أولاً: تقديم
أينما حلت الديموقراطية؛ حل معها النقاش الواسع والمعقد والجدل، فهي ابنة هذه العوامل، فلا يمكن أن يوصف نظام حاكم بأنه ديموقراطي، من دون حيازته لهذه الشروط وغيرها بالتأكيد، فالنقاش والنقد العام، إحدى المخرجات الإيجابية لهذا الشكل من أشكال الحكم، وهذه إحدى الأسباب التي تجعلها متقدمة على بقية أشكال الحكم، والمسار الأكثر جذباً للكثير من الشعوب؛ فهو يجنبها الاستبداد والصراع الدموي على الحكم والسلطة، ومطبقة بشكل أو بآخر في عدد من الدول، وهي كما وصفها أحد أساتذة الفكر السياسي: وسيلة لعد الرؤوس بدل قطعها. ومن جانب آخر، فعند تعرضها لأية انتكاسة، سرعان ما تثار الأسئلة بشأنها، من قبيل هل تعد النظام أو الشكل الأنسب للحكم؟أو هل هي فعلاً حكم الشعب لنفسه بنفسه؟، وهل هنالك طريق بديل عنها؟، وكيف يمكن تجنب مثالبها؟ هذه الأسئلة سوف أناقشها ضمن محاور هذه المقالة.
ثانياً: سؤال الحكم الفاضل
منذ القدم والفلاسفة والمفكرون منشغلون بالبحث عن أفضل السبل والطرق للحكم ونيل النظام السياسي الأفضل، وأيهما أنسب طريقة للوصول إلى السلطة، فضلاً عن قيام حكم أو سلطة أو نظام سياسي أو دولة بشكل عادل دون احتكار من فئة أو فرد أو نخبة، وأيضاً من دون اللجوء إلى الحروب والاقتتال وضمان استقرار الوضع بشكل أفضل. فمنذ سقراط وافلاطون وارسطو، وصولاً لفلاسفة التنوير الأوروبي مثل توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم كثير؛ استمرت المحاولات النظرية والعملية للوصول إلى أنسب طرق الحكم وأشكاله.
وكانت الديموقراطية التي نظر لها الكثيرون من بين الأشكال المهمة للحكم، وهي باختصار: حكم الشعب نفسه بنفسه، أما بطريقة مباشرة أو شبه مباشرة (تجمع بين المباشرة والتمثيلية) أو غير مباشرة (التي يتم فيها اختيار ممثلين عن الشعب أي الديموقراطية البرلمانية)، وتقريباً الأسلوب الأخير هو السائد حالياً في معظم الدول التي تتبع النظام الديموقراطي، على أساس أن الأسلوبين الآخرين من الصعب تطبيقهما إلا في حالات معينة، مثل: الاستفتاء على الدستور أو البت بقضية مصيرية، كما هو حال الاستفتاء الذي أجرته المملكة المتحدة (بريطانيا) بشأن استفتاء الشعب لقضية خروجها من الاتحاد الأوروبي من عدمه، وكانت النتيجة لصالح الخروج، أي هنا تم تطبيق الديموقراطية المباشرة في حالة معينة مصيرية تستوجب ذلك، وأيضاً الأسلوب المباشر متبع في حالات واضحة ومهمة في سويسرا، إذ يحق للمواطنين الاعتراض على القوانين والمواد الدستورية، وطرح اعتراضاتهم للاستفتاء العام، بعد استيفاء المتطلبات القانونية للقيام بذلك، لذا هي من النماذج الفريدة على صعيد العالم، التي تطبق الديموقراطية المباشرة على نطاق كبير(١).
والتساؤل الرئيس الذي شغل فلاسفة السياسة هو: كيف يمكن القضاء على حالة احتكار السلطة ومن ثم الصراع عليها والحرب من أجلها؟، وكانت الديمقراطية من المعالجات المهمة لذلك، وجاءت بعد تجارب عدة وصراعات مريرة خاضتها الشعوب ونخبها وأحزابها، بسبب السلطة والرغبة في الهيمنة عليها، فتجد المؤامرات والاغتيالات والانقلابات، نمطاً سائداً في كثير من الأحيان وعلى مدار التاريخ وحتى يومنا هذا في عدد من الدول.
ثالثاً: تحولات وانتكاسات
شهدت الديموقراطية تحولات وتطورات وربما انتكاسات عدة عبر مختلف الحقب والتجارب، فهي قد تؤدي إلى وصول بعض الأحزاب أو الجماعات المتشددة إلى السلطة، كما حصل مع النازيين في ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، أي أنها في بعض الأحيان لا تستطيع صد الأمراض والمشكلات التي تعاني منها بعض الجهات المأزومة، والتي تتخذها وسيلة للوصول إلى السلطة، بالتالي هي ليست غاية لها بقدر ما هي وسيلة، وبالنتيجة تؤدي إلى نشوء انتكاسات كبيرة يصعب حلها.
وأيضاً من أعراضها: تصاعد الشعبوية؛ على أساس أنها من أهم نتائجها، والتي تمثل حالة الأزمة والأمراض التي تعاني منها الأنظمة الديموقراطية، وهي أي الشعبوية عطب يصيب الديموقراطية، فعلى سبيل المثال: إن صعود الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) لسدة الرئاسة ما هي إلا نتيجة للأمراض التي تعانيها المؤسسات الأمريكية، بحكم تغول جماعات الضغط وأصحاب المصالح وتحكم الكارتلات الاقتصادية والإعلامية بالنظام السياسي، فضلاً عن احتكار السلطة من حزبين فقط، بالتالي هو يمثل الأمريكان الناقمين على السلطة. وأيضاً من الأمثلة الأخرى: صعود اليمين في دول أوروبا. بالتالي إذا ما رجعنا لتصنيف أرسطو الذي بين: أن الحكم الطغياني هو انحراف للحكم الملكي، وحكم الأقلية هو انحراف لحكم الأعيان، والحكم الشعبي هو انحراف لما وصفه بالحكم المدعو “سياسة”، والحكم الأخير مزيج بين حكم النخبة والجمهور(٢)، ومن ثم فإن من انحرافاتها “الشعبوية” التي نعيشها الآن مع بعض الدول الديموقراطية، وهي مرض خطير يصيب الأنظمة الديموقراطية، وقد يؤدي إلى وصول جهات وأحزاب وأفراد إلى السلطة يقومون بتأزيم الأوضاع، ما يعني أن الديموقراطية في بعض الأحيان تمثل عامل أزمة وليس حلاً.
رابعاً: الحل اللاصفري
حسب ظني إن الديموقراطية: هي في شكل آخر نوع من أنواع المواربة، التي استطاعت عبرها النخب المتنافسة على السلطة من ضمان هيمنتها مع وجود قبول شعبي بذلك؛ على أساس أنها بحاجة إلى قبول ورضا الشعب سواءً عبر الانتخابات أو الاستفتاءات التي تنظمها، أي أن النخب والأحزاب التفت على هذا الشكل من أشكال الحكم، بطريقة تجعل من مخرجاتها تأتي بما يتفق مع ما تريد، وفي الوقت ذاته يتم ضمان قناعة قطاع من الشعب بأن لصوته تأثيرًا كبيرًا في تقرير مخرجات الديموقراطية.
إلا أننا لو تمعنا في العملية لوجدنا أن للمال السياسي الذي تضخه الماكنات الحزبية والمصلحة أثناء الدعاية الانتخابية، والتزييف الإعلامي الذي يشهده وعي الناخب على يد الأحزاب المتنافسة؛ إحدى الدلائل المهمة التي تجرف من رصيد الديموقراطية، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، شهدت الحملات الانتخابية في عام (2020) تمويلاً ضخماً يكاد يضاهي ميزانيات بعض الدول، إذ وصل حجم التمويل لجميع الحملات إلى (15) مليار دولار، (6) منها ذهبت لتمويل حملات الانتخابات الرئاسية، والمتبقي لصالح حملات انتخابات الكونغرس وحكام الولايات والانتخابات المحلية الأخرى، وتشير التقديرات أن العام الحالي (2024) سيشهد ارتفاعاً في الرقم إلى نحو (20) مليار دولار(٣).
هذه الأرقام الكبيرة التي تشهدها عملية تمويل الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية، تعد دليلاً مهماً يؤكد أن النظر إلى الديموقراطية بوصفها حكم الشعب بحاجة إلى إعادة نظر، فهذا المال يصرف بشكل كبير لصالح بث الدعاية والتنافس وتسقيط المنافسين، فضلاً عن العمل على تغيير مدركات الناس، والتي قد تأتي بنتائج عكس التي كانوا يتوقعونها. والسؤال هنا يطرح نفسه: ما المصلحة أو الربح المنتظر من صرف هكذا مبالغ طائلة؟ فكما هو معروف لا صدف في السياسة ولا شيء بريء، وأن من يدفع هذه الأموال بالتأكيد هنالك أرباح ينتظرها بعد وصول مناصريه أو الذين دعمهم إلى السلطة أو أحد منافذها، التي قد تأتي بشكل مشاريع واستثمارات، أو نفوذ وهيمنة وتأثير في القرار السياسي. وأيضاً من مؤشراتها: أن من لا يملك المال -في الغالب- لا يستطيع الفوز في الانتخابات، فكيف إذًا هي حكم الشعب؟ فلماذا يحتاج السياسي للمال لأجل الفوز؟ ألا يكفي أن يتم إقناع الناس بمشروعه الانتخابي من دون المال وعملية تزييف الوعي؟ ففي العراق على سبيل المثال يتم استثمار المال العام والنفوذ في العمليات الانتخابية أو بالأحرى رشوة الناخب، هذا ما عدا عملية شراء الأصوات، فهل هذا فعلاً يمثل حكم الشعب بشكل حقيقي؟ هذه الاشكاليات حقيقة تستدعينا للتفكير مرات ومرات بهذا الشكل من أشكال الحكم.
على صعيد متصل، فعلى الرغم من السلبيات المرتبطة بالعملية الديموقراطية وتطبيقاتها؛ أجد أن التنافس بين النخب على السلطة والذي تخلقه الديموقراطية، تؤدي إلى عدم احتكار فئة دون أخرى للنفوذ والسلطة، وعبر ذلك يستطيع الشعب تحقيق الفائدة المرجوة، عبر الاستثمار في هذا الصراع وتحقيق أكبر هامش من الربح، فكل فئة نخبوية في تنافسها مع منافسيها، تحاول كسب الجمهور إلى جانبها، وبذلك فهي هنا مجبرة على تقديم المكاسب له لكي يقف معها، وبذلك تنشأ المصالح المشتركة بين النخب والأحزاب من جهة وبين الشعب من جهة أخرى، وهذه العملية المتبادلة تخلق حالة من السلم الأهلي، وقناعة راسخة بأن لا بديل ناجح حتى اللحظة يمكن أن يكون بديلاً عن الديموقراطية على الرغم من كل علاتها، فهي تحفظ على الأقل مساراً أقل عنفاً من المسارات الأخرى وقابلة للتطوير والتعديل.
مثلت الديمقراطية تقريباً العلاج الشافي لشهوة النخب بالسلطة، وانهاء لحالة الصراع الدموي الذي لطالما ارتبط بها، وبما أنها لم تعد محتكرة من فئة معينة على طول الخط، والتي يمكن المنافسة عليها والوصول إليها مع كل دورة انتخابية. ويظل التنافس بين النخب يدور في دائرة التنافس السياسي والاقتصادي والإعلامي دون اللجوء إلى السلاح والاقتتال؛ فالديموقراطية تضمن حالة من المعادلة أو اللعبة اللاصفرية التي تكون فيها المكاسب تقريباً موزعة بين الطرفين/ الأطراف المتنافسة بشكل شبه متساوي وتحول دون استئثار طرف بكل الأرباح ، والاستقرار الذي تضفيه وحالة المساواة النسبية التي تضمنها؛ تجعل من الجميع تقريباً في حالة رضا عن مخرجاتها سواءً الخاسر أو الرابح. لذلك عبر الفيلسوف سبينوزا بالقول: (إن الخوف من القرارات المتناقضة يقل في نظام الحكم الديموقراطي بوجه خاص وذلك لسببين: أولهما أنه يكاد يكون من المستحيل أن يتفق أغلبية الناس داخل مجتمع كبير على أمر ممتنع، وثانيهما أن الغاية التي ترمي إليها الديموقراطية والمبدأ الذي تقوم عليه هو، كما قلنا من قبل، تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم قدر الإمكان في حدود العقل، بحيث يعيشون في وئام وسلام)(٤). وهذه من الأوجه المهمة للديموقراطية، إذ أنها تحد من أن يقوم حزب أو سياسي، من المغامرة بمستقبل بلاده وشعبه، وحتى لو حصل انحراف ما، تظل إمكانية تعديل المسار واردة، أفضل مما هو عليه الحال عند الأنظمة الأخرى.
…….
المصادر
- ساندرو لوشر، الديمقراطية المباشرة في سويسرا أو حقوق الشعب كـ “ميزة جيّدة”، سويس انفو، نشر في ٤ أيلول ٢٠١٩، استخرج في ١٨ حزيران ٢٠٢٤، على الموقع الإلكتروني: https://www.swissinfo.ch/ara/%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%B4%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%B3%D8%B1%D8%A7-%D8%A3%D9%88-%D8%AD%D9%82%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8-%D9%83%D9%80-%D9%85%D9%8A%D8%B2%D8%A9-%D8%AC%D9%8A-%D8%AF%D8%A9/45172666
- أرسطو، في السياسة، ترجمة: الأب اوغسطينس برباره البولسي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ٢٠١٢، ص٣٣٧.
- محمد الشناوي، كل ما تحتاج معرفته عن تمويل الانتخابات الأمريكية، الجزيرة، نشر في ٢٩ آذار ٢٠٢٤، استخرج في ١٨ حزيران ٢٠٢٤، على الموقع الإلكتروني:https://www.aljazeera.net/ amp/politics/2024/3/29/%D9%83%D9%84-%D9%85%D8%A7-%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D8%A7%D8%AC-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%AA%D9%87-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA
- سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة: فؤاد زكريا، دار الطليعة للطباعة والنشر، ط٢، بيروت، ١٩٨١، ص٣٨٣.
*المصدر: التنويري.