ديمقراطيَّة في انتظار الديمقراطيِّين
عبد اللطيف طريب
اللافت في خطابات الأحزاب السياسيَّة في الوطن العربي على تعدُّد مشاربهم وتلويناتهم، تبنّيها للنظام الديمقراطي إلى درجة التنافس حول من هو الأكثر ديمقراطيَّة. والحقيقة أنَّ جهوداً بذلت على مدى عقود سابقة ساهمت في إرساء القناعات بأهمّيَّة وضرورة تبنّي أنظمة ديمقراطيَّة لإدارة الاختلاف وتدبير شؤون الحكم. يظهر ذلك في أدبيّات حركات الإسلام السياسي المعتدلة، كما في كتابات التيّارات العلمانيَّة اليساريَّة أو الليبراليَّة. مع استثناء التيّار السلفي من الإسلاميّين الذي كان يرسّخ ثقافة مناقضة تعتبر الديمقراطيَّة كفراً أو شركاً بالله، داعياً إلى تحريم المشاركة في الانتخابات البرلمانيَّة… ليتحوّل بقدرة قادر بعد نجاح ثورة مصر إلى اتّجاه مؤمن بالديمقراطيَّة باعتبارها أداة الوصول إلى السلطة، في انتهازيَّة واضحة تؤكِّد تهم المتاجرة بالدين لدى هؤلاء، وهو ما توضّح بشكلٍ لافت إبان الانقلاب العسكري في مصر ولا يزال.
وبصرف النظر عن موقف التيّار السلفي المتلوّن بألوان الطيف حسب ما تقتضيه كل مرحلة. فإنَّ مواقف الإسلاميّين المعتدلين ومعظم التيّارات الليبراليَّة واليساريَّة العلمانيَّة تستحقّ المناقشة والتحليل بما يفيد مستقبل المواطن العربي، خصوصاً في ظلّ ديناميَّة التغيّرات السياسيَّة التي لا تهدأ في المنطقة، وهي ديناميَّة ساهمت في كشف العديد من التناقضات بين ما صدرته هذه الخطابات عموماً في تصريحاتها وأدبيّاتها، وما مارسته بالفعل أثناء قيامها بالعمل السياسي سواء من منطلق الحكم أو المعارضة.
فقد كان مثيراً للانتباه مرور أشهر قليلة من حكم الإخوان في مصر، ليصبحوا منفردين أو معزولين في أقبية السلطة عن باقي التيّارات التي كانت متلاحمة معهم إبان الثورة. ولم يكن ذلك إلا نتيجة الأخطاء التي تنمّ عن ضعف ثقافة الديمقراطيَّة في البنية العميقة للتيّار الإسلامي الكبير، وعدم تمثّل هذه الثقافة لدى التنظيم الإخواني بنفس المستوى لدى أفراده، حتى على مستوى القيادات السياسيَّة. ممّا ساهم في ظهور تصريحات متناقضة ومعالجات مرتبكة، مع عدم المبالاة بالآخر المختلف سياسيّاً ومذهبيّاً بحجّة الاستناد إلى نتائج الصندوق. أي، بالاستناد إلى مرتكز واحد من مرتكزات الديمقراطيَّة وإغفال باقي المرتكزات من قيم المشاركة والتداول والحوار.
ولم يكن حال الليبراليّين واليساريّين أفضل من الإسلاميّين، فغياب الظهير الشعبي جعلهم يرغبون في الوصول إلى السلطة بأي ثمن مع ما يقتضيه ذلك من ممارسة كل ما من شأنه الإطاحة بحكم الإسلاميّين والانتقام منهم ولو على حساب الديمقراطيَّة نفسها.
وأكبر جريرة في هذا السياق للمعارضة “الليبراليَّة/ اليساريَّة” في مصر كانت التحالف مع العسكر واستعادة الاستبداد طمعاً في مغانم فئويَّة ضيّقة على حساب مصالح الغالبيَّة، وعلى حساب التجربة الانتقاليَّة المفترضة نحو عالم الديمقراطيَّة، وكل ذلك طبعاً تمّ تحت شعار استعادة الثورة وحكم الشعب… إلا أنَّ النتيجة الحاليَّة التي انتهت إليها الأمور هي عودة العسكر إلى الحكم، ودخول الديمقراطيَّة في نفقٍ مظلم.
لو أردنا البحث في أسباب هذه النتائج المخيّبة للآمال، فسنجد أنّ الخطابات الجديدة للإسلاميّين والعلمانيّين بمختلف تيّاراتهم لم تكن ذات مرجعيَّة تربويَّة على مبادئ الديمقراطيَّة المعلنة في التصريحات داخل هذه التيّارات نفسها، وخصوصاً ضمن هياكلها التشريعيَّة وأجهزتها التنفيذيَّة، يؤكِّد ذلك أنَّ معظم قادة الأحزاب الذين نعرفهم منذ سنوات أو عقود لا يزالون في مناصبهم الحزبيَّة يمارسون أنشطتهم وتسلّطهم واستبدادهم داخل أحزابهم، وأنَّ معظم الثورات التجديديّة داخل الأحزاب تنتهي بانشقاقات وتفريخ أحزاب جديدة، لتعيد إنتاج المنظومة نفسها القائمة على نظريَّة الشيخ والمريد. هذا الوضع يجعلنا نطرح السؤال من جديد: هل آمناً فعلاً بالديمقراطيَّة؟ إذا كان الأمر كذلك، فلم لا نكون ديمقراطيّين؟