الأكاديمية

المصلحة العامة في الصحافة: بين المبادئ والتحديات

يُقال إن الصحافة بجميع أشكالها تنطلق من مبدأ خدمة “المصلحة العامة”، وهو ادعاء لا يخلو من الصحة في بعض السياقات، لكنه يبقى من أكثر المفاهيم إرباكًا في المجال الصحفي رغم كونه أحد أعمدته الأساسية.
فالدور الجوهري للصحفي، في أي نظام ديمقراطي، هو توفير المعلومات التي يحتاجها الجمهور لاتخاذ قرارات واعية في مجالات السياسة والاقتصاد والمجتمع.
لكن الإشكالية تكمن في أن مفهوم “المصلحة العامة” نفسه يتغير بتغيّر الأزمنة والظروف، إذ تختلف اهتمامات الجمهور من وقت لآخر، ونحن أنفسنا – كأفراد – ننتمي في أوقات مختلفة إلى جماهير ذات مصالح متباينة.

ولعل من أبرز الإشكالات التي تثيرها هذه الفكرة هي الازدواجية الكامنة في كلمة “مصلحة”: فهل تعني ما يفيد الناس بالفعل، أم ما يثير اهتمامهم؟ وماذا عن القضايا التي تمس مصالحهم بشكل مباشر، لكنها لا تحظى باهتمامهم لأنهم يعتقدون أنهم عاجزون عن تغيير الواقع؟

حين تغيب الاستجابة الجماهيرية

لنأخذ مثالاً من المملكة المتحدة: فقد كانت معرفة الثغرات البنكية في أنظمة التمويل بين عامي 2005 و2006 تصب بوضوح في مصلحة الجمهور. ومع ذلك، لم تنل هذه المعلومات اهتمامًا واسعًا آنذاك، رغم محاولات بعض الصحفيين دق ناقوس الخطر.
انشغل الناس وقتها بثقافة الاستهلاك والاقتراض، فيما كانت البنوك تطلق منتجات مالية جديدة تُفاقم الديون. وعندما وقعت الأزمة المالية العالمية في 2008، جاء السؤال الغاضب من الجمهور: “لماذا لم تُنبّهونا؟”
الجواب أن الاهتمام الجماهيري والصحفي انصرف حينها إلى قضايا أخرى، في حين كانت أزمة عالمية تتصاعد بهدوء حتى بلغت ذروتها. وهذا ما يعكس فجوة مؤلمة بين ما يُعد “مهماً” فعلاً وما يُعتبر “مثيراً للاهتمام”.

مفهوم الأولويات الإعلامية

من السهل أن يقع الصحفي في فخ التعالي، ويُسلّم بأن الصحافة يجب أن تركز على قضايا “كبيرة” كالشأن السياسي والاقتصادي والجنائي، متجاهلاً التفاعل الحقيقي مع الجمهور.
لكن جوهر العمل الصحفي لا يكمن فقط في تقديم المعلومة الدقيقة، بل في توقيتها، وصياغتها بأسلوب مبسط وشيّق يلامس وعي الناس.
ولا توجد علاقة مطلقة بين مدى نجاح مؤسسة إعلامية تجاريًا، وقدرتها على تجسيد المصلحة العامة. فكل وسيلة إعلامية تترجم هذا المفهوم بحسب فهمها لجمهورها، وبما يتماشى مع طبيعة المجتمع الذي تعمل فيه.

المصلحة العامة كمسوّغ للانتهاك؟

تُستخدم “المصلحة العامة” كثيرًا كمبرر لإجراءات صحفية مثيرة للجدل، مثل انتهاك الخصوصية. وفي حين يُعدّ ذلك سلوكًا مرفوضًا في المطلق، إلا أن تغطيته أحيانًا تُبرر عندما يُعتقد أنه يخدم الصالح العام.

وتُعرّف هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) المصلحة العامة على أنها تقديم معلومات ترتبط بقضايا جوهرية تمسّ قطاعات واسعة من المجتمع، ويشمل ذلك:

  • تعزيز الشفافية والمساءلة عبر تسليط الضوء على أداء المؤسسات الحكومية أو الجهات النافذة.
  • تحفيز النقاش العام من خلال تحليل القضايا الكبرى التي تُؤثّر على المواطنين.
  • مكافحة الخداع والفساد.
  • تقديم معلومات تُساعد الجمهور على اتخاذ قرارات مدروسة، لا سيما فيما يخص المال العام.
  • كشف السلوك الإجرامي أو المُعاد للمجتمع، خاصة عندما يتعلق الأمر بشخصيات عامة.
  • تغطية القضايا العالمية مثل التغير المناخي وحقوق الإنسان، أو النزاعات التي تُؤثر فيها سياسات المملكة المتحدة وحلفاؤها.

وفي المملكة المتحدة، ترتبط غالبية بنود “ميثاق السلوك الصحفي” باستثناءات قائمة على “المصلحة العامة”، إلا أن تعريفها الدقيق يظل غامضًا ويخضع للتأويل.

الخصوصية وحدود التدخل الصحفي

يصطدم العمل الصحفي أحيانًا بمصالح الأفراد، وخصوصًا في ما يتعلق بالحياة الخاصة. لكن حدود المشروعية في هذا التدخل نادرًا ما كانت موضع نقاش قانوني واضح.
ورغم أن لكل شخص – بما فيهم الشخصيات العامة – الحق في الخصوصية، فإن الجدل يحتدم عند نقاط التماس بين الحياة الخاصة والمصلحة العامة، خصوصًا حين يستغل بعض المشاهير الإعلام للترويج لأنفسهم.

صحفيو BBC مطالبون بتقديم مبررات قوية وواضحة عند التدخل في حياة الأفراد الخاصة، ويُشترط أن يكون لذلك ارتباط مباشر بالقضايا العامة أو أن تكون نتائج السلوك موضوع التغطية قد أصبحت ذات تأثير عام.

لكن الواقع الإعلامي معقد؛ ففي أحيان كثيرة، تُغطي وسائل إعلام أخرى قصصًا لا تتوافق مع معايير BBC التحريرية، مما يفرض على الهيئة لاحقًا التعامل مع هذه القصص بصفتها أحداثًا “رئيسية” لا يمكن تجاهلها، رغم تحفظها التحريري المبدئي.

المصداقية والتقييم المستمر

يرد في الدليل التحريري لهيئة BBC أن الصحافة الجادة تسعى لتغطية القصص ذات الأهمية الحقيقية، وتبذل جهدًا في التفسير والتحليل، وتطرح الأسئلة على أصحاب المناصب العامة ضمن إطار يثري النقاش العام.
وهذه المصداقية لا تُبنى إلا حين يرى الجمهور في الصحفي مصدرًا موثوقًا، يُقدم تغطيات استقصائية حقيقية تمس حياتهم، لا مجرد محتوى استهلاكي أو قصص دخيلة.

ختامًا: التوازن كعملية دائمة

يبقى التوازن بين المصلحة العامة والخاصة عملية دقيقة تُقدَّر بحسب كل حالة، وغالبًا ما تكون مثارًا للجدل والاختلاف في التقييم.
لكن الأساس الأخلاقي الذي يجب أن يُحكم هذه العملية هو احترام حقوق الأفراد، وتقديم ما ينفع الناس ويعينهم على فهم عالمهم، دون الانزلاق إلى التطفل أو الانتهاك تحت غطاء المصلحة العامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *