الأكاديمية

الحقيقة والدقة: جوهر العمل الصحفي وأساس الثقة

في قلب المهنة الصحفية تقف الحقيقة والدقة كعمودين لا غنى عنهما. فبغيابهما، تنهار الثقة التي يبنيها الصحفي مع جمهوره على مدار الوقت، ويخسر مبرر وجوده في الساحة الإعلامية. إذ لا معنى لصحافة لا تُصدق، ولا تأثير لكلمة لا يُؤمن بها المتلقي.

ثقة الجمهور: عقد غير مكتوب

عندما تمارس الصحافة، فأنت تدخل ضمنيًا في عقد أخلاقي مع جمهورك. أنت تملك الوسائل والوقت والمهارة لرصد أحداث لا يستطيع أغلب الناس الوصول إليها أو التحقق منها. ولذلك، فإنك تتحمل مسؤولية مضاعفة: أن تكون عينهم التي ترى، وأذنهم التي تسمع، وضميرهم الذي يفرز الصدق من الزيف.

هذا العقد يقوم على وعد جوهري: أن تنقل ما تراه وتسمعه بدقة، وأن تراجع كل معلومة قبل أن تنشرها، وأن تُفرّق بوضوح بين ما هو حقيقة قابلة للتحقق، وما هو رأي أو تأويل أو اجتهاد.

دقة التفاصيل لا تكفي وحدها

قد يتصور البعض أن الدقة تعني التأكد من الأسماء، التواريخ، الأرقام، والمسميات. ورغم أهمية هذه العناصر، إلا أن الدقة الحقيقية تتجاوزها نحو نقل المعنى الكامل دون بتر أو تشويه. فإن قلت إن “رئيس البلدية صرّح بأن العاصمة هي مركز النفوذ الثقافي والفني”، فعليك أن تسأل:

  • هل قال ذلك فعلًا؟
  • هل كنت حاضرًا؟ أم نقلت من بيان صحفي؟
  • هل اقتبست كلماته بدقة؟
  • هل استُخدمت الجملة في سياقها الحقيقي؟
  • هل كانت مزحة؟ أو مبالغة مقصودة؟
  • هل كان هناك ما يسبق أو يلحق كلامه يغير معناه؟

الخطأ في هذه النقاط البسيطة – رغم بساطتها – قد يُكلفك سمعتك، ويُفقدك ثقة جمهورك، ويُضعف الأثر المهني لعملك.

الدقة في نقل الآراء: السياق يساوي الحقيقة

عند نقل الرأي أو الاقتباس، لا يكفي أن تنقل الكلمات كما قيلت. السياق هو الذي يُضفي المعنى الحقيقي. فربما كان المتحدث ساخرًا، أو أراد التأثير العاطفي، أو ورد تصريحه ضمن خطاب طويل يوضح المقصود بدقة. حذف كلمة، أو إسقاط جملة، أو تغيير ترتيب العبارة، قد يُحوّل تصريحًا بريئًا إلى اتهام خطير، والعكس صحيح.

من غير المقبول – مهنيًا وأخلاقيًا – إعادة تشكيل الاقتباس ليتماشى مع زاوية تغطيتك، أو لخدمة سردية مسبقة. الدقة تقتضي أن يُفهم ما قيل كما قُصد، لا كما يُناسب العنوان.

سدّ الفجوات: ما لم يُقل قد يكون الأهم

الصحفي المحترف لا يكتفي بما جُمع من معلومات، بل يُحاكم روايته بحثًا عن الثغرات.

  • هل هناك غياب لحقائق بارزة؟
  • ماذا عن ردود فعل الجمهور؟
  • هل كانت هناك معارضة لم تُوثّق؟
  • هل يعكس الإجماع الظاهر واقعًا حقيقيًا أم مجرد صمت غير مفحوص؟

غياب التوازن في عرض الروايات أو تغييب الصوت المعارض قد لا يكون كذبًا مباشرًا، لكنه انحراف خطير عن الموضوعية.

تصحيح الأخطاء: قوة لا ضعف

الخطأ وارد، لكن تجاهله جريمة مهنية. والاعتراف به قوة لا ضعف. الجمهور يُقدّر المؤسسات التي تعترف بأخطائها وتُسارع إلى تصحيحها. وفي العصر الرقمي، حيث تُحفظ المواد إلى الأبد وتُعاد مشاركتها آلاف المرات، فإن تصحيح الخطأ لا يُنقذ السمعة فحسب، بل يمنع آثارًا قانونية قد تكون جسيمة.

إذا اكتشفت خطأً، فبادر بتصحيحه علنًا وبوضوح، دون تبرير أو تهرّب. فالشفافية هي طريق استعادة الثقة، والتزام لا يقبل المساومة.


خلاصة

الدقة ليست ترفًا بل واجب، والحقيقة ليست خيارًا بل جوهر. الصحافة الجيدة لا تُقاس بكمّ ما نُشر، بل بمدى ما أُنجز من صدق، وبمقدار ما صُنع من ثقة. وفي النهاية، الصحفي الذي يحترم جمهوره بالحقيقة، هو وحده من يستحق أن يُحترم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *