المقالاتفكر وفلسفة

نَسَقِيَّة التَّفْكِيرِ الأصُولِيِّ.. فِي نَقْدِ المَرْجِعِيَّات

كأن بعض التيارات المنتسبة اسماً إلى الاتّجاه السلفي السياسي لم تستفق بعد من حزمة الصراع الفكري بين اليمين واليسار، ولم تدرك أنّ السفينة اجتازت البحر حتى استقرَّت على الشاطئ الآخر، إلا أنهم لم يفطنوا أن للبحر شاطئين مختلفين وهذا التنوُّع هو الذي أكسب الحياة خاصيَّة التدافع والعمل ومن ثم النجاح والتمايز فيه. لكن هناك حملات موجَّهة دائماً تستهدف إخماد حركة الذهن، وهذا ما تفعله بعض الصحف ذات الصبغات الدينيَّة التي نجحت في مزج الدين بالسياسة مزجاً لطيفاً لدرجة أنك لن تستطيع التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي، لذا لن تجد حرجاً في ادِّعاء أن المواطن أصابه لغط سياسي، توازى معه على الشاطئ الآخر لغط ديني.

الغريب أنَّ هؤلاء الذين يمجِّدون الماضي ويرفضون رفضاً قطعيّا الحداثة بوصفها فكراً غربيا وافداً هم أنفسهم حداثيون، فالسلفيَّة نفسها حركة تجديديَّة وتحديثيَّة، حيث التجديد والبعث بالعودة إلى الماضي، وهو ما يعرف أيديولوجياً بالحداثة المعكوسة، كما أن الذين ينادون بالسلفيَّة ورفض ما دونها من تيارات فكريَّة أخرى هم أنفسهم معاصرون وحداثيون؛ من حيث إنهم يقيمون حواراً مستمرّاً بين النصّ والحياة الواقعيَّة، لذا ترى من بين السلفيَّة تيارات عدَّة تتنوَّع وتتعدَّد مسمياتها مثل البعث، والإصلاح، والنهضة، واليقظة، والصحوة.

بعبارة أدق أن الذين يصرون على مهاجمة الدعوات والصيحات التجديديَّة مكتفين بالاقتداء للسلف حسب فهمهم للنص الديني، هم أنفسهم  دعوة متجدِّدة دائماً وهي ملائمة لعصرنا ولكل عصر؛ لأنها تربط المؤمنين بالينابيع الصافيَّة، وغير قاصرة على عهد بعينة، فالمشكلة لديهم هي صعوبة التعامل مع العقيدة بشكلها الخام، رغم أن العقيدة ذاتها تفسّر وتوجِّه التغيير.

وفي صراع تلك التيارات مع الأيديولوجيات المتباينة التي يمكن توصيفها بالأيديولوجيات المدنيَّة تكمن مشكلة تحقيق التكيف والتوافق، فالسلفيَّة تسعى جاهدة لتكريس ثقافة الجذور بالسلف وهي مع ذلك تجد نفسها في مأزق جلي وهو محاولة الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً، فتضطر إلى أن تقتفي سياسة الانتقاء الإرادي بين المعطيات والمتغيّرات الجديدة، مثل إمكانيَّة التكيُّف مع التكنولوجيا، مع إبعاد واستبعاد أنماط السلوك والتفكير الذي يصاحبها.

هذا الاستبعاد يجعلنا نبحث عن أسئلة تتعلَّق بموقف التيارات الدينيَّة من الحراك السياسي الذي لا يكون لها دورٌ مباشر فيها مثل العصيان المدني مثلاً، هذا العصيان الذي جاء بدون شق عصا الطاعة لأن الشعب منذ الخامس والعشرين من يناير لم يعرف أمر السمع والطاعة في المنشط والمكره سوى مرتين، الأولى حينما سيق الشعب نحو صناديق الاستفتاء على تعديل بعض مواد الدستور الذي كان في عهد حكم الجماعة التي تاهت وضل سعيها ومقصدها أمام مواجهة الغضبة الشعبيَّة التي أودت في النهاية بعزل الرئيس مرسي وبوضع نهاية تاريخيَّة وحتميَّة للجماعة وتاريخها السري، وبين هوس الميدان المحموم نحو الاعتصامات وحالات الكرّ والفرّ التي لم يجد لها مجلس المرجعيَّة الدينيَّة مخرجاً للقضاء عليها.

والمرَّة الثانيَّة حينما استعدت التيارات الدينيَّة لمعركة الصناديق في انتخابات مجلس الشعب قبل تغيير اسمه إلى مجلس النواب المصري، والتي ذهب المواطنون إليها وهم يمنحون هذه التيارات التي باتت حبيسة المشاركة في المشهد السياسي طوال عقود ثلاثة، فأعطوهم أصواتهم لاعتبارات متباينة لا تخفى عن الرائي والناظر لهذا المشهد السياسي، فمنهم من كان يتشفَّى في سقوط الحزب الوطني المنحل وكأنه يريد إعطاءه درساً أخيراً في إرادة الشعب غير المزيفة، ومنهم من جنَّد نفسه لحرب الليبراليين الذين هم من وجهة نظرهم خارجين مارقين على تعاليم الشريعة الإسلاميَّة، ويكفيهم في ذلك أن لفظة ليبراليَّة منحوتة من كلمة أجنبيَّة أتت إليهم من بلاد الشرك والضلال.

ومنهم من استطاع أن يقنع نفسه بأنه في جهاد ضدّ أقباط مصر، وما الانتخابات سوى معركة تظهر قوّته أمام ضعف التواجد القبطي في الحراك السياسي في مصر، بخلاف الحشود الموجَّهة أيديولوجياً لمصلحة التيارات الدينيَّة نفسها.

الغريب أنَّ هؤلاء الذين يمجِّدون الماضي ويرفضون رفضاً قطعيّا الحداثة بوصفها فكراً غربيا وافداً هم أنفسهم حداثيون، فالسلفيَّة نفسها حركة تجديديَّة وتحديثيَّة، حيث التجديد والبعث بالعودة إلى الماضي، وهو ما يعرف أيديولوجياً بالحداثة المعكوسة.

ولا يستطيع جاحد أو منكر وقتئذ أي وقت السطوة الإخوانيَّة التي سيطرت على مفاصل الدولة الاعتراف بقدرة التيارات الدينيَّة على الإفادة من المقدرات التاريخيَّة التي ورثوها عبر سنوات كفاحهم ضدّ الأنظمة الحاكمة، فاستفادوا جد استفادة من عهود القمع والمعاناة والاضطهاد حسب وصفهم وتوصيف قياداتهم ومرشديهم التي مكثوا من خلالها في ظلّ الأحداث السياسيَّة اللهم سوى بعض العمليات المسلَّحة في تسعينيات القرن الماضي.

كما أنهم تمكَّنوا في زمن قصير وسط زمرة الاستعداد للانتخابات الإفادة من الروابط التقليديَّة للأسرة المصريَّة الغائبة عن المشهد السياسي منذ عقود، وهذه الروابط هي التي مكّنتهم من القدرة على تحشيد وتجييش النفوس والمشاعر، وأخيرا الأصوات في معركة انتخابيَّة بمقاييس ما يحدث في بر مصر الآن من فوضى في هذه الفترة الحزينة من تاريخ مصر، أظن أنها معركة خاسرة كشفت عن مدى عجز تلك التيارات في احتواء أزمة الميدان وبلطجة المشجعين ومؤامرات الفلول.

وأخيراً جاءت دعاوى العصيان المدني تكشف عن وجه جديد لبعض التيارات ذات الصبغة الدينيَّة، فهناك حركات ائتلافيَّة ومنظمات مجتمعيَّة وحركات جامعيَّة أعلنت أنها ستقيم إضراباً مدنياً سلمياً في ذكرى التنحي، مستهدفة في ذلك التعجيل بتسليم السلطة لحكومة مدنيَّة، ولا يهم من يتسلمها باعتبار أن مصر في ظن هؤلاء الداعين للعصيان مجرد قرية صغيرة يديرها شيخ البلد في ظل غياب العمدة الذي بالضرورة كان أحد أنصار الحزب الوطني المنحل. وكذلك التعجيل بحسم في محاكمة رموز النظام البائد بصورة جازمة وحاسمة لا تقبل التشكيك في نزاهة القضاء المصري.

ورغم أن هذا العصيان باء بالفشل نتيجة مواجهة طيبة القصد ومثمرة التوجّه من بعض رجال المؤسَّسة الدينيَّة الرسميَّة كشيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ومفتي الديار المصريَّة الدكتور المستنير آنذاك الدكتور علي جمعة، وكذلك جهود بعض المرشحين المحتملين لرئاسة الجمهوريَّة الذين لم يتأهّبوا لتسلّم البلاد ولم يحسموا موقفهم السياسي بعد تجاه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بل كانوا أشبه بممثلي الأدوار الثانية في الأفلام التجاريَّة أيضا ولم نكن نعرف بعضا من تاريخهم السياسي أو المجتمعي. وكذلك بعض الجهود الذاتيَّة التي قام بها بعض رجال الدين في توجيه انتباه المصريين (المسلمين فقط) بأننا نركب سفينة واحدة إذا غرقت غرقنا جميعاً على حد وصفه.

إلا أن التيارات الدينيَّة الضاربة انتشاراً في طول وعرض مصر اكتفت بالإعلان عن عدم مشاركتها في هذا العصيان المدني والإضراب العام عن العمل، مجرد الإعلان بعدم المشاركة، رغم أن قوى سياسيَّة كثيرة في مصر وصفت عدم مشاركة هذه التيارات في العصيان بأن هذا دليل على ضعف الهويَّة الوطنيَّة، وأنهم بذلك يعمدون إلى تفكيك القوى والتيارات السياسيَّة، معلنين بذلك إلى ولائهم الضيِّق لجماعة معينة دون غيرها، وغير ذلك من الاتهامات الكثيرة التي وجهت إلى هذه التيارات.

والغريب أن هذه التيارات كان ينبغي عليها أن تعترف أولاً بفضل الديموقراطيَّة التي سنحت لهم في الوصول إلى اعتلاء المشهد السياسي، إلا أن الثقافة الدينيَّة لديهم لا تسمح بالتحوّل الديموقراطي المغاير، فكان من الأحرى أن يرصدوا حركة هذا العصيان وإقامة منتديات حواريَّة مثل التي يقيمونها لتعرف وجهة نظر الداعين لهذا العصيان، لكن لأن هذا الإضراب لم يدخل في أجنداتهم السياسيَّة لم يهتموا بهذا.

ناهيك على أن التيارات الدينيَّة وجدت في دحض هذا العصيان المدني فرصة طيبة في اندماج الأيديولوجيات الدينيَّة في منظومة السلطة، بخلاف المواطن ذي الهويَّة المصريَّة الذي قرَّر عدم انصياعه لهذا العصيان من باب أن بلاده تأمل فيه خيراً، وأن أيامنا تلك هي مفرق طرق نأمل الوصول من خلالها إلى برِّ الأمان، وهو في ذلك غير طامح لمقعد برلماني أو لمجلس استشاري يضمن عضويته.

بيد أن معظم التيارات الدينيَّة التي نجحت في دحض فكرة العصيان المدني علقت هذا العصيان على شماعة التوجهات العلمانيَّة الغربيَّة، والدعاوى الليبراليَّة الداخليَّة والتي تقودها بعض الحركات الشبابيَّة ومجموعة من الائتلافات الثوريَّة التي صنعت الثورة ولم تقفز عليها مثلما صنعت بعض هذه التيارات الدينيَّة. ومشكلة التيارات السلفيَّة أنها قليلة الثقة بالإنسان، مفترضة بأن الإنسان بالضرورة يتجه إلى الأسوأ، حتى ولو كان تغييراً، وهذا ما يفسر تأخر القوى السياسيَّة ذات الصبغة الدينيَّة في الانخراط الثوري المباشر في بدايات انتفاضة الخامس والعشرين من يناير، وكثيراً ما أسمع حتى لحظة الكتابة من بعض رجال الأزهر الذين تربطني بهم صداقات عميقة أن ما حدث في مصر من ثورة هو خروج على الحاكم.

إذن لابد وأن نقر حقيقة واقعيَّة ونحن نرصد حالة العصيان المدني التي شهدتها مصر في الفترة التي تلت أحداث انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011، وهي أن عدم استجابة التيارات الدينيَّة لمثل هذه الدعوة ترجع إلى سببين، الأول هو أن المشاهد السياسيَّة تكاد تكون شبه مستقرَّة في صالح التيارات الإسلاميَّة من إخوان وسلفيَّة وتيارات دينيَّة مشتقة من عباءتهما، والثاني هو طبيعة السلفيَّة ذاتها، حيث إنها فلسفة سياسيَّة انقياديَّة محافظة تتمسك بالانقياد والانصياع والطاعة للواقع التاريخي وتنفر بطبيعتها من الخروج والثورة.

وهذا النجاح الملموس والملحوظ الذي حقَّقته التيارات الدينيَّة الصاعدة في قمع حالة العصيان المدني في مهدها كان نتيجة طبيعيَّة لمحاولتها التاريخيَّة في الاحتفاظ بالثبات والحركة سوياً، إلا أنها اكتفت في هذه المرحلة بتعليق الحديث عن جدوى العصيان ومجرد البوح بعدم المشاركة فيه، أي أنها طبقت بامتياز نظريَّة الانتقاء الإرادي، وهي انتقاء حالة الريادة السياسيَّة التي حققتها منذ اعتلاء معركة الصناديق الزجاجيَّة، ومن ثم فإن أيَّة محاولة أخرى غير محسوبة قد تفقدهم هذا الرصيد الكبير الذي تم تحقيقه.

ولأن للتيارات الدينيَّة المتشدِّدة حيناً والوسطيَّة أحياناً متباعدة، استطاعوا أن يدركوا بوناً كبيراً بينهم وبين الشارع الذي كان يطالبه ليل نهار بالبرامج الانتخابيَّة التي من أجلها ذهب وانتخبهم، أدركوا على الفور أنه يجب توجيه هذا الشارع مرة أخرى قبيل انتخابات الرئاسة مستندين في ذلك على المواطن المصري نفسه الذي قد يعاني بصورة مؤقَّتة من فقدان الذاكرة التدريجي، فسينسى مطالبه ويؤجِّل تحقيق مطامحه الشخصيَّة والاجتماعيَّة متعلقاً بأمل مفاده أن المرشح الافتراضي ذا المرجعيَّة الدينيَّة سينجح في تحقيق ما فشل فيه النواب. وأظن أن التيارات الدينيَّة وقتها ستنجح في استخدام النص الديني لمسوغ وحيد لاستمراها، لأنه هو الذي يمنح وجودها الشرعيَّة والحضور.

وعجيب ما رصدته بحضور كثيف وطاغٍ في الخطاب الديني المعاصر، فهناك نبرة استعلائيَّة غريبة، رغم أن الخطاب الديني هو رسالة وقيمة في الأساس، ولكن ما سمعته وقرأته من كتابات تنتمي لفكر الجماعة والتيار الأصولي بوجه عام، أكد لدى حقيقة هي أن الخطاب الديني الذي بات تائهاً بين التجديد والتطوير والتعديل يسعى إلى تأسيس درجات متعدِّدة من القمعيَّة والسلطويَّة، فصاحب الخطاب والنص لايزال يضفي على نفسه صفة القاضي والمشرِّع والمفتي وصاحب الأمر والنهي والقمع على المتلقّي البسيط حتى يحوِّل خطابه الديني إلى سلطة قمعيَّة.

الخطاب الديني الذي بات تائهاً بين التجديد والتطوير والتعديل يسعى إلى تأسيس درجات متعدِّدة من القمعيَّة والسلطويَّة، فصاحب الخطاب والنص لايزال يضفي على نفسه صفة القاضي والمشرِّع والمفتي وصاحب الأمر والنهي والقمع على المتلقّي البسيط حتى يحوِّل خطابه الديني إلى سلطة قمعيَّة.

ووسط عشرات القنوات الفضائيَّة الفراغيَّة وعشرات الكتب التي من المفترض أنها دينيَّة تجد معظمها تحمل عقاباً أكثر مما تحمل حلولاً وعلاجات لمشكلات عصرنا المضطرب، ومن المدهش أن سمة العقاب هذه لها كيمياء وحالة من الرضا بنفس وقلب وعقل المستمع والقارئ، فهو لا يريد أن يرهق نفسه بالتفكير والتأويل والتحليل لما يطالعه أو يسمعه من معلومات دينيَّة، لذا فالمستمع ذو الآذان الكبيرة ليس بحاجة ماسة إلى بدائل يختار من بينها أكثر مما هو بحاجة إلى وجود قوة بشريَّة رادعة له.

ولا شك أن هذه فرصة سانحة وخصبة لأباطرة الخطاب الديني المعاصر، لاسيما أولئك الذين يهوون إعمال النقل وإبطال العقل، وما أكثرهم، ولعلي أدرك صعوبة مهمة المؤسسة الدينيَّة الإسلاميَّة ورئيسها المستنير فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في مواجهة أولئك الدعاة الذين يصرّون على إغلاق أبواب الاجتهاد، بل يقرّون أنه لا قيمة لأي جديد يأتي.

وتبقى نقطة مثيرة جداً في الخطاب الديني المعاصر لدى الأصوليين الجدد الذي يجد كيمياء خاصَّة لدى مريديه، ألا وهي الحضور الأنثوي في هذا الخطاب. وهو غياب أكثر من الحضور، فلا يزال الخطاب الديني المعاصر يرى في المرأة مصدراً للغواية والفتنة، بل يذهب بعيداً بنصوصه إلى اعتبارها ظناً سيئاً على طول الطريق، ودعاة وأئمة الخطاب الديني الذي بحاجة ضروريَّة للتطوير يمارسون هيمنتهم الذكوريَّة وتحجيم دور المرأة في إثارة الغرائز والشهوات والشرور جميعها.

وجميع ما سبق من سمات وخصائص تميز الخطاب الديني المعاصر تجد لها وقعاً هادئاً وموسيقياً لدى مريديه وأنصاره، فهم يذهبون إليه بإرادتهم، ولا يكلّفون أنفسهم عبء البحث والتنقيب عن مصادر أخرى لمعرفتهم الدينيَّة، بل أصبحوا يسلمون بالتقليد والنهي عن النظر والمناقشة والجدل، ويخلطون بين الأصلي والفرعي من النصوص الدينيَّة.

إن الخطاب الديني بحاجة إلى عمليَّة تثوير جذريَّة، وكلما قرأت الآيَّة القرآنيَّة التي تقول (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أدركت على الفور أننا أمامنا طريق طويل جداً لتغيير النبرة الاستعلائيَّة للخطاب الديني، وأن قبول المناقشة وتقدير التنوع الثقافي دون استعلاء أو استكبار لهو أمر جلل بلا ريب.

وأن خطاباً مثل هذا لا يحمل سمة التسامح وتقدير التنوع الثقافي والفكري دون قمع أو قهر لا يؤدي يوماً ما إلى بناء أو نهضة، بل سيسفر عن أجساد تمشي على الأرض لا هدف لها في الحياة أو منها. فكيف تنهض هذه الأمة ولا يزال بعض الدعاة والأئمة يدغدغون مشاعرنا وأعصابنا بقصص تاريخيَّة عن الصراع الإسلامي الصليبي، وأنه لا فائدة ترتجى من الحوار مع الآخر الوطني بصفة خاصة، أو مع الآخر الغربي بصفة عامة.

وأمر محزن حقاً أن تجد شباباً كثيراً ينتمي للمرحلة الجامعة من البنين والبنات مازال يعيش في فلك الحرب الخفيَّة والمؤامرة المخططة التي تفرض عليه من الآخر الذي يعيش على الشاطئ الغربي، فمن المؤسف أن يرى جيل كامل سيحمل نهضة هذه الأمَّة في الغرب كل مفسدة، نعم للغرب عاداته وتقاليده وأعرافه ونصوصه الدينيَّة التي تخضع للتأويل والنقد، ولنا أيضاً عقول ألزمنا الله بإعمالها، يقول تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ).

إن بداخل هؤلاء الشباب عفريت يقبع، يخوفه من كل شيء، من الحروب الصليبيَّة التي تنتظر على أسوار المدينة، ومن النقاب الذي لو نزع سقط الإسلام وانهار المسلمون ودينهم، وفي المسيحي الذي يتقاسم معه نصف الرغيف ونصف السيجارة عدو سيجهز عليه في أقرب فرصة. وأن إسرائيل التي هي دولة وكيان سيقضى على شرها وفتنتها بالدعاء والتلبيَة وربما بالنيَّة. فبالله عليكم كيف سيطور هؤلاء أنفسهم، وكيف سينافسون نموراً أسيويَّة مثل اليابان وماليزيا، وإلى متى سيسلمون عقولهم لأناس آخرين يحملون عنهم حق التفكير.

ولولا علمي ويقيني بأن هناك مئات المسلمين ـ وربما بالآلاف ـ لما كتبت هذه السطور التي أقصدها لوجه الله تعالى والوطن الذي أحلم به مزدهراً ويافعاً ونافعاً. وكل ما أرجوه وأتمناه من مريدي وأنصار الخطاب الديني المعاصر والذين يجدوا فيه كيمياء خاصة تدغدغ أعصابهم فيستريحون، أن يفتشوا يوماً ما عن شيء جميل وصغير ومدهش بداخلهم اسمه العقل، وليت شيوخهم يعلمونهم أن التفكير فريضة إسلاميَّة كما أشار أستاذنا عباس العقاد منذ قرن من الزمان.

ولكي يتحقَّق ما نصبو إليه من خير ونفع للخطاب الديني، ولكي يجد له نوعاً من الكيمياء الخاصة لدى مريديه وأنصاره لابد وأن يتخلَّى سريعاً عن تلك النبرات والنعرات الاستعلائيَّة الفوقيَّة، وأن يتسم بالتسامح، عفواً لا أن يشير إلى مواقف المحبة والمودة بين المسلمين والأقباط فحسب، بل ما آمل إليه وغيري هو تثوير التسامح حتى ينتقل من حيز الحروف المطبوعة والكلمات المنطوقة إلى حد التمكين والمعايشة. وهذا لا شك سيحتاج جهداً مستمراً من المؤسسات الدينيَّة المعنيَّة بالأمر، بالتعاون من المؤسَّسات التي كان لها دور في زماننا المنقضي، أقصد المدرسة والجامعة والنادي.

أما بالنسبة للحضور الأنثوي في الخطاب الديني المعاصر، الذي أصبح قريب الصلة بالغياب أكثر من حضوره، والاهتمام بالآخر المختلف والمتنوع عقدياً وفكرياً وثقافياً، فلابد من مراجعة دقيقة وجادة لكل ما صيغ في الماضي، وكل ما أدى إلى هذه القطيعة والنفور بين الحضور الأنثوي الذي لايزال الخطاب الديني يؤكد كل يوم وليلة على أن المرأة مصدر الغواية والشور السحيقة، بالإضافة إلى نظرة هذا الخطاب للآخر بوصفه ضيفاً على الوطن أو في زيارة سريعة لهذه الأرض الطيبة وسيغادرها يوماً ما.

إن لم نلتق ونتواصل معاً انتهينا وانقطعت أواصلنا، وإن لم تنته نظرتنا الاستعلائيَّة للآخر سنقضي على أنفسنا أولاً، إن هذه القمعيَّة كامنة فينا نحن فقط، والنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات