المقالاتفكر وفلسفة

موت الأشياء؛ الاضمحلال والتلاشي المنظِّم للمعنى

عندما يختفي النفق:

اتَّخذت فلسفة الموت أشكالًا عديدة عبر تاريخنا القديم والمعاصر، وظفرت الكثير من النظريَّات الأولى حول الحياة الآخرة بآراء مثيرة للجدل والاهتمام. فإذا كان اليقين الوحيد في الحياة هو الموت فماذا بقي من معنى الحياة؟ وإذا جاز لنا التساؤل: ما الذي يمكن أن تكشفه فلسفة الموت حول هذا الموضوع؟ فكثيرًا ما تشغلنا أسئلة الوجود الحارقة، ونجيبها حينًا بجديَّة البحث والدراسة، وأحيانًا بالتظاهر بفهم مقاصدنا في حياة تتناقض في تفاصيلها، وتتناقص من أطرافها؛ بتتالي الفقد المعدوم، أو الموت المحتوم. فهل نستعصم منهما؛ العدم والموت، بأبراج الوهم، أم بصداقة الكتاب، أم باعتلاء جبل لا يبلغه ترياق الحقيقة؟ وفي المراوحة بين إكراهات الحال والمآل، فإنَّنا أحيانًا نشعر بأنَّ الأشياء الماديَّة تغدو وتروح من ثنايا الشعور بفقدها، وبأنَّه يجب أن نُدرك أنَّ بعض الأشخاص، كما الأشياء، يُمكن أن يبقوا في قلوبنا، ولكن ليس في حياتنا، إن هم تقطَّعت بهم سبل الوصل المُبَلِّغ للمعنى.

 إنَّ هذه المفارقة حقيقة، لكنها مؤلمة حدَّ الوجع، وتحاصرنا، ولكن لا نُريد أن نقترب منها، ولا أن نبحث عنها. لذلك، في لحظة الصدق العليا، لن تحدِّثنا النفس الأمَّارة عن البحث عن ذات غير ذاتنا، رغم غياب أجزاء مهمَّة من كمالات هذه الذات، وهي وشائج الأواصر مع الأفراد الذين تقطَّعت معهم أشراط التجربة الإنسانيَّة المشتركة، فصاروا أقرب لوحدة قابلة للانقسام، وذرات ذكرى مكتوب عليها التشظِّي والاندثار. وقد يكون الرجاء عامرًا برؤية ضوء في آخر النفق، لكن الحسرة تقبض الأنفاس عندما يختفي النفق في مجاهل العدم.

لهذا، يحتضن اليقين الراسخ محفوظ قناعاتنا بأننا سنفقد، على مدى حياتنا القصيرة على الأرض، مئات الآلاف من الأشياء العارضة؛ مثل، ألعاب الطفولة، وأشلاء ذكريات الشباب، ومدارج أعوام النضج، وخضَّات التحوّلات في عصرٍ يبرق مع كل طرفة عين بجديد، فتتخلَّل شِعاب حافِظتنا كلمات المرور، وجوازات السفر، والمظلَّات، والأوشحة، والأقراط، وسماعات الأذن، والآلات الموسيقيَّة، وتلك الرسالة، التي قصدت الردّ عليها، وقسمة الحظ، وقسيمة الإذن بالدخول والخروج من رابطة الثنائيَّة، التي نقضتها أطماع الفرديَّة، وحتى علبة الطلاء الساترة لعيوب الأيام على الوجوه والجدران، والتي وضعتها جانبًا بدقَّة منذ سنوات الأمل في رحلة الحياة المشتركة. لقد فقدنا من أجل هشاشتها إحساس التماس مع مضمونها، حتى عندما كانت مشاعر غيرنا وظيفيَّة، أدركنا أنَّنا سنحتاج إليها يومًا ما لعبور جسور لم تنتقل فكرتها من الورق. فكيف الوصول إذن إلى حيث رأس المال المعنوي، والعلاقات، والولاءات، والأحبَّاء المخلصين، أو الذين يتحوَّلون بمواقفهم إلى مجرد أشياء يُدرِكها العدم، بعد أن كانوا بشرًا أسوياء. لذلك، فإنَّ نطاق الأشياء، التي نفقدها والاستعداد، الذي نخسره للقيام بذلك أمر مذهل. فقد تبيعك الأقدار مقابل لا شيء، عندما يصبح كل شيء قابل للمساومة، ويصير كل شيء في مكانه غير الصحيح، ويسقط بشكل محيِّر، كل شيء في غير مكانه.

ولهذا، تُشير البيانات المستمدة من إحدى الدراسات الاستقصائيَّة، التي أجرتها شركات التأمين إلى أنَّ الشخص العادي يخطئ في وضع ما يصل إلى تسعة أشياء في اليوم، ممَّا يعني أنَّه بحلول الوقت، الذي نبلغ فيه الستين، سنكون قد فقدنا ما يصل إلى مائتي ألف شيء. وقد تبدو هذه الأرقام غير معقولة إلى أن تفكِّر في كل تلك الأوقات، التي كنت تصرخ فيها على الدرج لتسأل شريكة حياتك عمَّا إذا كانت قد رأت سترتك، أو في عدد المرات، التي تبحث فيها في وسائد الأريكة عن القلم، الذي كنت تستخدمه للتو لتسطير حلم وجفَّت به الذاكرة، أو في ذلك اليوم تقريبًا، الذي هممت فيه بالخروج من الباب عندما لا تتمكَّن من العثور على حقيبة طفلك المدرسيَّة، أو مفاتيح سيارتك. من المؤكَّد أنك ستستعيد العديد من هذه العناصر، لكنك لن تستعيد أبدًا الوقت، الذي أهدرته في البحث عنها. وعلى مدار حياتك، ستقضي ما يقرب من ستَّة أشهر كاملة في البحث عن الأشياء المفقودة؛ وهذا يعني، بشكل جماعي، حوالي أربعة وخمسين مليون ساعة يتمُّ قضاؤها في البحث يوميًّا عمَّا أدركه الفقد من ممتلكاتنا. وسيعرض عليك الكثيرون المساعدة في العثور على الأشياء المفقودة، ولكن معظم اقتراحاتهم إمَّا غير واضحة، أو مشبوهة، ولكنَّها كقاعدة عامَّة، قد تكون مفيدة فقط بما يتناسب مع غرابة كل ما لديك من أشياء استحالت عدمًا.

تفسيرات مختلفة:

بشكل عام، هناك تفسيران لسبب فقداننا لكل هذه الأشياء: أحدهما علمي، والآخر تحليلي نفسي، وكلاهما غير مرضٍ تمامًا للكثيرين من الناس، الذين تتعثَّر تجاربهم مع اضطراب الذاكرة. ووفقًا للرواية العلميَّة، فإنَّ فقدان الأشياء يمثِّل فشلًا في التذكُّر، أو فشلًا في الاهتمام: إمَّا أنَّنا لا نستطيع استرجاع الذاكرة؛ أو المكان، الذي وضعنا فيه محفظتنا، على سبيل المثال، أو أننا لم نشفِّرها في المقام الأول، لنتمكَّن من استرجاعها عبر منفذ خصوصيتها. وعلى العكس من ذلك، ووفقًا لتفسير التحليل النفسي، فإنَّ فقدان الأشياء يمثِّل نجاحًا، لأنَّه تخريب متعمَّد لرؤيتنا العقلانيَّة لهذه الأشياء من خلال رغباتنا اللاشعوريَّة في تعمُّد فقدانها. ففي كتابه “علم النفس المرضي للحياة اليوميَّة”، يصف سيجموند فرويد “البراعة اللاواعية، التي يتمّ بها تضليل شيء ما بسبب دوافع خفيَّة، ولكنَّها قويَّة”، بما في ذلك “التقدير المنخفض، الذي يتمّ من خلاله الإمساك بالشيء المفقود، أو الكراهية السريَّة تجاهه، أو تجاه الشخص، الذي جاءت منه.” وقد طرح زميل فرويد ومعاصره أبراهام أردن بريل الأمر بشكل أكثر إيجازا: “نحن لا نفقد أبدًا ما نقدِّره بشدَّة”.

وكما تقول التحليلات، فإنَّ التفسير العلمي مقنع، ولكنَّه غير مثير للاهتمام، لأنَّه لا يلقي الضوء على الإحساس، الذي نشعر به عندما نفقد شيئًا ما، ويقدِّم فقط الفكرة الأكثر تجريدًا، وغير العمليَّة حول كيفيَّة عدم القيام بذلك. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الحساب النفسي مثير للاهتمام، ومسلي، ومفيد من الناحية النظريَّة، إذ أشار فرويد إلى “اليقين الملحوظ، الذي ظهر في العثور على السبب”. ويعترض مرَّة أخرى بمجرد انتهاء الدافع وراء ضياعه، ولكنَّه، يا للأسف، غير صحيح. إنَّ أفضل ما يمكن قوله عن هذا الأمر هو أنه يبالغ في تقدير جنسنا البشري إلى حدٍّ كبير: ففي غياب الدوافع اللاواعية، على ما يبدو، لن نخسر أي شيء على الإطلاق.

إنَّ هذا قد يبدو غير صحيح بشكل واضح، ولكن، مثل العديد من الادِّعاءات النفسيَّة، من المستحيل دحضه فعليًا. لنقل؛ مثلًا، ربما كان الرجل، الذي ترك تذاكر سفره في سيارة الأجرة، من أكثر عشاق السفر شغفًا. كما أنَّ الأم الشغوفة، التي فقدت طفلها الصغير في المركز التجاري، ربما تكون قد سئمت سرّاً من متطلّبات الأمومة. وربما تفقد إحداهن محفظتها، في كثير من الأحيان، بسبب الانزعاج العميق من تكاليف الحياة، بما في ذلك ما نعدّه مقدَّسًا من روابطها. لذلك، سيتمسَّك فرويد بمثل هذه الافتراضات، ولا شك أن بعض الخسائر تحدث بالفعل بسبب عاطفة اللاوعي، أو على الأقل يمكن تفسيرها بشكل مقنع بهذه الطريقة بعد وقوعها. لكن التجربة تخبرنا أنَّ مثل هذه الحالات غير عاديَّة، هذا إن وجدت أصلًا. والتفسير الأفضل، في أغلب الأحيان، هو ببساطة أن الحياة معقَّدة والعقول محدودة. ونحن نفقد الأشياء لأنَّنا معيبون؛ لأننا بشر؛ لأنَّ لدينا أشياء لنخسرها، بوعي وبغير وعي.

فقد الخاص:

إنَّ من سنحت لهم الفرصة لمطالعة الأعمال الأدبيَّة الغربيَّة، سيجدون أن بين جميع الأشياء المفقودة في الأدب، تظهر واحدة من الأشياء المفضَّلة لدي، أو بالأحرى تختفي، كما في مذكَّرات باتي سميث لعام 2015، “M Train”. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يهتم في النهاية بخسائر أكثر خطورة بكثير، إلا أنَّ سميث تتوقَّف في منتصف الكتاب لتصف تجربة فقدان المعطف الأسود المحبوب، الذي أهداها إياه أحد الأصدقاء، من على ظهره، في عيد ميلادها السابع والخمسين. لم يكن المعطف يستحقّ النظر إليه كثيرًا، فقد أكلته العثَّة، وتفكَّك عند طبقاته، وهو في حدِّ ذاته مُحسَّن لفقد الأشياء من خلال الفتحات الكبيرة في كل جيب، ولكن، كما كتبت سميث، “في كل مرَّة أرتديه أشعر وكأنَّني على طبيعتي.” ثم جاء فصل الشتاء القاسي بشكل خاص، والذي تطلَّب سترة أكثر دفئًا، وبحلول الوقت، الذي أصبح فيه الهواء معتدلًا مرَّة أخرى، لم يكن المعطف مرئيًّا في أيِّ مكان.

لذلك، عندما نفقد شيئًا ما، فإنَّ ردَّ فعلنا الأول، بطبيعة الحال، هو الرغبة في معرفة مكانه. ولكن وراء هذا السؤال حول الموقع يكمن سؤال آخر حول السببيَّة، خاصَّة إذا كان بعض ما نفقده معلوم، ولكن توقّف الشعور الحي أن يمتدَّ إليه: ماذا حدث له؟ ما العامل، أو القوَّة، التي جعلته يختفي؟ هل مات فينا وجوده؟ ومثل هذه الأسئلة مهمَّة للغاية، لأنَّها يمكن أن تساعد في توجيه نظرتنا للأشياء المفقودة حُكمًا والموجودة عَدَمًا. ويحملني اليقين أنك إذا كنت في مكان باتي سميث سوف تتصرَّف بشكل مختلف عمَّا إذا كانت تعتقد أنها تركت المعطف في سيَّارة أجرة، أو اعتقدت أنها وضعته في صندوق وتركته في الطابق السفلي، في دار علت طوابقها. وبنفس القدر من الأهميَّة، يمكن أن توفِّر لنا الإجابات على هذه الأسئلة تلك الحالة المرغوبة، والتي تُعرف بالإغلاق، أو التوقُّف عن الاهتمام بالموجود العدم. فمن الجيِّد أن نستعيد المفاتيح إذا هي فُقِدَت عَرضًا، ومن الأفضل أن نفهم كيف انتهى بغيرها الأمر في سلّة إعادة التدوير الخاصَّة بأحزاننا المُمِضَّة لفقدٍ أوصد بالحماقة باب وجوده.

ولكن التساؤلات حول السببيَّة من الممكن أن تؤدِّي أيضاً إلى المتاعب، لأنها في جوهرها تطلب مِنَّا إلقاء اللوم على أنفسنا فيما فُقِدَ حُكمًا، وعلى ما تلاشى وجوده عدمًا. ولأنَّ كوننا بشر، فإننا غالبًا ما نتردَّد في إسناد هذا الأمر إلى غير من تولى المغالطة في حقّنا، لأنَّ الكبرياء الكاذب يُحيل من ركبه رجس الغرور إلى حالة نرجسيَّة تأبى أن تتساوى أحكامها مع غيرة غيرها عليها. وعندما يتعلَّق الأمر بالممتلكات المفقودة؛ بمن فيهم الأحياء الموات، فمن الممكن دائمًا؛ وصحيح أحيانًا، أن يكون شخص آخر قد تسبَّب في اختفائها حُكمًا، مثلما يمكن أن يكون قد قرَّر موتها كشيء عدمًا. وهذه هي الطريقة، التي تتحوَّل بها مشكلة شخصٍ ما إلى معضلة مع شيء ما، إذا تتضاءلت قيمة هذا الشخص المعنويَّة في وجوده الحي، أو “من” حالته الوجوديَّة إلى تلاشي هذه القيمة، فتُصبِح الإشارة إليه بـ”ما” الشيئيَّة. فقد يقسم المنطق صحَّة دليل المعني الإنساني على أنك تركت فاتورة حظه جالسة على طاولة الانتظار، ليرسلها طهاة الغيبة إلى بريد التلقِّي الأبدي لعوارض الشكّ المسموم؛ وحَمَّالوا الإفناء يقسمون بنفس القدر من الشدَّة أنه لم يكن موجودًا أبدًا في طائلة الوعي، أو مسارب الشعور، أو حتى طاولة التجنِّي؛ وسرعان ما يفقد الطرفان أعصاب الفهم، الذي يروِّض عجلة الحقيقة عبر مقابس سرعاتها المختلفة.

نور الحسرة:

إنَّ هناك احتمال آخر، أقل ورودًا إلى حدِّ كبير، ولكنَّه يحافظ على نفسه بنفس القدر، وهو أنَّ الجسم المفقود هو، الذي صمَّم اختفاءه بنفسه، بمفرده، أو بالاشتراك مع قوى غامضة أخرى، سيتفاجأ حتمًا بانبثاق نور الحسرة في نهاية نفق العدم. أولم تقترح باتي سميث أنَّ ممتلكاتها المحبوبة، مثل معطفها الأسود، “تنجذب أحيانًا إلى ذلك المكان نصفي الأبعاد حيث تختفي الأشياء”. ومثل هذه التفسيرات أكثر شيوعًا مما قد نعتقد، لأنَّها تدلّنا على المكان حيث بدأت رحلة العدم. لنقل؛ مثلًا، أنك إذا قضيت وقتًا كافيًا في البحث عن شيء كان موجودًا هناك، فحتى أكثر الأشخاص ميلًا علميًا على هذا الكوكب سيبدأ في افتراض العديد من المسبّبات غير المحتملة إلى حدٍّ كبير، فتهبط على مسامعك توصيفات؛ مثل، الثقوب الدوديَّة، والكائنات الفضائيَّة، والعفاريت، والأثير، أو يُدركون في خاتمة التكهنات أنَّه مات داخلنا، فلن نجده في الخارج.

وهذه الحقيقة الفاصلة الأخيرة هي عمل مثير للإعجاب من حيث إنّها تأبى الاستعانة بمصادر خارجيَّة للتفسير، بالنظر إلى أننا نتحمَّل المسؤوليَّة تسع مرات من أصل عشرة عن فقدان كل ما لا يمكننا العثور عليه. بعبارة أخرى، في دراما الخسارة الصغيرة، نكون دائمًا أشرارًا وضحيَّة في نفس الوقت. وهذا يفسِّر إلى حدٍّ ما لماذا يقول الناس في كثير من الأحيان إنَّ فقدان الأشياء يدفعهم إلى الجنون. وفي أفضل الأحوال، فإنَّ فَشَلَنَا في تحديد موقع شيء تعاملنا معه آخر مرَّة بأنفسنا يُشير إلى أنَّ ذاكرتنا قد انفجرت؛ وفي أسوأ الأحوال، فإنَّه يدعو إلى التشكيك في طبيعة الذات واستمراريتها. ولتعلم أنه إذا فقدت شيئاً ما خبأته عمداً لحفظه، فأنت تعلم أنَّ الإحباط الناتج عن فقده لا ينبع من فشل الذاكرة فحسب، بل وأيضاً من الفشل في الاستدلال عليه. وكما تساءل أحد المعلقين المخضرمين على الإنترنت: “لماذا يكون الأمر صعباً إلى هذا الحدّ؟ أن أفكر مثلي؟” لذلك، فإنَّ جزءًا ممَّا يجعل الخسارة ظاهرة معقَّدة بشكل مدهش هو أنَّها لا يمكن فصلها عن ظاهرة الإدراك البشري المعقَّدة للغاية.

ويصبح هذا التشابك أكثر إثمارًا مع تقدّمنا ​​في السن، إذ ربما نفقد أعز ما نملك، وأن من ضاع، أو ما ضاع لا عمر لتعويضه. إذ إننا بعد سن معيَّنة، يخضع كل فعل خسارة لطبقة إضافيَّة من التدقيق، خاصَّة في حالة ما إذا كان ما فقدته بالفعل هو عقلك، أو قلبك المتعلِّق بالمفقود. إنَّ معظم هذه الأفعال لا تُشير إلى علم الأمراض بالطبع، لكن التدهور العقلي الحقيقي يتجلَّى جزئيًا في زيادة طفيفة في الأشياء المفقودة. ويكون مرضى الخرف عرضة لوضع متعلّقاتهم في غير مكانها، وغالبًا ما لا يتمكَّن الأشخاص المصابون بمرض الزهايمر في مرحلة مبكّرة من العثور على الأشياء، لأنهم وضعوها في أماكن غير محتملة؛ النظارات تنتهي في الفرن، وأطقم الأسنان في علبة القهوة. وهنا، فإنَّ مثل هذه الخسائر تحزننا لأنَّها تنذر بخسائر أكبر؛ من الاستقلاليَّة، والقدرة الفكريَّة، وفي نهاية المطاف الحياة نفسها.

طبائع الخلق:

لا عجب أنَّ فقدان الأشياء، حتى الأشياء التافهة، يمكن أن يكون مزعجًا للغاية، فما بالك بمن كانوا أصلًا جزءًا أصيلًا لتمام المعنى في الوجود. فبغض النظر عمَّا يغيب، أو من يغيب، فإنَّ الخسارة تضعنا في مكاننا؛ إنَّها تواجهنا بانعدام النظام في طبائع الخلق، وفقدان السيطرة على التركيز على جوهر هذا المعنى، وطبيعة الوجود العابرة لأنانيَّة التملُّك. ولننظر أنَّه عندما تتخلَّى باتي سميث عن العثور على معطفها الأسود، تتخيل أنه، إلى جانب جميع الأشياء المفقودة الأخرى في العالم، قد ذهب ليسكن في مكان كان زوجها يحب أن يطلق عليه وادي الأشياء المفقودة. فالظل المفقود من تلك العبارة يظلم مذكراتها، وربما يحفِّزنا أن نُسَطِّر بعض رؤيتنا لتجارب الفقد العارض والمؤلم في مسيرة حياتنا. وفي سياق ذلك، تصف سميث أيضًا فقدان صديقتها المفضّلة وشقيقها وأمها، وذلك الزوج؛ في سنِّ الخامسة والأربعين، بسبب قصور عضلة القلب، حيث تشكَّلت المأساة بأبعادها الإنسانيَّة.

وفي ظاهر الأمر، فإنَّ مثل هذه الخسائر لا تتناسب بشكل جيد مع الخسائر الأقل، لأنَّ ضياع ما يُشْتَرى شيء، وفقدان ما يُحبّ ويُشتهى شيء آخر. وهذا هو التمييز، الذي تسلِّط عليه إليزابيث بيشوب، من خلال التظاهر بتجاهله، في كتابها القصير “فن واحد”، الذي ربما يكون أشهر حساب للخسارة في كلِّ الأدب. فقد كتبت في السطر الافتتاحي: “ليس من الصعب إتقان فن الخسارة”، لأنَّ الحيلة هي أن تبدأ بخسائر تافهة، مثل مفاتيح الباب، وتتدرَّب حتى تتمكَّن من التعامل مع تلك الخسارة المأساويَّة. ولا يمكن لأحد أن يأخذ هذا الاقتراح على محمل الجدّ، وليس من المفترض أن نفعل ذلك، إلا إذا أدركنا الفقد بغتة. ومن خلال محتواها، وكذلك شكلها، تعترف حقيقة القصد في النهاية بأنَّ جميع الخسائر الأخرى تتضاءل بجانب فقدان الإنسان أحد أطرافه، أو بعض ذاته.

علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن بيشوب لا توضح هذه النقطة صراحة، فإنَّ الموت يختلف عن الخسائر الأخرى، ليس فقط من حيث الدرجة، ولكن أيضًا من حيث النوع. فمع الأشياء، الخسارة تعني إمكانيَّة التعافي؛ ومن الناحية النظريَّة، على الأقل، يمكن إعادة كل حيازة مفقودة تقريبًا إلى مالكها. ولهذا السبب، فإن الشعور المحدّد لفقدان الأشياء ليس الإحباط، أو الذعر، أو الحزن، بل هو الأمل على نحو متناقض بإمكانيَّة استعادتها. وعلى النقيض من ذلك، بالنسبة لفقد الناس، فإنَّ الخسارة ليست حالة انتقاليَّة، بل هي حالة، في الغالب، نهائيَّة، وكما أسلفنا، بالفقد حُكْمًا، أو بالموت عدمًا. إذ إنَّ الحياة الآخرة، بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بها، ونحن منهم، لا تترك لنا شيئًا نأمله، أو نفعله، غير التسليم بفقد قد نصادفه على قارعة الطريق، بينما الموت خسارة من دون إمكانيَّة العثور عليه.

لقد مات لنا أحبَّاء كُثر، وبالإضافة إلى كونهم بعض ذواتنا، افتقدناهم حبًّا لوجودهم العامر، ومنذ رحيلهم، أظلمت الأيام في وجوهنا ردحًا من الزمان، وتقاذفتنا حالة من الضياع في كل مرَّة يصعد فيها وهج المعنى مع أرواحهم. ولا شكّ أننا جربنا أن نسير على غير هدى، مشتَّتين، غائبين عن الوعي بامتدادات أنفسنا الحاضرة في زحمة الحياة. أو ربما يكون من الأنسب أن نقول إنَّنا كنَّا في حيرة من أمرنا، وهو تحوّل غريب في العبارة، كما لو أنَّ الخسارة هي مكان في العالم المادي، أو نوع من المرآة العاكسة لنوازع تتباين خواصّها في كل حالة كربٍ، أو دوامة ثائرة، أو كارثة دوَّارة، حيث تفشل الروح في إدراك تواصل الزمن، وتختفي إبرة البوصلة في فضاء المكان.

انكسار الروح:

ولحكمة يعلمها الله، ربما قد كُتِبَ علينا أن نعيش لحظات من انكسار الروح، وفوضى الأحاسيس الدامعة، في كل منعطف تسترخي فيه نوازعنا للاستقرار على حال. ومع ذلك، تُسعِفنا ملاطفات العادة، وتقاليد التراحم على مرِّ السنين، بأن نتمكَّن تدريجيًا من كبح مشاعر الذعر والفزع، التي كانت تنتابنا في بداية كل قرحٍ تنفطر له القلوب. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنَّه لا يمكن لأحد أن يعيش في حالة أزمة إلى الأبد، ولكن أيضًا لأنَّ بعض من نفتقدهم وهم أحياء، على العموم، قد تحمَّلوا تبعات ضعفهم بلا مبالاة. إنَّنا لم نكن نعلم، طوال كل ذلك الوقت، وفي ظلِّ كل تلك الظروف المتنوِّعة، التي تعوَّدنا فيها البقاء معًا، أننا كُنَّا نفتقر للكلمات الدالَّة على حقيقة مشاعرنا نحو البدايات، التي ذهبت، ولا مقاصد الاستمرار، الذي يستعجله التلاشي، ولا تفاصيل النهايات، المقهورة على التزام الصمت.

لقد مرَّت الأيام، التي حدثتنا فقط عن أن نعيش بهدوء، من دون أن نبوح بمفرداتها، أو نُسرِف في التعبير عن مكنونات روابط التقدير فيها، لأن أذواق العابرين والغابرين هي دائمًا مقبورة في دواخلهم. وفي روتين حياتهم المبعثرة على شفا مناقبهم، لم يكن هناك شيء آخر ليقال غير سوالف الحال، إذ قد يكون كل منهم صامتًا، ولكن بالقدر نفسه يقظًا، تتجسَّس مشاعرهم عليهم، وتتحسَّس أعطافهم دواخلهم كلما طفأ على جُدر حصونها إشارات كاشفة لبواطنهم. ففي حزن كاثرين شولز، الكاتبة في مجلة The New Yorker، والفائزة بجائزة بوليتزر لعام 2016 عن فئة الكتابة الطويلة، على أبيها، طيف من وجع الذكرى، عندما كان ينظر من وجه إلى آخر بينما كانا يتحدثان، وعيناه تلمعان بالدموع. فكانت تخشى دائمًا رؤيته يبكي، ونادرًا ما كان يفعل ذلك، لكنَّها شعرت بالامتنان لمرَّة واحدة. لقد أخبرها بما كانت بحاجة إلى معرفته: لأنَّه قد يكون آخر مرَّة في حياته، وربما الأكثر أهميَّة، لقد فهمها. وذلك ما جعل الموت عندها ذا معنى، ومقبول، بل له مذاق حلو، كما تجرّأت على وصفه، فهناك خيط من الحلاوة والمعنى يمكن العثور عليه بداخله، مثل عرق من الفضّة في كهف مظلم على عمق ألف قدم تحت الأرض؛ ومع ذلك، فإنَّ الكهف هو كهف ومظلم، ولكنَّه يحتوي على خيط من انبثاق القيمة.

إنَّ قولها ذاك مَثَّلَ شكلًا من أشكال الحبّ المختل، وهو كذلك إلى حدِّ الاعتقاد، لأنَّه أبان أنَّ ليس للحزن حدود؛ إذ نادرًا ما نتمكَّن من التمييز بين ضيقنا بسبب هذه الخسائر اللاحقة وحزننا على من فقدنا، وربما ما فقدنا، لضياع ما يرمز لخيط القيمة في ظلام فاصلة الفقد المؤلم. وهنا، قالت كاثرين “لقد حافظت على رباطة جأشي أثناء حفل تأبينه، حتى أثناء إلقاء خطاب التأبين”، وهذه دالة على أن الحزن مقيم داخلها، رغم الإقرار ببعض حلاوة الموت. فرباطة الجأش استدعتها اللحظة، لكن لأسابيع تالية، واصلت العمل بهذه الطريقة، عبر موجات من الحزن الفعلي والمتوقَّع. ولم تستطع التوقُّف عن استحضار الكوارث، الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وغيرها. وشعرت بخوف متزايد كلما لم تردّ والدتها على هاتفها، وكرهت رؤية أختها تستقلّ الطائرة، وبالكاد سمحت لشريكها بالركوب في السيارة. ومن مِنَّا لم يشاطر كاثرين شولز فيما كتبته، إذ “تبدو أشياء كثيرة مليئة بقصد الضياع”، وبقدر ما شعرت به من حزن محدّد، كان ذلك؛ الكم الهائل من الألم، وحتميَّة المزيد من المعاناة، هو ما حطّمها، ويمكن أن يجعل مِنَّا جميعًا عرضةً لحطامٍ من نوعٍ مختلف، ولكنَّه يقترب من ذات درجات التعلُّق بالمفقودين؛ أحياء كانوا، أو من هم في عَدَاد الأموات. فهناك القليل من الأشياء، التي يمكننا معرفتها على وجه اليقين خلال رحلتنا في الحياة، ومن المفارقات أنَّ أحد هذه الأشياء هو حقيقة أن حياتنا ستنتهي في النهاية. في حين أنَّنا لا نعرف شيئًا مؤكّدًا عمَّا يحدث قبل أن نولد، أو بعد أن نموت، فإنَّ الموت يمثِّل وجهة لا مفر منها في طريق كل إنسان، والتي يمكن أن تكون يقينًا مريحًا، أو تهديدًا صريحًا يلوح في الأفق، اعتمادًا على الطريقة، التي تنظر بها إليها، أو ما أعددته من ثمرات حصاد الحياة لرحلة بلا عودة.

غيهب النسيان:

إنَّ الإرادة هي بالضرورة نَزَّاعة للعيش، بمعنى أننا نريد أشياء يمكن أن نختبرها في حياتنا، أشياء موجودة فيما نسميه الحياة، لأنَّ هذه هي الأشياء الوحيدة، التي يمكننا الوصول إليها. فيما يَدَّعِي الفيلسوف شوبنهاور أنَّ الموت هو الهدف والغرض النهائي للحياة، لأنَّنا فقط في الموت نتحرَّر من دورة المعاناة المستمرَّة في الحياة. فهناك في الحياة حزن يرغمك على البكاء، وحزن يرهقك بالكآبة، وحزن يجبرك على الكتابة، لكن أشدّ أنواع الحزن ما يأخذك إلى غيهب النسيان. ذلك الحزن العميق، الذي يجعلك تفرغ كل ما في رأسك من عاطفة التعلُّق، وجميع رجاءات الأفكار القَلِقَة، لتستريح في مكان لا تزورك فيه إلا الطمأنينة، وحيث لا يفتقدك أحد ما دمت لا تعني له شيئًا، لأن هذا هو ما ستراه في أعين الذين أحببتهم كثيرًا. فإن كنت تمثِّل فترة عابرة في حياة من تحب، قد يأتي أحد غيرك، ولكن لن يكون مثلك، لأنَّك الفترة، التي تُنْسى، وهو ما يزال على قيد الذاكرة. فأنت قصَّة الأمس، التي انتهت ولُفَّت في كفن يواريها لَحْد يرمز إليك شاهده. وبديل اليوم بدأ للتو، ليقتفي مع التائهين عثرات ما مضى، ويبتسم معهم للزيف تجاوزًا لك فيما يؤلمهم، لكنَّهم لن يعودوا حتى لأنفسهم كما كانوا. ولكن ديدنهم بكاء على طللٍ صريح المعالم، يجسّده قول باولو كويلو: لا شيء في الدنيا خاطئ تمامًا، لأنَّ حتى الساعة المتوقِّفة تكون صحيحة مرَّتين في اليوم.

فمن السهل إساءة فهم هذا على أنه تشجيع على الانتحار الاجتماعي، ومع ذلك، بينما يصرُّ شوبنهاور على أنَّ الموت في حدِّ ذاته هو الإنكار النهائي للإرادة، فإنَّه يذكِّر أيضًا أن الانتحار هو فعل تأكيد قوي للإرادة، التي تتَّخذ مركب الحماقة عَبَّارَةً لها. كما ذكرنا من قبل، بأنَّه إذا كانت الإرادة هي إرادة الحياة، فلا يمكننا إلا أن نُريد الأشياء الموجودة في الحياة، ممَّا يعني أننا لا نستطيع حقًّا إنهاء حياتنا. والشخص، الذي يرغب في الانتحار الاجتماعي لا يريد حقًا إنهاء حياته، لأنَّ ما يريده حقًا هو تجربة أشياء في الحياة لا يمكنه الوصول إليها في تلك اللحظة من اضطراب مشاعره. وإنكار إرادة من هذا النوع هو التغلُّب على الرغبات المضطربة، وليس أن نهزم الحياة بالمعاناة، التي تجلبها.

بيد أن صاحب الفجيعة لا تتوقَّف دقَّات عقارب ساعته فحسب، بل يفقد مذاق كل شيء آخر، ومع كل شيء آخر، كل الحافز؛ يوما بعد يوم، أن يفعل المرء ما هو أقرب ما يمكن إنسانيًا إلى لا شيء. ويعود هذا جزئيًا إلى الخوف من الابتعاد أكثر عن الوقت، الذي كانت فيه العلاقة لا تزال على قيد الحياة. ولكن كان ذلك أيضًا لأنه، بعد الانتهاء من جميع مهام الحداد الواضحة؛ أو ما يمكن أن نسميه انتهاء الخدمة، أو غِمَار المواساة، لن يكون لدي المرء أيَّة فكرة عمَّا يجب أن يفعله. وعلى الرغم من أننا قد نمضي عقودًا من الزمن قلقين بشأن فقدان عزيز لدينا، إلا أننا لا نفكر أبدًا فيما سيحدث بعد ذلك. مثل القلب، الذي نتخيّله كأن يتوقَّف دائمًا عند لحظة الموت، أو الفقد الجلل.

وتلزمنا الإشارة إلى أنَّنا نجد أنفسنا مضطرين للمضي قدمًا عبر الزمن، مع إدراكنا أننا لا نعرف كيف. فقد نجد بعض العزاء في الأدب والشعر، لكن بخلاف ذلك، ولأول مرَّة في حياتنا، ربما لا نهتم بالقراءة. وقطعًا لا نتمكَّن بسهولة من إجبار أنفسنا على الكتابة، لأسباب ليس أقلها إن أي قطعة ننتجها ستكون أول قصاصة لن يراها من قاسمنا معنى الحياة. لقد قمنا بتمديد الأمل قدر استطاعتنا في تعقُّب الأعمال الصغيرة، التي نشعر أنها سهلة وصحيحة، كالتواصل مع الأقربين، لكن هذه وحدها لم تكن قادرة على شغل الأيام بأمل يُرتجى. ولعلنا نتذكَّر، منذ أن كُنَّا يافعين، لا نزال نتعلَّم التغلُّب على الملل، لم تصدمنا الحياة بقدر ما أصبح الزمن فيها مجرد مشكلة فيما يجب أن نفعله.

البحث عن الذات:

إنَّ فلسفة فريدريك نيتشه تُثير، عندما يتعلَّق الأمر بموت الأشياء، الكثير من الجدل، لأنَّها تشجِّع على الانتحار بطريقة معينة. ومع ذلك، لا يدَّعي نيتشه أبدا أننا يجب أن نستخدم الانتحار كوسيلة للهروب من الحياة، أو أي مشاكل قد نواجهها فيها. بدلًا من ذلك، يُصِرُّ على أننا يجب أن نعيش حياة مرضيَّة وفقًا لرؤيتنا الخاصَّة للعالم، وأنَّ الموت لا ينبغي أن يفرض علينا تبديل قناعاتنا. ومن خلال فهم الموت كهدف وغرض نهائي للحياة، يمكن للمرء أيضا فهم الحياة على أنها عمليَّة موت مستمر تظهر لنا أن لدينا القدرة على قهر الإحباط وجعله جزءًا من نجاحنا في الحياة. رغم أن البشر يقتربون دائما أكثر فأكثر من ذلك الإطلاق النهائي لدورة المعاناة، ومع مرور الوقت يصبح الحاضر من الماضي، وتزول الرغبات الحاليَّة، وفي النهاية لن تكون موجودة، مثل عينات صغيرة من شظايا العدم، التي يتم اختبارها مع مرور الوقت.

لنعلم أنه سيكون من الآمن أن نفترض أن كل شخص سار على هذا الكوكب كانت لديه أفكار حول مستقبله في وقت، أو آخر، وكذلك فعلت أعظم عقول الجنس البشري. وخلال هذا الوقت، غالبًا ما نبدأ بالخروج للبحث عن ذاتنا، وهذا يتطلَّب الشروع في البحث عنها عمدًا مثلما يبحث المرء عن مفتاح مفقود للولوج عبر باب أوصدته الأقدار. ولأننا نجد السلام والوضوح في الطبيعة، فقد نقوم بهذا البحث في الخارج، في الفضاء الرحب؛ أحيانًا أثناء المشي، وأحيانًا أثناء الركض. وبالطبع لم نكن نتوقَّع أن نقابل من فقدنا مرة أخرى في هيئته الحسنة على قارعة الطريق؛ فقد مات الإحساس بكل أشكال هيئاته. وبقدر ما نفكِّر في الأمر على الإطلاق، نعتقد أنه من خلال الحركة المجرَّدة قد نكون قادرين على خلق نفق آخر من الفراغ، في أنفسا، أو في العالم، من شأنه أن يمتلئ بإحساس حضور صوت مألوف، صوت افتقدناه. ويمتلئ المكان بالأنس، والدفء، والألفة الكاملة لعلاقتنا الحيَّة، التي غيَّبتها عاديات الزمن، فصارت أشياء في عداد الأموات.

لقد كتب العديد من الفلاسفة أعمالا مكثفة حول هذه المسألة. وبعض هذه المنظورات ضروريَّة لفهم التطوّر الفكري للحضارة الغربيَّة. ويمكن للبعض أن يساعدنا على فهم روح العصر في الفترات المحوريَّة من التاريخ بشكل أفضل. تقول كاثرين شولز، في مقالها: “تأملات في موسمين من الخسارة”، الذي نُشِرَ في النسخة المطبوعة لعدد 13 و20 فبراير 2017، من مجلة نيويوركر، تحت عنوان: “الخطّ الخاسر”، لقد تعلّمتُ لاحقًا، من الأدبيَّات الأكاديميَّة حول الحزن، أنَّ “سلوك البحث” هذا، كما يطلق عليه، شائع بين الثكالى. اعتبر عالم النفس جون بولبي، المعاصر لإليزابيث كوبلر روس، المرحلة الثانية من الحزن، بعد الخدر، بمثابة “الشوق والبحث”. لكنَّني لم أشارك في هذا الأمر من قبل عن قصد، لأنَّه، من خلال تجربتي، كان الموتى يأتون دائمًا للبحث عني. بعد وفاة الأشخاص الآخرين الذين أحببتهم، غالبًا ما شعرت بهم بالقرب مني، وسمعت أصواتهم أحيانًا، وحتى في بعض المناسبات شديدة الغرابة، شعرت بالصدمة في قناعة غريبة بأنَّني التقيت بهم مرَّة أخرى بطريقة مختلفة، ولكن لا لبس فيها.

ولكي نكون واضحين، فإنَّ هذه التجارب لا تتوافق مع فهمنا للموت. لا نعتقد أنَّ أحبّاءنا يمكنهم التواصل معنا من وراء القبر، أو من وراء الغياب الأعمق من القبر عندما ينفصلون شعوريًا عن حياتنا، مثلما لا نعتقد أن الأزواج يتجسَّدون أحيانًا في هيئة أحياء بعد أن ماتت حبائل المودَّة والرحمة بينهم. لكن الحزن يجعل مِنَّا جميعًا علماء متهورين، وكُنَّا نعتقد أنه من الممكن، بطريقة مستحيلة، أننا إذا خرجنا للبحث عن أنفسنا قد نجدها بصحبة أمواتنا الأعزاء مرَّة أخرى، ولكن لن نجدها مع من بقي منهم على هامش العدم. وحديث كاثرين عن والدها قد يجسِّد شيئًا قريبًا من هذا، إذ تقول: في المرَّة الأولى استدرت بعد خمس دقائق؛ نادراً ما جرّبت أي شيء بدا عديم الجدوى. لكنَّها تتأسَّى بـ”سي إس لويس”، الذي كان يشعر في السابق أن الموتى قريبون منه، وبعد أن فقد زوجته نظر إلى السماء ليلاً، وشعر بالفزع، وعلم أنه لن يجدها أبدًا في أي مكان. وكتب في كتابه “ملاحظة حزن”: “هل هناك شيء أكثر يقينًا من أنَّه في كل تلك الأوقات والمساحات الشاسعة، إذا سُمح لي بتفتيشها، فلن أجد وجهها، أو صوتها، أو لمستها في أي مكان؟”، فبينه وبين زوجته الراحلة، لم يشعر إلا بـ”الباب المقفل، الستار الحديدي، الفراغ، الصفر المطلق”، وقد يماثل هذا “الصفر المطلق” شعور بعض الأحياء ببعضهم البعض.

لا يحتاج أحد إلى أن يتعلَّم ما هي الأشكال الهندسيَّة للعلاقات الاجتماعيَّة، فلدينا هذه المفاهيم بشكل طبيعي حتى بدون معرفة أسماء الأشكال نفسها. لهذا السبب، تقول كاثرين، أشعر تجاه والدي، إنَّه “ضائع” هو بالضبط الوصف الصحيح لكيفيَّة تجربتي معه منذ وفاته. أبحث عنه باستمرار لكن لا أجده في أي مكان. أحاول أن أشعر ببعض التلميح لوجوده ولا أشعر بأي شيء. أستمع إلى صوته، ولكني لم أسمعه منذ آخر مرَّة استخدمه فيها في المستشفى. إنَّ الحزن عليه يشبه حمل أحد تلك الهواتف المصنوعة يدوياً من علب الصفيح دون وجود علبة من الصفيح على الطرف الآخر من الخيط. غيابه كامل؛ حيث كان هناك، لا يوجد شيء الآن. ربما كان هذا هو الشيء الأكثر لفتًا للانتباه في وفاة والدي وكل ما تلا ذلك: إلى أي مدى كانت فكرة الخسارة ذات صلة، وكيف بدت في نفس الوقت واسعة النطاق ودقيقة جدًا. وفي الواقع، لدهشتي، كان الأمر دقيقًا. حتى بحثت عنها، افترضت أننا، ما لم نكن نتحدث عن شواحن الهاتف، أو مفاتيح السيارة، أو وصفات الكعك، كنا نستخدم كلمة “ضائع” مجازيًا، وحتى ملطفًا – أي أننا نقول “لقد فقدت والدي” للتخفيف من حدة الأمر؛ ضربة الموت، و”يؤسفني أن اختياري السيء للكلمات جعل بعض الناس يفهمون ما كنت أقوله.”

ولكن تبين أن هذا ليس صحيحًا. فالفعل “يخسر- Lost” له جذوره الغارقة في الحزن؛ إنه مرتبط بـ “محروم” في مهجور. إنها تأتي من كلمة إنجليزيَّة قديمة تعني الهلاك، والتي تأتي من كلمة أقدم تعني الانفصال، أو القطع. وظهر المعنى الحديث كوضع شيء ما في غير موضعه لاحقًا في القرن الثالث عشر؛ وبعد مائة عام من ذلك، اكتسبت كلمة “الخسارة” معنى الفشل في الفوز. ففي القرن السادس عشر، بدأنا نفقد عقولنا؛ في القرن السابع عشر، فقدنا قلوبنا. وبعبارة أخرى، فإن دائرة ما يمكن أن نخسره بدأت بحياتنا وببعضنا البعض، وهي تتوسَّع بشكل مطرد منذ ذلك الحين. ونتيجة لذلك، فإن الخسارة اليوم هي فئة محرجة للغاية، مليئة بكل شيء بدءًا من القفازات إلى مدخرات الحياة إلى الأحباب، ممَّا يفرض على العلاقات جميع أنواع التجارب المتباينة إلى حدٍّ كبير.

التقاط الأنفاس:

ومع كل ذلك، فإنَّ مشكلتنا ليست في أنَّنا نضع الكثير من الأشياء في فئة الخسارة، بل في أنَّنا نتجاهل الكثير منها. في إحدى الليالي، خلال تلك الأسابيع، التي لم أجد فيها العزاء إلا في الشعر، تقول كاثرين، قرأ لي شريكي “Crossing Brooklyn Ferry” بصوت عالٍ. فيها، يتكئ والت ويتمان على حاجز السفينة، ويعظّم كل ما يراه. رؤيته واسعة جدًا لدرجة أنَّها لا تشمل فقط الأرصفة والأشرعة وطيور النورس المترنحة، بل كل من يقوم بالعبور: كل أولئك الذين وقفوا عند السور قبل ولادته، وكل أولئك الذين يراقبون من حوله الآن، وكل أولئك الذين سيكونون كذلك. هناك يراقب بعد وفاته – وهو الأمر، الذي لم يتوقَّعه كثيرًا في القصيدة، بل نظر إليه مرَّة أخرى من خلال علم جامح ومتقلِّب. قال بلطف: “تمامًا كما تشعر عندما تنظر إلى النهر والسماء، شعرت بذلك”.

وهكذا، كشف إحساس شولز بالخسارة فجأة عن نفسه على أنه ضيق للغاية، فيما افتقدته في والدها، مثل أي شيء آخر، هو الحياة كما بدت وكأنها ترشح من خلاله، وتصمد وتنظر في مواجهة أضواءه الداخليَّة. ومع ذلك، تقول: فإن الشيء الأكثر أهميَّة، الذي اختفى عندما مات لم يعد متاحًا لي على الإطلاق: الحياة كما بدت له، الحياة كما نعيشها جميعًا، من الداخل إلى الخارج. كل ذكرياتي لا يمكن أن تضيف ما يصل إلى لحظة واحدة عمَّا كان عليه الحال عندما كنت والدي، وكل خسارتي تتضاءل بجانب خسارته. مثل ويتمان، كان حبّه للحياة مليئًا بالحيويَّة والشمول. لا بد أنه كان يكره، يكره حقًا، ليتركها وراءه – ليس عائلته فقط، التي كان يعشقها، بل كل عائلتها، من البحر إلى البحر اللامع.

إنَّ الموت هو فرصة لالتقاط الأنفاس، وإطفاء الوعي. ومع ذلك، فإنَّ هذه الخسارة أيضًا، التي تمثل عدم كينونتنا النهائيَّة، تتضاءل أمام المخطط الأكبر. وعندما نختبرها، غالبًا ما تبدو الخسارة وكأنها حالة شاذة، أو اضطراب في الترتيب المعتاد للأشياء. لكن في الواقع، هذا هو الترتيب المعتاد للأشياء. إنه اليقين، والإنتروبيا، والوفاة، والانقراض: خطة الكون بأكملها تتكون من الخسارة، والحياة ترقى إلى حساب توفير عكسي حيث يتم في النهاية سرقة كل شيء. أحلامنا وخططنا ووظائفنا وركبنا وظهورنا وذكرياتنا، صديق الطفولة، رباط ما بعد الخمسين، أب الأبد، مفاتيح البيت، مفاتيح السيارة، مفاتيح مملكتنا وممتلكاتنا، والبلاد نفسها: عاجلاً أم آجلاً، سينجرف كل ذلك إلى وادي الأشياء المفقودة.

وفي الختام، فإنَّ هناك القليل من العزاء الثمين لهذا، ولا يوجد أي تعويض؛ سنفقد كل ما نحبه في النهاية. ولكن لماذا يجب أن يهم هذا كثيرًا؟ بحكم التعريف، نحن لا نعيش في النهاية: نحن نعيش على طول الطريق. وكل هذا يصبح أكثر قيمة، وليس أقل، بسبب عدم ثباته. بغض النظر عما يضيع، المحفظة، أو الأب، فالدروس واحدة. يذكرنا الاختفاء بأن نلاحظ، والزوال، الذي يجب أن نعتز به، والهشاشة، التي يجب الدفاع عنها. فالخسارة هي نوع من الضمير الخارجي، الذي يحثنا على الاستفادة بشكل أفضل من أيامنا المحدودة. كما يعلم أحدنا، من الأفضل أن نقضي عبورنا القصير في الاهتمام بكل ما نراه: تكريم ما نجده نبيلًا، إدانة ما لا يمكننا الالتزام به، والاعتراف بأننا مرتبطون بكل ذلك بشكل لا ينفصم، بما في ذلك ما لم يقع علينا بعد، بما في ذلك ما لقد ذهب بالفعل، فنحن هنا لِنُرَاقَبْ، وليس لِنُرَاقِبْ. من بين هذه التغييرات النموذجيَّة كانت مفاهيمنا الجديدة عن الموت والروح البشريَّة. فمنذ العصور القديمة، كان من المفهوم أن الجسد والروح يتألفان من جزأين من نفس الكيان، وأن الروح تعمل كمحرك لوظائفنا الفسيولوجيَّة، وتحريك أجسادنا من الداخل، إذا جاز التعبير، وكوعينا، المسؤول عن فهمنا للعالم وأنفسنا. جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس.” ولكن، قد يَصِحُّ فِينا أيضًا قول إيليا أبو ماضي: “ولقد أبصرت أمامي طريقاً فمشيت، وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت”.

_______

* سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن

السبت، 18 نوفمبر 2023

صقاريا، تركيا

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات