تقديم:
لا أحد يشكّ بحضور الدراسات والبحوث العلميَّة الخاصَّة بالممارسات والظواهر التربويَّة والنفسيَّة في التراث العربي الإسلامي،والمقال هذا تعريف وتوصيف لهذا التراث في أحد جوانبه المتعلِّقة بالتربية في الإسلام.
التربية في الإسلام:
لا بد من الاعتراف المبدأي بمساهمة وريادة وتميُّز علماء الإسلام في تطوير الفكر التربوي، وهو ما يؤكِّد بأنَّ علوم التربية شكَّلت أحد مشاغل واهتمامات علماء الإسلام قديما وحديثا، فرغم اختلاف اختيارات وتوجُّهات علماء الإسلام، وتخصّصاتهم العلميَّة ومنازعهم المعرفيَّة، فإن حضور الممارسات التربويَّة ظلَّت راسخة وحاضرة ومتأصِّلة عندهم بشكلٍ قوي وبحضور كبير ومتميِّز في الفكر التربوي الإسلامي.
ومن أبرز التجليات الدالة على حضور الممارسات التربويَّة في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة هو تلك المؤلفات والمدونات والمصنفات التي ألفت في هذا العلم، وهي المؤلفات التي تؤكِّد بقوَّة على مدى حضور واشتغال علماء الإسلام على التربية، وعلى طرق التدريس والتعليم، وعلى عنايتهم البالغة بمؤسَّسات وفضاءات التربية والتعليم والتنشئة[1].
مؤلّفات في التربية الإسلاميَّة:
إنَّ من أبرز هذه المؤلفات الدالَّة على حضور واشتغال علماء الإسلام على التربية، كتاب”أعلام التربية العربيَّة الإسلاميَّة” وهو موسوعة شاملة وواسعة وضخمة، إذ عمل مؤلّفوه على استحضار أهم الأعلام والمفكّرين الذين اشتغلوا على التربية في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، فهو كتاب حافل وغني بالنصوص والنقول والشواهد والمصنّفات والنماذج، وأعلام المسلمين الذين ساهموا في تطوّر الفكر التربوي في جميع أبعادها ومستوياتها ومكوّناتها ومؤسّساتها.[2]
ومن الكتب الأخرى التي نسوقها مثالا للتأكيد على مدى اشتغال علماء الإسلام على التربية كتاب: الفكر التربوي الإسلامي عبر النصوص لمجموعة من الباحثين تحت إشراف الدكتور والباحث التربوي محمد الدريج وهو من إصدار مجلة علوم التربية، وكانت سنة الإصدار هي وهذا الكتاب موسوعة في بابه من حيث الإصدارات التربويَّة ذات المنزع الإسلامي:1992.[3]
كما لا يفوتنا في هذا السياق الإشارة والالتفات إلى كتاب المرحوم فتحي حسن ملكاوي: التراث التربوي الإسلامي لمحاتٌ من تطوُّره، وقطوفٌ من نُصوصِه ومَدَارِسِه،فهو كتاب في التربية الإسلاميَّة يقدم رؤية تكامليَّة وشاملة ونقديَّة للتراث التربوي الإسلامي،[4]
فهذه القوة التي كانت لعلم التربية في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة تعود بأن المرجع المؤسِّس للتربية في الإسلام هو القرآن الكريم والسنة النبويَّة، إذ شكَّل القرآن الكريم مرجعا دينيا راسخا واختيارا ثابتا للمسلمين في ممارسة التفكير، وفي إعمال النظر في هذا الكون الذي سخَّره الله للإنسان.[5]
وللوصول إلى تحقيق هذا المبتغى كانت التربية في الإسلام رافدا موصلا لتحقيق وتأصيل القيم العليا التي تتوقَّف عليها حياة المجتمع البشري، والعمل على ترسيخها بين الفرد والمجتمع، لأن القيم هي السلوكات الضابطة للفرد والمجتمع وهي الموجّهة لهذا الإنسان في سلوكه وتصوره.
و تعد ثلاثيَّة الوحدانيَّة والتزكية والعمران هي القيم العليا والكبرى التي جاء بها الدين الإسلامي،وعمل على تأصيلها ونشرها بين الإنسانيَّة جمعاء.[6]
وعادة ما تختزل أهداف التربية الإسلاميَّة في سعيها نحو الوصول إلى هذه ثلاثيَّة الوحدانيَّة والتزكية والعمران وترسيخها في سلوك المتعلّم بصفة عامَّة.
فالهدف العام من التربية في الإسلام هو جعل الإنسان محققًا ومخلصًا لعبادة الله ومعايشًا ومتساكنًا مع الكون والإنسان، ومعمّرًا للأرض ومسخّرًا لها في تحقيق مقصد العبادة لله وفق شريعة الإسلام.
وهذا التسخير لا يتيسَّر ولا يتحقَّق إلا بالتربية الهادفة، والتنشئة المستمرَّة التي تنسجم مع المقاصد العليا، وتستجيب للقيم التي جاء بها في الإسلام.
يدلُّ هذا الخطاب أن من أبرز ممَّا جاء به الدين الإسلامي هو التربية والتعليم، إذ اقترنت التربية بالتعليم في الإسلام، رغم أن التعليم عادة ما كان يقترن بنقل المعرفة من المعلم إلى المتعلم، وأما التربية فهي تختزل في القيم والأخلاق التي ينقلها من الراشد إلى الصغير.
ولقد تطوَّرت الممارسات التربويَّة في أحضان الإسلام،واكتسبت معنى عامًّا يختزل هذا المعنى في منظومة القيم والسلوكات والأفعال الإيجابيَّة التي عادة ما يحدثها الراشد أو الكبير في الصغير.
أما من حيث الأهداف والغايات، فإن الهدف العام من التربية في الإسلام هو تنشئة وتهذيب الإنسان وإكسابه القيم النبيلة، حتى تحقُّق له العبادة لله، ويعمِّر هذه الأرض وفق شريعة الإسلام ، ويسخِّرها لخدمة العقيدة والإنسان وفق المنهج الإسلامي الأصيل.[7].
تحديد التربية في الإسلام:
سبق الذكر أنَّ التربية بمفهومها العام في التراث الإسلامي تعني إعداد الإنسان في مختلف جوانب حياته وشخصيّته من منظور الإسلام، ورؤية الدين الإسلامي [8]في الوجود وانطلاقًا من مقاصده العليا [9].
وبلغة الدكتور فؤاد الاهواني فإن التربية الإسلاميَّة هي قيم كليَّة تجمع بين تأديب النفس، وتصفية الروح، وتثقيف العقل، وتقوية الجسم، فهي تعتني بالتربية الدينيَّة، والخلقيَّة والعلميَّة، والجسميَّة، وبدون تضحية بأي نوع منها على حساب الآخر”.
المؤلفات الإسلاميَّة في التربية:
لقد سبق الذكر أنَّ علماء الإسلام اعتنوا بالتربية اعتناءً كبيرًا ومنحوها موقعًا متميّزًا ضمن العلوم والمعارف التي اشتغلوا عليها، يفسِّر هذا الاعتناء والاشتغال بالتربية تأليفًا وكتابة وتصنيفًا على امتداد تاريخ الإسلام ،هو تلك المصنّفات والمؤلّفات المدوّنة في هذا العلم .
إذ أنَّ أكبر الدلائل الدالَّة والشاهدة والكاشفة على مدى اهتمام علماء الإسلام بالتربية هو حضور التصنيف والتأليف في التربية في التراث الإسلامي بشكلٍ كبير.
والذي يعكس هذا الحضور، هذا الكمّ الهائل من المؤلِّفات والدراسات والمصنَّفات التي اشتغلت على التربية وعلى طرق التعليم والتدريس في الإسلام ومنها :
-أدب الدنيا والدين للماوردي ت450ه . [10]
-كتاب العلم للحارث المحاسبي ت243ه [11].
-رسالة المعلّمين للجاحظ ت299ه.
-تهذيب الأخلاق لابن مسكويه 421 ه.
-النصيحة الوالديَّة لأبي الوليد الباجي الأندلسي (403 – 474هـ) تحقيق إبراهيم باجس عبد المجيد[12]
-الأخلاق والسير لابن حزم ت 456ه.
-جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر النمري القرطبي[13]
-الرسالة المفصّلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلّمين والمتعلّمين للقابسي القيرواني ت349ه.[14]
-المقدّمة لابن خلدون 808ه-[15].
-القانون في أحكام العلم وأحكام المعلم وأحكام المتعلم للشيخ العلامة الحسن اليوسي المغربي تحقيق حميد حماني مطبعة فضالة المغرب السنة:2013.- [16].
-سياسة الصبيان لابن الجزار القيرواني ت 369هـ،.
-وصايا الآباء للأبناء مثلا رسالة أبي الوليد الباجي الأندلسي ت 474ه لابنه ،و وصيَّة لسان الدين ابن الخطيب لأولاده ت: 776 هـ.- و الوصايا التربويَّة هي خطاب يحمل فكرا تربويا، ويظهر ملامحه وتجلياته ومكوناته.-
أهداف التربية في الإسلام:
تحمل التربية الإسلاميَّة أهدافًا ومقاصد وجوديَّة وكونيَّة وقيميَّة، فهي تربية تهدف إلى خلق الإنسان المتَّزن المتعايش مع الكون والمعمر للأرض، والمسخّر لخيراتها، فهي تربية جامعة ومتوازنة تسعى إلى تحقيق خلافة الإنسان في الأرض لتعميرها ولتحقيق مصالح الجماعة البشريَّة ، مع غرس القيم الحميدة والنبيلة في هذا الإنسان المستخلف في هذه الأرض .
وتنقسم الأهداف إلى قسمين:
أهداف عامَّة:
يتعلَّق هذا القسم بجعل الإنسان محقّقا ومخلصًا لعبادة الله، ومتساكنًا مع الكون ومع الوجود، ومعايشا مع الإنسان بصفة عامة ،ومعمرا للأرض ومسخّرًا لها ولخيراتها في تحقيق مقصد العبادة لله وفق القيم التي جاءت في شريعة الإسلام .
فهي تربية شاملة ومتوازنة تغطِّي وتشمل شخصيَّة الإنسان في جميع أبعادها الروحيَّة والماديَّة ومراحل نموّها.
فالتربية بأهدافها العامَّة الأساس والمنطلق والضرورة فيها هو صلاح الفرد وصلاح المجتمع، وهي السبيل إلى تحقيق التمدُّن الحقيقي، وإلى بلوغ السعادة للإنسان والارتقاء به من درجة الحيوانيَّة إلى الإنسانيَّة….[17].
أهداف خاصَّة:
يتحدَّد الهدف الخاصّ لمادة التربية الإسلاميَّة من حيث هي مادة من مواد المنهاج الدراسي المعتمد في التدريس والتعليم ،فهي مادة تحمل أهدافًا خاصَّة معيَّنة تتعلَّق بجميع المجالات المشكلة لشخصيَّة الإنسان والمتعلم وهي: الهدف الوجداني ويتعلَّق المـجال الـعاطـفي والنفسـي، وهدف معرفي يتعلَّق بالمعارف التي يتلقاها المتعلِّم في الفصل الدراسي، وهدف قيمي يتحدَّد في ما تحمله المواد التعليميَّة من قيم وأخلاق.
خاتمة:
إن المرجعي والحضاري في التربية الإسلاميَّة هو الإسلام، وهي بشكل عام ” تربية الإنسان على أن يحكم شريعة الله في جميع أعماله وتصرّفاته ثم لا يجد حرجا في ما حكم به الله ورسوله، بل ينقاد مطيعًا لأمر الله ورسوله، ولمّا كان الإسلام يهدف إلى بناء الإنسان، وبناء المجتمع وإشاعة القيم الايجابيَّة في الإنسان، ما يجعل الفعل التربوي الإسلامي على امتداد التاريخ من أحد وأبرز شواغل المفكّرين المسلمين على اختلاف تخصّصاتهم العلميَّة[18].
[2] نبذة عن المدرسة في المغرب حتى أواخر القرن التاسع الهجري في ضوء كتاب المعيار للونشريسي[2]لوداد القاضي، ” مجلة الفكر العربي، العدد :21 بيروت السنة 1981 :ص: 61-63.
[3]– بيبلوغرافيا التربيَّة الإسلاميَّة والتعليم الإسلامي إعداد مجلة الدراسات النفسيَّة والتربويَّة الرباط المغرب : العدد-9السنة:1984.
[4] من منشرا المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة : 2018
[5]-أهداف التربيَّة الإسلاميَّة ماجد الكيلاني : دار القمم الإمارات: 2005.ص: 15.
[6]-منظومة القيم العليا:الوحدانيَّة والتزكيَّة والعمران لفتحي حسن ملكاوي:11-منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي:2013
[7]-تاريخ التربية الإسلاميَّة لأحمد الشلبي :230 مكتبة النهضة المصريَّة السنة: 1987.
[8] التربية في الإسلام: للدكتور أحمد فؤاد الأهواني القاهرة – دار المعارف- 1968ص:22
[9]-التربية الإسلاميَّة المصطلح والمفهوم لصالح أبو عراد:187
[10] -صدر عن دار المنهاج سنة:2013.
[11] -اشتهر الحارث المحاسبي ت243 بكتبه وبمصنفاته في التربيَّة في بعدها الروحي ، وبالأخص بكتابه العلم الذي حققه محمد عابد وصدر عن الدار التونسيَّة 1987.
[12] -رسالة أبي الوليد الابجي حقت اكثر منت حقيقثر على هذه الوصيَّة الأستاذ الدكتور جودة عبدالرحمن هلال ضمن مجلد يحتوي على عدة رسائل بمكتبة الأسكوريال الشهيرة بإسبانيا، وقد كُتبت هذه الرسالة بعد وفاة الباجي بـ275 سنة، أي سنة 749هـ، وقد حققها الدكتور جودة تحقيقًا جيدًا ونشرها بمجلة المعهد المصري للدراسات الإسلاميَّة بمدريد، عام 1955م، وهي في المجلد الثالث من ص17 إلى ص47 لمن أراد الإفادة بها.
[13] – كتاب بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي المتوفى: 463هـ حققه أبو الأشبال الزهيري وصدر عن دار ابن الجوزي، المملكة العربيَّة السعوديَّة الطبعة: الأولى، 1414 هـ …
-لمزيد من التفصيل يراجع: أعلام التربية في تاريخ الإسلام يوسف بن عبد البر القرطبي للدكتور عبد الرحمان النحلاوي دار الفكر سوريا :2017
[14] -حققها- التربية الإسلام فؤاد الاهواني سنة 1986. تحمل الرسالة نماذج تربويَّة رياديَّة في الإجابة على كثير من الأسئلة الشائكة والمطروحة اليوم
– من ملامح الفكر التربوي الإسلامي عند الإمام ىالقابسي القيربواني 403 دراسة تحليليَّة نقديَّة مجلة دراسات العلوم التربويَّة المجلد:.العدد-2- السنة:2014.
[15] -يراجع بحث: نظريَّة ابن خلدون في التعليم نظريَّة سبقت عصرها لصاحبته – Mongia Arfa Mensia -الأستاذة بمعهد السربون بفرنسا وهذا البحث نشر بمجلة:- المجلة الدوليَّة لعلوم التربية :العدد79السنة :2018- وكان الملف مخصصا”Les grandes figures de l’éducation dans le monde
[16] – للمزيد من المعرفة حول شخصيَّة أبي الحسن اليوسي يراجع الملف الضخم الذي خصصته مجلة المناهل المغربيَّة في عددها:-15-لشخصيَّة الإمام اليوسي العلميَّة والتربويَّة السنة:1979.
[17] – التربيَّة في الإسلام للدكتور احمد فؤاد الاهواني ط-2.دار المعارف القاهرة1968.ص: 22-
[18]-الثقافة العربيَّة وعصر المعلومات لنبيل علي : -ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويت العدد:269السنة:2006ص:289
___________
*الدكتور محمد بنعمر.
*المصدر: التنويري.