المقالاتفكر وفلسفة

نظريّات التغيير في الفكر الإسلامي وعصر الشبكات

” مدارس الإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر” كانت متعدِّدة كما هو معروف، لكن ارتبطت كل مدرسة من هذه المدارس بحقبة تاريخيَّة وبتحدّيات خاصَّة. وقد ركَّزت في أطروحتي للدكتوراه، في البداية، على ما سمّى المسألة الثقافيَّة بروافدها المتعدّدة والمتنوّعة، وفي مقدّمتها مدرسة الإصلاح الديني أو ما يطلق عليها البعض التنوير، وقد كان من أبرز روادها وشيخها الرئيس هو الإمام محمد عبده الذي تحدّث عن أهمّيّة وأولويَّة الإصلاح الديني على الإصلاح السياسي، ومن بين الرموز الذين تناولتهم من بين تلك المدارس مالك بن نبي الذي تحدّث عن سنن التغيير المعروفة، كذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي تناول الأزمة الفكريَّة واعتبرها جوهر المشكلة.

المقولات الرئيسيَّة كانت لمدرسة الإصلاح الديني، والتي سأمر عليها هنا سريعا لأصل إلى الفكرة التي تحدّثت عنها، أنّ الإصلاح الديني كانت مقولته الأساسيّة هي أن أزمة أو مشكلة التخلّف سببها الرئيسي هو الجمود، وبالتالي كان هناك تأثّر كبير وواضح بحركة الإصلاح الديني البروتستانيَّة في أوروبا، ارتبطت فيها ثانويَّة المسالة السياسيَّة، باعتبار الإصلاح السياسي مسألة ثانويَّة وليس مسألة جوهريَّة بالنسبة لمحمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا الذي تنقّل بين أكثر من مرحلة، لكن كان محمد عبده يتساءل في مرحلةٍ من المراحل: هل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله، عادلا في قومه، يتمكن من العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة، ما لا يصنعه العقل وحده في خمسة عشر قرنا؟

الإصلاح الديني كان بالنسبة لمحمد عبده، مرتبطا بفرضيّات رئيسيَّة، أولا تأثير الدين العميق في البنى النفسيَّة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وأن تحرير العقل من الجمود والتقليد هو مقدّمة التغيير كما حدث في أوروبا. وأن شروط الثورة العلميَّة والصناعيَّة مرتبطة بالإصلاح الديني. البعض أطلق على هذه المدرسة اسم المدرسة التوفيقيَّة مثل محمد جابر الأنصاري، وأطلق عليها محمد عمارة اسم السلفيَّة العقلانيَّة، وقد كانت تهدف إلى الإعلاء من شأن العقل وتنادي بالاهتمام في التربية والتعليم بصورة رئيسيَّة. محمد عبده أيضا يتعجّب ويقول: إني لأعجب لجعل نبهاء المسلمين وصحفهم همهم في السياسة وإهمالهم التربية.

محمد عبده تحدّث عن الصفوة المستنيرة، رشيد رضا استخدم مصطلح أصحاب العقول الكبيرة، وكانت الفكرة الرئيسيّة التي انتقلوا منها أو التي أسّسوا عليها إنّ قوّة الأمَّة والمجتمع هي محصّلة قوّة الأفراد، أي عندما تتمكّن من بناء الفرد القوي تستطيع أن تنتقل منه إلى الأمَّة القويَّة.

كانت هناك فلسفة ثاوية وراء الاهتمام بالإصلاح الديني، إذ لم يكن منعزلا عن الموضوع السياسي، لكنه كان مقدّمة للعمل أو للموضوع السياس، لأنّه بالنسبة لهم كانت الطبقتان الوسطى والدنيا هما مناط الإصلاح الديني؛ بمعنى أنَّ الإصلاح الديني يؤدّي إلى ثورة صناعيَّة وعلميَّة، الثورة الصناعيَّة والعلميَّة تؤدِّي إلى حراك اجتماعي، والحراك الاجتماعي يؤدّي على مواجهة السلطة المستبدَّة من خلال مجتمعات استطاعت أن تتحرَّر عقليّا وفكريّا وصناعيّا وعلميّا.

هذه الفترة، وهي النصف الأول من القرن العشرين، بدأت تتراجع منذ حدثت تحوّلات كبيرة منها إعلان انتهاء الخلافة، محمد سيد رضا نفسه الذي كان مع محمد عبده، كان هو شيخ الإمام حسن البنا، وكان له دور كبير جدا في الرد على كتاب عبد الرازق. المهم وصلنا إلى مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين التي بدأت تصعد فيها بشكلٍ رئيسي الحركات الإحيائية والحركيَّة في الفكر الإسلامي. على هامش هذه المدارس القويَّة كانت هناك مقاربات أنا مثل مقاربة خير الدين التونسي المعروفة وقد أطلقت عليها اسم الإصلاح الدستوري والمؤسّسي. لم تستمرّ هذه المقاربة وهذا أيضا موضوع نقاش مهم وكان مطروحا في الكتاب.

كان هناك موقف وما يزال موجودا لمدرسة تيّار الفكر الإسلامي الذي لا يرى أي أهمّيّة في الإصلاح السياسي الداخلي إلا في ضوء أهمّيَّة أو أولويَّة العامل الخارجي وضرورة مواجهة المشروع الصهيوني الإسرائيلي والاستراتيجيّات الدوليَّة الكبرى، وبالتالي يسخِّف أو يقلِّل من شأن التنمية الاقتصاديَّة والإصلاح السياسي، وقد ركّزت في هذا الجانب على الأستاذ منير شفيق ومقولاته وعلى اعتباره الدولة القُطريَّة هي أساس البلاء.

في مرحلة لاحقة مع استقلال الدولة العربيَّة ومع بروز نظم سياسيَّة جديدة، ومع الدخول في صدام ما بين التيّارات الإسلاميَّة انتقلنا مما نطلق عليه الصفوة المستنيرة إلى الطليعة المقاتلة مع سيد قطب.

انتقل الخطاب الإسلامي من التركيز على الناس الذين يقومون بمواجهة الجمود والتقليد إلى الطليعة المقاتلة التي تقاتل الطاغوت والتي تقيم الدولة الإسلاميَّة، والأدبيّات التي سادت في هذه المرحلة خوّنت بدرجةٍ ما مدرسة الإصلاح الديني، وهناك العديد من الكتب التي تمّ الترويج لها والتي ترى في مدرسة الإصلاح الديني بأنها مهادنة للاستعمار والاستبداد بنوع ما، حتى نهاية القرن العشرين، المدرسة الإحيائيَّة الحركيَّة بكل تفاصيلها الإخوانيَّة ومن ثمّ السلفيَّة بتفاصيلها المختلفة المتعدّدة كلها قامت على مقولات إنَّ الإسلام ليس بحاجةٍ إلى تجديد بالمعنى الذي دعت إليه مدرسة الإصلاح الديني، وإنما بحاجة إلى تنقية وتحريك، وبحاجة إلى تجنيد وتعبئة، فتغلّب الجانب الحركي بشكلٍ كبير على الجانب العقلي في عمليَّة التجديد الديني؛ لأنَّ الظروف السياسيَّة والتاريخيَّة اختلفت مع ظروف الدولة القُطريَّة والحرب الباردة… إلخ، وتغلّب الجانب السياسي على الجانب المعرفي وبصورةٍ كبيرة تراجعت المسألة الثقافيَّة. وقد وجدنا حتى في تلك الفترة وداخل هذه الحركات الإسلاميَّة ما يسمّى بالتيّار الإصلاحي أو المحافظ، لكن كله كان يقع ضمن الدائرة نفسها؛ المقاربة البراغماتيَّة، المقاربة الراديكاليَّة، إلخ، كلها كانت تقع ضمن دائرة الإسلام الإحيائي.

النقطة الثالثة والأخيرة في الموضوع، هي ما أسميتها عصر الشبكات؛ هذه المدارس التي سادت حتى المدرسة الإحيائيَّة، أعتقد أنها اليوم مع الربيع العربي، والأنظمة العربيَّة بدأت مع بداية العام 2000- 2001 تقرير التنمية الإنسانيَّة، ظهور وبروز انتهاء الحرب الباردة، بروز فشل الدولة العربيَّة القُطريَّة في أغلب المشاريع التي قامت بإقامتها، تزاوج الاستبداد والفساد تضعضع شرعيَّة الدولة القُطريَّة العربيَّة،  كل ذلك أدَّى إلى ولادة مرحلة جديدة لم تتّضح معالمها بعد، أي هناك عالم قديم يموت، وعالم جديد لم تتَّضح بعد معالمه.

الثورة الصناعيَّة الرابعة، بروز شبكات التواصل الاجتماعي، التحوّلات الكبيرة التي تحدث هذه كلّها هزّت الأنظمة العربيَّة، لكن بالوقت نفسه هزّت بعمق الحركات الإسلاميَّة، وصول الإسلاميِّين إلى السلطة، أدّى إلى طرح أسئلة عميقة وجوهريَّة على ما يمكن أن نسمّيه الإسلام المؤدلج. الإسلام الذي بسط المسألة ما بين حكم الإسلام والحكم العلماني، هذا الإسلام في السلطة لم يعد قادرا على تقديم الأجوبة التي كان يقدّمها خلال مرحلة وهو في المعارضة، وبالتالي أصبحت هذه الحركات في مرحلة امتحان حقيقي.

اليوم وبصورة كبيرة بعض المتغيّرات التي حدثت أنه الأساليب والأدوات القديمة والاستراتيجيّات القديمة كلها تعرّضت لاهتزازات عميقة. اليوم في اللحظة الراهنة في العالم العربي أصابت الحركات الإسلاميَّة بالقدر نفسه الذي أصابت فيه الأنظمة، سواء على صعيد الخطاب وعلى كل شيء. صحيح أن الدولة القُطريَّة كان لها دور كبير جدا في الفشل الذي حدث، لكن تبيّن لاحقا أن الدولة القطريَّة بكل مشكلاتها كانت جدارا منيعا من تفكّك الدول وبروز الهويّات الفرعيَّة، فأصبحنا الآن أمام قوى إقليميَّة فاعلة في المشهد، إيران والقوى التي تتبع لها، تركيا وتحالفاتها في المنطقة، فأصبح الآن هناك تساؤلات حول الخطاب الإسلامي في مرحلة الحرب الباردة الذي لم يكن يجيب عن هذه الأسئلة، السؤال السنّي الشيعي، السؤال العلماني الإسلامي، التنوّع والتعدّد كلها كانت أسئلة تقريبا شبه مغيّبة في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهور داعش التي تلاعبت بالرموز الإسلاميَّة، استخدمت مصطلحات طالما استخدمها التيّار الإسلامي، الدولة الإسلاميَّة، تحكيم الشريعة، ضربت بشكلٍ عميق في عمق الإيديولوجيا التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين استقطبت فئات كبيرة من الشباب.

اليوم في النهاية، أنا أعتقد أنَّ الحركات الإسلاميَّة تواجه الخطاب الإسلامي. العمل الإسلامي أيا كان التعبير عنه يواجه تحدّيات كبيرة جدا لا تقلّ عن التحدّيات السياسيَّة. جيل الشبكات اليوم؛ الجيل الذي لديه تصوّرات مختلفة.

الرسالة الأخيرة التي أود أن أتركها للنقاش لكنّها كانت دائما ما تخطر في بالي، الفترة الأولى كان هناك تركيز على العمل التنويري، العمل التجديدي، الإصلاح الديني واستبعاد العمل السياسي بشكلٍ كبير، أصبح كأنه هناك غربة ما بين الإصلاحيّين التنويريّين المثقّفين الذين يعملون في هذا الحقل، وما بين الشعوب وما بين المجتمعات.

هذا الخطاب لا يصل إلى الشارع ولا يصل إلى المجتمع. في مرحلةٍ لاحقة تمكّنت الحركات الإحيائيَّة من الوصول إلى الشارع وإلى المجتمع وتحريك أعداد كبيرة من الناس وتجنيدهم ولكنها لم تكن مزوّدة بخطاب الإصلاح الديني والتنوير.

السؤال في هذه المرحلة التي نعيشها، هل يمكن إعادة الجمع ما بين خطاب الإصلاح الديني وما يسمّيه الدكتور حامد ربيع كفاحيَّة الدعوة الإسلاميَّة؟ بمعنى أن يكون هناك هذا الخطاب التنويري لا ينفك ولا ينأى بنفسه عن العمل السياسي وعن مواجهة الاستبداد وعن قيادة المرحلة القادمة للمجتمعات والأمّة حتى يستطيع أن يكون ضمن شؤونه.

في الوقت نفسه، توجد اليوم تيّارات وحركات انبثقت نطلق عليها في بعض الأدبيّات (ما بعد الإسلام السياسي) التي تطوّرت إلى مرحلة لم تعد فيها مقولات الحركات الإسلاميَّة التقليديَّة مثل الإسلاميّين التقدّميّين في تونس، هل يمكن أن تكون هذه الحركات هي التي نتحدّث عنها، اليوم مثلا في الأردن حزب زمزم انبثق أو كان عدد من المؤسّسين له من قيادات الحركة الإسلاميَّة، أحزاب أخرى ما بعد الإسلام السياسي، هل يمكن الجمع ما بين هذين البعدين وبالتالي نتجاوز تلك العثرات، أم أننا أمام حقبة جديدة في هذا الاتّجاه؟

__________

* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات