المقالاتثقافة وأدب

كتاب “رياضة العقول” لأبي العَنْبس محمد بن إسحاق الصَّيْمري

كتابٌ فريدٌ في مَادَّتِه وأخبارِه التي تضمَّنها، وفي نُسختِه الخطيَّة الوحيدةِ التي وصلَتْ إلينا، وفي مؤلِّفِه نفسِه وشَخْصِيَّتِه الفذَّةِ، وهو أحدُ أعلامِ القرنِ الثالثِ الهجريِّ، تجوَّلَ في حواضرِ الدولةِ العبَّاسيَّةِ وأثْقَلَتْه التجارِبُ، وشاعَ ظُرْفُه وأدبُه، فاختصَّه المتوكِّلُ العباسيُّ نديمًا له، وأدركَ مِن بَعْدِه المُعتمدَ ودخلَ في زُمرة نُدمائه. حقَّقه المحقِّق القدير دكتور أحمد عبد الباسط الخبير في معهد المخطوطات العربية والذي قدم للمكتبة التراثية الكثير.

أمَّا المُؤلِّفُ فهو محمدُ بنُ إسْحاقَ بنِ إبْرَاهيمَ بنِ أبي العَنْبسِ بنِ المُغيرةِ بنِ مَاهانَ، كنيتُه (أبو العَنْبسِ)، ونِسْبتُه إلى (الصَّيْمرة). و(الصَّيْمرةُ) صَيْمرتان: الأولى ـ وإليها يُنسب المؤلِّف ـ موضعٌ بالبصرةِ، على فم نهرِ مَعْقِلٍ، وفيه عدَّةُ قرىً تُسمَّى ـ أيضًا ـ بهذا الاسم، والأخرى بلدةٌ بين ديارِ الجبل وخوزستان، تقع يسارَ القاصد بغدادَ مِن هَمَذانَ. 

يغلبُ على الظنِّ أنَّ الصيمريَّ وُلِد بالكوفةِ سنةَ 184هـ، وانتقلَ ـ في وقتٍ غير معلومٍ ـ إلى (الصَّيْمرة) فنُسِبَ إليها، ثُمَّ ما لبثَ أن رحلَ إلى سَامُرَّاءَ مع أخيه، يتنقَّلُ منها إلى غيرِها من المدنِ ويعودُ.

وعلى الرغمِ من اتجاه أبي العَنْبسِ في شبابِه وشَيْخوختِه إلى الهزلِ والمجونِ والفكاهةِ، فإنَّ هذا لا ينفي كونَه قد نشأَ نشأةً دينيَّةً صالحةً؛ فأخوه هو أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الكوفيُّ، تولَّى قضاء الكوفةِ، ثُمَّ قضاءَ بغداد، وطلبَ الحديثَ صغيرًا، فسمعَ مِن جعفر بن عون العَمْريِّ (ت 207هـ)، ويَعْلَى بن عُبيدٍ الطنافسيِّ (ت 209هـ)، وغيرِهما. كما حدَّثَ عنه جماعةٌ، مثلُ: أبي بكر ابن أبي الدنيا (281هـ)، ومحمَّدِ بن خلف وكيعٍ (306هـ). كما أنَّ عمَّه محمَّدَ بنَ إبراهيم بن أبي العنبس له درايةٌ بالحديث، وذِكْرٌ في كُتب علماء الحديثِ والرجالِ، وقد أخذَ عن شيوخٍ عدَّةٍ، مثل: يحيى بن سلمةَ بن كُهيل (ت 179هـ)، وأبي بكر بن عيَّاش (ت 193هـ)، وحماد بن تُحيٍّ (ق2هـ).

أمَّا خبرُه فقد اتفقت المصادرُ على أنَّ أبا العَنْبس الصَّيْمريَّ تجوَّلَ في الحواضرِ العبَّاسيَّةِ مثلِ بَغْدادَ، وسَامُرَّاءَ، ووَاسِطَ، وأنَّه التقى عددًا مِن أبناءِ عصرِه وزمانِه، فنقلَ عنهم ونقلوا عنه، وكثرت نوادرُه واشتهرت، وامتلأت بها كُتبُ الأدبِ، فجعلَه النديمُ (ت380هـ) في طبقة أبي العِبَر الهاشمي (ت 250هـ)، ومحمد بن حكيمٍ الكُنْتجي، وأفردَ لنوادرِه أبو سعدٍ الآبي (ت421هـ) البابَ السابعَ عشرَ من المجلَّد السابع في كتابه (نثر الدر) ، ووضعَه القلقشنديُّ (ت821هـ) في (صبح الأعشى) مع أصحابِ النوادر. كما اتَّفَقت على أنَّه لمَّا وصلَ خبرُه المتوكِّلَ العباسيَّ (206- 247هـ)، جعلَه مِن نُدمائه وأخصائه، وأنَّه أدركَ المعتمدَ (229- 279هـ)، وانضمَّ ـ كذلك ـ إلى زمرةِ نُدمائه.

غير أنَّ تلكَ المصادرَ لم تُشِر إلى تلك المِحْنةِ التي تعرَّضَ لها بعد أنِ استقرَّ به المُقَامُ في بغداد، وقد فقدَ ثروتَه وعِزَّه، وكيفَ أنَّه اضْطُرَّ إلى جوَبان الأرضِ مشرقِها ومغربِها، يقطعُ الرمالَ، ويسلكُ الجبالَ، ويضـربُ في القفارِ؛ يجمعُ أَخْبارَ الماضين، وأَشْعارَ المجانين، ونَوَادرَ المُخنَّثين؛ ليستعيدَ ثروةً بدَّدَها أصدقاءُ السُّوءِ، الذين ظنَّ بهم خيرًا، ولم يتضح له مَيْنُهم إلا بعد أنْ حدثَ الفَوْتُ! وهو ما ذكرَه المؤلِّفُ نفسُه في حديثٍ طويلٍ مؤلمٍ، أوردَه في ختامِ كتابِه هذا، ونقلَه عنه بديعُ الزمان الهمَذانيُّ في المقامة الثلاثين مِن مقاماتِه، المُسَمَّاةِ (المقامة الصَّيْمريَّة).

أمَّا شخصيتُه فقد اتَّفَقت جُلُّ المصادرِ التي تَرْجمت لأبي العَنْبسِ الصَّيْمريِّ على أنَّه: 

(1) أحدُ الأدباء المُلحاء.​

(2) خبيثُ اللِّسَانِ. ​​

(3) هَجَا أكثرَ شُعراء زمانه. 

وزاد النديمُ في (الفهرست) ـقبل أنْ يحصيَ مؤلَّفاتِه التي تجاوزت أربعين مؤلَّفًا ـ أنَّه «مِن أَهْل الفُكاهات والمُرَاطَزات».

لكنَّه مع ذلك كُلِّه ـ كما ذكرَ ياقوتٌ ـ شخصيَّةٌ عالمةٌ شاعرةٌ مطبوعةٌ، ذاتُ أدبٍ وفهمٍ، لم يُنْكرْها  معاصروه أنفسُهم، يُلخِّصُ هذا كلَّه ذلكَ الحوارُ الذي دارَ بينَ أبي العنبسِ نفسِه وأبي العِبَر الهاشميِّ (ت 250هـ)، وكلاهما قد سلك مَسْلكَ الهزلِ والمجونِ، قال أبو العَنْبس: «قلتُ لأبي العِبَر ونحنُ في دار المتوكِّل: ويحكَ! أَيْش يَحْمِلُك على هذا السُّخْفِ الذي قد ملأتَ به الأرضَ خُطَبًا وشِعْرًا وأنتَ أديبٌ ظريفٌ مليحُ الشِّعر؟ فقال لي: يا كَشْخانُ، أتريدُ أنْ أكسدَ أنا وتنفقَ أنتَ؟ أنتَ أيضًا شاعرٌ فَهِمٌ مُتكلِّمٌ فلِمَ تركتَ العلمَ، وصنعتَ في الرَّقاعةِ نيِّفًا وثلاثين كتابًا، أحبُّ أنْ تُخبرَني لو نفقَ العقلُ أكنتَ تُقَدمُ على البُحتريِّ، وقد قال في الخليفةِ بالأمسِ: 

عَنْ أيِّ ثَغْرٍ تَبْتَسِمْ
  
 وبأيِّ طَـرْفٍ تَحْتكمْ  

فلمَّا خرجتَ أنتَ عليه، وقلتَ:

في أيِّ سَلْحٍ تَرْتَطمْ
  
 وبأيِّ كَـفٍّ تَلْتطِمْ  
أدْخَلتَ رأسَكَ في الرَّحِمْ وعَـلِمتَ أنَّكَ تَنْهزِمْ

فأُعطِيتَ الجائزةً وحُرِمَ، وقُرِّبْتَ وأُبْعِد! … فتركتُه، وانصرفتُ».

تُوفِّي الصَّيْمريُّ في بغدادَ سنة 275هـ، ولم يصل إلينا من مؤلَّفاتِه ـ وهو موثوقُ النِّسبة إليه ـ غيرُ كتاب (رياضة العقول)، المعروف بـ (تأخير المعروفة)، وحُمِلَ جثمانُه إلى الكوفةِ، فدُفِنَ بها.

وأمَّا النصُّ (رياضة العقول)، المعروف بـ (تأخـير المعرفة)، فهو يدخلُ ضمنَ نصـوصٍ سَبَقَـتْه، وأخــرى تَلَتْه، في ما يمكنُ أنْ نُسمِّيَه (كُتب الثقافة الأدبيَّة العامة)، والتي تتصفُ بصفتَيْنِ رئيستَيْن، هما: 

1- اتساع الاختصاصِ: وهو المقصودُ بقولِهم: «الأخْذُ مِن كلِّ شيءٍ بطرفٍ»؛ إذ كان مفهومُهم للأدبِ هو تلكم الثقافة العامة التي تهدفُ إلى تكوين مَلَكة البيانِ لدى صاحبِها؛ ممَّا يجعلُه قادرًا على إجادة التعبير عن أفكارِه نثرًا وشعرًا. لذا كانت معالجاتُ أصحابِ هذا النَّمطِ مِن التأليف في مؤلَّفاتهم أقربَ إلى السطحيَّة والاصطفاء، منها إلى التعمُّق والاستقراءِ.  

2- تداعي الأفكار: ويُقصد به الاستطرادُ المُتعمَّدُ مِن قِبَل المؤلِّف، في الانتقالِ بالقارئ مِن قصةٍ يرويها عن بعضِهم إلى حديثٍ نبويٍّ يرفعُه إلى النبيِّ ﷺ، ومِن مقطوعةٍ شعريَّةٍ إلى حكمةٍ بليغةٍ، ومِن خبرٍ تاريخيٍّ إلى نُكتةٍ في النباتِ أو الحيوانِ، ومِن حديثِ المعاركِ إلى مسألةٍ فلسفيَّةٍ، ومن نادرةٍ في اللُّغَةِ إلى كلامٍ لبعضِ الحمقى أو المجانين… إلخ، وكأنَّ المؤلِّف يُريد بذلك جذبَ انتباهِ القارئ، وعدمَ إشعارِه بالملَلِ والسآمةِ. 

مِن أجل ذلك تنوَّعت مصادرُ أبي العَنْبس الصيمريِّ في كتابِه هذا وتعدَّدت مسالكُه فيه، ما بين: مُلَحٍ ونوادرَ وتجاربَ إنسانيَّةٍ جرَت معه شخصيًّا ومرَّت به؛ ونُقولٍ وحكاياتٍ ينقلُها عن أبناء عصرِه الذين التقاهم، مِن مثل: أبي عثمان بكر بن محمد المازني النَّحْويِّ (ت 247هـ)، وحمدون بن إسماعيل النـديم (ت 254هـ)، وأبي العيناء محمد بن القاسـم (ت282هـ) صاحب المُلح والنوادر، ومحمد بن حمزة وَجْه القَرعة، وأحمد بن علي البصريِّ الشاعر، ومحمد بن إسماعيل الكاتب، وغيرِهم؛ ومحاوراتٍ أَجْراها معَ مَن التقاهم مِن الحمقى والمجانين والمُوسوسين (مثلِ: حُسين الحمَّال، وحُليس المُوسوس، ودَبْسونالموسوس، وسانويه الصَّفعان، وطُنين المجنون ، وأبي السَّرِي الصَّيْدنائي، وأبي علي الرُّؤاسي، وأبي القطريِّ).

أمَّا غيرُ ذلك مِن نقولٍ وأخبارٍ فلم يُصرِّح الصيمريُّ  ـ على كثرتِها وتنوُّعها ـ بمصادرِه فيها، بل كان يزيدُ الأمرَ إلغازًاوتعقيدًا فلا ينصُّ في كثير من الأحيانِ على أسماء أصحابها وقائليها، فكان يُصدِّرُها بعباراتٍ تجهيليَّةٍ، مثل قولِه: «وكان يُقال»، أو: «وكتبَ بعضُ الأدباء»، أو: «وقال بعضُهم»، أو: «وأُنْشِدتُ»، أو: «وقد أحسنَ الذي قال»، وفي حال وقوفِنا على بعضِ النُّقول الواردة في مصادرَ أخرى ـ وهي قليلةٌ ـ نلحظُ اختلافَ عباراتِها مع ما أوردَه الصيمريُّ في كتابِه هذا.

ومِن تلكمُ الإشكالات التي أثارها مُحقِّقُ النصِّ في دراستِه التقديميَّة إشكاليَّةُ عُنْوانِ الكتابِ؛ فقد اختارَ أبو العَنْبسِ لكتابِه هذا عُنوانًا مثيرًا للاستغرابِ، ، وهو (تأخيرُالمعرفة). ويَزْدادُ الأمرُ غرابةً وتَعْقيدًا إذا ما وُضِعَ هذا العنوانُ بجانبِ عُنوانٍ آخر (رئيس)، وردَ ذِكْرُه في النُّسخة الخطية المعتمدة؛ التي جاءَ في ختامِها: «تمَّ كتابُ رياضةِ العقولِ، المعروفُ بكتابِ تأخير المعرفة».

نحن ـ إذن ـ أمامَ عُنْوانَيْن اثنَيْنِ لنصٍّ واحدٍ، أحدُهما ـ وهو (تأخير المعرفة) ـ أكثرُ ذيوعًا مِن صاحبِه؛ إذِ أشارت إليه المصادر التي أحصت مؤلَّفاتِ الصَّيْمريِّ، بينما أغْفَلَت ذكرَ العنوانِ الرئيس (رياضة العقول) ـ بحسَبِ ما وردَ في ختام النُّسخة الخطيَّةِ ـ وذكرَتْ عُنوانًا آخرَ يقتربُ منه، وهو (تذكية العقول)!  

أمَّا العُنْوانُ الذي عُرِفَ به الكتابُ واشتهرَ في المصادرِ (تأخيرُ المعرفة)، فقد قصدَ به صاحبُه الضدَّ والعكسَ، أي: «احذرْ تأخيرَ المعرفةِ»، يُفهم هذا مِن قولِه فيه: «ومِن النَّاسِ مَن تتأخَّرُ معرفتُه، فيتوهَّمُ أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يظنُّ من نفسِه»، وقولِه بعد أنْ أوردَ نقوشَ خواتيمِ الحَمْقى: «هذا كلُّه مِن تأخيرِالمَعْرفةِ، وإذا كانَ هذا أو مِثْلُه على خَاتمِ إنسانٍ اسْتَدْلَلْتَبه على ضَعْفِ عَقْلِه»، وقولِه ـ أيضًا ـ في ختامِ الكتابِ: «هذه ـ أعزَّكَ الله ـ مثالاتٌ يُعْتَبرُ بها في الأمورِ، وتُنَالُ بها المعرفةُ؛ فلقد مثَّلتُ لكَ ما تحتاجُ إليه مِن مُقَدِّمةِ المعرفةِ، وأرجو إنْ حَفِظْتَ وأَجَلْتَ الرَّأيَ، وأَعْمَلْتَ الفِكْرَ في هذه الأحاديثِ أنْ تستوثقَ لِنَفْسِكَ مِنْ أنْ يَطْمعَ فيكَ الجهلُ، وأنْ تُنْسَبَ إلى ضَعْفِ العَقْلِ، والسَّلامُ». فالكتابُ في مجملِه زَجْرٌ عن الجهلِ بالمعرفة، وتَحْذيرٌ مِن عاقبةِ تَرْكِ إعْمَالِ العَقْلِ في الأمورِ. 

وأمَّا تسميتُه (رياضة العقول) فبُحكم ما أوردَ فيه صاحبُه مِن أخبارٍ، تُعَدُّ بما تحملُه مِن جدٍّ وهَزْلٍ، وفرَح وترَحٍ، تَنْزيهًا للعقول ورياضةً لها، كيفَ لا وفيها المثَلُ الرائقُ، والحكمةُ المُسْتحسنةُ، والشِّعرُ المُسْتعذَبُ، والنادرةُ النادرةُ، والتجربةُ الإنسانيَّةُ المُكْتَسَبةُ مِن مُنادمةِ المُلوكِ وأربابِ الحُكْمِ، بالإضافةِ إلى ما وردَ في النصِّ مِن كلام العامَّة وعُقلاءِ المجانين والموسوسين؟؛ الأمر الذي يجعل النَّظَرَ في ربوعِه المتنوِّعةِ رياضةً لعقلِ قارئِه، وهو ما عَناه المؤلِّفُ نفسُه بقولِه: «وجعلتُه رياضةًلكلِّ امرئٍ، ومغيضًا لكلِّ رأيٍ وفكرٍ، ومتى ما خبَرتَ معرفةَغَيْرِه خُبِّرْتَه، فأخذتَ حذرَكَ منه، وعَمِلتَ بضدِّه».

وثمَّ سؤالٌ يتبادرُ إلى الأذهان، وهو: متى ألَّفَ الصَّيمريُّ كتابَه (رياضة العقول)؟

والراجحُ أنَّ أبا العَنْبسِ ألَّف كتابَه هذا بعد أنْ قاربَ الثمانين من عُمره وقد تجمَّعت لديه تجارِبُ السَّابقين، وعِبَرُ الماضين، وتكوَّنت مِن خلالِهما تلك النظرةُ الفاحصةُ المتعمِّقةُ في الأمورِ؛ لذا لم يكن غريبًا أنْ يمتلئَ الكتابُ نُضجًا ونُصحًا وأدبًا مفرطًا قلَّما يجتمعُ في كتابٍ آخر؛ الأمر الذي جعلَ صاحبَه شديدَ الاعتزازِ به وبما تضمَّنَه، دائمَ الإشادةِ به والتنويه بأهميتِه وخَطَرِه في غير موضعٍ منه، فتارةً يذكرُ أنَّ مَن ينظرَ فيه بمزيدٍ مِن التأمُّل والتدبُّر لن يفوتَه شيءٌ مِن ألوانِ الجدِّ والهزلِ، وتارةً ينعتُه بأنَّه أسهلُ الكُتبِ فنونًا، وأملسُها متونًا، وأكثرُها عيونًا، وأملحُها نادرةً، وأحسنُها مقاطعَ، «يُفِيدُ مَنْ قرأَه الحَزْمَ، وتدبَّرَبه ضَعْفَ العَقْلِ»، بل يذهبُ ـ مُبَالِغًا ـ إلى أنَّه لو قُرِئَ كتابُه على طوائفِ: «التُّرْكِ والدَّيْلَم والخَزَرِ، والقِبْطِ والزِّنْجِوالحَبَشةِ، وقيَافة السَّوادِ، وغُتَمَةِ الأَكْرَادِ، لتأدَّبوا وصاروا أَعْقَلَ مِنَ المَرَاونةِ».

وتتجلَّى أهميَّةُ هذا الكتابِ في أنَّه:

• يتضمَّنُ عددًا وافرًا مِن ألفاظِ العصر وتراكيبِه اللغوية الشائعة آنذاك، ويُورد ألفاظًا جَرَتْ على ألسنةِ العوام؛ ممَّا يجعلُه مادةً صالحةً لدراسةِ اللُّغة واللهجاتِ في تلك الحقبة التاريخية المتقدِّمة.

• يُمثِّلُ الأثرَ النفيسَ الوحيدَ للمؤلِّف، الذي وصلَ إلينا ولم يختلجْه لبسٌ أو شكٌّ في نِسْبتِه.

• يكشفُ عن وجهٍ آخر للمؤلِّفِ غيرِ الوجهِ الذي نقلَتْه إلينا كتبُ التراجم، وكثيرٌ مِن عُنواناتِ مؤلَّفاتِه الهزليَّةِ؛ فهو هنا شخصيَّةٌ جادَّةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ، تُسْدي النُّصْحَ، وتُحذِّر مِن عاقبة الجهلِ بالمعرفة، وإنْ لم يخلُ الكتابُ مِن تَوْظيفِ بعضِ التهكُّم والسُّخريَّةِ لخدمةِ الغَرضِ المُرادِ.

• يعكسُ بكلِّ وضوحٍ الحياةَ الاجتماعيَّةَ والاقتصاديَّةَ للمجتمع العربيِّ إبَّانَ العصـر العبَّاسيِّ الثاني وما قبلَه، كما يُبْرِزُ حيَواتِ الفئاتِ المُهمَّشةِ في حاضرتي الخلافةِ (سامراء ـ بغداد) ونوادرَهم، كفئةِ الصُّفْعان، والشحَّاذين، والحَمْقى، والمجَانين، والمُوَسْوسِين.

• ينسبُ عددًا مِن الأقوالِ والأشعارِ إلى قائليها، وقد تَدَاولَتْها دواوينُ الأدبِ والمختارات غيرَ منسوبةٍ. 

• يُصحِّحُ نسبةَ بعضِ الأقوالِ والأشعارِ إلى أصحابِها، وقد نسبَتْها المصادرُ التالية إلى غير قائليها.

• ينقلُ إلينا كثيرًا مِن أخبارِ مشاهيرِ القرنِ الثالثِ الهجريِّ الذين لقيَهم المؤلِّف في بلاطِ المتوكِّلِ وغيرِه مِن خُلفاءِ بني العبَّاسِ، كأبي عثمان المازني النحوي (ت247هـ )، وحمدون بن إسماعيل نديم المتوكل (ت254هـ)، وأبي العَيْناء صاحبِ المُلح والنَّوادرِ (ت282هـ)، ومحمَّد بن حمزة وجه القَرْعة المُغنِّي، ومحمد بن جرير الطَّبريِّ (ت310هـ) وغيرهم. كما ينقلُ إلينا أخبارَ عددٍ لا بأسَ به مِن الأعلامِ المغمورين الذين لم تذكرهم المصادرُ، مِن أمثال: حسَن القطَّان، وحُلَيْس المجنون والموسوس، وحسين الحمَّال، وسَخْطة، وطُنَيْن المجنون، وعَبْدوس النديم، ومحمد بن إسماعيل الكاتب، وغيرهم؛ مما يُساعد في تلمُّحِ شخصيَّاتِهم وصناعةِ تراجمَ لهم.

• يُكمل عددًا مِن الأقوالِ والأشعارِ التي وردت مجزوءةً في غيره مِن دواوين الأدبِ واللغةِ.

صدرَ الكتابُ قبل عامٍ عن دار ملامحَ للنشرِ والتوزيع، بتحقيق الدكتور أحمد عبد الباسط، مصدَّرًا بدراسة تقديمية شاملة، ومخدومًا بتسعة كشَّافاتٍ تحليليَّةٍ.

أخيرًا، أختمُ هذا التعريفَ الموجزَ بطُرْفةٍ جَرَتْ بين أبي العَنْبس الصَّيْمريِّ وأحدِ العُميانِ، وقد أجابَه بجوابٍ متوقَّعٍ، قالَ في كتابِه (رياضة العقول): «واستقبلَني أَعْمَى على كَتِفِه جرَّةٌ مملوءةٌ ماءً، وفي يَدِه سِرَاجٌ، فقلتُ له: ليسَ تُبْصِرُ؟ 

قال: لا، والحمدُ للهِ.

فقلتُ له: فما لكَ وهذا السِّرَاجُ؟

قالَ: لئلَّا يَلْقاني أعمى القلبِ مِثْلُكَ فيَكْسِرُها».

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات