المقالاتفكر وفلسفة

من هنا نبدأ.. القيم وتحدّيات التقدّم الرقمي

 القيم وتحديات التقدم الرقمي*

المقدِّمة:

مَرَّ أكثر من عقدين من الزمان منذ أن اعتمد العالم الشبكة العنكبوتية “الإنترنت”، وغيَّرت وسائل الإعلام الجديد طبيعة وأساليب التواصل بين الناس، إلا أن العديد من المؤسَّسات الإسلامية لا تزال تبحث عن كيفية التأقلم مع آثارها؛ إنها تُشكِّل تحدّياً جدّياً للطرق التقليدية الناظمة للعلاقات، في حين أنها توفّر فرصاً متعاظمة للدعوة والبلاغ، باعتبارها منصَّات انطلاق رائعة للوصول إلى كل الناس، وأصبحت جزءاً من روتين التعلّم وتلقِّي المعرفة والأخبار، والتأثير على الرأي العام. ولكن، مع تطوّر الشبكة في اتِّجاهات غير متوقَّعة في بعض الأحيان، فإنها تُثير مجموعة من التساؤلات حول مرجعيَّة الممارسات ومحدّدات القيم، وبعضها يذهب إلى تحديد الأساسيات المعلنة للمواضعات الأخلاقية والثوابت العقدية الدينية. وتَعْرِض البيئة الإعلامية الجديدة، مع أجنداتها التفاعلية والتشاركية الإضافية، ووسائطها المتعدِّدة، مع وجود مجال جديد للمدونين والمواطنين الصحفيين، تَعْرِض مجموعة من القضايا والفرص، التي تتجاوز الحدود المألوفة، ولكنها تُظْهِر في الوقت نفسه بعض التوتّرات بين الطرق “التقليديَّة”، والمتجذِّرة في وسائل الإعلام “القديمة”، والتصوّرات الجديدة، والتوقّعات والضغوط من الرسائل الرقمية في نظام وسائل إعلام جديدة متشابكة ومتدامجة على نحو متزايد.[1]

لقد شكَّلت وسائل الإعلام الجديدة بعض صور الثقافة الحديثة، من خلال التأثير على الطريقة التي يتصرَّف بها الناس، في التواصل، والتعلّم، وتصوّر أنفسهم وعالمهم. وأصبح التأثير الثقافي لوسائل الإعلام الجديدة موضوعاً رئيسياً للدراسات الأكاديميَّة، ويُعتبرها عدد متزايد من الدارسين حدثاً بالغ الأهمية، ومعياري لتقييم الخير والشر، والإيجاب والسوء للجوانب والآثار المترتبة على الثقافة. فقد أصبحت هذه الآثار أيضاً موضوعاً ساخناً في المناقشات الشعبية، التي يتم فيها انتقاد وسائل الإعلام الجديدة؛ مثل الإنترنت، وألعاب الفيديو، والهواتف المحمولة، لآثارها على العلاقات الاجتماعية، والقيم، والمؤسَّسات، والحياة اليومية. وللأسف، فإن الكثير من المناقشات القائمة، بما في ذلك تلك العلمية، غالباً ما تكون ضحلة، تتركز مهمّتها في تعيين تسميات مثل “جيدة”، “سيئة”، “مضرّة” أو “مفيدة” مع القليل من الحجَّة أو البرهان، وتستعطف قياسات ماديَّة للقيم المجرَّدة؛ لا تقدِّم أو تؤخِّر، ولا يمكن الدفاع الموضوعي عنها. إذ يصعب أن يتم إجراء تقييم شامل لثقافة وسائل الإعلام الجديدة بسبب تفرد العديد من آثارها، وحداثة المفردات المعيارية القائمة، بما فيها تلك المعنية بالأخلاق، والمنهج، ونظرية المعرفة، التي تحاول توصيف الواقع الجديد، والتي يبدو أن نتاجها العلمي أقل من المتوقع.

ففي كثير من الحواضر الإسلاميَّة اليوم تتشكَّل حياتنا اليومية من خلال تقنيات الوسائط الرقمية، مثل البطاقات الذكية، وكاميرات المراقبة، والأنظمة شبه الذكية، والهواتف الذكية، ووسائل الإعلام الاجتماعية، والخدمات الإلكترونية، والشبكات اللاسلكية، وهلم جرا. وترتبط هذه التقنيات ارتباطاً لا ينفصم مع شكل الحياة المدينية الحضرية المادي، والأنماط الاجتماعية، والخبرات العقلية للناس. ونتيجة لذلك، أصبحت حياتنا مزيج من المادية والرقمية. وقد لا يبدو هذا الوصف مُتحقِقَاً تماماً في كل عالمنا الإسلامي، مثلما يبدو أكثر وضوحاً في الجزء الشمالي من العالم، أي أوربا وأمريكا. وذلك على الرغم من أن في البلدان الإسلامية الناهضة اقتصادياً، مثل إندونيسيا وماليزيا ودول الخليج العربي وغيرها، أصبحت الهواتف النقالة، والشبكات اللاسلكية، وكاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، السمة الغالبة للحياة الحضرية.[2] فماذا يعني هذا للحياة والثقافة الإسلامية؟ وما هي الآثار المترتبة على المجتمع من الإعلام الجديد، وضرورات ترشيده لتحقيق الانضباط الأخلاقي، الذي – حتى الآن – يَكِل الناس أمره للمؤسسات الإسلامية المعنية وأدوار العلماء؟

إن التساؤلات حول دور تكنولوجيا الوسائط الرقمية في تشكيل العلاقات داخل النسيج الاجتماعي وبنية الحياة الثقافية هي أكثر إلحاحاً في سياق التحديات، التي يفرضها التقدم والتوسع السريع في أنماط الإعلام الجديد، وهي تحديات عالمية، تتصل بشكل خاص بالمجالات الاجتماعية والثقافية والدينية. وتُحدث تحولات في العلاقة بين الأجيال، وخلخلة في معارف المجتمعات، وتدفعها إلى مواجهة مشكلات متزايدة التعقيد وبالغة الخطورة، مما يوجب على المؤسسات الإسلامية والعلماء، وكذلك المثقفين والمواطنين الواعين، مراجعة مواقفهم من وسائل الإعلام الجديدة، وتأكيد حضورهم فيها، وإعادة النظر في أدوارهم في صنع الثقافة الحديثة الراشدة.[3]

إن الأدوات الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والهاتف المحمول، قد غيَّرت بما لا يدع مجالاً للشك الطريقة التي نعمل بها، وأساليب التواصل بيننا، وربما القيم والأعراف والقوانين التي نلتزم بها حتى الآن. وقد تؤثر على تلك التي لم تعد تُطَبَّقْ كما كانت فيما مضى، أو ربما تحتاج إلى تعديلات جوهرية، على أقل تقدير. لهذا، فإن هدف حضور المؤسَّسات الإسلامية والعلماء يُعَدُّ ضرورة لازمة لوضع “المعايير والقيم في وسائل الإعلام الرقمية”، ولمساعدة أصحاب المصلحة الرئيسيين في المجتمعات المسلمة – الحكومات وصانعي السياسات، والأعمال الخيرية، والمواطنين العاديين – للحصول على فهم أفضل لتأثير الإجراءات المتخذة حتى الآن في الدول الإسلامية؛ ماذا عملت المؤسسات الإسلامية، وما لم تعمل، ولماذا نجحت إجراءات، ولماذا شكلت بعض الإجراءات عواقب غير مقصودة؟ إن هذه الأسئلة لا تهدف فقط لتقديم إجابات، أو توصيات، وإنما تهدف إلى اقتراح إطار من المبادئ المعرفية لتوجيه النقاش العام، ووضع السياسات في سياق ذي صلة بعالم اليوم المتعولم.[4]

في المنهج:

تزعم هذه الورقة أننا في منعطف حاسم في العلاقة بين كل وسائل الإعلام الحديثة والمؤسسات الإسلامية، على غرار الأيام الأولى من البث الإذاعي والتلفازي، مع دعوة مخلصة أن تُعنى المؤسسات الإسلامية بدراسة الآثار المترتبة على استخدامات وسائل الإعلام وسبُل ترشيدها، حفاظاً على مستقبل الشباب المسلم. فالتحولات التكنولوجية لديها القدرة على تغيير مسار الأجيال إذا لم يرافقها تدخل ناظم من العلماء والمؤسسات الإسلامية. وبهذا الفهم، فإن النهج النظري المقترح في هذه الورقة يجمع بين نظرية التطور في الاختراع والابتكار، والدعوة لإسهام المؤسسات الإسلامية في مأسسة ما يستجد من مخترعات وابتكارات، ويُشجع على حضور وظهور العلماء المسلمين الراسخين في العلم في وسائل الإعلام الجديدة، وضرورة قيادتهم للمناقشات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والدينية.

وتقترح هذه الورقة تفسيراً لظهور وسائل الإعلام الجديدة، بمعنى أن وسائل الإعلام ليست مجرد نتيجة للاختراعات التقنية، ولكنها تنبع من عملية من مرحلتين يتمثلان في الاختراع أولاً، وما نضفيه عليها نحن من الطابع المؤسّسي الاجتماعي ثانياً. إذ إن الاختراع التقني يُحَسِّنْ فقط ما هو موجود من وسائل إعلام قديمة. على سبيل المثال؛ أدى اختراع غوتنبرغ للمطبعة إلى تحسين الكتابة، وحسَّنَت الأفلام وسائل الإعلام البصرية القديمة، وحَسَّنَ اللاسلكي أدوات البرق السلكية. وفي المرحلة التالية من الابتكار، أصبحت وسائل الإعلام الجديدة مؤسسية، مثل الصحافة الدورية، والصور المتحركة والبث الإذاعي والتلفازي. وهي عملية إضفاء الطابع المؤسسي الاجتماعي، التي غيرت وسائل الإعلام المخترعة بشكل أساسي.[5] فالمجتمع يُكرس مأسسة الاختراعات من خلال اكتشاف إمكانيات جديدة للاتصالات؛ أنه يتبنَّى ويُشَكِّل وسائل الإعلام الجديدة، وهي بدورها تُمدِّد حواسنا، وتختصر الزمان والمكان.

لهذا، فإن الهدف الأساسي من هذا المقترح يسعى لوضع إطار لتحليل معياري أفضل لثقافة وسائل الإعلام الجديدة، وقيمة حضور العلماء ودور المؤسسات الإسلامية في الترشيد، الذي يركز على آثارها الإيجابية لتعظيم الخير في المجتمع. وتقييم الجودة الثقافية لوسائل الإعلام الجديدة؛ سعياً نحو بناء فلسفة متكاملة للعلاقات الإنسانية – الإعلامية، تتأسس على الثقافة الإسلامية، مع الدعوة لاستخدام نتائج البحوث والدراسات، والتي تمت مؤخراً في مجالات الفلسفة ودراسات العلوم والتكنولوجيا لتطوير إطار تحليلي للتحقق من هذه الآثار الملائمة للمُثُل الأخلاقية الإسلامية.

الرسالة والوسيلة:

في ثقافتنا العامَّة، نحن نميل تماماً لتجاهل النطاق، والفعالية، والتكييف الاجتماعي القسري الذي يحدث للمتلقي البسيط حين تَعَرُّضِهِ لوابلٍ من رسائل وسائل الإعلام. وهذه النقطة، التي لا يمكن التنازع عليها إلا في مفرداتها، هي واحدة من المسائل الهامة، التي يجب علينا أن نعود إليها من وقت لآخر في ما يلي من مستجدات إعلامية. إن التغييرات الفورية، التي علينا النظر في جوانبها المشتملة على تلك السمات، والتي أحدثتها خدمات رقمية مستحدثة، مثل المجتمع الخالي من الشيكات، الذي لا توجد فيه نقود، ولا مكتبات وكتب، وإنما المكونات الإلكترونية المنزلية المُوَفِّرَة للوصول إلى جميع المعارف في العالم، والاحتمالات المماثلة المُعْلَنْ عنها بكثافة واضحة في عصر الإعلام الجديد جديرة بالإهتمام. رغم أن أنماط الحياة المتغيرة التي قد تنتج عنها أكثر وضوحاً وأقل أهمية، على حد سواء، من التغييرات الطفيفة في بنية قيم المجتمع المرن والمطاوع عن غير قصد للتغيير، والذي يتأثر برسائل أولئك الذين تتطلب مصالحهم الحفاظ على القنوات مفتوحة ومشغولة، ولا يقلقون كثيراً بالمحتوى.

لننظر، مثلاً، لحقيقة أنه عند شيوع استخدامات الإعلام الجديد، ولأكثر من عقدين من الزمان، ظن المدمنون على وسائل التواصل الاجتماعي، والمفتونون بسحرها، أن الدين بسلطته الأخلاقية والتوجيهية قد توارى واختفى، ولكنه الآن يعود كقوة اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة، ومن خلال ذات الوسائل والوسائط والمواقع. وهذا الانبعاث، الذي يجيء بفضل حضور المؤسسات الإسلامية والعلماء، هو أكثر من مجرد ظهور لهذه المؤسسات التقليدية كي تستعرض قوتها، أو تستعيد أدوارها، إنما يُعبر عن إعادة صياغة كبيرة وجدية لعلاقتها بوسائل الإعلام عامة، وبالإعلام الجديد بصفة خاصة، ويُلزمها باستخدام وسائل الإعلام الجديدة على نحو فعال لبناء علاقات إيجابية مع مجموعات تهتم بالمحتوى الديني للرسالة والوسيلة، وتعبر الحدود المقيدة سابقاً، وتتجاهل الولاءات والحساسيات الدينية القديمة في الدعوة والبلاغ.

إن الرسالة مقابل ​​أثر الوسيلة؛ والعشوائية مقابل القيم المبرمجة، ينبغي أن تدفعنا للتمييز بين آثار وسائل الإعلام وآثار الرسالة. على سبيل المثال، عندما وصل التلفاز، قضى الأطفال وقتاً قليلاً في القراءة والنوم. وكان هذا تأثير الوسيلة. ولكن عندما يشاهد المراهقون برامج مثيرة، أو لمشاهير، ويقلدون ما فيها ويتشبهون بشخوصها، فهذا هو تأثير الرسالة. ولربما تكون حساسيتنا التاريخية لآثار الرسالة هي أمر يحتاج لإعادة نظر إذا كان التَمَثُّل مقصود به رموز وطنية، أو شخصيات دينية، تستحق التقدير والإكبار والإجلال، لأنها قد تكون أهم عامل في تحديد هيكل القيمة المستقبلية لمجتمعنا، وواحد من ممسكات الوحدة الداخلية لهذا المجتمع. رغم أن هناك عدة أسباب لهذه اللامبالاة بالقيم، التي تبدو عالمية تقريباً، والتي لا يرتبط سبب وتأخر آثارها بشكل تام ولا لبس فيه، بوسيلة بعينها؛  لأن الآثار هي غير متلازمة دائماً. ونحن نميل إلى الظن، الذي لا جدال فيه، أن الحضور الفاعل في وسائل الإعلام مرادف لمبدأ الحرية المكفولة قانوناً، والمصونة، أولاً وقبل كل شيء، في تعاليم ديننا الحنيف.

فالطفل الذي يشاهد القتل على شاشة التلفزيون نادراً ما يعمل بما شاهده. ولكن هناك شعور متنامٍ، وشكوك تكاد ترقى إلى مستوى الحقيقة المبرَّرة، حول ما يمكن أن يحدث لحساسية هذا الطفل للعنف في وقت لاحق من حياته. لذا، تسعى السياسة العامة في مجتمعاتنا الإسلامية لاستلهام قيم الدين لتعزيز ما هو جيد وصحيح ومشروع في تربيتنا الاجتماعية. وفي حين تنطوي وسائل الإعلام الجديدة على إمكانية سد احتياجات الشباب في الاتصال الاجتماعي قبل تَمَلُّك القدرة الحقيقية لإدراك ما يحدث حولهم بشكل جيد، فإن على المؤسسات الإسلامية أن ترى تقديرهم لإعادة علاج اختلال نظم المعارف لديهم، التي قد تكون أكثر صعوبة من غرسها في عقولهم منذ البداية.

الثقافة الرقميَّة والدين:

إنَّ الثقافة الرقمية لم تقم بتغيير الدين، ولا ينبغي لها، وإنما هي انعكاس للتحوّلات في الحياة الثقافية للمتدينين. فالناس اليوم – وبخاصَّة الشباب – ينتمون إلى شبكات التواصل الاجتماعي، التي لا تقتصر العلاقات فيها على الحدود الدينية التقليدية، ولا العلاقات العائلية المعروفة، أو الجغرافية المقيدة، بل تتعدى ذلك جميعاً إلى محاولة خلق حالة عولمية مستوعبة للفوارق والاختلافات. وهذا التصور له آثار عميقة على قادة المؤسَّسات الإسلامية، الذين قد يرون فيه تهديداً، أو ربما فرصة، أو ببساطة يُمهّد الطريق الذي يسلكه أفراد مؤسّساتهم الآن في محاولاتهم لإحداث التغيير المطلوب. وحتى يكونوا إيجابيين عليهم القيام بثلاثة أمور هامَّة، هي:

أولاً، عليهم إلقاء نظرة فاحصة على مفهوم “الإعلام الجديد”، الذي صرنا في كثير من الأحيان نحتج به في الخطابات العامة، وفي تصميم السياسات حول دور وسائل الإعلام الاجتماعية في مجتمعاتنا. وبهذه الرؤية، يُفهم الإعلام الجديد أساساً على شكل سلسلة من البُنى التحتية المعرفية، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بالتخيلات الذهنية للتقنية المستجدَّة، التي يجب أن تُدار بأكبر قدر من الكفاءة، وأن تنشغل بوضع محتواها المؤسسات الإسلامية، ويقف على دقة هذا المحتوى وصدقيته العلماء وأهل الرأي المؤهلون. ومع ذلك، يُلاحظ النقاد أن هذه التخيلات التكنولوجية للإعلام الجديد في مجتمعاتنا الإسلامية غالباً ما تبدو عفوية، وعشوائية؛ مشخصنة وفردية، وغير فعالة، وخالية من ضوابط التوجيه المنهجي، وتتجاهل بعض المبادئ الأساسية لما يعنيه حضور المؤسسات الإسلامية والعلماء في ترشيد أدائها.

ثانياً، لا بد أن تُخَصِّب المناقشات والمجادلات حول الإعلام الجديد تصوراتنا حول دور المؤسَّسات الإسلامية في الترشيد، وما يمكن أن يقدّمه العلماء من مقترحات علمية قيمية تُصبح بوصلة  موجهة، وعدسة لازمة لرؤية الصواب فيما تزخر وتزدحم به وسائل الإعلام الجديد من معلومات، على أن يبقى السؤال الرئيسي حول كيفية إشراك المواطنين في إدراك الحقائق الإيجابية، وتمكينهم من العمل على فهم المسائل المعقَّدة؟ ونحن نستخدم كلمة “الدور” ليس للإشارة إلى مهمَّة حصرية لهذه المؤسَّسات، ولكن إلى شكل شامل من الارتباط والانشغال والمسؤولية والإشراف. وتقف على المحكّ هنا مسألة كيف ترسم التقنيات الرقمية الطرق التي يُحسن بها الناس إدارة التعايش مع الذين يختلفون عنهم، والذين غالباً ما تتضارب المصالح معهم، وفي الوقت نفسه تشكيل تجمعات جديدة، أو جماعات تضامنية متآزرة حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. و”الدور” هنا يرتبط بعدد من التحوّلات، التي تُحدثها وسائل الإعلام الجديدة في المجال العام في المجتمع، والتي تتميَّز بخفض، أو زيادة، التوتّرات بين الفردية والجماعية، وبين الاختلاف والتشابه، وبين الصراع والتعاون.

ثالثاً، عليهم مناقشة القضايا، التي يمكن لانتشار تكنولوجيات الإعلام الجديدة أن تؤثِّر فيها على شكل وبنية المجتمع المسلم. فقد قيل وكتب الكثير حول تغيير الأنماط الثقافية والسلوكيات الاجتماعية في خضم الثورة الإعلامية الحديثة. ولكن يلزم  إيلاء اهتمام أقل لمسألة شكل وسائل الإعلام الجديدة وعناية أكبر بجوهر مساهمتنا فيها؛ من خلال أدوار المؤسَّسات الإسلامية والحضور الفاعل للعلماء المسلمين في رفدها وترشيد الاستفادة منها. إذ إن مفهوم الارتباط النشط مع وسائل التواصل الاجتماعي يسمح لنا بمعرفة العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة باعتبارها أكثر تعقيداً من مجرَّد الروابط المباشرة للسببية، والعلَّة والنتيجة، أو التأثيرات المتبادلة بين المصدر والمتلقّي. لذلك، يُوفِّر الإعلام الجديد، في رأينا، نقطة انطلاق للمؤسّسات والعلماء والمثقفين والمواطنين الفاعلين إلى أخذ زمام المبادرة في قيادة التحولات الإعلامية الجارية والمستجدة، وضبط أسس التغيير بالمعرفة الحقة بالوسيلة والصياغة العارفة للرسالة.

الإعلام الجديد والقيم الاجتماعية:

يتمثَّل التحدِّي الأساس في وصف الطريقة التي تعمل بها الاتصالات الإلكترونية الجديدة، ووسائل الإعلام الرقمية، في تعديل طبائع المجتمع وقيمه، وتحريف المعايير والقيم، وعدم وجود الرؤية الشمولية كخيار محتمل. إذ يجب علينا دائماً أن لا نركز النظر فقط في عدد قليل من اتجاهات التغيير الذي يجري، والأثر الذي ستُحْدِثُه الاتصالات الإلكترونية، وإنما علينا مراعاة الشمول في تفاصيل السعي والكسب. وللاحتفاظ بمنظور خاص في هذا الصدد، ينبغي على كل مِنَّا أن يتذكر أن تكنولوجيا الاتصالات الإلكترونية المتطورة ليست سوى عامل واحد من بين العديد من العوامل المؤثرة في معادلة التغيير، على الرغم من أنها تبدو أساسية، وتؤثر بشكل ملحوظ في المجتمع المتغير. إن طبيعة سعة الانتشار للاتصالات تجعل وسائل الإعلام أكثر قوة، وهي فريدة من نوعها، وخصوصاً عندما نستخدم مصطلح “الاتصالات الإلكترونية” بمعنى واسع لتشمل كفاءة استخدام الحواسيب والتشغيل الآلي للنظم، وكلاهما سيكون من المستحيل الإفادة منه لو لم تكن هناك تكنولوجيا الاتصالات الجديدة.

ولكي نتمكَّن من رؤية أفضل إلى حيث أين يمكننا الذهاب، دعونا نفترض أن التطوّرات التكنولوجية في هذا المجال، التي تبدو ممكنة من الناحية النظرية اليوم، هي في الواقع ما سيتم إنجازه في المستقبل. وإذا استخدمنا هذا المستقبل كنقطة انطلاق، فإننا نستطيع أن نتكلم من الموقع الذي سوف يسمح لنا برؤية أفضل لأنفسنا كمجتمع مسلم. وعند القيام بذلك، علينا أن نكون مؤهلين تقنياً ومعرفياً، وأن نكون أيضاً قريبين جداً لهذه الظاهرة. ولا بد أن نتساءل دوماً عما الذي يحدث في عالمنا، وأن نسعى لمعرفة طبيعة وحجم وإتجاه رياح التغيير.

ولكن قبل أن نتمكَّن من تبني هذا الرأي على نطاق أوسع، يجب علينا أن لا نقلِّل من محاولة إرضاء ميلنا تجاه التطورات المحددة بدقة أكثر نحو تكنولوجيا الاتصالات، التي توحي حتى اليوم بالتغييرات القادمة. كما أن إدراج مثل هذه التطورات في تكنولوجيا الاتصالات المتغيرة ليست صعبة. ولن يكون من الصعب الجمع بينها لصياغة الخطوط العريضة لسيناريو جديد من أجل التغيير. وهنا، يمكننا الإشارة إلى ست تطورات قد تكون ممهدة لهذا السيناريو، وهي:

أولاً، تبدو المجموعة الكاملة من خدمات الاتصالات الجديدة، أي الشمول، الذي اقترحه أصحاب البصيرة، ممكناً من الناحية التقنية، إذا كان تَقَّبُل التكلفة هو الآخر ممكناً.

ثانياً، إذا كانت التكلفة هي مسألة مثيرة للقلق للوهلة الأولى بالنسبة للمؤسسات الإسلامية، فإن الذي يُطمئن هو أن أسعار معظم مكونات التكنولوجية المتعلقة بأنظمة الاتصالات والإعلام الجديد تنخفض باستمرار، وبسرعة.

ثالثاً، إن عدم وجود سعة النطاق الترددي المطلوب لمواقع العلماء المسلمين ليست هي المشكلة الأكبر، التي يذهب الظن إلى إمكانية وجودها بصورة أسهل في المستقبل القريب، خاصة مع انخفاض تكلفة الاتصالات وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة المماثلة.

رابعاً، لن يكون عدم قدرتنا على امتلاك أصل التكنولوجيا أبداً قيداً ملزماً لنا في معرفتنا وتفاعلنا مع أنظمة وتطبيقات الاتصالات الجديدة في المستقبل، فالذهن المسلم المُبدع قادر باستمرار على الإنخراط النشط في مستجدات هذه التكنولوجيا.

خامساً، هناك من القيود ما هو أكثر خطورة، تتمثل في عدم بذلنا لجهد يضعنا في خانة ريادة الأعمال، وقوانين حقوق النشر، ولوائح النقل المشتركة، وتخصيص الترددات العتيقة، ومنها القضايا المؤسسية والمؤسسة للاستخدام. ولكن، ينبغي أن لا نستسلم لأي سبب من الأسباب. وإذا فعلنا، فإن هذه العوائق يمكن أن تُضْعِفْ، أو تتلاشى معها قدرتنا على الفعل.

سادساً، علينا تجنب مسألة المواعيد الدقيقة لتوفير المطلوبات، فإن مناقشات الآثار المترتبة على الاتصالات الجديدة والخدمات المُمْكِنَة قد تمضي قدماً دون الإحساس بالقلق المفرط لمزيد من التفاصيل التكنولوجية. وقد لا تتطلب سوى خيال محدود لتصور خدمات جديدة.

نعم، نحن يمكن أن نتخاطب مباشرة؛ من شخص إلى شخص، وتكون هناك شاشة كبيرة في كل منزل. نعم، ستكون لنا بالتأكيد بنوك بيانات ومنتجات مماثلة من التقدم. نعم، سنحصل، إذا أردنا، على هاتف ساعة اليد الذي سيكون دائماً معنا، ويلازمنا حتى في أوقاتنا الخاصة جداً. ولأولئك الذين هم بيننا، ولا يمثل الوقت بالنسبة لهم شيئاً مهماً، يمكن أن يضيعوا في فعل شيء واحد فقط في كل مرة، وبلا قيمة حقيقة. وبدلاً من تناول التفاصيل الفنية لهذه النعم التكنولوجية الرائعة للبشرية، علينا تَصَوَّر الآثار الاجتماعية الإيجابية المتأتية من الاستخدام المثالي لوسائل الإعلام الجديدة، دون أن نتجاهل الجوانب السالبة لها؛ التي ليس أقلها، على سبيل المثال، الهاتف المحمول الذي يرن فقط في الوقت الخطأ، مع رقم غير صحيح.

وفي عالم متشابك للغاية، فإن الوصول إلى الشباب من خلال موارد وسائل الإعلام يعادل جزئياً قدرة السلطة السياسية في التأثير على المجتمع. إن الإغراء الذي تعودت عليه الحكومات الوطنية في ممارسة السلطة من خلال السيطرة على وسائل الإعلام والاتصالات صار من الأمور القديمة، ولكن ليس في وعي كثير من مؤسساتنا الإسلامية ممارسة ذلك الآن، وبوسائل جديدة ومختلفة. ومع ذلك، فإن حضور هذه المؤسسات في هذه الوسائل وجهد العلماء في ترشيد رسائلها، ولأسباب أخلاقية إيجابية، يُعد ميزة معادلة لتحويل القوة الأخلاقية إلى منعة اجتماعية. وبالمثل، فإن شهية وسائل التواصل الاجتماعي النهمة للمعلومات والأخبار المثيرة المقروءة والمسموعة والمرئية توفر آلية للعرض، أو بعبارة أدق، مساحة متاحة للتخاطب والتواصل مع الشباب، وإمكانية ترشيد مطالعاتهم وتطلعاتهم، وحشد تعاطفهم مع ثقافة أمتهم، وكسب ولائهم لقيم مجتمعهم، وتحفيز تمسّكهم بدينهم.

بيد إنه مع تنوّع قنوات المعلومات المتاحة، تتبدَّى صعوبة جديدة في تحقيق التماسك الاجتماعي، لأن المجتمع المستقر يتطلب قدراً من التماسك الثقافي. وهذا التماسك يمكن إيجاده بالاتفاق المتبادل والضمني على أهداف أخلاقية واتّجاه ديني، أو حتى على عمليات تحديد الأهداف الاجتماعية والاتجاه الوطني العام. وبنفس القدر، توجد هناك سهولة متزايدة في إنشاء مجموعات لها إمكانية الوصول إلى نماذج اختلاف أخلاقي واضح، ولا تتطابق قيمها مع الواقع الإسلامي، ما يُشكل تداخلاً مُخِلِّاً في بنية المجتمع. على سبيل المثال، إن كل مجموعة أيديولوجية في العالم لها مواقعها الإلكترونية، وتبث أيديولوجيتها ومعارفها على الشبكة العنكبونية، وتجتهد في اجتذاب الشباب لتبني توجهاتها، فإذا لم يكن هناك ما يعادلها ويغالبها ويغلبها في فضاءات الإعلام الجديد من مؤسسات إسلامية وعلماء ستفوذ بعقول كثير من الشباب وتتحكَّم في سلوكياتهم.

علينا أن نتخيَّل اليوم العالم الذي يوجد فيه عدد كاف من القنوات التلفزيونية الفضائية والمواقع الإلكترونية، التي تحتل بالكامل أوقات مجتمعاتنا، وتُبقي كل فرد منعزلاً عن الآخر في تلقيه للرسائل المختلفة والمعارف المتنافرة، وعلى وجه الخصوص الشباب في عالمنا الإسلامي، والذي تقل فيه القراءة والكتابة، وتتنوع فيه المجموعات والجماعات، وتتعدَّد اللغات واللهجات. فهل باستطاعة هولاء الشباب، وأفراد هذه المجتمعات، القدرة على التحدّث بطريقة جماعية مجدية عن ثقافتها وموروثاتها؟ وهل باستطاعة أفرادها التحدّث لبعضهم البعض بعيداً عن مواقع التواصل الاجتماعي للإعلام الجديد؟ وهل بمقدورهم الحصول على أي قدر من المعلومات من الاطلاع على المصادر الموثوقة، أو من كتب التراث؟ وهل نحن في خطر بسبب تكويننا لتنوعات وتعدديات افتراضية جديدة داخل مجتمعاتنا من خلال الاتصالات الإلكترونية بحيث يُفقِدُنا هذا التنوع المشتركات، ويُضعف التعدّد التماسك والتضامن بإضعاف ثوابت المعرفة التقليدية، وإزالة ضوابط الخبرة المكتسبة واللازمة للتواصل الإنساني الموجب، ويُؤثر على الاستقرار الاجتماعي، وتضطرب به، في الواقع، الأمّة نفسها؟

لكل هذا، يجب أن يدفعنا المشترك والتماسك والتضمّن إلى تركيز النظر على الترشيد المطلوب والمرغوب، والمطالبة باستخدام المؤسّسات الإسلامية والعلماء على نحو متزايد لفنون الاتصال البشري، والحضور الفاعل والمؤثّر في وسائل الإعلام الجديدة، التي لا تُعتبر نعمة خالصة، ولا هي شر مطلق، وإنما هي واقع لا يمكن تجاهله. ولكن علينا أن نتسائل دائماً كيف يمكن إبلاغ الخيارات الوظيفية لوسائل الإعلام الجديدة للشباب بشكل كاف؟ وكيف يمكن نشر الوعي بتأثير الاتصالات الجديدة ووسائل التواصل الاجتماعي في عالم حيث المعرفة هي القوة، وحيث تعني الاتصالات القدرة على الوصول إلى السلطة، بمستوياتها المختلفة، وأن الذين يمكنهم الاستفادة بأكبر قدر من الفعالية بسبب هذه الاتصالات سيكونون في مقعد القيادة؟ رغم أن الذين يعيشون مع الحمل الزائد للمعلومات، ويمارسون الاتصالات المفرطة، لا يعني ذلك بالضرورة حصولهم على الكثير من المعارف، وإنما قد يُصابون بضعف في التركيز، ويكسبون عدد قليل جداً من الأصدقاء، ويستشعرون غياب الطمأنينة بسبب فائض الاتصالات وحياة الحركة المحمومة، حتى بمقاييس اليوم. لأن الاتصالات الجديدة قد تكون محايدة، أي بمعنى أن دورها سيعتمد على كيفية استخدامها، وفهم كيف يمكن أن تعمل في الواقع، ولقدرتها على تكون جيدة أو سيئة. وباعتبارها “وسيلة” و”رسالة” ينبغي أن لا  تُترك للصدفة، على أمل أن لا يساء استخدامها من قبل الشباب.

التحدّيات التي تواجه السلطة الدينية:

إن الحقيقة، التي تقدَّم ذكرها، أكَّدت على أن وسائل الإعلام الجديدة تقدّم إمكانات كبيرة للتواصل والإبداع في المجتمعات الحديثة، ولكنها تجلب معها تحدّيات جديدة للمؤسّسات الدينية وسلطة العلماء. وواحدة من أكثر الأفكار المنتشرة على نطاق واسع اليوم هي أن الإنترنت يسمح لإتِّباع نهج أكثر تشاركية للمجتمعات، وأن التكنولوجيا تُمَكِّن المستخدمين من الوصول إلى المعرفة بصورة أسرع وبسهولة أكبر. وبعبارة أخرى، فإنها تتحدَّى السلطة التقليدية للمؤسَّسات والعلماء والمثقفين من خلال إيجاد أشكال جديدة من القيادة والتنظيم الناشئ في الفضاء الإفتراضي، داخل الشبكة العنكبوتية.[6] ففي حين تبدو معظم الرسائل الموجودة في الفضاء الرقمي خالية من أي آثار لفكرة التشاركية، التي يمكن استقرائها من نتائج المطالعة العامة، إلا أن المؤكد هو أن أنواع السلطة التي ظهرت في بيئات وسائل الإعلام الجديدة لا تتبع أنماط السلطة التقليدية، ولكنها تبدو، بدلاً من ذلك، “حسابية” في طبيعتها، والتي تقوم على التكرار العددي، أي عدد مرات النقر والدخول والمشاهدة والانجذاب، والظهور على الإنترنت، والوضع الخاص في التسلسلات الهرمية للشبكة الاجتماعية، والخبرات الرقمية. ونتيجة لهذا، علينا أن نتساءل عن من هم الأشخاص الذين صارت سلطتهم محل تساؤل وتدقيق؟

وبالمقاربة مع مجتمعات غربية، فهناك ثلاث فئات متميزة؛ ممن أسمتهم هيدي كامبل ‘الإبداعات الدينية الرقمية” وهم القادة والمبتكرون في المجتمعات الدينية على الانترنت. أولها، “رواد الكريول”، وهم أفراد لديهم خبرة فنية معينة ويجلبون مصالحهم الدينية عبر الإنترنت، ويخلقون مساحة للتعبير عن وجهات نظر معينة، وغالباً ما يقودهم الإحباط من المؤسسة الدينية المسيحية الرسمية إلى البحث عن البدائل في الفضاء الرقمي. الثانية، هم “النقاد المصلحون”، ويميلون إلى أن يكونوا ساخطين على المؤسسات الدينية التقليدية، ويستخدمون وسائل الإعلام الجديدة لبث شكل المذهب الخاص بهم. أما الفئة الثالثة والأخيرة فهم المتحدثون الرسميون باسم الكنيسة والنشطاء وممثلي المؤسسات والجماعات الدينية، مثل المجلس الحبري للاتصالات الاجتماعية، الذي يسعى لأن يكون له موقعه وواقعه في الشبكة العنكبوتية.

يعتقد بعض العلماء أن الطبيعة غير الهرمية للإنترنت تشكِّل تحدّياً خطيراً لهياكل المؤسَّسات الدينية التقليدية في الغرب. ويتوقَّع الدكتور لورن داوسون أن الإنترنت سوف تؤدِّي إلى “انتشار المعلومات الخاطئة والمضللة”[7] من قبل خصوم جماعات دينية معينة، أو المطلعين الساخطين، و”فقدان السيطرة على المواد الدينية” من قبل المنظمات الدينية، وتوفر “فرصاً جديدة للأشكال الشعبية للمشاهدة” التي تُشجع بروز أصوات غير رسمية، أو بديلة، للخطب التقليدية. وبشكل عام، فإن إمكانات الإنترنت في تمكين المستخدمين من تجاوز الزمان، والجغرافيا، والقنوات التقليدية للبروتوكول، قد يُشجِّع الممارسات والخطب، التي تتجاوز، أو تخرب، سلطة هياكل المؤسَّسات الدينية المقبولة، أو العلماء الثقاة.

على سبيل المثال، أعربت العديد من المنظّمات الدينية عن قلقها بشأن الإتيان بالمناقشات الحساسة في القضايا الخلافية المسكوت عنها، أو التي يكون تداولها عادة بين العلماء والفقهاء، إلى منتديات الإنترنت العامة، والتي قد تنشأ عنها نتائج جديدة مرتبطة بإدارة الصورة العامَّة، والتأكيد عليها. ويخشى البعض أن الإنترنت سوف تخلق السلطات الدينية الجديدة، مثل مشرف جماعة على الإنترنت يقوم بتحديدها ويعامل على أنه سلطة روحية مشروعة من قبل أفراد المجموعة الدينية على الإنترنت. ومع ذلك، تُشكك أبحاث أخرى في هذه الافتراضات وتقترح أن الإنترنت قد تُمَكِّن السلطات الدينية التقليدية وتزيد من نفوذها وسط الشباب.[8]

وفي عالمنا الإسلامي، لم تقترن سلطة الوجود الديني عبر الإنترنت بالضرورة بالسلطة الدينية التقليدية في المجتمع في الوقت الحاضر، والعكس صحيح. ومع ذلك، فإن هناك انتشار كبير بين مجالي السلطتين. هذا هو الحال مع المتحدثين الرسميين، أو الإعلاميين، الذين يعملون على الإنترنت من أجل خدمة مصالح “المؤسسات الإسلامية” حالياً، أو مع “العلماء” الذين كسبوا ما يكفي من الأتباع، والذين هم في نهاية المطاف على تماس مع جمهور أوسع خارج الشبكة العنكبوتية. وبالتالي، فإن الخط الفاصل بين السلطة الدينية التقليدية وأولئك الذين ينشطون عبر الإنترنت يصبح غير واضح بشكل يُمَكِّن من بناء تقديرات سليمة عليه.

وهذا لا يعني أنه لا توجد هناك مشاكل أخرى للمستخدمين من العلماء في مجال الفضاء الرقمي، بما في ذلك الثقافة الموروثة والطبيعة غير الموقرة للإنترنت في نظر بعض علماء الدين التقليدين الآخرين، أو للإحباط الناجم عن معرفتهم بتكنولوجيا قديمة عفا عليها الزمن. إن للإنترنت إمكانيات هائلة للتواصل والإبداع مقارنة مع الأشكال القديمة من وسائل الإعلام. ومع ذلك، فإنه يبدو صحيحاً أيضاً أن المستخدمين يميلون إلى “إيجاد قبيلتهم الخاصة” على الإنترنت بدلاً من الانخراط في حوار مكثف بين الطوائف والجماعات خارجها. وهذا التناقض قد يستدعي بحثاً مستقلاً في المستقبل.

وبغض النظر عن هذه الملاحظات، إلا أنه تبرز قضيَّة البحث في موضوع الدين في بيئة الانترنت، باعتبارها جزء من حضارة الموجة الثالثة المعرفية، التي قد تلعب فيها البحوث دوراً حاسماً لتحديد المفاهيم الأساسية لأي سلطة تختص بمجموعة معينة، أو مجتمع معروف. والميزة الأخرى، التي ينبغي تسليط الضوء عليها، هي المواضيع العديدة الأخرى، والتي تحتاج إلى بحث جدي هي الأخرى إذا أردنا أن نفهم أكثر عن دور المؤسسات الإسلامية والعلماء بشكل عام، والإنترنت، وغيرها من أشكال الإعلام الجديد، وتأثيراته على الشباب في المجتمع بصفة خاصة. وعلى المرء أن يتساءل فيما إذا كانت طرق وأساليب البحث العلمي التقليدية يُمكن أن تبقي حقاً مواكبة لسرعة معدل التقدم التكنولوجي، أو ما إذا كانت سوف تتخلف أيضاً عن الركب.

إن واحدة من الاهتمامات الأساسية المطروحة على المؤسسات الإسلامية، وحضورها في فضاء الإنترنت، هي الطريقة التي تُغير بها المشاركة في الإنترنت فهمنا للسلطة الدينية. وقد تبدو المناقشات هنا معقدة، جزئياً لأن الباحثين يعرضون قضية “السلطة الدينية” بطرق مختلفة. هل هي مسألة كيف يمكن أن تؤثر المؤسسات على الإنترنت، أو أن الإنترنت ستعمل على تشويه صورة الزعامات الدينية التقليدية؛ على سبيل المثال، هياكل المؤسَّسات، أو نظم التدريب والتأهيل لعلماء الدين؟ هل أعطت الإنترنت دفعاً للقادة الجدد الذين يقدِّمون الفتوى الفورية، ويشرحون الأفكار والمسائل الفقهية، أو ينصبون أنفسهم مرشدين روحيين للجماعات بلا رسوخ في العلم الشرعي؟ هل تعكس النصوص الدينية التقليدية، التي على الإنترنت، أو تؤطر النصوص ونظم التفسير السليمة لجمهور متعطش للمعرفة من أي مصدر متاح؟ كيف يُغير الخطاب الديني على الإنترنت فهم الناس للشائع من التعاليم الإسلامية، أو الهوية الدينية لمجموعات من الشباب المسلم؟

التعامل مع التصوّرات المشوَّهة:

إن المشكلة مع الإعلام الجديد، التي ينبغي أن تضعها المؤسّسات الإسلامية والعلماء نصب أعينهم، تتمثَّل في أن كل واحد مِنَّا يرى العالم من خلال عدسته الخاصَّة. وحتماً، فإن هذا يعني أن الناس المختلفين يلجأون إلى تفسير الحدث نفسه بشكل مختلف. وهذا يعني أيضاً أنه في كثير من الحالات، يكون التصور هو حقيقة الواقع. ويُعد هذا مدخل لاختلاف كبير، ربما يعمل على تمزيق المجتمع، ولا يمكن لغير السياسيين البراجماتيين أن يعيشوا مع ذلك، إذ لن يكون لديهم خيار آخر يساومون عليه طالما أن هدفهم ربح الرضا العام بأي ثمن.

ويستوجب هذا النظر إلى أن ما يمكن أن يخلق مشاكل أكثر صعوبة وتعقيداً هو تعدي التصورات، التي يُشكلها الإعلام الجديد، خط الفرد إلى الجماعة، وتبدأ بدورها في تشكيل مسلمات مشوهة. وأعني بهذا الحالات التي يكون فيها التصور لدى شخص معين يطابق الحقيقة الواقعة، والتي رسمها ورسخها الإعلام؛ والذي يتبنى هذا التصور ليس لديه بديل آخر، مما يجعله يقدم عرضاً غير صحيح عن هذا الواقع، ويتفاعل مع قيم قد لا تنسجم مع معتقدات المجتمع؛ مما يُدخله في تناقض وصراع مستمر مع الآخرين، لأن هذا الشخص يعتقد جازماً أن تصوره هو الصحيح. إلا أن على المؤسسات الإسلامية والعلماء دور توجيهي تصحيحي آخر يجب ألا يقبل بالمسلمات المفروضة قسراً من قِبَل الإعلام الجديد، ولا المساومات المُضَيِّعَة للقيم.

إن هناك عوامل كثيرة تؤثِّر على الطريقة التي ننظر بها إلى العالم والناس الذين يعيشون فيه. إذ تؤثر خلفياتنا الثقافية المختلفة، وتجارب الحياة، والقيم الشخصية والدينية، على جميع التفاعلات والعلاقات مع الآخرين، تماماً كما تفعل شخصياتنا، ومهاراتنا الاجتماعية، وأساليبنا، ونهجنا في التعامل مع الناس والمشاكل التي نواجهها. ففي المجال الإعلامي والسياسي، نجد أن الفاعلين الإعلاميين والسياسيين، هم أكثر الناس حاجة إلى أن يتعلموا المهارات التي تمكنهم من فهم وإدارة تصورات الآخرين عنهم. ولا شك أن حاجة العلماء المسلمين والمؤسسات الإسلامية لهذه المهارات هي أيضاً ضرورية، بل وملحة، حتى ولو حسنت تصورات كل الناس عنهم.

وهذه بالقطع ليست مهمة صعبة، كما قد يتصور البعض، على الرغم من أنها قد تتطلب قدراً كبيراً من التفكير والدافع والوعي الذاتي والقدرة على تجويد الممارسة والصبر عليها. ولطالما كانت لدى المؤسسات الإسلامية والعلماء الفهم الصحيح لطبائع الأشياء والتكييف الشرعي للقضايا الإشكالية، فإنهم سيصلون إلى الغايات المتواخاة. ورغم ما قد ينقص بعضهم من المهارات التقنية للوسائط الإعلامية، إلا أنهم ومع ذلك، سوف يجدون أنه من السهل عليهم التواصل مع الناس، عبر هذه الوسائط، وتحفيزهم وقيادتهم. وما يحتاجون إلى معرفته ليس بالأحرى ذلك التلاعب الفني المفضي إلى إدارة التصورات، كيفما اتفق، وإنما الدربة على غرس القيم الدينية الصحيحة في نفوس الشباب، وتوجيه الأجيال الجديدة إلى ما فيه صلاحهم وصلاح مجتمعاتهم. إذ إن تقنيات الاتصال والإعلام الجديد، وبراعتها في إدارة التصورات، يمكن أن تكون إيجابية، أو سلبية، تبعاً للسياق.

ونحن نعيش في مجتمعات يُنفق فيها الناس والقوى السياسية المليارات لتوظيف الآخرين لصالح تصوراتهم، مستخدمين في ذلك الإعلان والعلاقات العامة وكل وسائط الإعلام الجديد لإدارة هذه التصورات. ويمكن لقادة الرأي في المجتمع، الذين أعني بهم المؤسسات الإسلامية والعلماء، استخدام نفس هذه التقنيات، التي تستخدمها الشركات والمؤسسات الربحية للتأثير على الآخرين وتغيير تصوراتهم. وعلى أقل تقدير، يمكنهم أن يصبحوا على بينة من تأثيرها على سلوك على الآخرين. وفي أحسن الأحوال، سوف يتعلمون استخدام هذا الوعي لتطوير المهارات التي تسمح لهم بإدارة سلوكهم بطريقة تعزز حياتهم المهنية؛ سياسية وثقافية كانت، أو اجتماعية.

إن تحولاً كبيراً يحدث الآن، بسبب التطورات المتلاحقة والمتصاعدة في وسائل الإعلام، يُعيد تشكيل العلاقات في حياتنا، دون أن تكون لمؤسساتنا القدرة على السيطرة عليه، أو حتى متابعته ومجاراته. وبعد أكثر من ألف سنة، حافظ فيها علماء الإسلام بشكل عام على سيطرتهم الكبيرة على الإنتاج الفقهي، والتفسير، ونشر النصوص الإسلامية والمحتوى العلمي والمعرفي لجموع المسلمين في جميع أنحاء العالم، نجد أنه الآن، وللمرة الأولى على الإطلاق في تاريخ الأمة، نشهد بداية لتغيير جذري، إذ تأخذ وسائل الإعلام الجديد، مثل، الـ”فيسبوك، ووردبرس، وتويتر، ويوتيوب، وواتسب”، والعديد من أدوات الشبكة العنكبوتية “الانترنت” زمام المبادرة في النشر وتبادل المحتوى بطرق سهلة ورخيصة، أو مجانية وتشاركية. ونتيجة لذلك، يتعرض الملايين من مستخدمي الإنترنت من الشباب المسلمين اليوم إلى تنوع هائل في مصادر المعرفة الدينية والفتاوى والأفكار والآراء الخلافية المختلفة، وربما الخاطئة، عن الإسلام، على عكس أي وقت مضى. وعلاوة على ذلك، أصبحت لدى الشباب حريات لم يعهدوها من قبل في التعبير عن أفكارهم ونشر تصوراتهم من دون أي قيود على الإطلاق، أو حضور موجه وحاسم لأصحاب المعرفة الشرعية الصحيحة من العلماء والمؤسَّسات الإسلامية.

لهذا، فإنه من الأهمية بمكان أن يكون العلماء المسلمون اليوم حضوراً فاعلاً متفاعلاً مع هولاء الشباب، وقادرين على التحليل النقدي لمحتوى معلومات وأخبار وسائل الإعلام الجديد، وفهم المخاطر والفرص المرتبطة بالإنترنت. إن عليهم أن يصبحوا هم أنفسهم مستهلكين وناقلين للمعلومات والآراء المسؤولة والواعية، وأن يتبعوا المنهج التجريبي والتطبيقي العلمي، الذي يمكنهم من التنقل الفاحص في وسائل الإعلام وشبكة الانترنت بكل ثقة وباقتدار، ومعالجة المعلومات الخاطئة أو المتحيزة حول المجتمعات الإسلامية والمعتقدات الدينية.  ففي حين يعمل الكثير من والعلماء والمؤسسات الإسلامية على مواصلة تعزيز الفكر الإسلامي الصحيح، وتطوير فهم الناس للسائد الحالي من العلوم الشرعية. تبدو بعض من هذه الأفكار المبثوثة من خلال وسائط الإعلام الجديد مزعجة وهي تسعي لجذب الشباب المسلم إلى الانضمام إلى مجموعات متطرفة. ويُعتبر بعضها الآخر ليبرالي جداً، بل يصل إلى حد الهرطقة، وبعضها يُهاجم الإسلام، وهي جميعها مخالفة للمنهج العلمي القويم، وللأسس الشرعية، التي يقرها جمهور العلماء، ولكن نفوذها ينمو وسط الشباب المبهورين بنتاج وسائط الإعلام الجديد.

بيد إنه بغض النظر عن المكان الذي يقف فيه العلماء وتقف فيه المؤسسات الإسلامية، بالنظر إلى وسائط الإعلام الجديد، فإن الأمر يتطلب وقفة جادة من الجميع في ساحات الإعلام الجديد والفضاء الإفتراضي، لأن هذا الواقع الافتراضي يجتاح كل الساحات ويفرض نفسه بقوة،[9] رغم أنه ما يزال يطرح أسئلة أكثر من الأجوبة، التي تبرز في كل منعطف وتلح على الإجابة، مثل:

– ما هي الأساليب التي تؤثر بها الإنترنت على المجتمعات والثقافة الإسلامية؟

-وما هو دور المؤسسات الإسلامية والعلماء في ترشيدها؟

-كيف يعمل الشباب المسلم الذي خَبِرَ فنون الإنترنت على تغيير صورة الإسلام في الغرب والشرق؟

-ما هو مستقبل حرية الإنترنت والرقابة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة؟

-لماذا نرى أن ترشيد الإعلام الجديد مهم لاعتدال الحركات الشبابية، خاصة وأن الواقع الإفتراضي يفرض نفسه عليهم؟

– وأخيراً وليس آخراً، ما هو مستقبل الإسلام والمؤسسات الإسلامية في عصر الإعلام الجديد؟

وللإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها، لا بد من حضور علماء الإسلام، والمؤسَّسات الإسلامية، وخبراء الإعلام الجديد، والأكاديميين، والصحفيين، والناشطين التقنيين، للحوار بصوت هادئ وعاقل، وإعمال للنظر الثاقب، والتصور المبدع، الذي يُركِّز على استكشاف الإجابات المقنعة على هذه الأسئلة الملحَّة. فالمعطى الأساسي، الذي يُمهد للإجابة هنا، هو أن المؤسَّسات الإعلامية لم تعد تُدار من قبل الدولة والأحزاب والمنظّمات السياسية وحدها، ولكن من قبل الأفراد أنفسهم. إذ سيتم الحكم على فاعلية الإنسان ليس فقط تقديراً على ما يفعله، ولكن على الطريقة التي يفعل بها ذلك الذي يفعله في السياقات الإعلامية المختلفة، إذ ستلعب تصورات وتقييمات الآخرين له دوراً هاماً في حياته السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. والناس الذين لهم مهارات إعلامية للتأثير على تصورات الآخرين لديهم فرصة أفضل بكثير للسيطرة على مصيرهم ومصير الآخرين.

ولهذا، يجب على كل المهتمين المعنيين، أولاً، فهم كل من تصور الآخرين الموجود عن أنفسهم، والتصور الجديد، الذي يرغبون في الإقناع به. ومن ثم، يحتاجون إلى إنشاء جسر بين التصورين، والعثور على فرص لنقل رسائل إيجابية للشباب المسلم، مع حرص على التجويد واتقان لمحتوى الرسالة، لأن أي خطأ سيسهُل اكتشافه على الفور، ولأنه ببساطة لا يمكن الخطأ في أمر التصورات المرتبطة بعقائد الناس، والخطأ من الصعوبة بمكان أن يستمر. ولفهم الكيفية التي ينظر بها الشباب للمؤسسات الإسلامية، فإن هذه المؤسسات في حاجة بدورها إلى الحصول على فهم دقيق لنفسية هؤلاء الشباب والطرق المثلى للتعامل معهم.

المواجهة القادمة:

إننا كمجتمعات مسلمة، نواجه فترة من فقدان البراءة عندما يشرق علينا كل صباح جديد ونكتشف فيه أن بعض الشباب أصبحوا مبرمجين في تصرفاتهم بمجموعة من القيم المكتسبة في المقام الأول من وسائل الإعلام الجديدة، ومنذ وقت مبكر جداً في شبابهم. وللأسف، فإن أكبر المساهمات المُكَوِّنَة لنشوء هذه القيم تأتي من خلال وسائل لا سلطة ضبط أو تدقيق لنا عليها. وقد لا تتأتى لنا القدرة للنظر بجدية في طبيعة رسائلها المبثوثة في فضاء التواصل الاجتماعي، وغيرها من أشكال الإعلام الجديد. وقد لا نتمكن من مأسسة التدخل إلا بإتقان المعرفة التفصيلية بتقنيات وسائل الإعلام الجديدة، ومن ثم إقناع العلماء بأن يكونوا حضوراً فاعلاً فيها؛ موجهين ومرشدين. فإذا فعلنا ذلك، عندها فقط سنستطيع أن نقدر المغزى الكامل للبرمجة الإعلامية في تصميم توجهات الشباب، وتأثيرها على ناتج القيم الأساسية للجيل القادم في المجتمع، ومن ثم مواجهتها بالإقتدار المطلوب. فنحن بحاجة لأن نُثبت للجيل الجديد من الشباب؛ اليوم وليس غداً، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن منظومة قيم مجتمعاتنا هي أساس تعاليم ديننا ولا يتم الحصول عليها من وسائل التواصل الاجتماعي كيفما اتفق. وعليه، لا تخضع القيم كثيراً لتوجيه الإعلام الجديد، وأن العبث بها يُعد سيئة لا يمكن التسامح معها.

نعم، نحن نُقر بأننا نواجه معضلة، لأننا كأمة إسلامية لا نقبل موقفاً، أو مبدءاً، يقول “دعه يعمل”، كيفما اتفق، ونُصِرُّ أن تخضع وسائل الإعلام لدينا للسيطرة الأخلاقية. وقد يكون هذا الموقف، أو التوجه، رداً على إدراكنا، الذي تختلط فيه أحياناً الحقيقة بنظريات المؤامرة، بمعنى أن المؤسسات الغربية والأيديولوجيات البغيضة والأفكار المنحرفة، التي تدير وسائل الإعلام الجديدة، تَتَعَمَّد تشويه الحقائق الإنسانية والقيم الدينية بشكل صارخ، وتعمل على تكييف سلوك الشباب عن طريق التحكم في المعلومات. ونحن، بالتالي، نود أن نعترف أن أي تنمية للقيم الأخلاقية والدينية عن طريق الصدفة لن يكون أفضل من التلقين المدروس بواسطة المؤسسات الإسلامية والعلماء الثقاة. ومع ذلك، فإن الرسائل الخفية التي يتلقاها صغار السن والشباب في مجتمعاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي هي ليست عشوائية كلها، ولكن كثيرها ليس مفيداً على إطلاقه.  رغم أن هذه الرسائل قد تبدو مترابطة بما فيه الكفاية، وأنها تمتلك الاتساق والتماسك الضروري لتكوين قوة تكييف قوية وتضاهي قيمة التلقين الممنهج. ولأننا، بالطبع، لسنا دائماً على يقين من الطبيعة الدقيقة لوسائل الإعلام الجديدة ورسائلها المبثوثة بلا ضوابط، ومدى القيم التي غرستها في أذهان الشباب. وبالتالي، فإننا لا نميل إلى اعتبار أن محتوى وسائل التواصل الاجتماعي والبرنامج الإعلامية المختلفة كما لو كانت محايدة في تأثيرها.

لهذا، يلزم، في تعامل مؤسساتنا الإسلامية وعلمائنا مع وسائل الإعلام الجديدة، النظر الفاحص لأجندات بعض القوى الجديدة المحفزة للتغيير في مختلف قطاعات المجتمع. ويجب علينا جميعاً أن نركز على ظواهر الاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة بدلاً من التركيز فقط على ظواهر الرسائل، أو التشكيك في محتواها. فبينما تزداد القدرة على نقل الرسائل بشكل ملحوظ خلال كل ما رأيناه حتى الآن من وسائل إعلام جديدة، فإن مضمون هذه الرسائل لا يزال هو الذي سيحدد، إلى حد كبير، كيف ستغير وسائل الاتصالات الإلكترونية الجديدة والمستقبلية أساليب حياتنا. ولكن هذا لا يمكن أن يكون مُسْتَوعَباً بشكل صحيح دون فهم أفضل لوسائل الإعلام الإلكترونية الجديدة نفسها.

الحضور الفاعل والترشيد المطلوب:

لم تعد أهمية أدوات وسائل الإعلام الجديد بحاجة إلى أي حجج تدعمها، أو تؤكد عليها. فقد شهد العالم كله قوة وتأثير هذه الأدوات في مختلف الأحداث والثورات، بل إن عدداً من المؤسسات لاحظت بزوغ هذه القوة وبدأت التحقيق في استخدام وتأثير هذه الأدوات في مجالات أقل وضوحاً مما اعتدنا تلمسه عادة، مثل الخطاب الديني داخل المجتمعات والجماعات، والحوار بين أتباع الأديان. إذ إن الاتهام كان يوجه دائماً للهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر، والإنترنت، التي أنتجت الإدمان على الترفيه الرخيص والدعاية السطحية، ومرد ذلك تضاؤل الاهتمام بالموضوعات الجادة لدى الشباب، فيما أصبح معظم الأطفال والطلاب الآن عرضة باستمرار للالهاء وإضاعة الوقت، أكثر بكثير مما أحدثه ظهور المذياع والتلفاز لدى الأجيال السابقة. فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز، في يوم 21/10/2010، مقالاً ورد فيه أن فتاة تبلغ من العمر 14 عاماً تتبادل ما متوسطه ​​900 رسالة نصية في اليوم. وبهذا يجري تغيير عقول الشباب، وربما بشكل دائم، من خلال وسائل الإعلام الجديدة ووسائط التواصل الاجتماعي، بعد أن اعتادوا على التفاعل ورد الفعل الفوري / الإشباع، أي نقر يسير على الزر تتبعه نتيجة، مما يستلزم مراقبة إيجابية، بمعنى الحضور الرصين الصبور للآباء والأمهات والمدارس والمؤسسات الدينية والعلماء في هذه الوالوسائل والوسائط، أن يحاولوا جاهدين التعامل معها، ورفدها بقيم الدين السمحة، حتى لا يتركوا الشباب نهباً لغثائها.[10]

ومع زيادة الوعي بأن الدين، بدلاً من أن يتلاشى أثره الإيجابي ما يزال يلعب دوراً هاماً في المجتمع المعاصر. فقد أصبح الأكاديميون، والمستقبليون، وعلماء الدين يشعرون بالقلق إزاء تأثير وسائل الإعلام الجديدة على كيفية تصور الناس للتدين وممارسة العبادات في القرن الحادي والعشرين، واهتم كثيرون منهم بالمشاركة الإيجابية النشطة. ولتحقيق هذه الغاية، لا بد من الوجود المستمر والفاعل للعلماء المتمكنون من علوم الدين والدراسات الإسلامية، ومن الثقافة الرقمية، في شبكة الإعلام الجديد، وأن يسعوا إلى تسليط الضوء على هذه الوسائل الجديدة وتشجيع البحوث متعددة التخصصات، وتبيان الجوانب الحيوية منها، والوصول بالبحث المستقل إلى النتائج والمعلومات الأساسية في هذا المجال الهام، الذي أوجدته ثورة الاتصالات وتكنولوجيا الإعلام. والمفتاح الهام لهذا المسعى هو أطلاق مواقع إسلامية رصينة على شبكة الإنترنت، وتوفير الموارد اللازمة لإدارتها، وتوفير المعرفة الوسطية للإسلام، وتيسير تقنيات العثور عليها من قبل الباحثين الشباب، وتمكينهم من الوصول إلى كافة الدراسات الدينية والأدلة الفقهية، التي يحتاجون إليها لممارسة عباداتهم، وتنظيم شؤون حياتهم على أساسها.

ومثلما يُدرك العاملون في المؤسسات الإعلامية التجارية أن السوق المحتملة للمواضيع الروحية والدينية هم شريحة الشباب، ينبغي على علمائنا ومؤسساتنا تجديد أساليب عملهم، وانتاج البرامج والمنتجات التعليمية الدينية في منافسة مع الهيئات الإعلامية التجارية للاستفادة من هذا السوق الكبير، الذي يمثله جمهور الشباب النهم للمعرفة. إذ إن التواصل المباشر مع العلماء عبر الوسائط الجديدة، والإنخراط النشط في وسائل التواصل الاجتماعي، يجعل العلاقة مع الشباب حول القضايا المرتبطة بالمواضيع الدينية والروحية وثيقة ومؤسسية؛ توجيهاً وترشيداً للأفكار والممارسات الدينية.

وفي هذه العملية التجديدية، فإن الإطارات القديمة للسلطة الدينية القائمة على أدوار العلماء التقليدية، ستفسح المجال للمعرفة على أساس التكنولوجيا الجديدة لوسائل الاتصال، التي تجتذب الشباب وتُشكل توجهاتهم وأنماط سلوكهم، خاصة وأن الشباب هم أكثر حذراً من التحزب والتمذهب الديني بالطرق التقليدية، وأكثر احتمالاً لاستخدام التكنولوجيات الجديدة كأدوات للمشاركة والمثاقفة والحوار الإفتراضي الجاد. فقد أدت هذه التحولات إلى ظهور الكثير من النتائج المحتملة من هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة، وأوضحت تأثير التقنيات الإعلامية الجديدة على الخطاب المعرفي العام، وبينت تقاطع الخرافة والسطحية والهرطقة مع المعارف الدينية الصحيحة. ومن خلال التحليل النوعي للمقالات في المواقع الإلكترونية، والتعليقات، ومعرفة كيفية عمل وسائل الإعلام في توليد المناقشات حول صحة وصدق القضايا الدينية، يمكن التدخل السليم للتأثير والترشيد. وبهذه الطريقة، يمكن للمؤسسات الإسلامية أن تُوجد البيئة الإعلامية الجديدة المنافسة لديناميكية مصادر وسائل الإعلام الجديدة المستقلة.

وفي كثير من الأحيان، يمثل حضور العلماء في وسائل الإعلام الجديدة، على سبيل المثال، خطوة مطلوبة تمكنهم من استغلال ديناميات هذه الوسائل لصالحهم، مما يؤدي إلى تغيير الآراء الخاطئة، التي تبثها القوى الجديدة التي ظهرت وانتشرت، وتعديل التحولات السالبة، والتي حدثت في أعقاب التوسع السريع في استخدام التكنولوجيا ووسائل الإعلام الجديدة، ولا سيما من جانب الشباب، في الحديث عن القضايا الدينية والثقافية والسياسية والتغيير الاجتماعي في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى إمكانية استخدام هذه الأدوات الجديدة في الحياة الإسلامية بطرائق وأوجه شتى. إذ يُستخدم تويتر لإرسال الآيات القرآنية والتعاليم الدينية؛ ويُستخدم يوتيوب والفيسبوك لنشر الخطب الدينية والدعوة الإسلامية؛ وتُساعد تطبيقات الهواتف الذكية، على سبيل المثال، iPray، iQuran، على إيجاد إتجاه القبلة في مكة المكرمة، وأساسيات شهر رمضان، والعثور على أقرب مسجد، أو الوصول إلى المطاعم الحلال في بعض المدن الأجنبية. فقد تم تطوير الكثير من هذه التطبيقات لمساعدة المسلمين في ممارسة حياتهم الدينية بطريقة أكثر سهولة وأكثر كمالاً، أي “لا عذر الآن”، مع ضرورة التنبيه المستمر لما يُمكن أن يتأتى من هذه التسهيلات من أضرار، والتحذير من مخاطر الضغوط التجارية، التي تجعل الدين وشعائره سلعاً يُحفز توزيعها الربح لا الدعوة.[11]

إن استخدام هذه الأدوات للدعوة هو الآن على قدم وساق، وينافس في فعاليته النوازع والدوافع التجارية. وقد بدأ باكراً، إذ نشرت صحيفة “فاينانشال تايمز، في 6 يوليو 2011، قصة بعنوان: “علماء الدين السعوديون يستفيدون من الشبكات الاجتماعية،” موضحة كيف أن الشيخ عبد الله بن جبرين، وهو عالم سعودي معروف، قد جمع ما يقرب من 6000 من الأتباع في غضون أسابيع من انضمامه إلى تويتر. وكان الجزء المدهش أن تلاميذ الشيخ بن جبرين، الذي توفي قبل عامين من ذلك التاريخ عن عمر يناهز الـ 76، هم من قام بإحيا فتاواه من أجل الوصول إلى جيل جديد من خلال هذه الوسيلة الجديدة. وقال الخبر أيضاً الشيخ سلمان العودة لديه 113000 من الأتباع على تويتر، وما يقرب من نصف مليون مشجع على الفيسبوك.[12] ولا بد أن هذه الأعداد قد تضاعفت منذ ذلك الحين، كما زاد حضور كثير من العلماء والشيوخ الآخرين في وسائل التواصل الاجتماعي.

وبالقطع، ليس الجميع سعداء بهذه الأدوات الجديدة، والتي يمكن أن يكون من الواضح تأثيرها الكبير على حياة الناس الدينية، وعلى الخطاب الديني، الذي يمكن أن ينتقل من خلالها. وعلى مستوى الاتصالات، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تشغل قطاعاً واسعاً من الشباب وتجتذبهم إليها، دون أن تقدم لهم غذاء فكرياً جاداً. فقد ندد عدد من المفكرين المعروفين في الآونة الأخيرة؛ مثل نعوم تشومسكي، بـ”تويتر” واعتبروه وسيلة “سطحية” للاتصال، التي “تُضعف العلاقات الإنسانية العادية.” لماذا؟ لأنه “يتطلب، شكلاً موجزاً ومختصراً جداً من الفكر، الذي يميل نحو السطحية.” [13]ويُشاركه الرأي المفكر المعروف سيد حسين نصر، الذي سبق وأن انتقد في مقابلات مع مظفر إقبال، نُشرت في كتاب قبل بضع سنوات، انتقد الهاتف الخليوي باعتباره “مثال جيد جداً” على هذا النوع من الآثار السلبية، التي يمكن أن تجلبها التكنولوجيات الجديدة على سلامة حياتنا الدينية، إنه “قد غير فعلاً الفضاء الذي يعيش فيه العديد من البشر. ويدمر هذا السكينة الداخلية الهادئة الذي نكون فيها وحدنا مع الله … ويُحدث أثراً عميقاً جداً على النفس البشرية. [14]

وبالمثل، فإن صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية كانت قد أرجعت ردود الفعل الشديدة، التي أعرب عنها بعض رجال الدين الإيرانيين وغيرهم من صناع الرأي هناك، إلى إدمان الشباب على شبكة الإنترنت بشكل يُنذر بالخطر. وقد حذر أحد هؤلاء العلماء طلابه من “الأخطار والفتن” للإنترنت ونصحهم بـ”قضاء المزيد من الوقت في الصلاة ووقت أقل للتصفح خلال الفضاء الإلكتروني.”[15] ومع ذلك، ورغم أن هناك وجهة نظر أخرى تقول، بعدم وجود أي تناقض بين أن يكون المسلم ملتزماً ويستخدم في الوقت نفسه الفيسبوك والشبكات الاجتماعية، وتُصر وجهة النظر هذه على أن “أي مسلم ملتزم يُمكنه أن يتعامل مع جميع أنواع الأدوات والتكنولوجيا الحديثة مع احتفاظه بحياته الإيمانية الإسلامية،”[16] إلا أن الخوف الكبير من انخراط الشباب في الفجور والأعمال الشريرة، وادمان مواقع نشر الفساد، تُصيب الكثيرين بالقلق. وذلك للتأثير الواضح للوسائل الرقمية الجديدة على الحياة الاجتماعية والدينية للناس، وخاصة قطاعات الشباب.

لهذا، يُعتبر الإعلام الجديد المُنَظِّم للمشهد الاجتماعي والثقافي المتغير في مجالات الحياة المختلفة، بما فيها الوسائل التي تعمل في جميع أنحاء العالم الإسلامي وخارجه. وبالاعتماد على مجموعة واسعة من المواضيع، التي تتناولها وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي، يمكن تقديم وجهات نظر جديدة حول كيفية تأقلم المسلمين على رسائل ووسائل الإعلام المحلية والدولية، التي تدفعهم باستمرار للتواصل بشكل مستقل عن المؤسسات الإعلامية الرسمية، بما فيها المؤسسات الدينية. وبالتالي، عرض أفكار جديدة حول المدى الذي تجاوزت به وسائل الإعلام الجديدة اليوم الحدود المحلية والقُطْرية وعملت على غرس قناعات جديدة حول مفاهيم التدين، والأخلاق، وقضايا النوع الاجتماعي، والسلطة، والعدالة، والسياسة، واحداثة، والثقافة، في المجتمعات الإسلامية.

لهذا، فإن حضور المؤسسات الإسلامية والعلماء، في وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي، سَيُمكِن من مناقشة كل القضايا الراهنة، وما يلي منها الشباب خاصة، وتبادل المعرفة بين العلماء والمتعطشين لها من هؤلاء الشباب، وتعزيز استراتيجيات العمل الدعوي في الفضاء الرقمي، ويُيسِّر إقامة شبكات تواصل فعّالة بين العلماء، والباحثين، وطلبة الدراسات العُليا، والإعلاميين، واستصحاب جهودهم في كافة مجالات الدعوة. ويتطلب ذلك تحديثاً وتركيزاً على الموضوعات والقضايا المتعلقة بالأولويات الملحة المعروضة للبحث والنقاش بين الشباب، وما يرتبط منها بضرورات التربية الإسلامية القويمة وأساسياتها؛ بما فيها فقه الدعوة، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، والتربية الأخلاقية، والخطاب الإسلامي، وعلوم القرآن الكريم، إلى جانب قضايا العصر المختلفة.

صوت الحكمة:

إن وسائل الإعلام الجديدة اليوم، بما في ذلك أجهزة الفاكس، والفضائيات، والإنترنت، والاستخدامات الجديدة لوسائل الإعلام القديمة، مثل أشرطة الكاسيت، والفيديو، والسينما، وقصص الخيال العلمي، والهاتف، والصحافة، تُعيد تشكيل الثقافة في المجتمعات الإسلامية بشكل كبير. وسواء في الدول ذات الأغلبية المسلمة، أو غيرها من الأماكن الأخرى، فقد ارتبطت وسائل الإعلام التقليدية؛ الـ”صغيرة” والـ”بديلة”، بشكل وثيق مع المسلمين المتعلمين، الذين كانوا يبحثون عن اتجاهات وهويات جديدة. كما عزز استغلال العامة، والمجموعات الشعبية الأخرى، لوسائل الإعلام الجديدة، التعددية، وشجع تطوير مجالات مستحدثة جديدة، وابتداع طرق مختلفة لتفسير الدين والتدين، وتأسست على ضوء ذلك شبكات مجتمعية كثيرة، ليس في كا ما تقدمه من معارف فائدة تُجنى، أو يمكن الوثوق به لتربية النشء والأجيال الجديدة من الشباب.

لقد تحكم علماء المسلمين، لأكثر من ألف عام، في الإنتاج، والتفسير، ونشر النصوص والمحتوى الإسلامي لجموع المسلمين في جميع أنحاء العالم. ولكن اليوم، فإن وسائل الإعلام الجديدة تُحَوِّل طبيعة السلطة الدينية والحقوق التفسيرية. إذ جعل الفيسبوك، والبلوق، وتويتر، ويوتيوب، وغيرها من الأدوات، التي لا حصر لها على الانترنت، النشر وبث الأفكار متاحاً وسهلاً ورخيصاً، ووضعت وسائل الإعلام الجديدة أدوات جاذبة ومشجعة على حرية التعبير، والخوض في قضايا الدين، في أيدي أي شخص لديه اتصال بالإنترنت. وعلاوة على ذلك، غير المختصين القدرة على التعبير عن عما يدور بخلدهم ونشر أفكارهم بحرية أكثر من ذي قبل، وصار لأفكارهم تأثير ملحوظ، مما يشكل تحدياً للكثير ما رسخ من مفاهيم العقيدة والتجديف.[17] ونتيجة لذلك، يتعرض الملايين من مستخدمي الإنترنت المسلمين اليوم إلى تنوع واسع من الأفكار والآراء الفقهية عن الإسلام، التي قد لا تكون صحيحة، أو متطابقة مع ما أجمع عليه العلماء الثقاة. الأمر الذي يُحدث بلبلة، ويُولد انحرافات في الفهم والعقيدة.

بيد إن صوت الحكمة في عالمنا الإسلامي يتغلب دائماً على ما يواجه مجتمعاتنا من تحديات. وليس أدل على ذلك مما يقول به علماء العالم الإسلامي وخطبائه المعروفين من آراء ثاقبة ناصحة، وحجج واضحة مقنعة، ووصايا إرشادية ضابطة. فقد أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة الشيخ الدكتور صالح بن حميد، في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام، يوم 20 فبرائر 2015، باستخدام الإعلام الجديد في الخير والإصلاح والتقرب إلى الله، موضحاً أن شبكات المعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وغرف المحادثات، والمدونات، والحسابات الشخصية، والمنتديات، لها آثارها الكبيرة وتأثيراتها البالغة على سلوك الناس وعاداتهم، وما أحدثته من أنواع من التغيير الاجتماعي؛ إيجاباً وسلباً ونفعاً وضراً. ووصف فضيلته الإعلام الجديد بأنه خطير تجاوز الحدود الجغرافية، وتواصل الناس فيه من جميع اصقاع الدنيا؛ أقطاراً وقارات، ربط بين أجزاء العالم وغير معالمه حيث تقاربت معه المسافات الزمانية والمكانية، وأصبح دوره متعاظماً في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات والشعوب، محدثاً طفرات واسعة في عالم الاتصال حيث يتم التواصل من خلاله مع الأقران وغير الأقران والمعارف وغير المعارف؛ داخلياً وخارجياً، يتبادلون الأسرار والمعلومات والثقافات، وممارسة ما لا ينحصر من النشاطات والفعاليات؛ مع من يعرفون ومن لايعرفون.[18]

ولتبيان كيفيات التعامل بفطنة مع وسائل الإعلام الجديدة، تطرق الشيخ صالح بن حميد إلى أهمية الإعلام الجديد وما فتحه من أفاق جديدة وواسعة ليعبر بها المرء عن ذاته وشخصيته والتفاعل مع ما حوله من قضايا وأحداث بطرق مختلفة وأساليب متجددة قد لايدركها أو يستوعبها جيل الآباء والكبار فهذه الوسائل قربت البعيد ومهدت الطرق أمام المبدعين وسهلت نقل المعلومات وبناء الأفكار وتطوير المهارات وصقل الملكات واثبات الذات وزرع الثقة في النفوس، ففيها تيسير للمعلومات وتوفيرها ومتعتها، ينتقل فيها المتلقي من المتابعة إلى المشاركة الفاعلة في كل المواد والأدوات كل ذلك يتم إذا كان هذا التعامل بوعي ونضج وحسن تدبير. وعد فضيلته الإعلام الجديد وسيلة لكل مسئول ليفيد منها في معرفة جوانب القصور في مسئوليته وإدارته والتواصل مع ذوي العلاقة من موظفين ومراجعين ومحتاجين لمزيد من المراجعة والتطوير واتخاذ الإجراءات الملائمة والقرارات الصائبة على أن مافي هذه المدونات والمواقع والشبكات من معلومات ومحتويات تبقى بحاجة إلى مزيد من التوثيق والتثبت فالعلم الصحيح والمعلومات الصادقة تؤخذ من أهلها بعد دراسة وأناة وحسن معالجة.[19] وبمثل هذه الآراء الناصحة يكون لتدخل العلماء دور فعال في ترشيد التعامل مع وسائل الإعلام الجديدة، وتوجيه الشباب، وعامة الناس، إلى الكيفية التي ينبغي أن يحسنوا بها استخدامهم، يؤسسوا بها علاقتهم التفاعلية مع هذه الوسائل، والمحاذير التي يجب أن ينتبهوا إليها خلال تصفحهم لما تموج به الشبكة العنكبوتية من معلومات مقروءة ومسموعة ومشاهدة.

الخاتمة:

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: (الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم)[20] تأكيداً لمفهوم المعرفة وضروراتها، وباعتبارها الخصيصة التي بها يتميز البشر عن غيرهم من سائر المخلوقات. ويُعد استخدام تطبيقات وسائل الإعلام الجديدة، والوسائط المستحدثة منها؛ مثل الإنترنت، وبرامج الكمبيوتر، والتلفزيون، والإذاعة، والهواتف المحمولة، وغيرها من التقنيات الرقمية، من مطلوبات المعرفة المتعلقة بقضايا الحياة المختلفة، لأنها أدوات فعّالة لنقل هذه المعرفة، وهي ما أحدث تغييرات أسهمت في تطوير معظم جوانب الحياة الإنسانية. فقد أسهمت التقنيات المعاصرة في جعل تناقل المعلومات أسهل حيث باتت تُنْشر دون قيد، أو شرط.

وفي هذا السياق؛ جاء تطور تقنيات وسائل الإعلام الجديد لافتاُ ومدهشاً، وربما مربكاً في كثير من الأحيان ولكثير من المجتماعات والجماعات، بما فيها المجتمعات المسلمة. فقد تجاوزت هذه التقنيات الحدود بمختلف مفاهيمها، وتخطت القيود بكل فروضها، وكأنها تفسح مساحة للأشخاص غير المسؤولين لوضع معلومات غير دقيقة عن الإسلام، الأمر الذي يمكن أن يربك عقول الناس. وهذا الموضوع يمكن أن ينظر إليه من منظور سوء استعمال وسائل الاعلام من خلال عرض الدعاية غير اللائقة باسم الإسلام، في موضوعات شائكة مثل؛ العقيدة والجبر والإيمان، أو موضوعات عامة مثل؛ الليبرالية، والنوع الاجتماعي، والراديكالية، والعلمانية، والتنوع، والتعددية.

بالإضافة إلى ما تقدم، لم تُمَكِّن السرعة التي تطورت بها وسائل الإعلام الجديدة، والطريقة التي اكتسحت بها الفضاء العام، فرصة كافية لإجراء تحليلات للآثار الرئيسية للتقنيات المستحدثة على جودة الحياة والمجتمع، ولم يتمكن القائمون على الأمر من تخطيط مشاريع موجهة تبحث عن قيمة المعلومات الرقمية، والآثار المترتبة على الفضاء الإلكتروني والافتراضي، وأثر وساطة الكمبيوتر على ممارسة الإنسان لأنماط حياته، ولم تبحث المؤسسات الإسلامية بما يكفي مواقف الأيديولوجيات السياسية والثقافية الكبرى بشأن العلاقة بين وسائل الإعلام الجديدة والرسائل المبثوثة خلالها، واسقاطاتها على نوعية القيم والموضعات الأخلاقية المرعية.

وبالمراجعة السريعة للحضور الإسلامي في فضاء الإعلام الجديد والفضاء الرقمي الإفتراضي، نُلاحظ تفوق النشاط الدعوي الفردي للعلماء على نشاط المؤسسات الرسمية، وذلك على الرغم من تمتع الأخيرة بالخصائص والتسهيلات التي تزيد من علاقتها التفاعلية مع المستفيدين، وبمقومات مادية وبشرية أكبر تؤهلها للتفوق. إذ إن افتقار غالبية المواقع الرسمية إلى الثبات والاستمرارية، وميل معظمها إلى العزلة، وعدم التكامل، والخشية من الاندماج مع نظائرها من المواقع الدعوية الأخرى، يحرمها من التأثير والترشيد المطلوب. مما يستدعي تشجيع المواقع الإسلامية لللتنسيق والتعاون والارتقاء بالوسائل التقنية، والعمل على إثراء البحث العلمي في هذا مجال العلوم الإسلامية، خصوصاً وأن هناك تعطُش للمعارف الدينية، وأن هناك الكثير من القضايا والأفكار التي ينبغي أن تطرح في مواقع العلماء والمؤسسات الإسلامية.

إن دور المؤسسات الإسلامية وحضور العلماء في سائل الإعلام الجديدة يُساعد على نشر الدعوة الإسلامية، إلا أنه يحتاج إلى كثير من الأفكار العلمية الصالحة للتطبيق، التي لا يمكن معرفتها إلا من خلال الممارسة النشطة والفاعلة والمعرفة الدقيقة بطبيعة الإنترنت واستخداماتها، والتقدير الصحيح لحاجة العالم الإسلامي إليها، فضلاً عن حاجة الدعاة لتوصيل الدعوة الإسلامية للإنسانية جمعاء. فالتقنية الرقمية نعمة ونقمة، كما أسلفنا، إذ هي نعمة إذا تربعت على عرشها المؤسسات الإسلامية، وشكل رؤيتها العلماء، واستثمرناها جميعاً لنشر الفكر الإسلامي الصحيح، وهي نقمة إذا سيطرت عليها الأيدولوجيات المنحرفة، وحاصرت بيوتنا بوارج الدعاية التجارية، واعتقلت اهتمامات شبابنا المواقع الفاضحة.

إن مستقبل نشر الفكر الإسلامي عبر الفضاء الرقمي مرهون بحضور المؤسسات الإسلامية والعلماء، مثلما هو خاضع لكثير من المتغيرات والتعقيدات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ليس على صعيد العالم الإسلامي فحسب، وإنما على صعيد العالم بأسره، الذي أصبح بفعل وسائل الإعلام الجديدة قرية كونية معولمة. فقد يصعب على المرء الحديث عن رقعة جغرافية معينة؛ مهما اتسعت أطرافها، دون استصحاب التداخل الكبير، والذي تشهده الإنسانية اليوم، وضاعت معه معالم الزمان والمكان، وأن الحدود والقيود القديمة لم يعد لها معنى.

وبهذا الفهم، يُمكن أن نفكر في البحث عن معالجات لدوائر مترابطة، ثلاثة منها تدرس الآثار المزعومة لجودة الحياة والمجتمع من خلال التطورات الثلاثة في ثقافة وسائل الإعلام الجديدة، التي رسمت في وقت سابق؛ وهي الرقمنة، والمحاكاة الافتراضية، والوسيلة. [21] على أن يلحق بها مشروع رابع يَعْمُد إلى تحليل المواقف الحرجة في وسائل الإعلام الجديدة في سياق التقاليد الأيديولوجية الكبرى، وموقفها من المسلمين، وموقع الإسلام منها. في حين يكون هدف المشروع الخامس تطوير إطارٍ لجودة التحليلات السابقة نفسها وإدماج نتائج المشاريع الملحقة الأربعة لترشيد نتاجاتها من حيث جودة تصميم المواقع، وبما يواكب التقنيات ذات الرؤية البصرية، وسهولة التصفح والتنقل مع توافر الخدمات التفاعلية، ومن حيث رصانة المحتوى والشمول والتنوع والمصداقية، وعبر جهود مشتركة للعلماء والمؤسسات الإسلامية.

وفي الختام، لابد من التأكيد على أن حضور المؤسسات الإسلامية والعلماء مطلوب لتثبيت الهوية الإسلامية للمواقع المختلفة، وترشيد استخدام وسائل الإعلام الجديدة، وإثراء الحوار عبر الفضاء الرقمي مع الشباب، باعتبار أن هذه عملية تكاملية بين كل العاملين في حقل الدعوة إلى الله. فالجميع هنا معنويون بالحديث عن دور هؤلاء جميعاً في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المعتدل. لهذا، لابد أن نعتمد على حضورهم في المواقع الإسلامية المعنية بهذا الفكر، التي تبتعد عن الترويج للخلافات المذهبية، وتفتح قنوات حوار مع الآخر، وبلغات مختلفة، وأن يتعزز التنسيق بين القائمين على المواقع الإسلامية العامة والمتخصصة، والحرص على تبادل المعلومات، وتكثيف نشر البحث العلمي والبحوث والدراسات الرصينة في علوم الدين، التي ترد الشبهات وتبين عدالة وسماحة الإسلام

* الدكتور الصادق الفقيه، ورقة قدمت في مؤتمر مكة المكرمة السادس عشر حول “الشباب المسلم والإعلام الجديد”، الذي نظمته الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان عنوان الورقة: “حضور المؤسسات الإسلامية والعلماء”، المحور الراب”ترشيد الإعلام الجديد”، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، يومي 3 و4/12/1436ه، الموافق 16 و17/9/2015.

** دبلوماسي والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي بالأردن، مختص في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية.[1] http://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/17512780802281081#abstract

[2]  (كاستلز، وآخرون، 2004؛. تشيو، 2007، 2009 ؛ دي لانج، 2010) http://religionfactor.net/2013/03/13/religious-authority-and-new-media-culture/

[3] https://www.faithandleadership.com/qa/heidi-campbell-the-internet-challenges-and-empowers-religious-institutions

[4] Norms and Values in Digital Media, http://reports.weforum.org/norms-values-digital-media/

[5] http://ejc.sagepub.com/content/19/4/483.abstract

[6] أحدث أبحاث الدكتورة هيدي كامبل، الأستاذة المشاركة في الاتصالات في جامعة تكساس A & M، في مجال: الدين في البيئات الرقمية. ويركز البحث على منتجي المحتوى عبر الإنترنت وطبيعة سلطتهم. Cheong, Pauline Hope, ‘Authority’ in Campbell (ed.) Digital religion: understanding religious practice in new media worlds (2013) New York: Routledge

[7] لورن داوسون http://www.baylor.edu/content/services/document.php/130950.pdf

[8] المصدر السابق.

[9] لعب الواقع الافتراضي الدور الرئيسي في مؤتمر “إي 3” لألعاب الفيديو في لوس أنجليس 20 يونيو 2015، إذ تنافست شركات كبرى على تقديم كل ما هو جديد ومبتكر في هذا المجال. فرفعت مايكروسوفت سقف التوقعات بعرضها نسخة مجسمة للعبة ماين كرافت باستخدام عدسة هولوغرافية بمقدورها دمج الصور ثلاثية الأبعاد مع العالم الحقيقي. وطورت شركة كندية مشروعا لتحويل المحتوى ثنائي الأبعاد من هاتفك المحمول أو حاسوبك اللوحي إلى ثلاثي الأبعاد، وباستطاعة الجميع أن يروه ويتفاعلوا معه من جميع الزوايا. http://www.bbc.com/news/undefined

[10] Growing Up Digital, Wired for Distraction, http://www.nytimes.com/2010/11/21/technology/21brain.html?_r=1

[11] نضال قسوم، أستاذ الفيزياء وعلم الفلك في الجامعة الأمريكية في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، “وسائل الإعلام الجديدة والإسلام”، تاريخ النشر: 11/08/2011، http://www.huffingtonpost.com/nidhal-guessoum/new-media-and-islam_b_1077496.html

[12] http://www.ft.com/cms/s/8b9834c8-a7ff-11e0-afc2-00144feabdc0,Authorised=false.html?

[13] Noam Chomsky, http://figureground.ca/interviews/noam-chomsky/

[14] Islam, Science, Muslims, and Technology (Seyyed Hossein Nasr, in conversation with Muzaffar Iqbal), Publisher: Islamic Book Trust (2007) http://www.islamicbookstore.com/b9684.html

[15] http://latimesblogs.latimes.com/babylonbeyond/2011/09/iran-cleric-says-more-prayer-less-web-surfing.html

[16] OBSERVATIONS FROM IRAQ, IRAN,  ISRAEL, THE ARAB WORLD AND BEYOND, http://latimesblogs.latimes.com/babylonbeyond/2011/09/iran-cleric-says-more-prayer-less-web-surfing.html

[17]  الإسلام في عصر الإعلام الجديد http://www.arabnews.com/news/707681

[18] إمام المسجد الحرام يوصي باستخدام الإعلام الجديد في الخير والإصلاح والتقرب إلى الله، الجمعة 20 فبرائر 2015، واس – مكة المكرمة، http://www.alyaum.com/article/4048680

[19] المصدر السابق.

[20] سورة العلق: الآيات 4-5.

[21]http://ethicsandtechnology.eu/projects/evaluating_the_cultural_quality_of_new_media_towards_an_integrated_philosophy_of_human_media_relations/

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات