الأكاديمية

المصادر والتحقق من الأخبار: بين الوفرة والحكمة

في عالم تتدفق فيه المعلومات بلا توقف، أصبح الصحفي أمام مسؤولية مضاعفة. لم يعد جمع الأخبار هو التحدي الأكبر، بل غربلتها، وفهمها، والتحقق منها. فالمعلومة في زمن السرعة قد تصل قبل أن تنضج، والخبر الكاذب قد يسبق الحقيقة بخطوة… أو بخطوات.

كل شيء تقريبًا يمكن أن يكون مصدرًا للخبر: برقيات وكالات الأنباء، صفحات الصحف، البيانات الرسمية، البرامج الإذاعية والتلفزيونية، المواقع الإلكترونية، وحتى ما يتداوله الناس عبر الشبكات الاجتماعية والمدونات. لكن هل تكفي وفرة المصادر لتقديم صحافة دقيقة وموثوقة؟ قطعًا لا.

وسط هذا الزخم، يحتاج الصحفي إلى مهارة ترتيب الأولويات، وفوق ذلك، إلى قدرة دقيقة على التحقق. هنا تكمن مهنية العمل الإعلامي. في هيئة مثل BBC، على سبيل المثال، يُشترط التحقق مرتين على الأقل من كل معلومة قبل نشرها، مهما كانت الجهة الناقلة. هذه القاعدة لا تُعد ترفًا تحريريًا، بل حماية من الوقوع في فخ الدعاية أو التضليل، سواء أكان سياسيًا أم تجاريًا، أو حتى مجرد خطأ بشري بسيط.

حتى عند الاستعانة بخبر منشور في صحيفة، لا يكفي نقله كما هو. يجب التحقق من صحته، وتحديد مصدره بوضوح. فالمصداقية تبدأ من احترام عقل المتلقي، ولا تُبنى على التكرار أو النسخ، بل على التحري والتمحيص والوعي بأخطار التضليل.

ولا تقتصر مصادر الصحفي على المؤسسات الرسمية أو وسائل الإعلام التقليدية. فهناك مكالمات الجمهور، وشهادات العيان، وزملاء المهنة، والتقارير الميدانية، إضافة إلى أقسام التوثيق في غرف الأخبار التي تحافظ على أرشيف دقيق للأحداث. كما أصبح تحليل البيانات المفتوحة أحد أهم أدوات الصحافة الاستقصائية الحديثة، يمد الصحفي بخلفيات وسياقات غنية تدعم العمل التحريري.

لكن السؤال الجوهري يبقى: كيف نختار من كل هذه المعلومات ما يستحق النشر فعلًا؟

الخبر الحقيقي هو ما يُحدث فرقًا. إما أن يكون جديدًا لم يُنشر من قبل، أو يُقدّم معلومة تمس المستمعين وتغير في وعيهم أو واقعهم. الخبر الآني عادة ما يرتبط بحدث وقع أو سيقع، له وقع على الناس، يُفاجئهم، أو يُشعرهم أنهم أقرب لما يجري حولهم. أما ما يُعرف بأخبار “المجلة”، فهو لا يتعلّق بحدثٍ آني، بل يتناول قضية أعمق، مستمرة في الزمن، كملف اللاجئين، أو تحديات تغيّر المناخ، أو أزمة التعليم الجامعي. هذه المواضيع لا تسقط بالتقادم، بل تزداد أهمية كلما تعمقنا في فهمها.

الجمهور يهتم بما هو قريب منه، سواء جغرافيًا أو وجدانيًا. لذا، فإن القرب — سواء من حيث المكان أو من حيث التأثير الإنساني — عنصر حاسم في اختيار ما يُبث أو يُكتب. ويظل عنصر المتابعة ضروريًا أيضًا. ليس كافيًا أن ننشر خبرًا ثم ننقطع عنه، بل يجب أن نرافقه حتى نهايته، أو حتى تتضح نتائجه وتأثيراته.

في العصر الرقمي، أصبح من الممكن التحقق من الصور والفيديوهات عبر أدوات متقدمة: البحث العكسي، تحديد المواقع الجغرافية، تحليل البيانات الوصفية، وغيرها من التقنيات التي تشكّل خط الدفاع الأول ضد التزييف. وقد أنشأت مؤسسات كبرى وحدات متخصصة للتحقق من الأخبار مثل “BBC Verify” و”AFP Fact Check”، في مواجهة الموجات المتصاعدة من الأخبار الزائفة والتضليل الرقمي.

رغم كل ذلك، تظل البوصلة الحقيقية للصحفي هي وعيه المهني. السرعة قد تكون مغرية، لكنها لا تبرر الوقوع في الخطأ. لأن بناء الثقة مع الجمهور يحتاج وقتًا، لكن فقدانها لا يحتاج أكثر من خبر غير دقيق واحد.

في نهاية المطاف، الصحافة ليست مجرد نقل معلومات، بل مسؤولية أخلاقية. والمعلومة الدقيقة ليست إنجازًا عابرًا، بل رأس مال حقيقي لأي صحفي يحترم مهنته وجمهوره.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة