تراكمُ الثروةِ في قطبٍ واحدٍ، هوَ في الوقتِ نفسِهِ، تراكمٌ للبؤسِ وعذابُ الكدِّ والعبوديةِ والجهلِ والوحشيةِ والتدهورِ العقليِّ في القطبِ المقابلِ” كارل ماركس
1-مُقدمة:
شكلت المارْكسيَّة الأسَاس المنْهجيَّ والْمنْطلق الفلْسفيَّ لِنظريَّات الصِّرَاع الاجتماعي مُنْذ بِداية القرْن التَّاسع عشر، ومَا زَالَت تُشكِّل حتى اليوم النَّموذج اَلفكْرِي اَلذِي يسْتلْهمه مُنَظرو الصِّرَاع فِي أبْحاثهم وأعْمالهم وإبْداعاتهم، ولا ريب أن النَّظريَّات الحديثة حَوْل الصِّرَاع الاجْتماعيِّ قد تَفتقَت مِن صُلْبّ النَّظريَّة المارْكسيَّة اَلتِي تُشكِّل النَّموذج اَلفكْرِي الأمْثل الأكْثر عُمْقًا، والْأبْعد شُمولا ، والْأرْقى مَنْهَجا فِي تناول الصِّرَاع الاجْتماعيِّ ، واسْتكْشاف مُخْتَلِف نَواحِيه، وتحليل مختلف إشْكاليَّاته ومعضلاته.
تتميزُ النظريةُ الماركسيةُ، عنْ كلِّ ما سبقَها وما تلاها منْ نظرياتٍ، بالتماسكِ المنهجيِّ، والقدرةِ النظريةِ الفائقةِ على تحليلِ الظواهر الاجتماعية وفهمها . وقد بُنيت – بخلافِ نظائرِها –على أساسٍ فلسفيٍّ عميقِ الدلالةِ، شاملَ الأبعادِ؛ واستطاعت أنْ تتناول مفهومَ الصراع تأسيسا على منطلقات الفلسفة الديالكتيكيةِ المعروفة بأصالة قوانينِها وصدق نماذجِها التاريخيةِ، ولا غبار في القول بأنها استجمعت في ذاتِها هذا التفاعلَ الخصيبَ بينَ الماديةِ والتاريخيةِ والديالكتيكِ لتكوّنَ رؤيةً متماسكةً محكمةً لمفهومِ الصراعِ الطبقيِّ الذي يقومُ على القوانينِ الثلاثيةِ للديالكتيكِ المتمثلةِ في وحدةِ وصراعِ الأضدادِ، ونفيِ النفيِ، وقانونِ التحولاتِ الكميةِ إلى كيفيةٍ. وعلى هذا الأساسِ تدرسُ الماركسيةُ قوانينَ العلاقةِ الداخليةِ التناقضيةِ بينَ المادةِ والوعيِ، بينَ البناءِ الفوقيِّ والتحتيِّ، بينَ الطبقاتِ الاجتماعيةِ، ثمَّ تعملُ على استكشافِ القوانينِ العامةِ للوجودِ الاجتماعيِّ، أيْ: القوانينِ العامةِ التي تحكمُ وظيفةَ المجتمعِ وتطورُهُ.
وباختصارٍ يمكنُ القولُ : إنَّ الماركسيةَ رسّخت نظريةً للصراعِ تقومُ على أساسٍ فلسفيٍّ عميقِ الأبعادِ يتميز بأصالة المنهج وصلابة المحتدّ، وقدْ وظفت هذهِ النظريةُ في استكشافِ التطورِ التاريخيِّ القائمِ على أساس مركزيةِ الصراعِ الطبقيِّ بينَ المستغِّلينَ والمستغَلينَ، بينَ القاهرينَ والمقهورينَ، وهوَ الصراعُ الذي يشكلُ محراكَ التاريخِ وقانونَهُ الأساسيَّ.
ويكادُ يوجدُ إجماعٌ بينَ النقادِ اليوم على أنَّ مفهومَ الصراعِ قدْ وُلدَ ماركسياً، الصراعُ وعلى أنَّ النظريةَ الماركسيةَ تشكل العمقَ الأيديولوجيَّ والسوسيولوجيَّ لمنظورِ الصراعِ الاجتماعيِّ، كما أنها تؤسسُ لهُ منهجياً وفكرياً وأيديولوجياً.
ويعودُ الفضلُ في ترسيخِ هذهِ النظريةِ إلى كارل ماركس وزميلِهِ أنجلز، مؤسسا النظرية الماركسية اللذين مارسا دورَهما النضاليَّ خلالَ الفترةِ العاصفةِ التي كانت فيها أوروبا الغربيةُ تنتقلُ من الإقطاعِ إلى الرأسماليةِ، أي: في الوقتِ الذي كانت فيهِ الثورةُ الصناعيةُ تتحركُ بخطاها الواسعةِ في ربوعِ المجتمعاتِ الأوروبيةِ لتعززَ أنظمتَها الرأسماليةَ بالقوةِ التكنولوجيةِ الجديدةِ الصاعدةِ. وقدْ لاحظَ ماركس في هذا السياقِ استفحالَ التفاوتِ الطبقيِّ في المجتمعِ الرأسماليِّ المتنامي، بين طبقتيْ البرجوازيةِ والبروليتاريا، وتعاظمَ الصراع بينَهما في معركةِ توزيع وإعادةِ توزيعِ الثرواتِ والخيراتِ والمواردِ.
وفي هذا السياقِ، وجدَ ماركس أنَّ الرأسماليين من أصحابَ المصانعِ قدْ أثروا بفائضِ القيمةِ القائمِ على استغلالِ العمالِ المأجورين الذينَ حرموا من حقوقهم الإنسانية بتقاضيهم أجورٍ ضحلةً لا تتناسبُ معَ جهودِهم الكبيرة في العملِ وطاقتهم المبذولة في الإنتاج ، وهم غالباً ما يكدحونَ لساعاتٍ طويلةٍ في ظروفٍ صعبة وخطرةٍ، ويعيشونَ ، في كثيرٍ من الأحيانِ، في أماكنَ مزدحمةٍ غيرِ صحيةٍ ، وفي ظل ظروف اجتماعية قاسية. وقدْ أدى هذا التفاوتُ والاستغلالُ إلى توليدِ الصراعاتِ المستمرةِ بينَ الطبقاتِ الاجتماعيةِ: بينَ الطبقةِ البرجوازيةِ التي تمتلكُ كلَّ شيءٍ، وبينَ الطبقةِ العماليةِ التي لا تمتلكُ إلا قوةَ عملِها المستلبةَ، وقدْ أدى هذا التناقشُ الطبقيُّ إلى صراعٍ حتميٍّ بينَ العمالِ والبرجوازيةِ كما كانَ هوَ الحالُ الصراعَ الأبديَّ بينَ القاهرينَ والمقهورينَ، والغالبين والمغلوبين ، وهوَ الصراعُ الذي يؤدي في ذروتَهُ إلى الثورة أو التغيرِ الاجتماعيِّ.
2- مفهومُ الصراعِ:
يرى الماركسيون أنَّ الصراعَ الاجتماعيَّ يتشكل كنتاج صريح للهيمنةِ الرأسماليةِ وسطوتِها في المجتمعِ في مختلفِ مناحي الوجودِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ والأيديولوجيِّ، ويذهبُ أنصارُها إلى أنَّ الصراعَ الحتميَّ بينَ البروليتاريا والبرجوازيةِ سيؤدي، في نهايةِ المطافِ، إلى إحداثِ ثورةٍ بروليتاريةٍ تنتهي بزوالِ النظامِ الرأسماليِّ وقيامِ نظامٍ اشتراكيٍّ أكثرَ عدلاً وأقلَّ تناقضاً.
ويؤكدُ نهجُ الصراعِ الماركسيِّ على التفسيرِ الماديِّ الديالكتيكيِّ للتاريخِ، وينطلقُ من الموقفِ النقديِّ للأوضاعِ الاجتماعيةِ القائمةِ. وفي هذا المسار تؤكدُ النظريةُ الماديةُ الماركسية للتاريخِ على أهميةِ العملِ الذي يقومُ بهِ الناسُ، ودوره في بناء المجتمع، ولا سيما العملُ الذي يمكّنُ الأفرادَ من تأمينِ الضرورياتِ الأساسيةِ للحياةِ: كالمأكلِ والملبسِ والمأوى. ويرى ماركس أنَّ الطريقةَ التي يتمُّ بها تنظيمُ العملِ اجتماعياً، ومدى استخدام التكنولوجيا في الإنتاجِ سيكونُ لها تأثيرٌ قويٌّ في مختلفِ جوانبِ الحياة الاجتماعية، ويؤكد في الوقتِ نفسِهِ أنَّ كلَّ شيءٍ ذي قيمةٍ في المجتمعِ ينتجُ عن العملِ البشريِّ؛ وعلى هذا الأساسِ يرى أنَّ الرجالَ والنساءَ يشاركونَ جميعاً ومعاً في صنعِ المجتمعِ وإيجادِ سبلِ الحياةِ التي تحققُ وجودَهمْ.
أكدَ ماركس دائماً أنَّ التفاوتَ الطبقيَّ وانقسامَ المجتمعِ إلى طبقاتٍ يشكلُ أحدَ أهمِّ مصادرِ الصراعِ، وأنَّ الحرمانَ الماديَّ والأوضاعَ البائسةَ للعمالِ هيَ العواملُ التي تؤدي إلى تفاقم الصراعِ الطبقيِّ بينَ العمالِ والبرجوازيةِ، وقد بيّنَ أنَّ الصراعَ قد يأخذُ أشكالاً متنوعةً ثقافياً وأيديولوجياً وتنظيمياً، وقدْ يصلُ إلى حدِّ الثورةِ البروليتاريةِ. فالحرمانُ يشكلُ مصدراً للوعيِ الطبقيِّ، ويؤدي إلى احتدامِ الصراعِ والبحثِ عن صيغٍ جديدةٍ للمجتمعِ والتغييرِ الاجتماعيِّ. وقدْ كانَ ماركس مهتماً في المقامِ الأولِ بشرحِ التغييراتِ البنيويةِ أوْ العملياتِ التي تؤسسُ للوعيِ الطبقيِّ، مثلَ: ارتفاعِ مستوياتِ التعليمِ، والتمركزِ العماليِّ في المدنِ، وانتشارِ الأحزابِ السياسيةِ، وزيادةِ حدّةِ الفقرِ والحرمانِ وغيرِها منْ العواملِ المؤدي إلى احتدامِ الصراعِ بينَ الطبقاتِ المستغِّلةِ والمستغَّلةِ.
ويحدد ماركس العناصرَ الرئيسيةَ للنظرية الماديةِ في التاريخِ بقولِهِ: ” ليسَ وعيُ الناسِ هوَ الذي يحددُ وجودَهم، وإنَّما على العكسِ من ذلكَ، فإنَّ وجودَهم الاجتماعيَّ هوَ الذي يحددُ وعيَهم “([1] ). وهذا يعني أنَّ الأفرادَ يدخلونَ – أثناءَ عمليةِ الإنتاجِ – في علاقاتٍ محددةٍ ضروريةٍ مستقلةٍ عن إرادتِهم، وهيَ علاقاتُ الإنتاجِ المناسبةُ لمرحلةٍ معينةٍ من تطورِ حياتِهم. وفي هذا التشكيلِ الاجتماعيِّ يشكل التفاعلُ بينَ قوى الإنتاجِ وعلاقاتِهِ البنية التحتية الاقتصاديةِ للمجتمعِ القوة الفاعلة في عملية التغيير الاجتماعي، وعلى هذا الأساس يحدد نمطَ إنتاجِ الحياةِ الماديةِ الصيرورةَ العامةَ للحياةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ والفكريةِ.
قسّمَ ماركس التاريخ إلى مراحلَ تاريخيةٍ افتراضيةٍ، تبدأُ بالمشاعيةِ وتنتهي بالشيوعيةِ، مروراً بالعبوديةِ والإقطاعِ والرأسماليةِ والاشتراكية، وتتوافقُ كلُّ مرحلةٍ من هذهِ المراحلِ معَ نمطٍ إنتاجيٍّ محددٍ في البنيةِ الاقتصاديةِ للمجتمعِ. وقد ركز على دراسة الرأسماليةُ والاشتراكيةُ بوصفهما التشكيلتان الاجتماعيتان الأكثرُ أهميةً في العصر الحديث.
ويركزُ ماركس في الجزء الأهم من دراساته وأبحاثه على دراسةِ التناقضاتِ الطبقيةِ في المجتمعِ الرأسماليِّ، وقد وجد أنَّ الرأسماليةَ استطاعت أنْ تحققَ هيمنتَها في أوروبا في القرنِ التاسعَ عشرَ. ولأن المجتمعَ الرأسماليَّ يقومُ على أساسِ الملكيةِ الخاصةِ، فإن الطبقة البرجوازيةُ الرأسمالية هي فرضت سيطرتها وهيمنتها في المجتمع بوصفها الطبقة التي تمتلك أدواتِ الإنتاجِ ووسائله، وقد أدى هذا التملك إلى انشطارِ المجتمعِ إلى طبقتينِ رئيستين متعارضتينِ هما: الطبقة الرأسمالية البرجوازيةِ وطبقة العمال أو البروليتاريا.
يجادل ماركس بأنَّ الطبقةَ البرجوازيةَ تحققُ أرباحَها وثرواتِها الكبيرةَ من خلالِ فضلِ القيمةِ الذي يتمثلُ في دفعِ أجورٍ للعمالِ أقلَّ مما يستحقونَ، أوْ أقلَّ من قيمةِ العملِ الذي يؤدونَهُ. وعلى هذا النحوِ يتعرضُ العمالُ للاستغلالِ من قبلِ الطبقة البرجوازيةِ. ومن أجلِ السيطرةِ على العمالِ وإضفاءِ طابعِ الشرعيةِ على عمليةِ الاستغلالِ الطبقيِّ تلجأُ البرجوازيةُ إلى بناءِ قوتِها الأيديولوجيةِ والسياسيةِ لفرضِ هذا الواقعِ الذي يؤدي مباشرةً إلى الاضطهادِ السياسيِّ للطبقاتِ المهيضةِ، إذ يستخدمُ المالكون قوتِهم الاقتصاديةِ للسيطرةِ على الدولةِ وتحويلِها إلى خادمٍ للمصالحِ الاقتصاديةِ البرجوازيةِ. وهم في هذا المدار يستخدمونَ الأجهزةَ الأمنيةَ والأيديولوجيا والقوانينَ والمؤسساتِ في عمليةِ فرضِ سيطرتِهم على العمالِ، ويؤسسون لفرضِ قوانين التملك ووضمانِ العقودِ غيرِ العادلةِ بينَ الرأسماليِّين والعمال.
وقدْ يتخذُ الاضطهادُ أشكالاً أكثرَ مرارة وشدة، إذْ تقومُ الطبقةُ الرأسماليةُ بتوظيفِ الفكرِ الدينيِّ والحقوقيِّ والأخلاقيِّ للمحافظةِ على وضعيةِ الاستغلالِ وضمانِ مصالحِها، كما تلجأُ إلى توظيفِ المثقفينَ البرجوازيينَ للعملِ على إنتاجِ الأيديولوجياتِ المناسبةِ لفرضِ الهيمنةِ الطبقيةِ. وعلى هذا النحوِ يتمُّ توظيفُ الأيديولوجيا والثقافةِ والقوانينِ وسلطة الدولةِ والمؤسساتِ الاجتماعيةِ في فرضِ الهيمنةِ الرأسماليةِ، وإعادةِ إنتاجِ المجتمعِ على صورتِهِ الرأسماليةِ القائمةِ على الاضطهادِ السياسيِّ والاجتماعيِّ للطبقاتِ العماليةِ.
ويتجلى مفهوم الصراع الماركسي واضحاً جلياً في البيانِ الشيوعيِّ لماركس وإنجلز، وقدْ جاءَ فيهِ: “إنَّ الإنتاجَ الاقتصاديَّ والبنيةَ الاجتماعيةَ، المتفرعةَ عنهُ بالضرورةِ، يشكلانِ، في كلِّ حقبةٍ تاريخيةٍ، أساسَ التاريخِ السياسيِّ والفكريِّ لهذهِ الحقبةِ؛ ولذا فإنَّ التاريخَ كلَّهُ (منذُ انحلالِ الملكيةِ المشاعةِ القديمةِ للأرضِ ) حتى اليوم كانَ تاريخُ الصراعِ بينَ الطبقاتِ، وكانَ في مختلفِ مراحلِ التطورِ الاجتماعيِّ، تاريخاً للصراعِ بينَ الطبقاتِ المستغٍلّةِ والطبقاتِ المستغلَّةِ، بينَ الطبقاتِ الحاكمةِ والطبقاتِ المحكومةِ([2] ). وقدْ جاءَ هذا التأكيدُ الصارخُ على أهميةِ الصراعِ الطبقيِّ في القولِ الصريحِ لماركس:” ليسَ تاريخُ كلِّ مجتمعٍ – حتى يومِنا هذا – سوى تاريخِ صراعِ الطبقاتِ. فالحرُّ والعبدُ، والنبيلُ والعاميُّ، والبارونَ والقنُّ، ومعلمُ الحرفةِ والصانعِ، وباختصارٍ فالظالمونَ والمظلومونَ، المتعارضونَ دوماً، خاضوا صراعاً لا ينتهي، صريحاً تارةً، ومستتراً تارةً أخرى، صراعاً كانَ ينتهي دائماً إما بتغييرِ المجتمعِ تغييراً ثورياً، وإما بانهيارِ كلتا الطبقتينِ المتصارعتينِ” ([3] ).
ويتضمن البيان الشيوعي رؤية ثوريّة لثنائيّ الماركسيّة -ماركس وأنجلز –تؤكّد أنّ تاريخ المجتمعات الإنسانيّة لم يكن إلّا تاريخاً للصراع الاجتماعيّ الّذي يأخذ صيغة صراع طبقيّ بين المظلومين والظالمين، بين المقهورين والقاهرين، الغالبين والمغلوبين، المضطِّهدين والمضطَّهدين، الّذين خاضوا صراعاً أبديّاً مغلقاً ومفتوحاً خفيّاً وعلنيّاً، مستمرّاً ومتقطّعاً، وكان الصراع ينتهي دائماً في كلّ مرّة إلى إعادة تشكيل ثوريّة للمجتمع ككلّ، أو تدمير شامل للطبقات المتصارعة. ويمكن الإضاءة على رؤية ماركس وإنجلز بالنقاط التالية:
1- يتميّز التاريخ البشريّ بنضال الجماعات البشريّة الّتي تأخذ صورة الطبقات الاجتماعيّة.
2- يتّسم المجتمع بالعداء بين الظالمين والمظلومين بين المضطهدين والمضطهدين، ويميل هذا الصراع إلى التقاطب المستمرّ في اتّجاهين متعارضين.
3-في حمأة الصراع بين الطبقتين المستقطبتين (البرجوازيّة والبروليتاريا )، لا تستطيع البرجوازيّة الحفاظ على صعودها واستمرارها دون تطوير أسلوب الإنتاج وأدواته.
4- يقوم الصراع على أساس التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته.
5- وفي دائرة هذا الصراع يستقطب النظام الرأسماليّ مزيداً من الثروة والغنى الّذي يتقاطب عكسا مع مزيد من الفقر والفاقة والحرمان لدى طبقة العمّال والمهمّشين اجتماعيّاً.
6- سيؤدي التناقض الاستقطابيّ الحادّ بين الفقر والغنى، بين الطبقة الّتي تسود وتملك والطبقة الّتي تعمل وتكدح وتُستَغل، إلى أزمة حادّة قد تدفع الطبقات المسحوقة إلى الثورة.
7-في ظلّ هذه التناقضات الطبقيّة تتشكّل طبقة البروليتاريا، وتتحوّل إلى قوّة سياسيّة طبقيّة تسعى إلى قلب موازين القوى والاستيلاء على السلطة وتشكيل ما يسمّى بديكتاتوريّة البروليتاريا.
8- ومع الهيمنة الطبقيّة للبروليتاريا وتشكيل ديكتاتوريّة الطبقة العاملة سينتهي الصراع، ويختفي الطابع العدائيّ بين الطبقات في ظلّ المجتمع الاشتراكيّ والشيوعيّ([4] ).
9-وعلى هذا الأساس الثوريّ يرى ماركس في بيانه الشيوعيّ أن المجتمع سيتحول بفضل الانتصار الثوريّ للبروليتاريا إلى مجتمع التوازن الطبقيّ، وستختفي الصراعات الطبقيّة والمجتمع البرجوازيّ بطبقاته وصراعاته وتناقضاته، وسينشأ مجتمع تسوده العدالة والحرّيّة والكرامة الإنسانيّة.
ويتّضح من خلال البيان الشيوعيّ، وفي مجمل النظريّة الماركسيّة، أنّ ماركس قد أسّس نظريّته، ورسّخ معالمها حول مفهوم الصراع الطبقيّ ودوره في التغيير الاجتماعيّ، وقد شكّلت نظريّته هذه منصّة نظريّة ملهمة لتطوّر مختلف نظريّات الصراع في مجال المجتمع وعلم الاجتماع. ومن البداهة أنّ ماركس استطاع أن يرسخ صورة طبقية للنظام الاجتماعي وأن يبرز تناقضاته وانشطاراته وتفاعلاته. وقد أثّرت تصوّراته هذه بعمق في مختلف مناحيّ واتّجاهات النظريّة الاجتماعيّة المعاصرة.
وقد عرف عن ماركس بتأكيده على وجود بنائين متفاعلين في المجتمع على نحو جدليّ هما البناء التحتيّ والبناء الفوق: يتمثّل الأوّل في التفاعل القائم بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، ويتجسد الآخر في التشكيلات الثقافية القائمة كالدين والمعتقد والقيم والسلطة والأيديولوجيا، وكلّ أشكال الوعي الإنسانيّ الأخرى. وقد أكّد ماركس أنّ البناء الفوقيّ الثقافيّ هو انعكاس للبناء التحتيّ الاقتصاديّ، وبيّن أنّ القوى المتأصّلة في التنظيم الاقتصاديّ لأيّ مجتمع طبقيّ تشكّل منبعاً حتميّاً للصراع الطبقيّ الثوريّ.
وفي سياق آخر يؤكّد ماركس باستمرار أنّ الصراع الطبقيّ يأخذ طابعاً ديناميّاً جدليّاً في مختلف مراحل تطوّر المجتمعات الإنسانيّة. ويركّز بصورة خاصة على أهمّيّة الصراع القائم بين علاقات الإنتاج وقواه، وهو الصراع الذي يؤدّي في نهاية الأمر إلى انقلابات ثوريّة في طبيعة المجتمع وتوليد تشكيلات اجتماعيّة اقتصاديّة جديدة تحت تأثير التفاقم في الصراع وتزايد حدّته؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّ مرحلة تطوّريّة تشكّل نفياً جدليّاً لسابقتها ضمن متوالية التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته، الّذي يؤدّي في مرحلة معيّنة من شدّته إلى سقوط الأنظمة القديمة وظهور أنظمة جديدة.
ويمكن الاستنتاج تأسيساً على تصوّرات ماركس الجدليّة للصراع الطبقيّ، بأنّ الصراع يعتمل في قلب النظم الاجتماعيّة بصورة مستمرّة ودائمة، وهو يفعل فعله وفق قوانين المادّيّة التاريخيّة في العلاقات الجدليّة بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وفي عمق جدليّة التفاعل القائم البنّائين التحتيّ والفوقيّ. وهذا يعني أنّ ماركس يرى أنّ الصراع يشكّل خاصّيّة وسمة أساسيّة في المجتمعات الإنسانيّة بصورة عامّة. وقد ركّز في مختلّ فجوانب نظريّته أنّ الصراع يحدث عمليّاً في معترك توزيع الثروة والقوّة والمكانة والسلطة. ويمكن القول إنّ الفكرة الأساسيّة في نظريّة الصراع الماركسيّ أنّ الصراع يشكّل المصدر الرئيس للتغيير في النظام الاجتماعيّ ([5] ).
وقد لخص تيرنر افتراضات ماركس الصراعية المجردة على النحو الآتي: ([6] )
1- كلّما ازدادت حدّة عدم المساواة في توزيع الموارد الاقتصاديّة زادت حدّة تضارب المصالح بين الطبقات الاجتماعيّة القائمة بين الّتي تملك وتلك الّتي تعمل ولا تملك.
2- كلّما ازداد وعي أبناء الطبقات الاجتماعيّة المتعارضة بمصالحها الحقيقيّة ازدادت فرص تشكيكها في شرعيّة النمط الاجتماعيّ القائم حول توزيع الثروات والسلطة.
3- عندما تقوم الطبقات المهيمنة بإجراءات واضحة لتحقيق مصالحها بدرجة أكبر يرتفع منسوب الوعي الطبقيّ لدى أبناء الطبقات المهيّضة.
4- كلّما ارتفع منسوب الإكراه الّذي تمارسه الطبقات الّتي تهيمن ضدّ الطبقات المسحوقة ارتفع مستوى وعي أبناء الطبقة المغلوبة بمصالحهم الجماعيّة الحقيقيّة.
5- بقدر ما يستطيع أبناء الطبقة المغلوبة إيجاد قنوات اتّصال مع أشباههم في عمليّة تبادل الوعي بالمظالم الّتي تقع عليهم ارتفع منسوب وعيهم الطبقيّ، وزاد احتمال إدراكهم لمصالحهم الجماعيّة الحقيقيّة.
6- كلّما زاد التركيز البيئيّ لأفرد الطبقات الكادحة في مناطق التجمّع (معامل مصانع مدن ) ازداد وعيهم بالمظالم الّتي تقع عليهم، وارتفع منسوب وعيهم الطبقيّ.
7- كلّما ازدادت الفرص التعليميّة لأفراد الطبقات الكادحة تزايدت إمكانيّات التواصل، وارتفع مستوى الوعي الطبقيّ لديهم وإدراكهم للمظالم الّتي تقع عليهم.
8- يشكّل الوعي بالمظالم والتحدّيات الّتي تتعرّض لها الطبقات الكادحة منطلقاً لتشكيل أيديولوجيّات نضاليّة موحّدة قادرة على وضع استراتيجيّات لتحقيق مصالحها والدفاع عن مظالمها.
9- يشكّل تراجع قدرة الطبقات المهيمنة على توجيه عمليّات التنشئة الاجتماعيّة وشبكات الاتّصال في النظام الاجتماعيّ أحد عوامل التوحيد الأيديولوجيّ لدى الطبقات المهيّضة.
10- زيادة الحرمان تؤدّي إلى زيادة الوعي الطبقيّ، وهذا يعني أنّه كلّما انتقل حرمان العمال من المطلق إلى النسبيّ زاد احتمال انضمامهم إلى مسرح الصراع الطبقيّ.
11- بقدر ما يستطيع أبناء الطبقات الكادحة الاندماج في الفعل السياسيّ وتشكيل قوى سياسيّة وأحزاب ارتفع مستوى الوعي الطبقيّ، وزاد احتمال انضمام الشرائح الواسعة من الطبقة إلى ميدان الصراع الطبقيّ بحلّة سياسيّة (انتخابات تصويت تمرّد مظاهرات مطالبات احتجاجات…الخ. )
12 – كلّما زادت حدّة الاستقطاب سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً وأيديولوجيّاً بين الطبقات المهيمنة والطبقات المهيضة ازدادت حدّة النزاع، وارتفع منسوب الصراع، وزادت جرعة العنف في عمليّة التنازع والنزاع.
13- كلّما اشتدّت حدّة النزاع وتناقضاته، وقوّيت شكيمته وأصبح أكثر عنفاً ازدادت احتمالات حتميّة التغيّر الجوهريّ الثوريّ في المجتمع([7] ).
وفي هذا السياق التحليليّ يمكن استنتاج عدد من الأفكار الّتي ترسم حدود مفهوم الصراع في الماركسيّة على النحو الآتي: تقوم العلاقات الاجتماعيّة القائمة على مبدأ التضارب في المصالح بين الطبقات الاجتماعيّة، ويبنى على ذلك أنّ الصراع يوجد في قلب الأنظمة الاجتماعيّة القائمة. وعلى هذا النحو يرى الماركسيّون أنّ الصراع الاجتماعيّ يشكّل السمة الحتميّة للمجتمعات الطبقيّة. وقد تبيّن في سياق التحليل أنّ الصراع القائم يدور حول التوزيع غير العادل للموارد ومصادر الثروة والسلطة والقوّة بين الطبقات الاجتماعيّة. وتلحّ الماركسيّة على أنّ الصراع القائم بين الطبقات يشكّل المصدر الرئيس للتغيير في النظام الاجتماعيّ ([8]). ويمكن القول في هذا السياق إنّ الماركسيّة تؤكّد أنّ الصراع يشكّل القوّة الحتميّة الفاعلة في التغيّر الاجتماعيّ، وهذا يجد تأكيده في الشعار الماركسيّ الّذي يرى أنّ الصراع الطبقيّ محرّك التاريخ.
3- نقد الماركسيّة:
بدأ نجم الماركسيّة الكلاسيكيّة يفقد بريقه مع تفكّك الاتّحاد السوفيتيّ وسقوط الأنظمة الماركسيّة حول العالم في تسعينيّات القرن العشرين. ومع سقوط الدولة السوفييتيّة الراعية للفكر الماركسيّ فقدت النظريّة بعدها الجيوسياسيّ الاستراتيجيّ، وأدّى ذلك إلى تراجع كبير في حضورها الفكريّ والأيديولوجيّ في آن واحد.
وقد صدم كثير من المفكّرين الماركسيّين بالسقوط المدوّي للدولة السوفييتيّة الراعية للماركسيّة أيديولوجيّاً وفكريّاً، وامتلك بعضهم شعور بالكآبة واليأس إلى الدرجة الّتي دعا فيها بعضهم إلى التخلّي عن النظريّة الماركسيّة نهائيّاً. وقد جاء أبلغ تعبير عن هذا اليأس الفكريّ في كتاب رونالد أرونسون (Ronald Aronson ) الموسوم “ما بعد الماركسيّة” (After Marxism ) عام 1995 الّذي عبّر عن الإحساس بالصدمة واليأس والقنوط في السطر الأوّل من هذا الكتاب الّذي يقول فيه: “لقد انتهت الماركسيّة وها قد صرنا وحدنا” ([9]). وتتجلّى خطورة هذه العبارة أنّها صدرت عن أرونسون وهو أحد الماركسيّين الملهمين الكبار. ومع ذلك أخذ أرونسون بعين الاعتبار أنّ بعضاً من المفكّرين الماركسيّين سيواصل النضال الفكريّ الماركسيّ بإصرار وعناد، وقد طالبهم بأنّ عليهم أن يدركوا أنّ النظريّة الماركسيّة، لم تعد تشكّل جزءاً من المشروع الماركسيّ الأكبر للتحوّل الاجتماعيّ ([10] ). وهو يريد بذلك أن يقول:” إنّ النظريّة الماركسيّة لم تعد مرتبطة ببرنامج يهدف إلى تغيير جوهريّ في المجتمع، كما كان ماركس ينوي، إنّها نظريّة دون تطبيق. لقد أصبح الماركسيّون وحدهم، بمعنى أنّهم لم يعودوا قادرين على الاعتماد على المشروع الماركسيّ، وعليهم التعامل مع المجتمع الحديث بقدراتهم وطاقاتهم” ([11] ).
مع ذلك وكما توقّع أرونسون، لم تخْبُ جذوة الماركسيّة، ولم تنطفئ شعلتها، إذ وقف عدد كبير من المفكّرين الماركسيّين في وجه الإعصار يدافعون عن النظريّة الماركسيّة في حلّتها الكلاسيكيّة. وانبرّت نخبة أخرى مميّزة من المفكّرين الماركسيّين تنادي إلى العمل على تطوير الماركسيّة والتجديد في مفاهيمها وتطويع مقولاتها في ضوء التطوّرات الفكريّة والاجتماعيّة المعاصرة.
لقد آمن ماركس بأهمّيّة التغيير، وجعل منه قانوناً يغطّي مختلف ظواهر الكون والحياة الفيزيائيّة والاجتماعيّة، وقد رفض أن تكون نظريّته نهائيّة، أو أن يدفع بتصوّراتها إلى كوارث الجمود والتصلّب. فالحقيقيّة سائلة متغيّرة، ولا يمكن الإمساك بها بقبضة فولاذيّة. لقد أفرزت التغيّرات الاجتماعيّة والتحوّلات التاريخيّة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين وبضعة من القرن الحادي والعشرين تصوّرات مختلفة عن هذه الّتي جاءت في التصوّر الماركسيّ الكلاسيكيّ.
ويتّضح، بعد مرور قرن ونصف ونيّف من الزمن تقريباً على وفاة ماركس (1818-1883)، أنّ كثيراً من نبوءاته فقدت بريقها تحت مطارق التغيّرات التاريخيّة الّتي شهدتها المجتمعات الإنسانيّة خلال هذه الفترة الزمنيّة الطويلة. فالثورة البروليتاريّة لم تتحقّق وفقاً لمنظوره الدقيق، وقد أخفق ما يماثلها في روسيا، وفي بعض البلدان الاشتراكيّة، وتغيّرت مفاهيم الطبقة والنضال والحياة على صورة مختلفة لتلك الّتي رأيناها في المنظور الماركسيّ.
ومع ذلك، فإنّ نظريّة ماركس ما زالت تتوهّج وتتألّق بما انطوت عليه من تحليل بنيويّ متكامل لتطوّر التاريخ الإنسانيّ. وقد ظلّ تحليله البنيويّ التاريخيّ للمجتمع ظلّ ثرّا مفيداً وملهماً لعلماء الاجتماع حتّى اللحظة الراهنة.
وقد بيّنت الأحداث التاريخيّة بطلان بعض التنبّؤات الماركسيّة؛ فالثورة البروليتاريّة على سبيل المثال لم تتحقّق في المركز الرأسماليّ الأكثر تقدّماً بل حدثت في أضعف حلقات التطوّر الرأسماليّ في روسيا لقيصريّة. وقد اختلفت طبيعة الصراع وطبيعة الطبقات الاجتماعيّة ضمن آفاق جديدة للتطوّر الاجتماعيّ. ولكن ما قد يغفله الباحثون أنّ فرضيّات ماركس لم تكن خائبة كلّيّاً، لقد تحقّقت ديكتاتوريّة البروليتاريّة في روسيا القيصريّة، واستطاعت الشعوب أن تحقّق انتصاراتها الاشتراكيّة في مختلف أنحاء العالم.
ومهما تكن هذه التوقّعات ومدى نجاحها أو إخفاقها، فإنّ النظريّة الماركسيّة بقيت حيّة، وقد شكّلت منطلقاً حيويّاً ونموذجاً فكريّاً منهجيّاً فذاً يستلهمه المفكّرون والباحثون وعلماء الاجتماع، واستطاعت هذه النظريّة أن تجد تطورها اللاحق على أيدي نخبة من المفكّرين الأفذاذ الّذين قاموا بتطويرها، وتعديل مقولاتها لتكون قادرة على مواكبة العصر بما يعتمل فيه من تطورات اجتماعية جامحة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إنّ المنهج التاريخيّ الّذي قدّمته الماركسيّة بقي شامخاً وقادراً على إلهام علماء الاجتماع وتوجيه مساراتهم الفكريّة والمنهجيّة. وتفيد الوقائع الفكريّة أنّ أكثر علماء الاجتماع عداوة للماركسيّة، وأسوأ نقّادها ما زالوا يتّفقون على أنّ النظريّة الماركسيّة توفّر إطاراً ممتازاً لتحليل الصراع والتغيير في الحياة الاجتماعيّة في مختلف مستويات تطوّراتها. وقد بيّنت التطوّرات التاريخيّة أنّ الوضع الاقتصاديّ يأخذ ذات الأهمّيّة الّتي أعطيت له من قبل ماركس، وأنّه يشكّل المحدّد الرئيس لأسلوب حياة المجتمع وأفراده.
ويتّفق معظم النقّاد والمفكّرين من أنصار ماركس وخصومه على أنّ النظريّة الماركسيّة توفّر إطاراً منهجيّاً ممتازاً ومتميّزاً لتحليل الصراع والتغيير الاجتماعيّ في مختلف تجلّياته التاريخيّة القديمة والمعاصرة. ومع ذلك فإنّ المفكّرين قد وجّهوا عدداً من الانتقادات لنظريّة ماركس في الصراع الطبقي أهمها [12])
1- لم يعد التقسيم الطبقيّ واضحاً على مقياس الصورة الّتي قدّمها ماركس، وعلى خلاف توقّعاته استطاعت الأنظمة الرأسماليّة أن تغيّر في ملامح الطبقات العاملة، وفي ظروفها فلم تعد الطبقة العاملة في وضعيّة مأساويّة كما كانت في عهد ماركس، إذ تحسّنت أوضاعها، وبدأت تحظى بمختلف وسائل الخدمات الاجتماعيّة والترفيه وتأمين العمل والحصول على التأمين الصحّيّ وهناك عدد كبير من الامتيازات الّتي تفوق تصوّر ماركس لأوضاعها في التاسع عشر.
2- لقد أوجدت الرأسماليّة اليوم ظروفاً لم يعد من الممكن فيها اعتبار الطبقة العاملة منعزلة تماماً. تحسّنت حالة أفراد هذه الطبقة بسبب التوسّع في الخدمات الاجتماعيّة وتأمين العمل والتأمين الصحّيّ وانتشار الديمقراطيّة والحرّيّات العامّة.
3- يتعارض نموّ الطبقة الوسطى الجديدة مع نموذج الاستقطاب الطبقيّ بين الطبقتين الأساسيّتين البرجوازيّة والبروليتاريا. ويلاحظ أنّ الطبقة المتوسّطة قد تطوّرت بشكل معقد، وأصبحت جزءاً أساسيّاً في تخميد عمليّة الصراع الطبقيّ. ويتشاكل هذا الأمر مع وجود طبقة متوسّطة تمتلك رأس المال الثقافيّ والمعرفيّ كما نشاهد اليوم، إذ تشكّلت طبقة متوسّطة فقيرة في الأصل، واستطاعت أن تستحوذ على رؤوس الأموال الضخمة من خلال الإنتاج في مجال المعلوماتيّة.
4- يدور التصوّر الماركسيّ حول صراع الطبقات في ظروف القرن التاسع عشر الّذي يختلف جوهريّاً عمّا يدور في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وقد أخذ النقّاد على الماركسيّة تمحورها حول المفهوم القانونيّ الضيّق للملكيّة، وقد عرف أنّ ملكيّة وسائل الإنتاج هو الشكل الرئيس الّذي اعتمده ماركس في تحليله للطبقات الاجتماعيّ، وقد ظهرت اليوم أشكال مختلفة للملكيّة كما أشرنا مثل الملكيّات المعرفيّة الّتي تتمثّل في رأس المال المعرفيّ التقنيّ ورأس المال المعلوماتيّ الّذي يعبّر عنه بثورة المعلومات والتكنولوجيا المعرفيّة.
5- يأخذ بعض النقّاد على ماركس تأكيده أحاديّة العلاقة بين الفرد وظروف الإنتاج، أو بين الفرد وعلاقته بالملكيّة، ووجد بأنّ ملكيّة الإنتاج أو عدمها تشكّل العامل الأساسيّ الّذي يحدّد نمط حياة الأفراد وسلوكهم. وهذا يعني أنّ أساس الصراع يقوم على العلاقة بين هؤلاء الّذين يملكون أو يسيطرون، وهؤلاء الّذين لا يوجد لديهم إلّا قوّة العمل لكسب عيشهم. وهنا في هذا الخصوص كثير من النقّاد وروّاد نظريّة الصراع بأنّ علاقات الصراع أكثر شمولاً وعمقاً وتعقيداً؛ لأنّها تشمل جوانب أخرى سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة متجدّدة في الحياة.
4-خاتمة:
ما زالت النظريّة الماركسيّة كما أشرنا تشكّل النموذج الفكريّ الصلب لمختلف النظريّات في مجال الصراع الاجتماعيّ، وقد تجلى تأثيرها الواضح في نظريات دارندورف وكوزر وكولنز وغيرهم الّذين استلهموا ماركس والماركسية في تأسيس نظرياتهم الصراعية، وطوّروا نظريّته في الصراع لتشمل مناحي عديدة في السياسيّة والاقتصاد والفكر. وعلى الرغم من أهمّيّة هذه النظريّات، فإنّها تشكّل مدارات جديدة لم تستطع الانفلات من قبضة النظريّة الماركسيّة بوصفها القطب المركزيّ الّذي تدور حوله مختلف التطوّرات الجديدة الحادثة في ميدان الصراع الاجتماعيّ.
ومن المؤكد في هذا السياق أن نظريّة ماركس تختلف عن نظائرها بأنها قد انطلقت على أسس فلسفيّة عميقة الجذور تضرب في أعماق التاريخ الفكريّ الإنسانيّ. ويبنى على ذلك أن الصراع ليس إلّا مفهوماً من المفاهيم المركزيّة في الماركسيّة، وهو يرتبط بنسيج معقّد من الأفكار والتصوّرات الفلسفيّة العميقة والشاملة الّتي تسعى إلى أن تكون فوق قيمتها المعرفيّة منهجاً أصيلاً في البحث الفكريّ في مختلف الظواهر الإنسانيّة والاجتماعيّة.
وقد واصل منظّرو الصراع في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين توسيع نظريّة الصراع إلى ما وراء الطبقات الاقتصاديّة الصارمة الّتي طرحها ماركس لتشمل الوحدات الاجتماعية الصغرى مثل الأسرة والمدرسة والأحزاب السياسية. ومع أهمية ما طرحوه من تصورات وأفكار لم يستطع أحد منهم تجاهل أهمية العلاقات الاقتصاديّة التي تشكل أهم عنصر في توليد الصراع الاجتماعي ([13] ).
ويرى معظم المفكّرين أنّ تصوّرات ماركس الطبقيّة كان لها أكبر الأثر في تطوّر نظريّات الصراع الحديثة، وتطوير الرؤى والتصوّرات المتعلّقة بها. ويمكن القول: إنّ جلّ النظريّات المعارضة تنطلق من الافتراض الماركسيّ الأساسيّ الّذي يرى بأنّ الصراع الطبقيّ يشكّل القوّة الحتميّة الّتي تؤدّي إلى ديناميّات التغيّر في الأنظمة الاجتماعيّة. وقد رسم ماركس مخطّطات واضحة لعمليّة التغيير وقانونيّاته الجدليّة، ولا سيّما تلك الّتي تؤدّي إلى تفكّك الأنظمة القديمة وولادة الأنظمة الجديدة في التاريخ الإنسانيّ. وبيّن بوضوح دور التناقضات الطبقيّة الّتي تشكّل العمق الاستراتيجيّ لفعاليّة الصراع بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وهو الصراع الّذي أدى تاريخيا إلى التغيّر في المجتمع، والانتقال من تشكيلة اجتماعيّة اقتصاديّة إلى تشكيلة أخرى بدءاً من المرحلة العبوديّة حتّى المرحلة الرأسماليّة. وقد أوضح ماركس بصورة لا مراء فيها الكيفيّة الّتي يتمّ فيها تحوّل المصالح الطبقيّة الكامنة إلى مصالح طبقيّة واضحة من خلال “الوعي الطبقيّ” الّذي يؤدّي في سياقات اجتماعيّة محدّدة إلى استقطاب المجتمع في طبقات متصارعة. وعلى هذا النحو يبحث ماركس في مختلف الشروط والعوامل والمتغيّرات الّتي تتفاعل عمليّاً في مسار تسريع أو تأخير التحوّل الحتميّ للمصالح الطبقيّة إلى صراع طبقيّ ثوريّ.
وقد واصل منظّرو الصراع في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين تطوير مفهوم الصراع الماركسيّ والعمل على توسيع مداراته ليشمل أبعاداً جديدة تتجاوز حدود الصراع الطبقيّ بامتداداته الاقتصاديّة الصارمة، ومع أهمّيّة هذا التوسّع، فإنّ الصراع بأبعاده الطبقيّة الاقتصاديّة بقي مركزيّاً في مختلف النظريّات الجديدة.
ويجمع النقّاد على التأثير الكبير للماركسيّة في مختلف النظريّات الصراعيّة الحديثة، ولاسيّما عند دارندورف وموزر وكولينز وغيرهم من منظري الصراع المعاصرين والمحدثين، ومن المهمّ أنّ النظريّات الجديدة تناولت آفاقاً جديدة في الصراع مثل الصراع الجندريّ، والعرقيّ، والدينيّ والثقافيّ، والصراع القوميّ، وصراعات الهويّة، وغيرها من أشكال الصراع الاجتماعيّ المتجدّد([14] ).
ويمكننا في هذا السياق أن نحدّد بعض الملامح الجديدة للنظريّات الجديدة لدى كوزر ودارندورف وكولينز بالمقارنة مع الماركسيّة:
أوّلاً – في الوقت الّذي ركّزت فيه الماركسيّة على مركزيّة الصراع بين الطبقات الاجتماعيّة والنظر إلى القوّة بوصفها المحدّد الرئيس للصراع، عملت النظريّات المعاصرة عند كلّ من دارندورف وكوز وكولينز على توسيع هذا المفهوم ليشمل مختلف أوجه الصراع الاجتماعيّ ولاسيّما الصراع بين الجماعات، والصراع بين الجنسين، والصراع العرقيّ، والصراع الثقافيّ، والصراع الدينيّ، والصراع بين الأجيال، ويشمل ذلك أيّ نوع من الصراع الّذي قد ينسب بين طرفين اجتماعيّين.
ثانياً – يهدف الصراع الماركسيّ إلى إنجاز التغيير الحتميّ في المجتمع لصالح الطبقات المهيّضة اجتماعيّاً. وعلى خلاف ذلك يرى منظّرو الحداثة الجدد أنّ الصراع قد يؤدّي إلى التماسك والضبط الاجتماعيّ وإحداث تغيّرات ضروريّة في المجتمع، ولكنّها ضمن مطالب التضامن والتفاعل والتكافل.
ثالثاً – تركّز الماركسيّة على الطابع الكلّيّ للصراع الّذي يشمل مختلف جوانب المجتمع، وفي مختلف أزمنته ليكون صراع محوريّاً أبديّاً بين من يملك وسائل الإنتاج وبين الّذين يبيعون قوّة عملهم. وهذا يعني أنّ الماركسيّة تنظر إلى المجتمع في كلّيّته وفي تدفّق فعاليّاته على نحو شموليّ، وهذا يرمز إلى علم الاجتماع الشموليّ أو علم اجتماع الوحدات الكبرى أم بما يعبّر عنه بمفهوم “الماكروسوسيولوجي” (Macrosociology)، وعلى خلاف ذلك تبحث النظريّات الحداثيّة في الظواهر الصغرى في مستوى الجماعات والفئات الصغيرة وهو ما يطلق عليه علم اجتماع الحياة أو علم اجتماع الوحدات الصغرى أو ما يسمّى بـ “الميكروسوسيولوجي(Micosociology). وهذا يعني أنّ الماركسيّة تعنى بالصراع بالطبقات على مستوى المجتمع ككلّ، بينما تعني النظريّات الحديثة بالصراع بين أفراد الجماعات الصغرى مثل: الأسرة، المدرسة، جماعة الأقران، جماعات الموظّفين في العمل والعمّال في المعمل، والأفراد في الشارع، والناس في السينما أو في أماكن العبادة الخ.
رابعاً – بينما تركّز الماركسيّة على أنّ الصراع يهدف إلى تحقيق العدالة وتطوير المجتمع والتخلّص من كلّ أشكال التسلّط والاستبداد والاستغلال، يرى الصراعيّون الجدد بأنّ الصراع يتمّ بين الكائنات الإنسانيّة وفق فكرة البقاء للأقوى والأصلح؛ أي، وفق الرؤية الداروينيّة الاجتماعيّة. وأنّ هذا الصراع يأخذ صيغاً أخرى مثل الصراع بين الأحزاب، والجماعات، وبين السلطة والجماهير، وهذه الصراعات تسعى إلى تحقيق التوازن والتكامل في المجتمع. ويعني هذا أنّ الصراع ينطوي على جوانب متعدّدة؛ إذ يدخل في شبكة معقّدة من العلاقات والتفاعلات والصراعات الّتي تؤدّي وظيفة تضامنيّة في النهاية، ولكنّها لا تشكّل في نهاية الأمر وضعيّة ثوريّة، أو لا تهدف أبداً إلى تحقيق تغيّرات جذريّة.
وأخيراً يمكن القول بأنّ الماركسيّة ما زالت تفرض نفسها بقوّة في مختلف المسارات الفكريّة للنظريّات الصراعيّة، وما زالت تشكّل منجماً غنيّاً وطاقة تنويريّة كبيرة يهتدي بها المفكّرون والباحثون في تناول الظاهرة الصراعيّة في المجتمعات الإنسانيّة.
مراجع الدراسة وهوامشها:
([1]) – K. Marx, A Contribution to the Critique of Political Economy, pp. 20-21.
([2]) – ماركس أنجلز، البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، منشورات الجمل: مكتبة الفكر الجديد، بيروت، 2015. )إنجلز لندن 28 يونيو 1883 ) ص 28.
([3]) – ماركس أنجلز، البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، المرجع السابق ، ص 47-48.
([4]) – Abha Chauhan HOD & Neha Vij, Sociological Theory, Printed and Published on behalf of the Directorate of Distance Education, University of Jammu, 2019. https://www.distanceeducationju.in/pdf/202.pdf . P.91.
([5]) – Abha Chauhan HOD & Neha Vij, Sociological Theory, Ibid ,P.92.
([6])– Turner, Jonathan H. (1987), The Structure of Sociological Theory, Jaipur: Rawat Publications
([7]) – Abha Chauhan HOD & Neha Vij, Op.Cit. P.94.
([8]) – Abha Chauhan & Neha Vij , Op.Cit.. P.93.
([9]) – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع ، دققه وراجعه علميًّا ذيب بن محمد الدوسري، عمر عبد الجبار أحمد، خالد بن عمر الرديعان ، الرياض : مكتبة جرير ، ط 1، 2018 . ص 161.
([10]) – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع ،المرجع السابق ، ص 161.
([11]) – جورج ريتزر وجيفري ستيبنسكي، النظريات الحديثة في علم الاجتماع ، المرجع السابق . ص 161.
([12]) – Abha Chauhan HOD & Neha Vij ,Op.Cit . P.95.
([13]) – ADAM HAYES , Conflict Theory Definition, Founder, and Examples:What you need to know about the Karl Marx theory, June 22, 2022, Conflict Theory Definition, Founder, and Examples (investopedia.com).
([14]) – ADAM HAYES , Conflict Theory Definition, Founder, and Examples:What you need to know about the Karl Marx theory, June 22, 2022, Conflict Theory Definition, Founder, and Examples (investopedia.com)
__________
*علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت.
*المصدر: التنويري.