذي يجعله يتوشح بالدفء والسكينة، فأين نجد هذا الشيء؟ وما السبيل لسد الفجوة ورتق الفتق؟

 ومن صلب الفلسفة المعاصرة ولد تيار فلسفي اهتم بأسئلة المعنى، هو تيار الوجوديَّة، الذي تمخض عن معاناة الانسان المعاصر في وجوده، الإنسان الذي أنهكته الحروب، وفتكت به الأزمات، وانقضت عليه مثالب الحياة، إنسان فقد الحريَّة وضيع طريقه نحو الاختيار واتخاذ القرار، إنه إنسان لم يعد يقرر وفق إرادته الحرة، وبما هو كذلك فهو مستلب عن واقعه ومغترب عن وجوده الخاص ومنسحب من ذاته الحرة، وقد وصفه هربرت ماركيوز بإنسان البعد الواحد. والواقع أن الوجوديَّة كانت موضة عصرها، لأنها الملاذ الوحيد الذي يقارع الدين في إضفاء المعنى على حياة الإنسان، بما هو إنسان في ذاته، بغض النظر عن المؤثرات الخارجيَّة والمتغيرات الموضوعيَّة، وقاد هذا التيار مجموعة من الفلاسفة اشتد عودهم بإنتاجاتهم الفلسفيَّة التي تنضب بالحياة الوجوديَّة، أبرزهم جون بول سارتر وكارل ياسبيرز، الأول فرنسي ذاع صيته بشكل كبير بفعل كتاباته الروائيَّة أكثر، والثاني ألماني لم يلقَ نفس الاهتمام الذي تلقاه سارتر، بالرغم من أن أعماله قد جسدت الفلسفة في نقاوتها ورفاعتها، لذلك سنحاول أن نتلمس عنده التفكير الوجودي، محاولين الإجابة على إشكالات عديدة في ضوء فلسفته وهي:ما هو وجه الوجوديَّة عند ياسبيرز؟ وكيف تكون الحريَّة محدّدة للوجود الفردي؟ وكيف ينتشي هذا الوجود الفردي بحضور الحريَّة؟ وكيف تنتج الحريَّة الوجوديَّة المعنى؟

الوجه العام للفلسفة الوجوديَّة عند كارل ياسبيرز:

لا نجد في هذا العالم ظاهرة أو إشكالا أو أزمة إلا ونلفي العلم متورطا فيها، ينكب عليها بالدراسة والتحليل سعيا منه إلى تفسير كل شيء بأدواته ومناهجه، حتى الشيء الذي لا يفسر يخضعه العلم للتفسير، والحقيقة أن ما يثير الجدل هنا ليس أن كل شيء قابل للتفسير علميا، بل هو كون هذه المسلمة غير قابلة للتفسير، ففي خضم بعض الحوادث والظواهر يتخفى جانب غامض ملتبس يثير الارتياب، ذلك الجانب لا تنفع معه المناهج العلميَّة، ولا يجدي معه النظر السطحي، ولا يمكن للحواس معاينته، هنا يقف العلم مستسلما، وفي نقطة وقوفه تباشر الفلسفة عملها، كما يقول برتراند راسل ” تبدأ مهمة الفلسفة في النقطة التي يتوقف فيها العلم “.

 فليس موقع الفلسفة فوق أي شيء، ولا إلى جانب أي شيء، ولا يمكن أن تكون مشتقة عن غيرها، إن كل فلسفة تعرف نفسها بنفسها بتحققها. وصحيح أن النظرة السائدة في حضور العلم إلى الفلسفة هي نظرة قدحيَّة تفرغها من قيمتها وتكرس تصورا ينظر اليها ككيان راكد وبائر لا يحقق أي تقدم يرجى، على عكس العلم الذي يحتفي دائما بإنجازاته واكتشافاته واختراعاته، إنه حسم في موضوعات عديدة وفرض نتائجه على العقول وقطع مع العديد من القضايا التي تبدو له فارغة من المعنى بتعبير فيلسوف حلقة فيينا كارناب، هي قضايا ميتافيزيقيَّة بالأساس، تندرج في خانة التأملات التي اشتطت بالتفكير المجرد والفلسفي، الخانة التي شهدت تضاربات ومنازعات لا طائل منها تتسم بالتغير والديمومة المستمرة دون أن يفضي ذلك إلى أي نتيجة حاسمة قاطعة، فالفلسفة بما هي كذلك لا تقوم على معرفة حاسمة[1]، وإذا حصل وأن حسمت في قضيَّة تقتحم دائرة العلم وتدير الظهر لذاتها، فتكون بذلك خادعة خائنة لجوهرها. وإذا وقعت الفلسفة تحت إمرة الاجماع على مخرجاتها، فإنها تكون آنذاك قد مزقت نسيج نسبيتها، ووضعت حدودا للتفكير الذي هو شرط حصولها، إن الفلسفة بهذا المعنى كالبحر الواسع[2] بتعبير ياسبيرز، لا تحده الموسوعات والكتب والنصوص، لأن هذه الوسائل لا تمنح للفلسفة وجودا حيا، إن الفلسفة تحضر في قلب الوجود كتجربة وجوديَّة ذاتيَّة معاشة تنعتق من أسر التحديدات العلميَّة والموضوعيَّة وتنفلت من كل تفسير حيادي يبعد الإنسان والوجود من مضمار المفكر فيه، فإذا كانت المعارف العلميَّة تتعلق بموضوعات خاصة ليست ضروريَّة أبدا لكل إنسان، فإن الأمر في الفلسفة يتعلق بمجموع الوجود الذي يهم الإنسان كإنسان، وما يكتنف هذا الكائن المجهول بتعبير الكسيس كاريل من سرايا وطوايا، كسبيل يقود إلى التفلسف الذي ينتشي كلما اصطدم بنقيضه، أي كلما تنصل التفلسف من العقل الذي ينحو نحو الوحدة والنظام والقانون الكلي، كلما احتضن ذلك (( اللامعقول)) وتلظى بنيرانه، فلا شيء يقوم بدون نقضيه، ونقيض العقل هو تلك الحقيقة المغلقة التي تلبست بصميم وجودنا والتي هي الشرط الأساسي لكل تفلسف، وهي حقيقة لا درب لنا لقهرها وتصفيتها والتغلب عليها، إلا إذا كانت الأنا محورا فيها، الأنا بما هي ذات – موضوع، بما هي موضوع ذاتها، فينبغي – كما يقول ياسبيرز – الاعتراف بمتانة الأساس الذي بني عليه الاصرار في أن تكون الفلسفة في متناول كل إنسان، ذلك أن أكثر طرقها تعقيدا، تلك الطرق التي يستعملها الفلاسفة العظماء، ليس لها معنى في الواقع إلا إذا انتهت إلى الالتقاء بوضع الانسان، وهذا الوضع يتحدد حسب الطريقة التي يحتاز بها المرء على الوجود وعلى نفسه ضمن هذا الوجود، لذلك ينبجس التفكير الفلسفي من ينبوعه الأصلي في الأنا الذي يظهر حسب فيلسوفنا عند الأطفال[3] والمرضى العقليين كذلك[4]، ويجب على كل إنسان أن يتجه اليه بنفسه، وشرط ذلك يتمثل في الحريَّة.

الحريَّة كشرط للوجود الإنساني:

لا ضير في أن العلوم الانسانيَّة قد تكاثفت وتضافرت على فك شفرة الإنسان المعقدة وعلى تبديد الضبابيَّة التي تحوم بوضعه في هذا العالم، وجميعها حاولت أن تجيب عن سؤال: ما الإنسان؟ فعلم النفس درس نفس الإنسان، وعلم الاجتماع درسه من حيث هو كائن اجتماعي، وعلم الأحياء من حيث هو كائن بيولوجي، وعلم التاريخ من حيث هو كائن تاريخي… لقد جلبت العلوم الانسانيَّة كل نوع من أنواع المعرفة، لكنها زاغت عن الإنسان في مجموعه [5]. فهو كما يعتبره إدغار موران هو مجموع الأبعاد النفسيَّة والاجتماعيَّة والبيولوجيَّة، نضيف إلى هذه الأبعاد بعد يتوارى خلف كل معرفة، شيء يجعل الإنسان هو هو دون أن تمس التغيرات شقا من جوهره، هذا البعد هو الحريَّة التي تفلت من كل معرفة موضوعيَّة، حريَّة تبقى حقيقة خالصة واقعة لا تتهدم. وإزاء ذلك يمكن أن نستنبط مع ياسبيرز جهتين من الإنسان: جهة تجعله موضوعا للبحث العلمي، وجهة كونه وجود حريَّة عصيَّة على كل علم. في الحالة الأولى نتحدث عن الإنسان كموضوع، وفي الحالة الثانية عن حقيقة الإنسان التي لا يمكن تحويلها إلى موضوع، والتي يعمقها حينما يشعر بذاته، أما كيانه فلا نستطيع إلا أن نحس به في أصل تفكيرنا وعملنا، إن الإنسان مبدئيا أكثر مما يستطيع أن يعرف عن نفسه[6]. إذن فالفلسفة في هذا المنحى مرتبطة أساسا بالفهم الوجودي للإنسان، على اعتبار أنه ليس مجموع القوى النفسيَّة أو وحدة إحصائيَّة تعمل عملها من خلال بعض العوامل الاجتماعيَّة والحضاريَّة، بل هو أولا وبالذات حريَّة وجوديَّة تخرق كل إطار موضوعي صارم، ولذا يتوجب على الفلسفة أن تزاول نشاطها في إيقاظ ملكة التفكير عن الفرد، وإذكاء حس التساؤل لديه، فالإنسان سؤال مستمر بالنسبة إلى ذاته، ولأن الفلسفة لابد أن تقوم بمجرد ما يشعر الإنسان بوجوده من خلال التفكير، وهذا الشعور يكاد يخبو[7]، فإنها تذكر كل فرد أن بإمكانه أن يكون عين ذاته، وأنه يكف على أن يكون إنسانا في اللحظة التي يتخلى فيها عن أصالته الفرديَّة، أي حينما يضع الوجود في قالب الكماليَّة المطلقة، فالإنسان يتمتع بخبرة وجوديَّة قد تكون النواة الأصليَّة لكل تفكيره، ألا وهو شعوره الحاد بأن الوجود حقيقة هشة قابل للاضمحلال والتحطيم في كل لحظة، وإحساسه بأن الفشل والإخفاق يكاد يكون هو الكلمة الحسم في قصة كل موجود،  هذا الشعور وهذا الإحساس ينبع من الحب الذي هو أساس المطلق بالذات، وإرادة بلوغ الحقيقة في ذاتها، فما أحب، أريد له أن يوجد، والوجود في ذاته لا أستطيع أن أتلمحه دون أن أحبه، وكما يقول سان أوغستين: ” أحب واصنع ما تشاء ” لأن الحياة تنم عن حب وتنطوي على شغف ولهف وراء معناها، فحينما يقف الإنسان وقفة حر متأمل مندهش متساءل، يلمح العالم متصدعا ينشرم ويتشقق في كل برهة. ولا يمكن لهذه الوقفة أن تحصل ما لم يكن الإنسان حرا، ومعنى الحريَّة هنا، هو القدرة على الاختيار دون أن يكون لاختياره تأثير قبلي فرضي، لذلك نجد ياسبيرز قد استبدل مقولة الكوجيطو لديكارت ” أنا أفكر إذن أنا موجود ” بمقولة الاختيار ” أنا أختار إذن أنا موجود “، صحيح أن الإنسان يخضع لسلسلة من العلل والمعلولات، بيد أنه مع ذلك ليس حزمة من الآثار العليَّة، ومرد ذلك إلى أن الإنسان عن طريق فكره الحر قادر على أن ينفي أيَّة عمليَّة جسميَّة أو ذهنيَّة تحدث في جسمه بمعيَّة اختياره الحر لما يريد أن يكون عليه، ليتسامى بوجوده فوق كل عمليَّة تثبته.  إلا أن عزيمة الإنسان في التسامي هذه قد تثبط بفعل الوضعيات الحديَّة أو المواقف الحاجزة، فالوجود هو وجود في موقف، والموقف هو تعبير عن تلك الحقيقة الموضوعيَّة التي يواجهها الموجود الذاتي، حين يجد نفسه بإزاء (( حدّ )) أو (( ظرف )) من شأنه أن يقف في وجه نشاطه الحر. إننا نجد أنفسنا دائما في وضعيات محددة، الوضعيات تتغير، والمناسبات تعرض، وعندما نفوتها، فإنها لن تعود أبدا، ويمكنني أن أعمل على تغيير وضعيتي، ولكن تبقى هناك وضعيات تبقى وتدوم في ماهيتها، حتى وإن تغير مظهرها المؤقت، وحتى وإن كانت قوتها الخارقة قد اختفت وراء حجاب: علي أن أموت، علي أن أعاني، علي أن أصارع، وأتعرض للصدفة، وأقترف الإثم، فليس من استطاعة الذات أن تقف على طبيعة هذه المواقف، بل كل ما تستطيعه هو أن تستشعرها، فأنا لوحدي الذي سأموت، وأنا لوحدي الذي سأجرب تجربة الألم. إن هذه المواقف نلقاها بتطوير الوجود الممكن الكامن لدينا، ومن ثم فإننا نصبح عين ذواتنا مصوبين أبصارنا في الوقت نفسه إلى تلك المواقف الحديَّة.  إن هذا الوجود الذي يصفه كارل ياسبيرز بنبرة مأساويَّة تراجيديَّة، يتماهى مع حريَّة ملتزمة في العالم، ومع حريَّة في وضعيَّة محددة أو متعينة، وتعني الوضعيَّة مجموع الحالات التي يكون فيها الفرد موجودا. وهي ليست مجرد حالة إثبات وإنما هي تتضمن تأويلا يعطي المعنى للحالة التي نكون فيها، ويقتضي فعلا ممكنا لتحويلها، إن الوجود مهمة تتطلب الحريَّة. 

   إذن، فالإنسان يكون حرًّا بقدر ما يكون موجودا ممكنا أو مدعوا للوجود، فهو هذا الكائن الذي لا يفهم، والذي يحيا حياته وهو على وعي بضرورة اتخاذ قرارات ذات قيمة أبديَّة، ولهذا فإنه لا يحيا حياته فحسب، وإنما يعرف الجد الذي تصبح الحياة نفسها بالقياس إليه شيئا غير ذي بال. إنني أتواصل مع نفسي ما دمت موجودا، فلست أحيا ببساطة وكأنني موجود فحسب، وإنما أنا وجود له علاقة مع ذاته، والذات هو هي عينها كآخر بتعبير بول ريكور، أو كما يقول غوسدروف ” حينما أخاطب نفسي فإنني اخاطبها كأنها آخر “، وهذه العلاقة تسوقنا إلى الاتصال بالمتعالي، بالوجود الشامل الذي يتطلع اليه الفيلسوف العظيم كما وصفه ياسبيرز ويقول: “إن الرجل العظيم أشبه بانعكاس الكون بأسره… إنه مرآة الكون وممثله، وهو لا يضيع في الجوانب السطحيَّة، إنما يسلم زمامه إلى الشامل، وأن ظهوره في العالم هو بآن واحد ظهور اختراق من خلال العالم، إما على هيأة لمعان إنجاز جميل، أو إخفاق مأساوي، أو سكون أحجية وسط الحركة الدائبة التي تضطرم بها أعماق حياته، فيغدو على هذا النحو تعبير المتعالي[8] “. ولكن أنا لا أوجد في علاقتي بالوجود في ذاته، هذا الذي يعد ((آخر)) لا سبيل إلى النفاذ اليه، والذي يواجهني ويتصادم معي وتتأسس حياتي عليه، وإنما أوجد كذلك في علاقة بوجود الذين يمكنني أن أتواصل معهم[9] مما يحقق للذات إمكانيَّة الوجود عن طريق الاشتراك مع غيرها من الذوات، وهنا يظهر انسلاخ ياسبيرز عن باقي الفلاسفة الوجوديين الذين يذهبون إلى أن الذات لا بد لها أن تنعزل وتنزوي لكي يتأتى لها الإيغال والانصهار في أعماق الوجود، وكيركغارد أبرز هؤلاء. إن الذات على ما يرى ياسبيرز بما هي دأب إلى احتواء الحريَّة، تعيش في عالم يعج بالحريات، فلا أصبح حرا إلا إذا أصبح الآخر هو أيضا حرا، ولا سبيل أمامي لتحقيق ذاتي إلا بالتكافل مع غيري من الذوات، إن هذا فقط هو الذي يبعث فينا نور الوجود الأصيل الذي يتريد على وجودي الحقيقي الصادر من صميم ذاتي [10].

ويتأسس هذا الوجود الأصيل من التكافؤ والمساواة في الحريات على المستوى الأدنى بين شخص وشخص، لا على القسر والإكراه. ولكي تحافظ الذات على أصالتها المستمدة من صميمها فإنها تدخل في صراع ودي مع الذوات الأخرى دون أن يعتور هذا الصراع سعي نحو السيطرة والاستيلاب. فالذات تسعى بحكم حريتها إلى التحقق في ” ذاتها ” وعلى حساب ” الآخر “، إنه صراع لنيل الاعتراف بشكل آخر.

 المعنى مشروط بالحريَّة الإنسانيَّة:

 كان هايدجر يؤكد أن الإنسان انفتاح دائم على العالم وله معنى، وأنه ليس حالة، بل هو حركة، وأنني لا أستطيع أن أعي نفسي إلا في علاقتي بالعالم، ولا أستطيع أن ألتحق بالعالم إلا من خلال نفسي، لقذ قذف بي في هذا العالم، متروك لوحدي في ذاتي داخل إطار مشترك مع ” آخر “، وبفعل حريتي أقدر على أن أغوص في قعور الوجود بحثا عن المشروع الذي سأشيد به معالم نفسي، على ما أكون، وعلى ما سأكون، على اعتبار أن الحياة سيالة، وبالتكون المستمر الدائم فقط، وعن طريق الانوجاد، يمكن للوجود أن يتحقق، فأنا أنوجد في كل لحظة، أصبح أنا ولا أنا في نفس الوقت كما يقول هيراقليطس، ومرد ذلك إلى أن المعنى الذي أعيش به لحظة سرعان ما ينجلي ليخلفه معنى آخر، قد يكون معنى اللامعنى، وإذا حصل هذا اللامعنى في حياة إنسان فإنه يحدث ثغرة وشرخا في وجوده، ويظل سائرا هائما في الوجود بلا قرار وبلا اختيار، إنه يفقد ذاته ويضيع مآله، فكيف ينبلج المعنى مرة أخرى في حياة هذا الإنسان المستلب الذي يجابه الهوان والفتور وتخور قواه كلما وقف منتصبا أمام الوجود وكلما أحس بأنه موجود؟

الواقع أن كارل ياسبيرز أجاب ضمنيا على هذا الإشكال ضمن كتابه ” مدخل إلى الفلسفة”، إذ نجد مفهوم الإله يرقش صفحاته، فيقول مثلا: ” الله هو الكائن الذي أهبه نفسي دون تحفظ “[11]، ويضيف ” إن الذات بانصرافها إلى رسالة حقيقيَّة في العالم، وهذا وسيط لابد منها لكي تهب نفسها لله، تعظم في حريتها، وهي، باختيارها هذه الرسالة، تتأكد وهي تهب نفسها لها، ويحدث أن يجسد المرء كل شيء في حقائق واقعة، كالأسرة والشعب والمهنة والدولة، ويرجع كل شيء في العالم اليها، فإذا غابت حقيقة هذا العالم الواقعة نفسها، فإنه لا يبقى إلا ملجأ وحيد ضد اليأس أمام العدم: وذلك أن الذات تستطيع، في أي حالة كانت، أن تؤكد ذاتها بحزم، وهذا التأكيد يثبت وحيدا أمام الله ويكمل بالله، فعندما نهب أنفسنا لله وليس للعالم فقط، نمنح ونتلقى شرط الذات المستقلة نفسها، وعندئذ نغدو أحرارا في أن نؤكده في العالم ” [12].

ومعلوم أن ياسبيرز شأنه شأن كيركغارد ينتمي إلى تيار الوجوديَّة الإيمانيَّة التي تعارض كل نزعة تميل إلى العدميَّة والعبثيَّة ونزع المعنى من العالم عن طريق اصباغه بالماديَّة، وياسبيرز يعلن هذا التعارض بشكل صريح في كتابه، حينما يقول ” إنني مضطر إلى الإجابة إذا وجدت نفسي أمام تقريرات الذين يرفضون الإيمان [13]“. ومن هؤلاء من يقول أن الله هو قوانين العالم، ومن يقول أن المطلق غير موجود فكل ما نفعله وكل ما يحصل يكون ناتجا عن العادة والتقليد… وقد حدد ياسبيرز وظيفة ازدواجيَّة للفلسفة تجاه هذه النزعات الماديَّة، فعلى الفلسفة اولا أن تصل إلى منبع هذه النزعات، وثانيا أن تجلو معنى الحقيقة التي تكمن في الإيمان. وهذا الإيمان لا يضاد الأنوار حسب ياسبيرز، لأن الـأنوار بالنسبة اليه هي ” كل ما يتيح للإنسان أن يبلغ ذاته[14] “، ويقتضي الأمر هنا الفصل بين الأنوار الزائفة والأنوار الحقيقيَّة، فالأولى تخرب التقاليد التي تستند اليها كل حياة، وتنقض على الإيمان فتهوي إلى بؤرة النزعة العدميَّة، وتعطي الحق لكل إنسان في أن يستسلم لإراداته التعسفيَّة فتولد على هذا النحو عدم النظام والفوضى، إنها تشقي الإنسان الذي يحس بالأرض تميد تحت قدميه، إن الأنوار الزائفة تحض على المعرفة ليس على الإيمان. بينما الثانيَّة تراعي كل ما يحدد للإنسان وجوده وتمسك بكل حبل كفيل بأن ينتشل الإنسان من مستنقع العدميَّة والماديَّة، وأن يكمل نفسه على أساس روحي يستشعره هو بنفسه وبحريته، فإذا بترت هذه الحريَّة، انقطع سبيل الإنسان لبلوغ المتعالي والتماهي معه.

 إن أنقى الأنوار هي الأنوار التي تجعل الإيمان أساسها بما هو مكون أساسي في الذات أو بما هو – حسب لوك فيري – ضامن وحافظ للمعنى لا يمكن تعويضه، لأنه لا يتمخض من قوة ولا يصدر من عقل ولا ينبثق من علم ولا يينع من فلسفة. وعلى عكس الأنوار الزائفة التي تنحي أيَّة وصاية تمارس السلطة على العقل، نقول أن الأنوار الحقيقيَّة هي التي تتصدى لكل وصاية تمارس السلطة على الإيمان الفردي والذاتي، وقد تكون هذه الوصاية هي العقل أو العلم أو حتى الفلسفة قد تتجرأ على التطفل على الإيمان، والأجدر أن تتحالف معه كي ترتوي الذات من معين وجودها وتنتشي بالارتقاء إلى أسمى مراتب الوجود، هذا الإيمان الفلسفي كما سماه ياسبيرز يسعف الذات لتصل إلى درجة الامتلاء. وهو الإيمان الذي يفتقر له الإنسان المعاصر، إنسان اللامعنى، إنسان الاستهلاك، إنسان البعد الواحد، إنسان المادة الذي وصفه هايدجر بالقلق والتائه والملول، كل أفعاله وحركاته تدور في حلقة مفرغة، تلقي به في براثن العبث والجمود والبرود والركود والشحوب والغثيان. وتبقى حياة الإنسان اختيارا حرا، ارتأينا تسميته في العنوان بحريَّة المعنى، أي أن الإنسان حر في أن يرتمي في أي حضن يجد فيه المعنى  دون ان يكون لارتمائه دافع تخلقه وصاية في سياق الأنوار الحقيقيَّة.

خاتمة

  إذا فتحنا صدفة الفلسفة الوجوديَّة سنجد لؤلؤة الحريَّة، إذ لا يمكن لهذه الفلسفة أن تتحقق ما لم تركن إلى هذا المفهوم المركزي فيها، والذي منحته بعدا آخر يتصل مباشرة بالإنسان، فما دام الإنسان إنسانا فإنّ إمكاناته الوجوديَّة تظل في الواقع خفيَّة في حريته، ولا يمكن تجليتها الا في نتائج تلك الحريَّة، وسيظل البشر ما بقوا، كائنات لابد لها من المضي في غزو ذاتها، وقد يتمنى الإنسان أن تكون له صورة حقيقيَّة وحيدة يتمثلها عن ذاته، ولكن ذلك محال، وهو يقيد الحريَّة ويخنقها، إنها (اللافلسفة ) التي راحت تكبت كل وجود فردي، فيجب أن نعبئ كل قوانا الروحيَّة لمناهضة هذه (اللافلسفة ) من أجل أن نلبس ثوب الكرامة للإنسان، كرامة في أن يمثل ما يتعذر الإعراب عنه، ويفعل ما يتوق اليه بحريَّة، إنه هو الغاية، غاية ذاته[15] وليس في وسع أحد أن يتخذه وسيلة، كما أوحى بذلك كانط. إن الحريَّة الوجوديَّة إذن لا تتجلى إلا عبر عمليَّة اختيار الإنسان لذاته، وهي العمليَّة التي تتخذ طابع صراع مستمر. إنني أستعشر حريتي في صميم ذلك الاختيار الوجودي الذي أحققه، وإنني أنا الذي أكون نفسي على نحو ما أريد أن أكون، إنني مشروع ذاتي. هذه المقولة هي الأساس الذي ارتكزت عليه الوجوديَّة، لذلك كان هذا التيار ولا يزال رغم خفوته يضمد جراح الذات التي ما فتئت تكتوي بأهوال الوجود، فاقدة لمعنى الحريَّة، ومفتقرة لحريَّة المعنى.

بيبليوغرافيا

_ كارل ياسبيرز، مدخل إلى الفسلفة، ترجمة جورج صدقني، عن مكتبة أطلس،  الاسكندريَّة

_ كارل ياسبيرز، عظمة الفلسفة، ترجمة الدكتور عادل العوا، عن منشورات عويدات، بيروت باريس، الطبعة الرابعة 1988

_ كارل ياسبيرز، تاريخ الفلسفة بنظرة عالميَّة، ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي، عن مؤسسة هنداوي، 2018


[1]  كارل ياسبيرز، مدخل إلى الفسلفة، ترجمة جورج صدقني، عن مكتبة أطلس،  الاسكندريَّة، صفحة  10

 كارل ياسبيرز، عظمة الفلسفة، ترجمة الدكتور عادل العوا، عن منشورات عويدات، بيروت باريس، الطبعة الرابعة 1988، صفحة 28[2]

 كارل ياسبيرز، مدخل إلى الفلسفة، ص 11[3]

 نفس المرجع، ص 14[4]

 نفس المرجع، ص 79[5]

 نفس المرجع، ص 80[6]

 نفس المرجع، ص 83[7]

 كارل ياسبيرز، عظمة الفلسفة، ص 43[8]

 كارل ياسبيرز، تاريخ الفلسفة بنظرة عالميَّة، ترجمة وتقديم عبد الغفار مكاوي، عن مؤسسة هنداوي، 2018، صفحة 41[9]

 كارل ياسبيرز، مدخل إلى الفلسفة، ص 86[10]

 نفس المرجع، ص 104[11]

 نفس المرجع، ص 105[12]

 نفس المرجع، ص 108[13]

 نفس المرجع، ص 110[14]

 كارل ياسبيرز، عظمة الفلسفة، ص 22[15]

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات