اجتماعالمقالات

مفهوم الأنومي (Anomie) في سوسيولوجيا دوركهايم

دوركهايم

يعدّ مفهوم الأنوميا أو الأنوميّ (Anomie) أحد أهمّ المفاهيم المركزيّة الّتي عرفت بها سوسيولوجيا دوركهايم، وقد وظّف هذا المفهوم بقوّة على مدى أجيال متعاقبة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا منذ عهد دوركهايم حتّى اليوم، ويوظّف هذا المفهوم سوسيولوجيا في تحليل مختلف أشكال الفوضى الأخلاقيّة والاجتماعيّة في المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة.

استخدم دوركهايم مفهوم الأنوميّ (Anomie) في كتابه “الانتحار” (Le suicide ) عام 1897، ووظّفه في معرض الإشارة إلى حالة عدم الاستقرار الاجتماعي أو إلى حالة الاضطراب والفوضى الّتي تهزّ أركان المجتمع بسبب انهيار المعايير الأخلاقيّة، وغياب المثل العليا، وتصدّع القيم الاجتماعيّة المشتركة بين أفراد المجتمع. وقد تؤدّي ظاهرة “الأنوميّ” حسب دوركهايم إلى تفكّك المجتمع وانهيار المعايير والانفصال بين الأهداف الاجتماعيّة المعلنة والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، وعندما تستفحل هذه الحالة يدخل الأفراد في سيكولوجيا الإحساس بالاغتراب والعبثيّة والانهيار الأخلاقي[1].

صاغ دوركهايم مفهومه عن “الشذوذ الاجتماعيّ” (الأنوميّ) في كتابه “تقسيم العمل الاجتماعيّ “، وقد اشتقت كلمة الأنوميّ (Anomie) من الكلمة اليونانيّة (Anomia)، الّتي تترجم بمعنى “الخروج على القانون”، ويلاحظ في هذا السياق أنّ مصطلح “الأنومي” (Anomie) يترجم إلى اللغة العربيّة بألفاظ مختلفة مثل:” الشذوذ الاجتماعيّ ” و”الانحراف الاجتماعيّ” و”الفوضى الاجتماعيّة” و”اللامعياريّة “، (Normlessness) و” الانهيار الأخلاقيّ ” وجميع هذه الكلمات تعبّر عن مفهوم الأنوميّ عند دوركهايم وهي مترادفات لفظيّة لمفهومه “الأنوميّ”. علماً بأنّ كلمتي “الشذوذ الاجتماعيّ” و” اللامعياريّة: هما الكلمتان الأكثر استخداماً في البحوث الاجتماعيّة.

+

وصف دوركهايم الشذوذ بأنّه شكل غير طبيعيّ من تقسيم العمل، ووجد بأنّ الشذوذ يتزايد مع غياب القيم الأخلاقيّة والمعايير الاجتماعيّة وعدم كفاية التنظيم اللازم لضمان التعاون بين مختلف الأفراد الموزّعين ضمن الوظائف الاجتماعيّة المتخصّصة. وقدّم دوركهايم أمثلة حيّة وواقعيّة للشذوذ الّذي شهد حضوره في أوقات الأزمات الاقتصاديّة، وبرز في ظاهرة العداء بين الرأسماليّين والعمّال، وفقدان المجتمع لوحدته بسبب التخصّص المكثّف والمتزايد المتزايد. في هذه الحالات جميعها لاحظ دوركهايم العنصر المشترك في الشذوذ هو غياب التفاعل الاجتماعيّ والاتّصال الحيويّ الأخلاقيّ بين الأفراد الّذين يؤدّون أدواراً اجتماعيّة مختلفة في المجتمع.

وفي الأحوال كلها حدّد دوركهايم سببين رئيسيّين للشذوذ، هما: تقسيم العمل، والتغيّر الاجتماعيّ السريع. وكلا الأمرين يرتبطان بطبيعة الحال بالحداثة. إنّ التقسيم المتزايد للعمل يضعف الشعور بالانتماء إلى المجتمع الأوسع، ومن ثم يضعف القيود المفروضة على السلوك البشريّ. وتؤدّي هذه الظروف إلى “التفكّك” الاجتماعيّ- وارتفاع معدّلات السلوك الأنانيّ، وانتهاك القواعد، وما يترتّب على ذلك من فقدان الشرعيّة وانعدام الثقة بالسلطة.

يردّ دوركهايم مفهوم الشذوذ الاجتماعيّ إلى شكل غير طبيعيّ من التقسيم الاجتماعيّ للعمل. وفي تناوله للتضامن الآليّ وجد دوركهايم أنّ الضمير الجمعيّ يسود المجتمعات التقليديّة “البسيطة”، وأنّ هذا الضمير يتميّز بقوّته وقدرته على الضبط الاجتماعيّ، إذ يتضمّن “معتقدات ومشاعر مشتركة بين جميع أعضاء المجموعة”. وقد وجد أنّ الروابط الأخلاقيّة القويّة في هذه المجتمعات تمنع حدوث ما يسمّى بالأنوميّ أو بالشذود الاجتماعيّ، إذ يشعر الفرد بارتباط أخلاقيّ قويّ بمجتمعه، وذلك على خلاف المجتمعات ذات التضامن العضويّ.

وقد وجد دوركايم أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الموجود في المجتمع الصناعيّ الحديث يؤدّي إلى شكل جديد من التضامن الّذي أطلق عليه كما أشرنا مراراً بالتضامن العضويّ. وقد وجد بأنّ الضمير الجمعيّ في المجتمعات ذات التضامن العضويّ لا يكون شاملاً ومطابقاً للضمير الفرديّ الّذي يتمتّع بدرجة كبيرة من الاستقلاليّة، وقد أكّد دوركهايم أنّ تقسيم العمل يوفّر المزيد من الفرص للتفاعل الاجتماعيّ وتطوير العلاقات الاجتماعيّة، وهو ما يسمّى بـ “الكثافة الأخلاقيّة”. ومن ثمّ فإنّ المستوى الأعلى من الكثافة الأخلاقيّة يخلق المزيد من التضامن العضويّ، ومن ثم التماسك والاندماج في المجتمع.

ومثل هذا الأمر لم يمنع دوركهايم من أن يستكشف أمراض التضامن الحديث ولاسيّما ما يسمّيه بالشذوذ الاجتماعيّ. وقد وجد أنّ الشذوذ هو نتاج لفعاليّة مختلّة في تقسيم العمل. فالتقسيم القسريّ والشاذّ للعمل قد يؤدّي إلى الشذوذ الأخلاق والاجتماعيّ. وبينما يؤكّد دوركهايم أنّ المجتمع العضويّ يولّد روابط الاعتماد المتبادل الّتي تعزّز التضامن الإيجابيّ والتماسك الاجتماعيّ، فإنّه يعترف أيضاً في الوقت ذاته بأنّ المجتمعات الصناعيّة الحديثة، تعاني ظواهر الصراع بين العمل ورأس المال بين العمّال وأصحاب العمل، وبيّن أنّ هذه المجتمعات تعاني من الأزمات الاقتصاديّة والصراعات التجاريّة. وذلك تحت تأثير التقسيم المرضيّ للعمل وبسبب انعدام المعايير الأخلاقيّة والاجتماعيّة (الشذوذ)، والافتقار إلى التنظيم، وتزايد دور المصالح الذاتيّة الفرديّة أو الجماعيّة.

يؤكّد دوركايم على أنّ مثل هذه الأمراض ليست بالضرورة متأصّلة في تقسيم العمل، بل إنّها تنشأ في “ظروف استثنائيّة وغير طبيعيّة”. على سبيل المثال، خلال الثورة الصناعيّة، حلّت الآلات محلّ البشر، وتغيّرت العلاقات بين أصحاب العمل والعمّال، وذلك على خلاف “المجتمعات البسيطة” الّتي كانت تتميّز بوجود علاقة وثيقة وذات معنى بين أصحاب العمل والعمّال والموظّفين، ويضاف إلى ذلك وجود ارتباط قويّ بين العامل ودوره في العمل الجماعيّ،

ولكن مع تطوّر المجتمع والانتقال إلى صور جديدة للعمل الحديث، فرض على العامل نظام عمل صارم وشاقّ أبعده عن عائلته طيلة أيّام العمل وأصبح في الوقت نفسه يعيش بعيداً أكثر من أيّ وقت مضى عن الشخص الّذي يوظّفه. وهذا جزء من التقسيم الطبيعيّ للعمل في المجتمع الحديث. ومع ذلك، «نظراً لأنّ هذه التحوّلات قد أُنْجِزَت بسرعة كبيرة، لم يكن لدى المصالح المتضاربة الوقت الكافي لتحقيق التوازن». ولذا وتحت تأثير هذه الظروف الجديدة يضعف الوعي الجماعيّ، وتتآكل الروابط الاجتماعيّة. فالتخصّص المفرط ينتج “تهديداً للتماسك الاجتماعيّ”. ويشرح دوركهايم أنّ زيادة التخصّص في العمل في غياب الترابطات الأخلاقيّة والاجتماعيّة بين التخصّصات المهنيّة قد يكون كارثيّاً في المستويات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، ويتطرّق في هذا السياق إلى الانفصال الاغترابيّ للعامل الّذي يقوم كلّ يوم بتكرار العمل الروتينيّ كلّ يوم ضمن نسق من الحركات الرتيبة المملّة، ولكن دون أن يكون لديه أيّ اهتمام أو فهم لها، وهذا يعني أنّ العامل لم يعد ضمن هذه الترسانة الصناعيّة كياناً حيّاً، بل أصبح ترساً جامداً هامداً وهذا من شأنه إلغاء الجانب الإنسانيّ والأخلاقيّ في حياة العمّال وغيرهم من العاملين في النظام الصناعيّ، وهذا يشكّل أحد الأسباب الأساسيّة لظاهرة الشذوذ والانحراف الأخلاق الاجتماعيّ.

وعلى هذا الأساس يبني دوركهايم أنّه عندما يكون تقسيم العمل مَرَضيّاً، فإنّه يعيق تكوين علاقات اجتماعيّة أخلاقيّة متماسكة، وذلك لأنّ هذا النمط من تقسيم العمل يؤدّي إلى زيادة المسافة الاجتماعيّة بين مختلف شرائح المجتمع وأفراده، وهذا بدوره يمنع من تشكّل الكثافة الأخلاقيّة الضروريّة لتعزيز التضامن العضويّ في المجتمع. وفي هذه الحالة لا يمكن للمجتمع أن يعمل بشكل فعّال عندما يعاني تصاعد ظاهرة الشذوذ الاجتماعيّ، إذ لم يعد كلّ جزء من أجزائه مرتبطاً بعلاقته المعنويّة بالجماعة والمجتمع؛ وعلى هذا النحو تعمّ الفوضى، ويظهر التفكّك ويعاني المجتمع من الانحلال الاجتماعيّ والأخلاقيّ، وقد جادل دوركهايم بالضرورة الحيويّة للأخلاق الّتي يمكنها أن تحقّق للفرد كماله من جهة، وأن تحقّق له تفاعله الحيويّ مع المجتمع الّذي يعيش فيه.

وعلى هذا النحو، فإنّ نظريّة الشذوذ لدوركهايم ترى أنّ التقسيم الاجتماعيّ للعمل الّذي تطوّر في بداية التصنيع قد أضعف “الضمير الجمعيّ” (Conscience collective)، وأدّى إلى تضاءل الأعراف والقناعات والضوابط الأخلاقيّة الّتي كانت سائدة في المراحل السابقة، وعليه تراجعت المبادئ الأخلاقيّة والقيم الاجتماعيّة القديمة الّتي تحضّ على التفاعل الأخلاقيّ والاجتماعيّ بين أفراد المجتمع، وقد تركت ساحتها بمبدأ تقسيم العمل القسريّ الشاذّ الّذي أطاح بالقيمة الأخلاقيّة للمجتمع، فأدّى إلى إعاقة التضامن الاجتماعيّ بين أفراده.

ويرى دوركهايم في هذا السياق أيضاً أنّه لا يمكن التحكّم في رغبات البشر ومصالحهم الذاتيّة إلّا من خلال قوى أخلاقيّة تنشأ خارج الفرد وتحت تأثير ضغط العقل الجمعيّ القائم على وحدة المجتمع. يصف دوركهايم هذه القوّة الخارجيّة بأنّها ضمير جمعيّ، وهو رابطة اجتماعيّة مشتركة يُعَبَّر عنها من خلال أفكار وقيم وأعراف ومعتقدات وأيديولوجيّات الثقافة. وبما أنّه لا يوجد شيء داخل الفرد يقيّد هذه الشهوات، فمن المؤكّد أنّه يجب احتواؤها من قبل قوّة ما خارجة عنه، وإلّا فإنّها ستصبح غير قابلة للسيطرة، وستدفع إلى الفوضى والشذوذ والعدميّة.

وبما أنّ الضمير الجماعيّ ينشأ من المجتمع، فقد أوضح دوركهايم أسباب وآثار ضعف الروابط الجماعيّة (ومن ثم إضعاف الضمير الجماعيّ) في الفرد والمجتمع في كتابيه، تقسيم العمل في المجتمع (Division du travail) (1893) والانتحار (Le suicide) (1897). ويؤكّد دوركهايم في هذا المسار إنّه ضعف القيود الاجتماعيّة وتراجع تأثير الضمير الجمعيّ يشجّع على تنامي المصالح الفرديّة، وعندها سيسعى كلّ فرد إلى إشباع إلى إشباع شهواته دون التفكير كثيراً في التأثير المحتمل لتصرّفاته على الآخرين. وبدلاً من السؤال “هل هذا أخلاقيّ؟” أو “هل توافق عائلتي؟” من المرجّح أن يسأل الفرد “هل يلبّي هذا الإجراء احتياجاتي؟” يترك الفرد ليجد طريقه الخاصّ في العالم- عالم تضاعفت فيه الخيارات الشخصيّة للسلوك مع ضعف المعايير والمبادئ التوجيهيّة الأخلاقيّة القويّة والإصرار.

ومـن أجـل معالجة الانهيار الأخلاقيّ والشذوذ الاجتماعيّ عوّل دوركهايم كثيراً على مفهوم النقابات الاجتماعيّة والمهنيّة والهيئات الثقافيّة الّتي يمكن أن توظّف في العمل على تحقيق التناسق والتكامل بين مختلف التقسيمات المفرطة للعمل في المجتمع، إذ يمكن لهذه الهيئات أن تربط بين المهن المتعاونة، وتعمل على التنسيق بين اختصاصاتها [2]. وقد بيّنت الوقائع بأن لا يمكـن للمجتمع السياسيّ بمجملـه ولا للدولة أن ينجّـزا هـذه الوظيفة؛ فالحيـاة الاقتصاديّة تنزع بقوّة إلى التقسيم المفرط في العمل وإذ ذاك يمكن للمؤسّسات المعنيّة بالمهن المتقاربة والمتجانسة إن تعمل على تنظيم هذا التقسيم وتحقيق التوازن الأخلاقيّ بين الأفراد العاملين فيها بشكل فعّال كي تضمن سير عملها بفعاليّة تواصليّة عميقة، وفي النهاية وجد دوركهايم أنّ غياب الضوابط الأخلاقيّة والاقتصاديّة أدّى إلى الحروب الاجتماعيّة، وإلى البؤس الأخلاقيّ، مثلمـا أنّ غيـاب ضوابط الحياة الدوليّة أدّت إلى الحروب العالميّة المدمّرة [3].

__________

مراجع المقالة:

 


[1] – جي.جي.كلارك، التنـوير الآتي من الشرق، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، 2007، ص 59 .

[2]– فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه، من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية، تــرجمـة: إياس حسن، دار الفـرقـد، 2010:. ص 60.

[3]– فيليب كابان- جان فرانسوا دورتيه،المرجع السابق . ص 60.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات