المقالاتفكر وفلسفة

هيدغر والتفكير في مصير العلم؛ أو كيف خلع هيدغر باب الاستفهام عن العلم؟

تمهيد:

يفتح مارتن هيدغر باب الاستفهام الفلسفي عن مصير العلم منتهيا بقول لم يخطر على العقول المتفلسفة من قبله ولا من بعده مفاده أنّ “العلم لا يفكر وليس بمستطاعه التفكير“. ومن ثمّة سيدقّ هيدغر إسْفينه في ظهره بلا رجعة. وحينما نوصوص أعيننا في نصوصه الفلسفية نعثر على نصّ يتخطف الأبصار في ثنايا أعماله الفلسفيّة ويشدنا إليه شدّا. فنمكث فيه لحين من الوقت. وهو نص يدعونا لإستكداده واستنطاقه والظفر بلذته بتعبير بارط. وما التفكير عند هيدغر إلاّ إتقان المشي في ذاك المسير أو الطريق بما هو “خُلوة” أو “جلاء” (Lichtung) تفتح الكينونة  الهناك أو الموْجد على فواسير من الإمكانات الفلسفية الأنتولوجية التي بحوزته وتحمله في الآن ذاته على حمل المسير لوحده من أجل تناهيه باعتباره “كينونة- نحو-الموت“(Sein-zu-Tod) .

ولكننا ههنا نعدّل القوس وسنصوّب السهم في اتجاه نقد هيدغر للعلم وخرقه لجميع العوائد الفلسفيّة التي تعلي من شأن العلم وتحط من قيمة الفلسفة. فبأي ذنب يتهم العلم الفلسفة بما هي تفكير بالتقصير والعجز وخفوت صوتها حين جولاته البطولية الحداثية التي لم تهدأ سورتها إلى حين من الدهر؟ ولكن الحكمة تنطق بأنّه إذا بان السبب الحقيق والآكد بطل العجب، وكشفت الحيل. فلمّا حصحص الحق بآيات مبينة تلاها هيدغر على الملأ بلا تعتعة في القراءة أنّ “العلم لا يفكّر” (Die Wissenschaft denkt nicht).

بهذه الرشقة الفلسفية من لدن هيدغر تتساقط تكوّف رمال الميتافيزيقا حبيبة تلو الأخرى وبعدها تنهار جيمعها سراعا ومن ثمّة تتعرّى شجرة المعرفة الديكارتية التي كانت امتدادا للميتافيزيقا الأفلاطونية ولم تفلت من قبضة أنتولوجيا الكائن، بل وطأت الطريق نحو تملكه وتخلت عن أنتولوجيا الكينونة عنوة، ولكنها رغم سقامتها وثبات أصلها في يقين الكوجيتو “أنا أفكر، إذن أنا موجود” أو “انظر، تجد” (طه عبدر الرحمان) مع هيدغر ستسقط أوراقها وريقة تلو الأخرى وسيهوي هيدغر على جذعها كالحطاب بفأسه. وحينئذ سترفع أقلام الميتافيزيقا من لدنه ويكسر ألواحها بلا رجعة وعندئذ سيستبين الطريق لكل المارين من هذا الطريق الذي رسمه هيدغر، طريق التفكير الفلسفي الذي عبّده بأناة وصبر حصاة بجوار حصاة لا يمكن مجاوزة الواحدة للأخرى، وهو بمثابة التطريس (palimpsesteالفلسفي حيث نقف على أهم النكات المستشكلة لديه وهما نكتتان ناتئتان في ثنايا التفكير الهيدغري: أول النكات أنّ مهمة الفلسفة هي التفكير بما هو تأويل أنتولوجي لكينونة الكائن الذي هو نحن كلّ مرّة ألا وهو “الدّزاين” (Dasein) أو “المَوْجِدُ” أو “الكينونة-الهُناك“، وثاني النكات أنّ مطلوب العلم هو التفسير، تفسير الكائن ليس إلاّ. وعليه يكون مطلوب الفلسفة التفكير بما هو تأويل ومطلوب العلم التفسير. 

1.     مهمّة الفلسفة التأويل ومطلوب العلم التفسير:

ما تلك بيمين هيدغر غير الفلسفة بما هي تأويل يعيد التفكير في اللا مفكر فيه ميتافيزيقيا والذي لم ينقال بعد وخاصة الكلام الفلسفي حول الكينونة أو الوجود وإنّما غرقت الميتافيزيقا في عُباب بحر الكائن أو الموجود ونسيت “منْسأتـ“ـها (عصاها) التي تهش بها على الأفكار، فعثر عليها هيدغر وحملها وكان خبيرا وقد دلّت على غفلتها ونفس ذلك شبيها بنسيان سليمان “منْسأتـ“ـه، فدلت الحِنّ على موته. وتلك الغفلة الميتافيزيقية ستكون مدار الكلام الفلسفي لدى هيدغر في ترحاله وسفره الفلسفي وتطوافه في تاريخ الفلسفة معيدا حرث الفلسفة واستنبات تفكير أثيل تفرد به لوحده وسيجعل آية التفكير الأصيل وحقيقته ومنتهاه.

وحين القبض على رأس الرمّة (الحبل) في حديث له عن العلم والفلسفة مبيّنا تبيّينا مَهمّة الفلسفة بما هي تأويلا للوجود أو الكينونة ومطلوب العلم ليس إلاّ تفسير الكائن أو الموجود ولذلك سيسحب منه قلادة الفلسفة وتاجها ألا وهو التفكير ولا شيء غير التفكير طريقا لا ينتهي إلاّ بانتهاء الكينونة -نحو الموت وبطلانها وحين لا يرف لها جفن ولا يتحرك هدبا ويخرس لسانها.

ومن هذه الربوة التي سنقف عند السير في طريق الفكر الذي سطره هيدغر قبلة لكل باحث ومريد نتعثر في عباراته الناتئة على حافة الطريق وحينها فقط ينبس هيدغر ببنت شفة مع استرسال في القول: “قد يكون من الجيّد، عندما نتمكن على مدى زمن طويل ضمن إحدى المواقف من أجل الدفاع عنه بالقول بلا رجعة. وليس ذلك فحسب[1]، بل أنّنا سنأخذ في الحسبان بالمسافة الضرورية لهذه الوثبة (السَوْرة)[2] التي بفضلها ربّما[3] يمكن لأحد أو لآخر[4] تحقيق قفزة[5] داخل الفكر[6]. فحينئذ يبدو أنّ ما قيل إلى حدّ الآن هو الحقيقُ[7]. وأنّ مجمل النقاش الدائر حوله لم يكن في الحقيق مدار القول فيه العلم. طبعا بالإضافة إلى ذلك، يجب على النقاش أن يمنح فرصة للفكر. بيد أنّ علة (أساس) هاته الحالة التي للأشياء[8] تكمن أساسا في أنّ العلم من جهته لا يفكر وليس بمستطاعه التفكير[9] وإن كان ذلك كذلك، فمن الآكد أنّ مصلحته تعني ههنا تأمين مسيرته الخاصّة والمحدّدة. بيد أنّ العلم لا يفكر. وتلك لهي جملة ركيكة[10].“[11].

ينيخ مارتن هيدغر بنا في ترحاله الفلسفي ضمن نصوصه الفلسفيّة، وخاصّة هذا النصّ الذي بحوزتنا، والذي سنتخذه قبْلة لأسئلتنا الفلسفيّة، ونستأنس به، من بين هذه النّصوص المُعتاصة، على اختلاف نِكاتها المستشكلة، رغم عواصتها التي تثير فينا حساسيّة التّفلسف الأثيل، حول مسائل وجوديّة تتعلّق بالوجود الإنسيّ، وستفتح لنا باب الاستفهام حول حاضره ومستقبله، الذي هو في مجموعه انهماما مستديما ومتوقّلا، بشأن مستقبل الجنس البشري. فمن سديم هذا الأفق اللاحب، سيتوقّل هيدغر الأسئلة الفلسفية، ويدمن النّظر فيها أشدّ الإدمان، ويحترثها حرثا، بمحراثه الفلسفيّ مفلقا أرضها فلقا.

ومن ثمّة يستنبتها هيدغر “مفكر الغابة السوداء” فلسفة شبّه لنا أنّها يونانية ولكنه يحتقلها فلسفة ألمانية غير مغموزة النّسب في أرض فلسفيّة مدار الكلام الفلسفيّ فيها، يدور قطب رحاها حول “الأنتُولوجي“[12] (Ontologisch) أو “الأنتُولوجيا” (Ontologie) الأساسيّة لـ”المَوْجِدِ“[13] أو “الكينونةالهُناك” (الدّازين=Dasein) غير الأرض التي هجرتها، ودفنت اسمها فيه، ووارت عليه التراب (الميتافيزيقا اليونانية). وفي هاته الحالة يستنبت بقصارى جهده هذه الأنتولوجيا من جديد، من أجل إحياء نفسها العتيق توقا منه في خلق مسار فلسفي خارق للعادة ولا يعترف بغير “اليونان والألمان” عقولا متفلسفة إلى حدّ التّعصب ممّا سيجعله بتعبير طه عبد الرّحمان “فيلسوف المعاني” بتعبير طه عبد الرحمان أوّل من سيقوم بخلع كلّ الأبواب عن الميتافيزيقا تاركا وراءه الباب مفتوحا على مصراعيه للمّارين من ساحته، لأولئك المتفلسفين من بعده. وهو كثر.

لذلك ينتأ السؤال نتأة للتوّ من أفق بعيد ويدعونا لمساءلة من جديد: ألم يتفرّد هيدغر في تفكيره الفلسفي تفرّدا يحسب له لوحده في تثوير معنى السؤال عن الكينونة؟ ألم يبرع أيّما براعة في نحت مصطلحاته الفلسفيّة من داخل اللّسان اليوناني وسليله الألماني وواضعا كلّ الأسئلة الفلسفيّة ذات الطابع الأنتولوجي على حافّة الطريق كأسنّة الرّماح؛ طريق الفلسفة بما هي تفكيرا أثيلا لا معاندة فيه فلسفيّة في وضعية الفلسفة المعاصرة، والتي وجه إصبع الاتهام  لها بعدم جدواه من لدُن رهط من العلماء، والتّشكيك الذي لا يرقى إليه الإيقان ولو بسلّم في أسسها ودعوتهم إلى هجرها واستيعاضها بالعلم، بما أنّ كتابة العالم المعاصر باتت كتابة تقنية لا جدال فيها، ولم يعد العالم بحاجة إلى طرح المسائل الأنتولوجية (الوضعيون أو المنطقيون الجدد “فيتغنشتاين الأوّل” و”كارناب” والبنيوية “فوكو الأوّل” و”دلُوز” ومدرسة فرانكفورت “أدورنو وهوركهايمر وهابرماس  وآكسيل هونيث“).

ولكن هيهات حسب هيدغر، إذ سيعتبر أنّ الفلسفة هي أنتولوجيا رغم كلّ هذا الضجيج حولها، وهيما تزال بمستطاعها تأويل العالم، وعليها اكتراء آذانها عن سماع هذا الحسيس. لقد نظر إليها الفيلسوف وأسمعت كلماتها لمن به صمم أنّ العلم مهما بلغ الشأو في مساره المعرفي، فهو وإن جعل الطبيعة موضوعا لمعرفته، فلن يستطيع التّفكير في ماهية الأشياء، وإنّما هو قادر فقط على تفسيرها وتبريرها فـ”العلم لا يفكّر“، وما على الفلسفة التي “تحبّ صعود الجبال وتعلو القمم” بتعبير نيتشه إلاّ أن تفكّر وتعيد التّفكير في كلّ ما قيل ميتافيزيقيا ومعاودته “تفكيرا لا ميتافيزيقيا“. فما التّفكير إلاّ طرح السؤال تلو السؤال “مُعاياة” حول المسائل الأنتولوجية المستعصية على أذهان فقهاء العلم ومفسريه، وشرّاحه مثل التّفكير في أنتولوجيا الكينونة واللّغة والشعر والفكر والحقيقة ومشاكل العصر التقني ومعضلة الآلة واستشكال اليومي الوجودية.

فالحقيق أنّ جميعها تعدّ مسائل فلسفيّة تطرح على كاهل كينونة الكائن “الدّازين” (Dasein) الذي هو نحن كلّ مرّة، ليسائلنا من موضعنا نحن عن هاته الأطّاريح الفلسفيّة وعندها فقط يتحوّل السائل إلى مسؤول عنه مثلما هو الشّأن في هذا النصّ[14] تخيرنا له عنوانا “العلم لا يفكّر” مسائلا فيه هيدغر عن وضعية العلم اليوم ولصوقه بالتقنية ومدى انعكاساته على الكينونة التي للدّازين. وهاته الأسئلة تجري جميعها تحت سؤال بلا حدود: “ما الذي نعنيه بالتفكير“؟ (Was heisst Denken?): ” بيد أنّ علّة (أساس) هاته الحالة التي للأشياء[15] تكمن أساسا في أنّ العلم من جهته لا يفكر، وليس بمستطاعه التفكير[16] وإن كان ذلك كذلك، فمن الآكد أنّ مصلحته تعني ههنا تأمين مسيرته الخاصّة والمحدّدة. بيد أنّ العلم لا يفكّر. وتلك لهِيَ جُملة ركيكة[17].”

لذلك علينا أن نسأل للتوّ بلا تردّد: فبأيّ معنى يستوي القول أنّ العلم لا يفكّر؟ هل يفهم من ذلك أنّ العلم معرفة موضوعيّة منحصرة في تفسير الظواهر الطبيعيّة وحدود معرفتها حدود التجربة ليس إلاّ، ولا شأن لها بالتّفكير بما هو تأويل، أم يفهم من العلم بكونه عقلا أداتيا إستراتيجيا يحوّل الطبيعة إلى نشاط تقني ويضع يده على القيم ويتدخل في مجال الفلسفة بما هي مجالا للتفكير الفلسفيّ، قصد إحكام قبضته عليها وإعطاء الحلول عوضا عنها وسحب البساط من تحت رأسها؟

ألا يعدّ ذلك حقيقة تجاوزا من جهة العلم لحدوده بما هي حدود معرفته؟ أليس تدخله في قدرة الذات المفكّرة على الإبداع والخلق يعتبر تعديّا صارخا على مجالها؟ وإذا علمنا أنّ العلم يعيش الآن أزمة أو بالأحرى يعيش “أزمات” في حقوله المعرفيّة؛ أليس ذلك ما يبرّر التّشكيك في قدرة العلم على التّفكير؟ وإذا كان ذلك رأيا يؤخذ بزمامه ويعتدّ به؛ أليس خليقا بنا أن نعيد توجيه اللّوم ليس على العلم فقط، بل على فهمنا الحسير وعدم قدرتنا على استيعاب ما يجري من تطوّرات علميّة وتقنية في العالم؟ وإلاّ ما معنى هذه النجاحات العلميّة والثورات العلمية التي تأتي تَتْرى؟ ألا تدخل جميعها في باب التّفكير الفلسفيّ؟ أليس علينا التّريث في إصدار الأحكام وتعديل بوصلة فهمنا على بوصلة العلم والتّسليم بأنّ العلم ذهب بنا أشواطا بعيدة عمّا تطرحه الفلسفة، وهي تزعم أنّها ما تزال “أنتولوجيا” لا يفلت من قبضتها شيئا يدبّ دبيبه في الأرض ولا طائرا يحلّق في أعالي السّماء؟          

بيد أنّنا هاهنا سنعتمد في تحليلنا لهذا النصّ في نسخته الأصلية ضمن “الأعمال الكاملة” (Gesamtausgabe) لمارتن هيدغر، والتي لا يعتبرها فعلا أعمالا، بل هي بمثابة “ثنايا في التّفكير (weg in denken)”، وقد ترجمت نصوصه الفلسفية ضمن كتاب “مقالات ومحاضرات“[18] في نسخته المنقولة بالفرنسية.

نكتة الطرافة في هذا النصّ الذي بحوزتنا الذي يبدو منذ الوهلة الأولى للنّاظر الممعن في النّظر، حمّال أوجه، إذ يفتتح هلاله بمسلّمة يقينية صادمة ومربكة “العلم لا يفكّر“. وهي تبدو لصاحبها هيدغر الفيلسوف الألماني المعاصر غير قابلة للتّشكيك. وهي تعدّ بالنسبة إليه، نتيجة انتهى إليها تأويله الفلسفيّ من خلال تقليب النّظر في أهم محطّات الثورات العلمية، خاصة ثورة الفيزياء الذرّية على الفيزياء النيوتينية، وثورة الرياضيات على أسسها باستحداث المنهج الأكسيومي. ذاك المنهج المستنبط الذي ينطلق من فرضيات منطقيّة صوريّة محدثا “براديغمات جديدة” بتعبير توماس كُون وهو بمثابة الخزّان الموقد للثورات العلميّة مثلما هو الشأن في ثورة الهندسة اللاإقليدسية على هندسة إقليدس مع ريمان ولوباتشوفيسكي. وبالجملة، يمكن القول أنّه عند صعود التقنية ونجاحاتها المتتالية، بدأت عندئذ تفرض سيطرتها على العالم من خلال تحويله إلى أداة كتابة، ليس كتابة العالم ميتافيزيقيا، بل تخطّ كتابة من نوع آخر؛ ألا وهي: كتابة العالم كتابة تقنية.

وفي وسط هذا الزّخم المعرفي العلميّ وضجيجه وصخبه المتلاطم، وداخل هذه النّداءات المتعالية بأصواتها، تظهر ثلّة من الوضعيين الجدد يزْلِقُون بألسنتهم الفيلسوف هيدغر، وهم لا يشعرون أنهم آخر فوج في صف الميتافيزيقا ينتصرون للعلم الذي أخرج من جلده “التقنية بما هي اكتمال الميتافيزيقا” بتعبير هيدغر وقد لهجت ألسنتهم بموت الفلسفة وعدم جدواها إمّا برفع لواء العلم ولا شيء بديلا عنه وإمّا بدس الرأس في أنثروبولوجيا علمية تقدم العلم على الفلسفة، وذلك كلّه من أجل تبخيس الفلسفة وتهجينها وتقزيم دورها في تثوير الواقع وحرثه من جديد واعتبار الفيلسوف قد خلط عقله وليس أسلوب تفكيره إلاّ رطانة لا طائل من ورائها، وأنّه غير قادر على مسايرة مجرى الثورات العلمية وقول الفصل فيها.

ولكن الحقيق أن كلّ نار تخبو تحت الرماد وحين تهبّ الرياح رياح التفكير الأصيل أو الأثيل بما تشتهي نفس الفيلسوف ويشتعل أوار نار فكره ويقدح حجر صوانه يأتي سبيلا عجبا مثلما هو الشأن مع مفكر الغابة السوداء يلجم التفكير الميتافيزيقي ويطلق العنان للتفكير الفلسفي من طريق آخر يسائل البدء الفلسفي من هراقليطس وبارمنيدس عن “الأيْس” (الكندي) أو “الكينونة” (فتحي المسكيني – طه عبد الرحمان) أو “الوجود” (عبد الرحمان بدوي- مجمّد محجوب) أو “الكوْن” (إسماعيل مصدق- موسى وهبه) بدل التحليق في سديم الميتافيزيقا التي تساءلت عن الكائن أو الموجود.

ومن عمق أعماق هذه الغيوم المتلبدة فوق رأس الفيلسوف يستنهض هيدغر على عجل مدافعا دفاعا مستميتا عن مهمّة الفلسفة رافعا شوْلته (شوكته) في وجه خصومه ومثمّنا لدور الفيلسوف واقتداره على الوقوف صامدا أمام هذه التيارات والموجات المعادية للتفكير الفلسفي بقول صادم منكسا أعلام المهلّلين بانتصارات العلم مثل “الوضعيون الجدد” أسلاف أوغيست كونت مؤسس الوضعية القائلة بنهاية الفلسفة وسليلتها البنيوية من بعده الداعية لـ”موت الإنسان” (فوكو الأوّل) ونهاية سرديته (رورتي) وجميع ميتافيزيقاه (فيتغنشتاين الأوّل وكارناب) والقائلين بـ”نهاية التاريخ ونهاية الإنسان” (فرانسيس فوكوياما ومريديه).

فجميع هذا اللّغط واللّغو الفلسفي والعلموي، ليست في الحقيقة إلاّ ضربا من “القيل والقال” لقفته عصا الفيلسوف هيدغر كبيرهم الذي سيعلّمهم كيف تستنطق الفلسفة الأشياء تحت صلصلة الفكر؟ وكيف “ينعدم العدم” ويخلق من صلبه قلقا وجودانيّا لم يخطر على بالهم ولا سمعته آذانهم من قبل ولا حتى فكر من به صمم؟ لذلك سيتخذ هيدغر في الفلسفة طريقا عجبا لم نعهده من قبل. فما ذلك الضجيج إلاّ “ثرثرة فوق النيل“* نيلُ الفلسفة لا يحدث هزّات في تفكير “مفكّر الغابة السّوادء” هيدغر كما ينعت نفسه باستمرار. فقد دأب على التفكير برصانة “الرّيفي” (مقامه في غابة) وبصمت (يشبه صمت الفلاحين) وهو صمت الحكمة حينما تتكلّم إلاّ في إبّانها وحين يحين أحايين وقتها للكلام الواقعيّ. فبم التعلّل إذا؟ أليس في نبس هيغل أصدق إنباء وأصدق قيل حينما نبس ببنت شفّة: “أنّ الفلسفة تأتي متأخرة كبومة منيرفا (رمز الحكمة عند الرّومان) وتبدأ في الطيران إلاّ عند الغروب أو أفول الشمس“؟

فما الذي دفع هيدغر وسط هذا الضجيج “ضجيج القرن” بموت الفلسفة إلى تكذيب “فقهاء العلم” بتعبير نيتشه القائلين أنّ العلم يفكّر بقول يتصادى مع قولهم وخارق للعادة “أنّ العلم لا يفكّر“، وليس وقوفا عند هذه المسلّمة اليقينية كمسلمات إقليدس، بل أضاف إليها حكما قاطعا ودامغا بحجة مستبينة “وليس بمستطاعه التّفكير“. فما هي مبرّرات ذلك لديه؟ وما هي الحجج التي استند إليها هيدغر لإفحام خصومه والرّد عليهم بأنّ “العلم لا يفكّر“؟ كيف نفهم ذلك بالعودة جيئة وذهابا على أديم هذا النصّ الذي بحوزتنا لكاتبه “فيلسوف المعاني” بتعبير الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان ضمن كتابه “فقه الفلسفة“[19]؟

هكذا تلفحنا إيّاءات شمس هذا النصّ عند قفل صاحبه لحركته التي أوشكت على الانتهاء مُميطا أو مُمعّطا اللّثام عن الوجه الحقيقُ للعلم ومعفّرا وجهه بالتراب فحواه “أنّ العلم لا يفكّر” (Die Wissenschaft denkt nicht). هذا التّوقيع الفلسفي النّقدي من لدُن هيدغر يضعنا منذ البدء في إحراج وإرباك مفهومي يورّطنا معه في قراءته من أجل العودة طوعا أو كرها إلى معجم المفاهيم الهيدغرية لفهم نصوصه المستشكلة، وخصوصا هذا النصّ المربك في جمله وتنبيهاته وإيماءاته وتشقيق الكلام الفلسفي عند الدخول في مظانه والتّرقي في معارجه والوقوف على طبقاته. ومثل ذلك في عبارة هيدغر التي تحفّ هالتها بتلبيس سليم: “سنأخذ في الحسبان بالمسافة الضرورية لهذه الوثبة (السَوْرة) التي بفضلها ربّما يمكن لأحد أو لآخر تحقيق قفرة داخل الفكر“.

ههنا يضعنا هيدغر على السكّة الحقيقيّة حيث سيفتح لنا الطريق؛ المشي في ثنايا طريق الفكر المتوعرة، ويورّطنا أثناء السير معه في التّفكير في المعاني الثّاويّة خلف مصطلحاته الفلسفيّة قصد الولوج إلى عمق أعماقها والإنصات لما تقوله من الذي لا ينْقال في عبارتي “الوثبة” و”القفزة” (der Sprung). وهما عبارتان تدلاّن رأسا على ماهية الفكر الذي لا تهدأ سوْرته وبرْطمته إلاّ بطرح السؤال تلو السؤال من جديد حول ما يدعونا دائما بالاندهاش أو “التُّومازين” (thaumazein) حول أيّ مشكل يعترضنا في وجودنا اليوميّ، مثلما هو الشّأن في ظاهرة طغيان العلم وسطوته على الطبيعة واهتمامه المفرط بالكائن وتفريطه في الكينونة التي هي نحن كلّ مرّة.

بلا مشاييح في القول، أنّ العلم حقّق نجاحات وبطولات بروميثيوسية (بروميثيوس سارق النّار من الآلهة في الأسطورة اليونانيّة) وفاوستيّة (فاوست بطل وعنوان مسرحيّة غوته) بفضل ثوراته وتصحيح مساره، لذلك جعل من المعرفة موضوعه الذي ميّزه عن المباحث الفلسفيّة الميتافيزيقيّة الحديثة. بيد أنّه لم يستوعب بعد الدّرس الفلسفيّ الكنْطي الذي فصل فصلا مبينا بين مجال العقل النّظري (العلم) ومجال العقل العمليّ (الفلسفة)، بمعنى أوضح، وضع كنْت نكْتة الفصل بين أن نعرف وبين أن نفكّر. ف

لقد بات العلم من وجهة كنْت هو الذي موضوعه المعرفة لا يتجاوز حدود التجربة، أي حدود “الفينُومان” الظواهر. وهو نفسه ما يتفق مع فيزياء نيوتن التي تقرّ بأنّ “العلم لا يخرج عن التجربة“، التي تنفي عنه كلّ حقيقة لا تصدر عنها. وأنّ مجال الفلسفة هو التّفكير في ما يسمّيه “النّومان” أو “الأشياء في ذاتها” (das ding in sich). وعندها فقط يكون كنْت قد استجاب لمآربه من الثورة الفيزيائية النيوتينية ويتخذها محرارا يقيس به فلسفته، ومدى ارتباطها بالتّنوير العلمي.

فخليق بنا إذا، أن نقف عند هذه المفارقة التي مفادها أنّ العلم موضوعه العرفان والتّفكير. وهذا أمر يعدّ مناقضا لماهية العلم نفسه. فالحقيقُ أنّ العلم يتّجه نحو العرفان، عرفان الكائن بما هو ظاهرة قابلة للتّفسير، وليس بمستطاعه التّفكير في كنهه ولا بمستطاعه الولوج إلى معارج معانيه الدفينة، ولا بإمكانه اختراق شغاف الظاهرة، وهو ما لم يستوعبه العلم اليوم حين وضع يده على المعارف ذات الطابع الإنسانيّ، ومدها بطولها ليطال كلامه كونيّة القيم ومستقبل الجنس البشري، ومآله ويفتي فيها فتوا بلا دليل.

لقد حصْحص القول الفلسفي مع هيدغر أنّ العلم لا يفكّر، وليس بمستطاعه التّفكير شاء ذلك أم أبى. وبذلك حسم الأمر فيه بلا رجعة. فالحقيقٌ أنّ العلم يعرف، وتلك مهمّته المنوطة بعهدته، ولكنّه ليس بإمكانه أن يفكّر ولو قيد أنملة ولو رام أن يرقى السّماء بسلّم ما تمكن له ذلك. وحجة ذلك أنّ المعرفة العلميّة موضوعيّة منفصلة انفصلا تاما عن أحكام القيمة، وفي الحال يبدو أنّ التّفكير الفلسفيّ شأن ذاتي يصدر رأسا عن الذات العاقلة الواعية بما تتعقله في وجودها سواء تصوّرا (إدراك بلا حكم) أو تصديقا (المَاصِدق أو المِصْداق) (إدراك مع حكم) عن طريق الاستدلال المباشر (التقابل بين القضايا) أو الغير مباشر (القياس) عند إدراكها للوجود الذي يمرّ في التصوّر المنطقي بست مراتب؛ أوّلها: الإيقان أو “اليقين“[20] وثانيها: “الظنّ“[21] وثالثا: “الشّك“[22] ورابعا: “الوهم“[23] أو التّخمين وخامسا: “الجهل البسيط“[24] وسادسا: “الجهل المركّب“[25]. بمعنى التّفكير فيه وتتحكّم في توجيه بوصلته وفق أحكام القيمة مثل الحريّة والجمال والخير وغيرها من الأحكام. لذلك سيعيد هيدغر رسم خريطة التّفكير الفلسفي على نحو مغاير تمام المغايرة، لما رسمته الميتافيزيقا من أرسطو حتّى كنْط.

وعلى هذا النحو، سينطلق من سجّال علمي بات يقضّ مضجع الفيلسوف، وقد كاد له بأمر فلت من عظمة لسانه: “يجب على النّقاش أن يمنح فرصة للفكر“. فبُهت كلّ من أنكر على الفلسفة التّفكير. فمن بين القُصود الفلسفيّة التي أومأ إليها هيدغر هو ذاك النّقاش الدائر في أواسط حلبة العلماء وإيقانهم بأنّ العلم “دشّن طريقه الملكي” نحو تأسيس “إمبراطورية” من مآربها السيطرة  على الطبيعة والهيمنة المطلقة على العالم وتهليلها للنجاحات التقنية التي يرى فيها هيدغر “وسيلة نافعة لبلوغ الهدف المنشود بأسرع ما يمكن“.

بيد أنّ هذه البطولة الفاوستية للعلم بهرت أنظار النّاس إليها ودفعت إلى تبخيس الفلسفة واعتبارها “عائقا إبستيمولوجيا” أدرجها باشلار في مرحلة الما قبل علمية المسمّاة من لدُنه “المعرفة العاميّة“. وهي تعدّ من العوائق التي ينبغي تجاوزها أو هي بتعبير ألتوسار “فلسفة عفوية” كما ألمع إليها في كتابه “الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية“[26] أو هي بالأحرى “شقشقة لفظية لا جدوى منها” حسب المنطقيين الجدد كارناب وفيتغنشتاين الأوّل بقول الأخير في “رسالة فلسفيّة منطقيّة“: “والمنطق يملأ العالم؛ فحدود العالم هي أيضا حدوده وإن ما لا نستطيع أن نفكر فيه، هو ما لا يمكن أن نفكر فيه، لذا فنحن لا يمكننا أن نقول ما لا يمكن التفكير فيه“[27]. وكذلك من بين خصومه أدورنو وهابرماس المنتميان إلى مدرسة فرانكفورت وهما من أنصار التوفيقية بين المعرفة والمصلحة، والعقل العلمي والعقل الأداتي.

فلا مستراب في القول أنّ هيدغر يهدّم كلّ قول مزعوم يخلط بين المعرفة والتفكير، بين العالم والفيلسوف، بين العلم الذي موضوعه المعرفة العلمية والفلسفة التي مبحثها الأنتولوجيا وسؤالها الأوّل والأخير البحث عن معنى الكينونة، وليس من اهتمامها الكائن. فالفلسفة بما هي “سؤال الأسئلة الحقيقة” يدور رحاه حول الكينونة بما هي كينونة الإنسان الذي اصطلح على تسميته “الدّازين” (Dasein) أي “الكينونة الهناك“، التي لا تكف عن السؤال عن علاقتها بالموجودات، وبما يهم شأن الكينونة في تجليها في الوجود وتفكيرها في مشكلات عصرها التي تؤرق الفيلسوف، مثل مشكلة الموت والحرية والعدم والمصير والتاريخ البشري كإرث لمصادرنا الروحية وكذلك مسألة الحقيقة والجمال والإله وعلاقة الإنسان بكلّ هذه المزاريب التي تصبّ في قاع وجوده. وهو ما لا يستطيع العلم التفكير فيه “أنّ العلم من جهته لا يفكّر وليس بمستطاعه التّفكير“.

لذلك يدعونا هيدغر إلى معاودة النظر في مزاعم العلم وارتباطه الوثيق بالتقنية التي تقف حائلا أمام التفكير وتزيد من تعكير الوضع الإنساني في عموميته بسيطرتها كليا على الوجود الإنسي وتحويله إلى ملهاة قد لا نخرج من بهرجتها وهي لا تهدف لتنوير العقول وإنّما غايتها الربح وجمع المال وتكديس الثروة في جيوب الرأسماليين وأصحاب الشركات ذات الماركات العالمية بعرض إنتاجيات التقنية في كل شبر من أشبار الكرة الأرضية. والسبب الرئيس هاهنا أن هيدغر يضع إصبع الاتهام إلى العلم الذي تحول إلى نشاط تقني ومخابر لاستنساخ الكائنات البشرية بعد استنساخه للحيوانات.

من الآكد أن العلم حين كتب الطبيعة بلغة رياضية قام بالسيطرة عليها وانتهى في آخر جولاته بنجاحاته التقنية إلى تصنيع “القنبلة الذريّة” بتواطؤ مع “فقهاء العلم” بتعبير نيتشه وهذا التواطؤ يعدّ حسب هيدغر “أكبر خطر على البشريّة اليوم“. وكما يلفت هيدغر الانتباه إلى خطورة التقنية عند تطويرها تحت سلطة العلم علم الفيزياء الإحيائية صنع الإنسان ممّا سيفضي إلى خلق بشر هجين لا يمت بصلة إلى الإنسان “بلحمه وعظمه” الإنسان البشري. فعندها فقط سيكون ثمّة نوعان من البشر “أذكياء وحمقى” والغلبة لأقوى ويقول هيدغر في حوار بثته القناة الثانية الألمانية مع رتشارد فيسّر بتاريخ أيلول سنة (1969م): “والخطر الأكبر الذي تمثله التقنية، يخطر على بالي ما يتطوّر اليوم تحت اسم الفيزياء الإحيائية، وهو أنّنا، خلال فترة غير بعيدة، سنكون قادرين على صنع الإنسان، أي، قادرين على تركيبه، في جوهره العضوي نفسه كما نحتاج إليه: رجال ماهرون وغير ماهرين، أذكياء وحمقى. إنّنا سنصل إلى مثل هذا والإمكانيات التقنية أصبحت اليوم جاهزة حتى أنّها كانت موضوع محاضرات العديد من الحاصلين على جائزة نوبل خلال انعقاد اجتماع في لينداو. وقد سبق لي أن تحدّثت عن هذا الموضوع في محاضرة ألقيتها في مسكيرش منذ بضع سنوات“[28].

فليس من نافل القول أنّ نجاح العلم دليل على امتلاكه التفكير وإنّما من آكد القول أنّه “لا يفكر” وتقتضي “مصلحته” أن يؤمن “مسيرته الخاصة والمحدّدة” بما يعني أن العلم لا يهتم بأحكام القيمة الأنتولوجية كالحرية ولا ينظر إلى الوجود إلاّ باعتباره كائنا وجوديا يخضعه لمنطق الظاهرة العلمية وتحويله إلى موضوع معرفة قد تنتهي إلى مشروع تقنوي لا يفرق بين الظواهر التي يدرسها إلا من جهة اختصاصه في ذلك الموضوع ولذلك يتوجب علينا حسب هيدغر نزع صفة الفكر عنه وتجريده من هذه الميزة التي تتميّز بها الفلسفة لوحدها ولها فيها قولا لم يخطر بباله ولا سمع به وليس بإمكانه سماعه وهو “نداء الكينونة الهناك” حينما تبدأ في التفكير وتحمل بداخلها هواجس ومشاكل الإنسانية قاطبة دون تخصيص أو تنصيص، مثل السؤال عمّا يكون به الإنسان إنسانا وليس أن يكون شيئا من بين الأشياء وموضوعا للمعرفة العلمية التفسيرية. فلو كان العلم يفكر حقيقة لما انجرّ إلى صنع قنبلة ذرية تهدّد الجنس البشري وتدخل الرعب في وجوده.

فلماذا يستنسخ العلم الجنس البشري ويجرب نماذجه ويطبّق نظرياته على الإنسان وما الغاية من ذلك؟ أَ هُو أمارة من أمارات الفكر أم هو أمارة من أمارات جهل العلم بما ينتجه وبالتالي عدم تفكيره هو الذي جعله يعتقد لدى البعض مثل الوضعيين أنّ العلم قادر على التنبؤ الحتمي بما سيحدث وما سيقع في هذا الكوكب وأنّه أحكم السيطرة على الطبيعة كما أحكم السيطرة على الفضاء، أي تحكمه في الكون الماكروفيزيائي والكون الميكروفيزيائي ولا شيء سيفلت من قبضته حتى خروج الروح من وكر الجسد. ولكن ذلك لن يحدث وليس إلا ثرثرة وضجيجا سينتهي حينما تبدأ الفلسفة بالتفكير وتحريك السؤال في البحث عمّا لم يستطع العلم الإجابة عنه. فهل بإمكانه حقّا كما يقول هيدغر في موضع آخر أن يجيبنا العلم: ما هي الفيزياء؟ فهو قادر فقط على تعريف الفيزياء التي موضوعها الحركة والزمان والمكان وخارج ذلك لا يستطيع التفكير مثل ما الحركة؟ وما الزمان؟ وما المكان؟.

عندئذ يمكن القول أنّ العلم لا يستطيع الإجابة عن ماهيات الأشياء التي تعرض عليه وهي من مهام الفيلسوف الذي يفكر وليس من شأن العالم الذي يعرف. فبين المعرفة والتفكير بون شاسع لا يمكن ردمه ولا الخلط بينهما. وهما بمثابة خطين متوازيين لا يلتقيان. فالعالم موضوعه المعرفة العلمية التفسيرية والفيلسوف مهمته طرح السؤال والبحث والتأويل والتأمل في الغايات. فالأول محكوم بالوسائل والثاني محكوم بالغايات. ولذلك يجرد هيدغر العلم من صفة الفكر بحقيقة آكدة “أن العلم لا يفكر“.

وقبل أن يسدل السّتار على النّص بهذه المسلمة الفلسفية النقدية للعلم وينهي بها تأويله إذ سيرمي بحجرة فلسفية أخرى “تلك جملة ركيكة“، جملة سيئة بكل المعاني. وهي تنبئ بمفارقة فلسفية تذهب بنا في أغوار المعاني الهيدغرية التي تسعى دائما إلى استحضار التأويل بما هو منهاج الفلسفة وطريقة خصبة في التفكير يميّز الفيلسوف عن الإنسان العادي والمختص بالمعرفة مثل العالم. وتنبني هذه المفارقة على كون العلم لا يفكر وفي نفس الوقت هي عبارة ركيكة أو سيئة ممّا تفضي بنا إلى كون العلم لا يفكر، يفكّرُ به ومعنى ذلك أنّه ليس في مأمن من أمره، فهو يستخدم إيديولوجيا ويوظف في غير مجاله كالتدخل الفيزياء الإحيائية في صنع البشر وتحويل وجهتها إلى مناصرة جنس بشري كالجنس الآري على بقية الأجناس الأخرى وهو ما سعى هتلر إليه أو إخضاع العلم لخدمة الاقتصاد العالمي الذي يزيد من ثراء البورجوازيين الرأسماليين ويزيد من فقر الفقراء بخلق تفاوت اجتماعي.

ومن جهة أخرى كون “العلم لا يفكّر” واعتبارها “جملة ركيكة” (Das ist ein anstößiger Satz) يمكن فهمها على أن العلم لا يفكر وأن من يزعم الذهاب من بعض الفلاسفة الكبار إلى رؤية توفيقية بين الفلسفة والعلم، بين نظام المعرفة وأحكام القيمة، بين قضايا العقل وقضايا الواقع (أستاذه هوسّرل) وبين الإيروس واللوغوس (ماركوز). فهذه ليست إلاّ حلولا متهافتة لا تجدي نفعا ولن يعود منها البصر أو التفكير الفلسفي إلاّ حسيرا. وهي حسب تعبير هيدغر “حلولا حمقى” (pont-aux-ânes) لا يسلم بها إلاّ بعض الحمقى والمغفلين. ولذلك علينا أن نكفّ عن التفكير في المصالحة بين العلم والفلسفة. ولكن المطلوب الفلسفي يقتضي منّا معاودة السؤال من جديد على نحو مغاير: ما الذي نعنيه بالتفكير؟ فمن بين الإجابات الخليقة بنا أن نبدأ في التفكير ونبحث عن الأسباب التي أفضت بنا إلى أزمة العلم وهي تعود أساسا إلى سؤال أعمق يفتح على التساؤل عن وضعية الإنسان المعاصر المأساوية وغياب المعنى وفقدان القيمة وانسداد الأفق أفق انتظارات “المَوْجِد” أو “الكينونة الهُناك” حيث يقول هيدغر في موضع آخر “وحده الإله يمكن أن ينقذنا مرّة أخرى“[29] من قبضة التقنية.

فما الذي نعنيه بذلك؟ أليس ذلك ما يعني أنّ المهمّة الموكولة لن يضطلع بها إلاّ الفيلسوف وهو وحده المسؤول عن صمته عمّا يجري في الواقع وهروبه من صدمة وهول ما آل إليه العلم لمّا بات نشاطا تقنويا يوجه من لدن السياسيين ويوظف توظيفا إيديولوجيا يخدم مصالح الرأسماليين المتحكمين في اقتصاد العالم. فلم يعد أمينا ولا موثوقا منه ومريبا حتى في نجاحاته، ولم يزد الواقع إلاّ تعقيدا ممّا جعل هذا الكوكب الأرض “كوكبا حزينا” بتعبير إدغار مُوران. فعلى الفيلسوف “القفز” (der Sprung) و”التوثّب” (einen Anlauf) ليس تخطيا لزمانه ولا هروبا من قدره، بل ينبغي عليه أن يحسن طرح أسئلته في اتجاه السؤال عن معنى بما به يكون إنسانا مفرطا في إنسانيته ومسترقا السمع لكينونته، وحارسا أو “راعيا على الوجود” ومصوّبا نظره، للآتي الذي لم يأت بعد مستقبل البشرية بين حافة أسئلته، التي لا تنتهي حتى وإن توقف “قالبه الجسمانيّ السِّنخ“. ومن هذه الكوّة نتوقف عند رهانين يفضي بنا أحدهما إلى رهان أنتولوجي فلسفي نقدي يعيد للفكر قيمته الأنتولوجية مبرزا تهافت العقلانية العلمية التي حولت من التقنية إلى عقلانية بطولية تهديمية للقيم والمعاني الإنسانية كالحرية والفكر التي تجعل من الإنسان إنسانا وتستعيض الإنسان بالآلة.

ومن جهة أخرى يراهن هيدغر على ضرورة العودة إلى الفكر وتدبّر معانيه من خلال النّظر في وضعية الإنسان الوجودية من جهة، والبحث عن مبرّرات أزمة العلم وفقدانه للمصداقية العلميّة عند تحويله الوجود الإنسيّ إلى مختبر للتجريب، وليس إثراء وتحسينا له. كما يراهن على تحرير عقولنا من سطوة العقل العلمي وتقديسها له، ومن المواقف التوفيقية بين العلم والفكر، ومن النزعات العدائية للفلسفة وتبخيس قيمتها وجدواها في الوجود الإنساني، والتّقليل من دور الفيلسوف بما هو راع للوجود بلا منازع، وحارس المعنى والحقيقة (الفلسفة الوضعية من أوغيست كونت إلى الوضعيين الجدد كارناب وفيتغنشتاين الأوّل والإبستمولوجيين من باشلار إلى بوبر).

لذلك علينا أننفكّر مع هيدغر ضدّ هيدغر؟ لقد لفت هيدغر انتباهنا إلى مسلّمة نقدية فلسفية أنّ العلم لا يفكر وليس بإمكانه التفكير ألبتة. كما وجه عندئذ أنظارنا إلى حقيقة لا ريب فيها، تتمثّل في أنّ الفيلسوف هو الذي يفكّر وحده في مستقبل البشرية، وهو الوحيد الموكول إليه المسؤولية عن حراسة المعنى والحقيقة، وفي الحال جعل أنظارنا مشرئبة إلى أنّ العلم موضوعه المعرفة، وليس من مشمولاته التفكير في وضعية الإنسان. ولذلك نزع عنه صفة الفكر، وترك له مهامه المعرفية ليس إلاّ.

ومهما يكن من أمر، فإنّ هاته المسلّمة الفلسفيّة النقديّة، المشار إليها “العلم لا يفكّر“. ذلك سيثير حساسية المتفلسفين من بعده وخصوصا الفيلسوف الأنثروبولوجي إدغار موران الذي أعاد النظر فيها بكونها جملة تحتاج إلى مراجعة وتعديل. إذ سيدخل عليها تعديلا طفيفا يغيّر معناها بهذه الطريقة: “إنّ العلم لا يتفكّر في ذاته” (en disant que la science ne se pense pas »). وهذا التعديل يفضي إلى القول بأنّ المعرفة العلمية تلتفت نحو الموضوع، وتتجاهل الذات التي أنتجته، ويعود ذلك بالأساس، لجهل الذات التي لم تستطع رؤية ذاتها في الموضوع، ممّا سيفضى إلى عماء العلم عن آثار نشاطها.

ولذلك علينا تهيئة التربة، لاستنبات “الفكر المركّب” (la pensée complexe)، الذي ينفتح على نجاحات العلم، ويسترّق السّمع إلى ما تقوله الفلسفة. فكلاهما يسعيان إلى صنع “عقاقريّة“* تبرئ سقم البشرية، وتزيد من جرعات المعرفة العلميّة من خلال كشوفاتها وفتوحاتها المعرفية، ممّا سيساعد التساؤل الفلسفي على تمكين الإنسان من التحرّر من كلّ سلطة، تلك التي تريد إحكام القبضة عليه ومحاصرته. وحالتئذ لم تعد ثمّة فواصل بين الفلسفة والعلم. فكلاهما بحاجة ماسّة إلى الآخر. فكما أنّ الفلسفة بحاجة إلى العلم والفنّ والشعر، كذلك العلم والفنّ والشعر بحاجة ماسّة للفلسفة. إذا، فلا توجد فلسفة بدون علم ولا علم بدون فلسفة، كما ذهب إلى ذلك جيل دلُوز في آخر كتابه “ما هي الفلسفة؟”[30]. 

في مقام الخاتمة… أو كيف تحرّر الفلسفة الجنس البشري من “محيط الأوهام” بتعبير سلوتردايك؟

لقد سقط القناع عن العلم، بكونه “لا يفكّر وليس بمستطاعه التّفكير“، وأنّه ليس معيارا يقاس به تطوّر الحضارة الغربية، بل هو متورّطا إلى حدّ النّخاع في انزياح الحداثة عن المهمّة المنوطة من أجلها، وهي نشر الأنوار، ولكنها حداثة استخدمت سلطتها لتتحوّل إلى “عدمية أوروبيّة” بتعبير نيتشه، ممّا جعلت من العلم أداة هدّامة وليس بناءة، ولم تول أهمية للوجود الأصيل، الأثيل بما هو وجود الإنسان كقيمة، وغير قابل للقراءة العلمية ولا هو قابلا للتجريب عليه.

ولذلك، قال هيدغر “أنّ العلم لا يفكّر“، بل وحدها الفلسفة معنية بهواجس التأمل في المعاني، التي تفيض عن الوجود الإنساني، وهي وحدها المنوطة بعهدة راعية الوجود وتلك هي مسؤوليتها. لذلك علينا التفكير مع وضدّ مارتن هيدغر مفكر الغابة السوداء صديق الفلاحين وعاشق الريف. ألم يقل بيتر سلوتردايك في كتابه “نقد العقل الكلبي” أنّ هيدغر الفيلسوف الريفي صديق الفلاحين هو ذلك الفيلسوف “القُونيّ” (Kyniker) الذي يدخر في فلسفته كميّة هائلة من “الهكامة الفلسفية” علينا الاهتداء إليها وكشفها. وحين الوقوف أثناء السير في طريق هيدغر تترائ لنا إشارة لطيفة لا مهرب من الفلسفة” شئنا ذلك أم أبينا حتى في هذا العصر “عصر التفاهل” بتعبير الفيلسوف سليم دولة أو بتعبير آلان دُونو “عصر التّفاهة” أو “عصر الكلبية المعمّمة” بتعبير بيتر سلوتردايك. فـالحقيق أنّه “ثمّة” (Es gibt) دائما في الوجود شيئا ما يدعونا إلى التفكير وما “فوق الأرض” كثيرا بتعبير ميشال فوكو. 


 [1]  -denn so allein.[2] – einen Anlauf.[3] – aus dem her vielleicht.[4] – dem einen oder anderen.[5] – der Sprung.[6] – in das Denken gelingt.[7] – Es ist nämlich wahr, daß das bisher Gesagte.[8] – Der Grund dieses Sachverhaltes.[9] –  die Wissenschaft ihrerseits nicht denkt und nicht denken kann.[10] – Die Wissenschaft denkt nicht. Das ist ein anstößiger Satz.[11] -Martin Heidegger, Was heisst Denken?, Max Niemeyer Verlag Tübingen, 1954, S, 4 :“ Es wird gut sein, wenn wir möglichst lange in solcher Abwehrhaltung zu dem Gesagten ausharren; denn so allein halten wir uns in dem nötigen Abstand für einen Anlauf, aus dem her vielleicht dem einen oder anderen der Sprung in das Denken gelingt. Es ist nämlich wahr, daß das bisher Gesagte und die ganze folgende Erörterung mit Wissenschaft nichts zu tun hat, gerade dann, wenn die Erörterung ein Denken sein dürfte. Der Grund dieses Sachverhaltes liegt darin, daß die Wissenschaft ihrerseits nicht denkt und nicht denken kann und zwar zu ihrem Gluck und das heißt hier zur Sicherung ihres eigenen festgelegten Ganges. Die Wissenschaft denkt nicht. Das ist ein anstößiger Satz.“.

– مارتن هيدغر، ما الذي نعنيه بالتفكير؟، (ترجمة الصادق عبدلي)، ص.4.[12]- مارتن هيدغر، الأنتولوجيا، (تأويلية الحدثية)، نقله من الألمانية إلى العربية الدكتور محمّد محجوب،مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الطبعة الأولى، 2019، ص.22: “الهامش” عن سبب الفرق بين الطاء والتاء: “شاع بين المتفلسفة العرب تعريب عبارة “Ontologie/ Ontology/ Ontologia” برسمها، ورسم تصاريفها المختلفة، بحرف الطاء؛ أي “أنطولوجيا“. والصواب في تصريف الحروف الأعجمية على ما أثبته مجمع اللغة العربية في القاهرة في قراراته للمرحلة الثانية، وعلى ما أقرته معاجم أخرى عديدة، هو رسمها بالتاء، إذ لا موجب من حيث النطق لأن تكون الطاء مقابلا لحرف (T/ t) اللهم مجرد إتباع ما جرى عليه القدماء دون قاعدة.”. را: ص.73: “الأنتولوجيا (تأويلات الحدثية) [1] مدخل.”[13]- عبارة “الموْجِدُ” من اشتقاق الفيلسوف محمّد محجوب رافعة كلّ لبس عن عبارة “الدّازين” (Dasein) لهيدغر التي أرهقت المترجمين وأقضت مضجعهم. را: محمّد محجوب، هيدغر ومشكل الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر- تونس، الطبعة الثانية، 1996، ص.80.[14]-Martin Heidegger,Was heisst Denken?O, S,4.[15] – Der Grund dieses Sachverhaltes.[16] –  die Wissenschaft ihrerseits nicht denkt und nicht denken kann.[17] – Die Wissenschaft denkt nicht. Das ist ein anstößiger Satz.

* “ثرثرة فوق النيل” قصة للأديب نجيب محفوظ ظاهرها سرد للأحداث وباطنها فلسفة. نستأنس بعنوانها.[18] -Martin HeideggerEssais et conférences, éditions, Gallimard, 1958, p.157.[19] – طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة،الجزء الثّاني، القول الفلسفي؛ كتاب المفهوم والتأثيل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثّانية، 2005، ص.289: “الفصل الخامس: الفلسفة والتأثيل: “هيدغر” نموذجا“.[20]- د. نايف بن نهار، مقدمة في علم المنطق، مؤسسة الدراسات والأبحاث-قطر، الطبعة الثانية، 2016، ص.16: “اليقين: “هو إدراك الأمر على ما هو عليه إدراكا جازما”، أي دون أن تكون هناك إمكانية لاحتمال آخر.”[21]- المرجع نفسه، ص.16: “الظنّ: “هو الاحتمال الراجح، أي أن يكون أكثر من احتمال. نرجح أنّه صواب والآخر خطأ. فإن كان اليقين لا يحتمل الخطأ، فإنّ الظنّ يحتمله.”[22]-المرجع نفسه، ص.17: “الشكّ: “هو تبني الحياد حول مسألة ما لعدم وجود مرجح. فلا تنفيها ولا تثبتها. ولا تؤمن بصحتها ولا بخوائها. (…) الشكّ هو عدم الترجيح بين أمرين لا يمكن تجويز أحدهما على الآخر.”[23]-المرجع نفسه، ص.18: “الوهم: “هو الاحتمال المرجوح. فالوهم عكس الظنّ تماما. فإذا كان الظنّ هو احتمال الراجح، فالوهم هو احتمال المرجوح.”[24]-المرجع نفسه، ص.18: “الجهل البسيط: “هو ألا يكون لديك تصوّر أو حكم عن شيء ما.”[25]- المرجع نفسه، ص.19: “الجهل المركّب: “هو إدراك الشيء على خلاف ما هو عليه إدراكا جازما.”[26]-لويس ألتوسر، الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية، تعريب رضا الزواري مع مقدمة لفلسفة المؤلف، الطبعة الأولى، دار البراق للنشر- تونس، 1974، ص.68.[27]- لودفيج فيتجنشتين، رسالة فلسفية منطقية، ترجمة دكتور رمزي إسلام ومراجعة وتقديم دكتور زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة، 1968، الشذرة.5.61، ص.71.[28]- مارتن هيدغر يوضح نفسه، حوار هيدغر مع ريتشارد فيسّر، ترجمة فريق الترجمة والمراجعة في مركز الإنماء القومي، عن مجلة العرب والفكر العالمي: مارتن هيدغر: نصوص نسيان الكينونة، مركز الإنماء القومي، العدد الرابع، خريف 1988، صص.90-94.[29]-Bernard SichèreSeul un Dieu peut encore nous sauver, Desclée de Brouwer, Paris, 2002.

 *عبارة من نحت يراع الفيلسوف محمّد محجوب. را: محمّد محجوب،  هيدغر ومشكل الميتافيزيقا، مرجع سابق، ص.52.[30]-Gilles Deleuze, Qu’estce que la philosophie ?, éditions de Minuit, 1991, pp.205-206: « La philosophie a besoin d’une non-philosophie qui la comprend, elle a besoin d’une compréhension non-philosophie, comme l’art a besoin de non-art, et la science de non-science. »

الدكتور الصادق عبدلي باحث من تونس متحصل على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات