الثقافة والإعلام؛ رؤية مغايرة
جمال بندحمان
أصبح الحديث عن الثقافة اليوم، مقترناً بمفاهيم مثل: الاستثمار الثقافي والصناعة الثقافية والاقتصاد الثقافي والسياحة الثقافية والتنمية الثقافية، وهي مفاهيم تتطلب وجود رؤية واضحة وإجراءات محدّدة، وتصور شمولي يجعلها ممكنة التحقّق وفق مقاربة مركّبة تراعي وظائفها المعرفيَّة والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، ولتحقيق ذلك تحتاج الثقافة إلى وسائط تقوم بتقريب ثمرات الفكر والإبداع من أكبر عدد ممكن من المواطنين، وذلك عبر تعميمها. ولا شك أن الإعلام المرئي يمكنه أن يقوم بالدور الأمثل في هذا المجال، خاصَّة وأنَّ تعميم الكتاب وتكريس تقاليد القراءة لم يتمّا بالشكل الذي كان ينبغي أن يتحقّقا به في مجتمعاتنا العربية.
ولعل واحدة من المفارقات الكبرى في حياة هذه المجتمعات هي أن الوسائط البصرية دخلت البيوت قبل أن يدخله الكتاب، كما أن الكتاب والقراءة لم يدخلا في السياسة التعليمية اللهم إلا في صورتهما المدرسية ذات الطبيعة الموجّهة، ممّا يعني أن زمننا الثقافي عرف اختلالاً منذ منطلقاته الأولى، وأننا لم نعش زمناً ثقافياً عادياً، إذ هو زمن تتداخل فيه المكونات التي تجعل التعايش المغشوش بطبعه.
هكذا تحضر الحداثة في صورتها التقنية والمظهرية بجانب ثقافة موغلة في التقليد، بشكلٍ يجعلنا كائنات تراثية وليس كائنات لها تراث، مع تكريس منطق حشو الأذهان بالمعارف والمعلومات عوض منطق المهارة والانفتاح والفكر النقدي والتأملي.
ورغم أن الكثير من البلدان العربية قامت بمجهودات جبارة من أجل إنشاء مؤسسات ثقافية، إلا أن الاختلالات بقيت جلية تلك التي تؤكدها الأرقام الصادمة لنسب المبيعات من الكتب وتواضع نسبة القراء وارتفاع نسبة الأمية، وغياب تقاليد القراءة.
ضمن هذه الصورة غير الإيجابية يطرح التساؤل عن الدور الذي يمكن أن تنجزه الوسائط البصرية وإعلامها المرئي. ورغم أن صيغة التساؤل مشروعة إلا أن التدقيق فيها يقودنا إلى التأكيد على أنّ هذا الدور المنتظر لا يمكن أن يتمّ في ظل غياب تصور متكامل يساهم فيه أصحاب القرار السياسي، والفعاليات المدنية، ودور النشر، وغيرها من الأطراف ذات الصلة بالعمل الثقافي. وقبل ذلك يفترض في هؤلاء الفاعلين أن يقتنعوا بأنّ الثقافة ليست ترفاً، بل إنّها الأساس المشكل للذهنيّات، والموجّه للاقتناعات، والمحدِّد للتوجهات، وأنّ الكثير من المشاكل التي يعيشها العالم العربي، اليوم، ذات صلة وطيدة بوضع الثقافة. فمشاكل التطرّف والغلوّ والتعصّب للرأي والموقف كلها نتائج حتميَّة لغياب تصوّر متكامل لوظائف الثقافة التأطيرية والتوجيهية، وأن المسؤوليات في ذلك يتقاسمها الجميع؛ وزارات ومؤسسات عمومية وخاصَّة.
ولا شكّ أن الضرورة ملحّة اليوم من أجل تقوية تنامي الوعي بكون مختلف التوترات والأحداث الجسيمة التي عرفها العالم العربي خلال العقود الأخيرة، قد حدثت لإهمال العنصر الثقافي، ما دام هذا العنصر هو الملجأ الذي يحمي من التطرّف والعنف وغيرهما من المظاهر السلبية. ذلك أنّ هذه التوترات هي توترات ثقافية أساساً ولا يمكن معالجتها إلا ثقافيا، وما السلوكات والممارسات إلا أعراضاً لذلك. وهذا هو الدرس الذي ينبغي الانتباه إليه من أجل سن سياسة ثقافية منسجمة يتمّ التنسيق بشأن تنفيذها بين مختلف الإرادات بشكلٍ تعاقدي.
وإذا تجاوزنا ذلك، وبحثنا في مدى وجود صناعة الكتاب وتوزيعه وإنتاجه، ومدى وعي القائمين على ذلك بقيمة ما ينتجون، سجلنا وجود تشنج بين المثقّف وأهل هذه الصناعة، فالمثقّف في العالم العربي عليه أن ينتج هذه الثقافة خارج دائرة انشغالاته اليوميّة والمعيشيّة، ومعنى ذلك أنَّ الثقافة ينبغي ألا تكون أولويَّة في حياته لأنّها، إن اقتصر عليها، لن تسمح له بالعيش الكريم.
هكذا يتمّ رسم صورة المثقّف في أذهان الأجيال المقبلة باعتباره صاحب وضع اجتماعي غير نموذجي، وبالتالي غير جدير بالقدوة لتنكسر هيبة الثقافة فوق رحى اليومي والمعيشي.
تبيّن المعطيات السابقة أنّ هناك عطباً عاماً، يحتاج إلى هندسة ثقافيَّة وتدبير استراتيجي من أجل ترسيخ تقاليد ثقافيَّة أولاً، وبعد ذلك يمكن الحديث عن دور الوسائط الإعلاميَّة.
لنعالج الموضوع من زاوية أخرى، وهي فحص الكيفية التي تقدّم بها وسائل الإعلام والثقافة كي نتأكّد أنه في ظل غياب الرؤية الشمولية ستكون الممارسات معيبة، ومن دون جدوى.
لنبحث في نسبة البرامج الثقافية في قنوات التلفزة المختلفة، ولنبحث في التوقيت الذي تقدّم فيه، ولنتساءل عن المحتوى الذي تقدّمه. وقبل هذا وذاك لنرصد نسب مشاهدة هذه البرامج الثقافية، وكيف ينظر إليها المشاهد ويقيمها؟
لا شك أن هذه الانطباعات العامَّة إذا ما تمّت تزكيتها بدراسات ميدانيَّة ستؤكّد أننا أمام مجال يحكم عليه الكثيرون بعدم الجدوى. كيف لا وقد أصبح مفهوم الثقافة مائعاً إلى الحدّ الذي أصبح مقتصراً، في الكثير من وسائل الإعلام، على المهرجانات والاحتفالات مما قادر إلى وأد العلاقة المفترضة بين المواطن والفضاءات الثقافية. فمع المبالغة في ربط الثقافة بمكاتب الخبرات والدراسات، واستمرار تلك النظرة التقليدية للمثقف بالتهيب منه أو احتقاره أو استغلاله. أمام كل ذلك يصعب على الإعلام أن يكون مغيراً لبوصلة المسار، وهو ما يحصل بالإرادة المقصودة، أو بالتمييع غير المعلن.
المسألة في نظرنا مسألة سياق عام غير سليم، وليست إشكالاً محدّداً في تقصير وسائل الإعلام في إنجاز أدوارها، ذلك أنّ مجموعة مقومات سلبية هي المحدّد العام لهذا السياق، فالبيئة الحاضنة للثقافة لم تستكمل مقوماتها بعد، وعدم الوعي بمخاطر تغييب البعد الثقافي يؤدّي إلى تهديد سلامة التماسكات الاجتماعية والفكرية، والتمثلات السلبية للمثقف تجعل المجتمعات العربية أجساداً من دون أرواح.
في غياب ذلك يبرز أنصار المهرجانات الثقافية والثقافة التنشيطية، الذين يعون جيداً أنهم لا يؤسّسون لتراكمٍ إيجابي، بقدر ما يرسخون أنماطاً للثقافة الاستهلاكيّضة، حيث تمرّ الاحتفالات وتتكرّر، ولا تنتج إلا الفرجة التي تقدّم متعة اللحظة لكنّها لا تؤسّس للمستقبل، ولا تحمي فكر الحاضر ووجدانه. هذا التصور ذاته يسقط على وسائل الإعلام المرئية في علاقتها بالثقافة، فهي لا تحدثنا عن الأدوار المركبة لهذه الثقافة، ولا تقدّم النماذج الراقية في التاريخ أو الحاضر، ولا تمنح البرامج ذات الصلة مساحات زمنية تسمح لها بالتجذر في الأذهان. فما الذي سيحصل للمشاهد العربي إذا تغيَّر كل ذلك؟
لنتخيّل إعلاماً مرئيّاً عقلانيّاً تؤطّرة بيئة حاضنة وأفق منفتح، ورؤية استراتيجية تعتبر أن الثقافة أساس مكين للتنمية ناهيك عن حصانتها المجتمعية. ولنتخيله وهو يؤكد للمشاهد أن مدينة مثل “بلباو” الإسبانية انتعشت بعد إنشاء المتحف الوطني، وأنّ روائياً وسميائياً مثل إمبرتو إيكو الإيطالي يبيع مئات آلاف النسخ من رواياته في الأسبوع الأول الذي تصدر فيه، مغنياً الفكر ومنعشاً الاقتصاد. لنتخيل هذا الإعلام وهو يقدّم دور مفكري النهضتين الأوروبية والعربية وهو يواجهون الاستبداد والتسلط والقهر، ويحلمون بمجتمعات تنتهي فيها طبائع الاستعباد ومصائر الاستبداد.. ألم يكن ذلك كفيلاً بتغيير الذهنيات وربح عقود من التوقف الطويل؟
لا نلوم الإعلام المرئي العربي على تقصيره، فهو ابن شرعي لبيئة تخاصم الثقافة، ولا تقدر المثقف، ولا تراهن على أدوارهما التنموية التي تجعل الإنسان الغاية المثلى لها. لكن هذا الابن عندما سيشب قد يحدث ما أحدثه الشباب العربي، إنه رهان الإعلام الحرّ.