عدميَّة المقرّرات الدراسيَّة الجامدة وآفاق التربية العقلانيَّة الحرَّة
«نظام التعليم في المجتمعات الكبيرة سيظل دائماً متوسط المستوى على أفضل تقدير، لنفس السبب الذي يكون فيه الطعام في المطابخ الكبيرة متوسط المستوى.«
فريدريك نيتشه
فَقَدَ التعليم والمقرّرات الدراسيَّةعندنا في مجمله الهدف، بل إنّه فقد معه كلّ وسيلة ناجعة لبلوغ هذا الهدف! فأن تكون التربية العامة غاية في ذاتها وليست البرامج. وكذلك أن يكون المربّي ضروريا لهاته الغاية وليس كما الحال عليه اليوم. أي كمجرد موظف بسيط يتقاضى أجرا مقابل عمل روتيني يستنزفه. كلّ يعني أنّ التعليم كما يمارس لدينا لم يعد رهانه تربية النشء. وهذا الأمر هو ما يتعامى عنه المسئولون القائمون على شؤون التعليم والتربية.
ما ينقصنا الآن هو المفهوم الأخلاقي والعلمي للتربية. وحتى إذا توفر هذا التصوّر سوف يلزم عنه تكوين مربين ذوي تربية حقيقيَّة. أي أصحاب عقول متفوقة ومتميزة تثبت قيمتها وإمكاناتها في كل الظروف بكلماتها وحتى بصمتها. وهذه العقول المتميّزة لا يمكنها أن تتربّى وتنشأ بدورها دونما ثقافة حرّة وعقلانيَّة. ثقافة حقيقيَّة وحيَّة. ناضجة ومفعمة بالحياة، وليس كما نصادف الآن في أغلب مؤسّساتنا التربويَّة والتعليميَّة، حيث التقنوي والبروقراطي تسيّد المشهد واستأسد على الجميع في ظلّ غياب ملحوظ لذوي العقول الحرّة (المثقفون الأحرار).
المربّون الحقيقيون منعدمون، أو يكادون ينقرضون…
وذلك لأنّ شروط وجودهم واشتغالهم تكاد هي أيضا تكون منعدمة إن لم تنعدم أصلا. إلاّ إذا ما استثنينا القلّة القليلة التي لا تزال تقاوم إغراءات السلطة والمال والجاه. إنّ الشرط الأول لكل تربية ناجحة منعدم اليوم (أقصد الخيال/الإبداع) سواء في مؤسّساتنا العموميَّة. أو حتى الخصوصيَّة التي اتخذت الربح المادي صنمها الوحيد وجعلت من معيار النتائج ونقط الامتحانات مؤشراتها الوحيدة للجودة. ولهذا انحطّت المؤسسات التعليميَّة ومعها الثقافة المغربيَّة إلى المستويات التي نلاحظها ونعيشها اليوم.
في الواقع. إنّ ما يقوم به التعليم والمقرّرات الدراسيَّة حاليا هو مجرّد عمليَّة ترويض عنيف للصغار والأحداث والمراهقين، لكي يكونوا صالحين للاستغلال بالنسبة للنسق الاجتماعي والسياسي والثقافي القائم. أمّا التربية الإبداعيَّة والتحرّر الأخلاقي الإيجابي والتربية الخياليَّة والرياضيَّة والفنيَّة. فكلّ ذلك ليس مهما بالنسبة لعمليات التدجين الواسعة للمتعلّمين في فصولنا الدراسيَّة كما لو كنا لا نزال عصر ما بعد القرن العشرين وما بالك بالقرن الواحد والعشرين!؟
في الواقع، إنّ ما يقوم به التعليم حاليا هو مجرّد عمليَّة ترويض عنيف للصغار والأحداث والمراهقين. لكي يكونوا صالحين للاستغلال بالنسبة للنسق الاجتماعي والسياسي والثقافي القائم. أمّا التربية الإبداعيَّة والتحرّر الأخلاقي الإيجابي والتربية الخياليَّة والرياضيَّة والفنيَّة، فكلّ ذلك ليس مهما بالنسبة لعمليات التدجين الواسعة للمتعلّمين في فصولنا الدراسيَّة كما لو كنا لا نزال عصر ما بعد القرن العشرين وما بالك بالقرن الواحد والعشرين!؟
لا يعلّم نسقنا التربوي التفكير النقدي واستعمال المنطق السليم في التحليل والمعالجة. كما لا يربّي على الحريَّة في اتخاذ القرار والإبداع الجمالي والتصوير الخيالي الفني. لكنّه بالمقابل ظلّ وفيا للحفظ وحشو المعلومات واجترار المضامين وتكرار النصوص. ولتجاوز هذه الكارثة. فيما أعتقد، لا يتطلّب الأمر الكثير من التنظير الفارغ ولا الكم الهائل من الدراسات البحثيَّة حول الظواهر السلبيَّة التي اجتاحت منظّمتنا التعليميَّة مؤخّرا. وإنّما التركيز على الأهم وبجهد أقل. فما هو هذا الأهم الذي لا يحتاج سوى جهد أقل؟
يمكن للفاعلين التربويين أن يختلفوا كما يحلوا لهم في النظريات التربويَّة والبيداغوجيَّة المختلفة. لكنّهم، فيما اعتقد، لن يختلفوا على بعض القضايا التربويَّة البسيطة. التي اعتبرها بمثابة المهمّات الأساسيَّة التي لا بد لها من مربين جيدين:
أولا:
يلزم عن كلّ تعليم مفيد الحرص على تعليم المتعلمين كيفيَّة إجراء الملاحظات بأعينهم، لتنمية ذكائهم البصري بتعويد أعينهم على المشاهدات المنهجيَّة. وتمييز الألوان وإدراك الانسجام والتشتت الذي يطبع الأشياء الموجودة في محيطهم المباشر من ثم غير المباشر في مجال العلوم الإحيائيَّة والتجريبيَّة. (اسمّي هذه المسألة تنمية الذكاء البصري).
ثانيا:
يلزم عن كلّ تعليم والمقرّرات الدراسيَّة مفيدة الحرص على تلقين مبادئ التفكير النقدي، وذلك باتّباع طرق ومناهج تربّي لدى المتعلم إثارة السؤال في ذهنه والبحث له عن جواب أو أجوبة محتملة، في أفق بلورة تصوّر شخصي للمسائل والمشاكل المطروحة له. ولتنفيذ هذا المبدأ. يلزم تجنب البرامج التي تركّز على المضامين والمحتويات إلى البرامج النقديَّة التي تسلك طريقة طرح المشاكل والبحث عن الحلول الممكنة. وسوف يعلّمنا هذا النهج كيف نعلّم المتعلم أن يفكر من تلقاء ذاته.
ثالثا:
يلزم عن التعليم الناجح أن يعلم الناشئة كيف تتكلم وتكتب لأجل تمكينهم من أدوات الإبداع التواصلي والبلاغة واستعمال الحجج فيما ينتجونه من خطابات مكتوبة أو شفهيَّة. وفي هذه المسألة تحديدا. يلزم الحسم في الفوضى اللغويَّة القائمة باعتماد لغات الأم في البدايَّة (العربيَّة والأمازيغيَّة في مناطق الأمازيغ)، واعتماد اللغات الأجنبيَّة بعناية ودقَّة، خاصَّة الإنجليزيَّة حتى يتمكّن المتعلّم من أداة التواصل العالميَّة، ويمكن أن تبقى الفرنسيَّة والإسبانيَّة لغتان اختياريتان نظرا لاعتبارات جيواستراتيجيَّة نعلمها جميعا.
يبقى الهدف من هذه المهمات الثلاث:
إكساب المتعلمين ثقافة منفتحة ومبدعة. قويَّة وعلميَّة وإجرائيَّة في نفس الوقت. فأن يتعلم المتعلّم أن يرى ويلاحظ يجعله تعوّد عينيه على الهدوء والصبر على ترك الأشياء تأتي إليه. وفيما يخص تعلّمه للتفكير الذاتي. فذلك ما سوف يجعله يتمرّن على تعليق الحكم وعدم التسرّع في إصدار الأحكام الجاهز، بالتالي يقطع مع الدوغمائيَّة والوثوقويَّة ويتمرّن على الإحاطة بالجزء وفهمه في إطاره الكلي. أمّا التمرّن على الكلام والكتابة، فلسوف يكسبه أدبا تواصليا رقيقا وعقلانيا إجرائيا يفيده في حياته العمليَّة بحسن الإنصات والحوار. كما سيجعله قادرا على التقدّم في مساره الجامعي باستخدام لغات العلم والاقتصاد (خاصّة الانجليزيَّة)، دونما الانفصال عن لغته الأم (الأمازيغيَّة والعربيَّة).
أعتقد أنّ هذه المهمّات الثلاث ستكون بمثابة مدرسة النجاح الحقيقيَّة اللازمة لمجاوزة عدميَّة الجهل والتجهيل السائدين في مجتمعنا. أقصد بذلك إمكان الحديث عمّا يمكننا تسميته ب “المدرسة التمهيديَّة الأوليَّة لحياة العقل”. حيث التركيز أولا على تعلّم ألاّ يستجيب المتعلّم فورا لأي إغراء إلاّ بعد التفكير فيه ونقده وامتلاك القدرة على التعبير عن موقفه تجاهه بوضوح، ومن ثمّ تملّكه لكيفيَّة استثمار غرائزه ووجدانه للانخراط الفعال المبدع في محيطه الخاص والعام دون أن تكبحه وتمنعه قوى الجهل والعدميَّة من عمليَّة التطوير الفعّالة.
باختصار أن يتعلّم كلّ متعلّم ما يلزمه القيام به من تلقاء عقله، ثمّ يعرف كيف يقرّر بإرادته العقليَّة التصرّف إزاء الوضعيات التي تعترضه، ومتى يعلق قراراته بشأن ما لا يستطيع فهمه بعد بحريَّة بالتروّي في الفعل والتبصّر في الفكر. عندما تبلغ تربيتنا هذا الهدف، عندها فقط نستطيع نعتها بالتربية الحقيقيَّة، أي تلك التي نحسبها عقلانيَّة، بل وأفقا تنويريا لمجاوزة عدميَّة الجهل والتجهيل السائدين في سياقاتنا الثقافيَّة.