المقالاتفكر وفلسفة

في رحيل حسن حنفي؛ أطروحاته الفكريَّة وأثرها في الحركات الإسلاميَّة المعاصرة

1 – التكوين المزدوج: من فكر الإخوان إلى الفلسفة

2 بعض ملامح المشروع الفكري لحسن حنفي

إنَّ الثنائيَّة التي قام عليها تكوينه الفكري وهي النهل من التراث العربي الإسلامي من ناحية والإلمام بالنظريات  الفكريَّة التي يضج بها الغرب من ناحية أخرى ظلَّت تحكم مشروعه الفكري، فالموروث الثقافي لا بد أن يقرأ بل أن يتم تثويره أو تجديده بآليات المناهج الحديثة الغربيَّة. اتّسم مشروعه بالنزوع إلى الإحاطة والإلمام فهو يعمل على مسح فترات تاريخيَّة ممتدَّة سواء في حضارتنا العربيَّة الإسلاميَّة أو في الحضارة الغربيَّة وقد يكون هذا التمشّي على حساب الدقّة في الطرح والموضوعيَّة في التناول، في البداية حقَّق كتاب ” المعتمد في أصول الفقه ” لأبي الحسن البصري في جزأين (دمشق ك1964 ) ثم التفت إلى الفكر الغربي ليثري المكتبة العربيَّة بترجماته التالية: ” نماذج من الفلسفة المسيحيَّة ” (الإسكندريَّة 1968) و” رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا ” (القاهرة 1973) و”تعالي الأنا موجود لسارتر ” (القاهرة 1977). ظلَّت هذه الأعمال المتنوّعة مجرّد تمهيد لامتلاك الآليات اللازمة لبناء المشروع الفكري الخاص به. يكشف هذا المشروع قناعة راسخة لدى صاحبه ظلت ملازمة له وهي إيمانه بالثورة الدينيَّة أي بقدرة الدين على أن يكون محفزا للتغيير الاجتماعي والثقافي وأن يكون قادحًا لثورات تغيُّر البنى الاجتماعيَّة للدول وتحدث نقلة نوعيَّة نحو الحداثة والتطوُّر. فكتابه من العقيدة إلى الثورة يرسم مسار هذا الانتقال المنشود وينسف كل العوائق المكبلة والحواجز المانعة من بلوغ الرقي المطلوب. إن هذا التصور للدين يكسر البراديغم القائم على أن البنى التحتيَّة هي التي تتحكَّم بالبنى الفوقيَّة وجوهرها أن تغير وسائل الإنتاج يؤسِّس لوعي جديد يخلص الإنسان من الاستلاب . إن تصور الدين على أنه صرخة الجائعين والمظلومين والمقهورين في وجه الأغنياء والظلمة والمستبدين، هذه الصرخة ينبعث صداها من داخل النصوص التأسيسيَّة للإسلام فتغدو مشروعيتها لا لبس فيها وغير قابلة للنقض .إن هذا التصور للدين يقتضي من صاحبه إعادة فهم العقيدة في ضوء هذا المنحى التغييري وهو ما يستدعي إعادة تشكيلها بعيدا عن كل ما يرتهنها للرؤية التقليديَّة الأشعريَّة والصوفيَّة لذلك جاء عمله الضخم ” من النقل إلى العقل ” وهو قراءة للموروث الفقهي والتفسيري والكلامي محكومة بنزوع عقلاني في فهم هذا الموروث باعتبار ذلك لبنة في بناء المشروع المنشود لذلك أضحى استحضار البعدين الاجتماعي والاقتصادي سواء في قراءة التراث أو في فهم الظواهر الاجتماعيَّة الحديثة أمرا لا مندوحة لنا عنه. يؤسِّس حسن حنفي براديغم جديد ينسف ما تردَّد في الأدبيات اليساريَّة منذ ماركس حتى غدا بديهة وهو أن ” الدين أفيون الشعوب ”  ويرى أن الدين أضحى ثورة ضدّ كل مظاهر الفقر والحاجة والتهميش وأنه إعلاء لمنزلة الإنسان في الوجود وانتصار لكرامته وتحرير له من كل أشكال الاستعباد،تأتي الثورة الإيرانيَّة سنة 1979 لتعطي هذه الأطروحة زخمها وألقها، رغم خصوصيتها المذهبيَّة، إلا أن تحقق الثورة الدينيَّة يظل رهين الاستعانة بآليات التحليل الماركسي  لإماطة اللثام عن الاستغلال والإاستلاب اللذين تمارسهما الأنظمة شبه الرأسماليَّة أو الكمبرادوريَّة ذات النزوع الاستبدادي مع التشبّع بقيم حقوق الإنسان في منظورها الكوني،  لذلك كان اليسار الإسلامي بديلا عن الحركات الإسلاميَّة المعاصرة التي وإن رفعت مطالب الحريَّة وخاضت نضالات ضد أنظمة دكتاتوريَّة إلا أنها ظلت أسيرة الرؤية الفقهيَّة للأوضاع ولم تعمل على خلخلة التصوّرات القديمة والانخراط في صياغة منظومة جديدة لحقوق الإنسان تستأنس بالمنجز الغربي نقدا وتجاوزا.

3 – أثر أفكار حسن حنفي في ظهور ” الإسلاميّون التقدّميّون ” بتونس

 كانت ” الجماعة الإسلاميَّة ” في تونس أواخر الستينات وبداية السبعينات تعيش مخاضا عسيرا ينذر بتحولات كبيرة ستطرأ على بنيتها وعلى مشروعها الفكري والحضاري. كانت قيادتها متكونة من بقايا الزيتونيين ومن خريجي التعليم العمومي في اختصاصات متعدِّدة كالفلسفة والهندسة والشريعة والعلوم والحقوق …و كانت انتماءاتهم المناطقيَّة تتوزَّع على رقعة الوطن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا إضافة إلى العاصمة. كان اسم “الجماعة الإسلاميَّة ” يضيق على المولود الجديد الذي ما فتئ يكبر يوما بعد يوم وتتسع أحلامه ورؤاه بحيث لم يعد ذلك الإطار الذي حفَّت بظهوره أسباب التصدّي للمنزع التغريبي البورقيبي، قادرا على استيعاب الخروج من ردّ فعل إلى الفعل بصياغة مشروع بديل مستمدّ من قدرة الإسلام على خوض غمار التصدِّي للشأن العام. إنَّ اتّساع القاعدة الشبابيَّة للتيار الإسلامي سواء بالمعاهد الثانويَّة أو بالجامعات، إضافة إلى الاقدار- انكشاف الجهاز السرِّي للحركة- عجَّلت بتسارع الأحداث ليأخذ التاريخ منحى آخر وهو الخروج من السريَّة إلى العلن والإعلان عن تحوّل الجماعة إلى حزبٍ سياسي تحت مسمَّى حركة الاتِّجاه الإسلامي في 6 جوان 1981. كان لهذه اللحظة تداعياتها على تماسك الجماعة، فخرجت مجموعة من المؤسّسين نذكر منهم الأستاذ حميدة النيفر والإعلامي صلاح الدين الجورشي وأسَّسوا ما يعرف باليسار الإسلامي أو الإسلاميين التقدميين ويبدو أن مسألة الخلاف الأساسيَّة الظاهرة كانت هي الانخراط في العمل السياسي وهو أمر يخفي وراءه اختلاف في الرؤية والتصور للإسلام من ناحية وللواقع من ناحية أخرى، أسَّس هذا التيار مجلة فكريَّة وثقافيَّة إسلاميَّة شعريَّة اسمها : 15/21 صدر عددها الأول في نوفمبر 1982، لم تكن منتظمة في الصدور، صدر العدد الأخير وهو رقم 20 في جويليَّة 1990، أدارها إحميدة النيفر وترأس تحريرها صلاح الدين الجورشي ومن بين المحررين فيها زياد كريشان ومحمد القوماني كانت مفتوحة للمفكرين التونسيين والعرب من غير المنتمين لليسار الإسلامي. صار نقاش حول التسمية بين “اليسار الإسلامي ” و” المسلمون التقدميون ” وكيف كان عنوان اليسار مرتبطا بالفكر الماركسي والنظريَّة الشيوعيَّة وكيف كان الإسلام يحيل على الحركة الإسلاميَّة فكان ترجيح تسمية الإسلاميين التقدميين لارتباطها بالفكر والتجديد والتنوير والبعد الإجتماعي للدين. لذلك تمّ التنصيص على أن مجلة 15/21 هي مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي، كما أدارهذا التيار  سنة  1989منتدى فكريا مفتوحا على كل التيارات هو  “منتدى الجاحظ ” تسميَة تحيل على الاعتزال وفي ذلك أكثر من معنى . حاضر على منبره عدد من المفكرين منهم حسن حنفي ومحمد أركون وعبد المجيد الشرفي وهشام جعيط وعبدالسلام المسدي وأبو يعرب المرزوقي…لقد راهن هذا المنتدى على أهميَّة الحوار المحلي والعالمي وعلى المساهمة فى دفع اتجاهات التجديد في الفكر العربي الإسلامي. إن ظهور هذه المجموعة كتيار كان على هامش الحركة الإسلاميَّة، وقد تزامن خروجهم مع إعلان الحركة عن رؤيتها الفكريَّة والعقائديَّة التي تتأسَّس عليها وهو ما عمق الخلاف بين الفريقين لم تكن تلك الرؤيَة لتستجيب لما يتطلبه الواقع حيث غلبت عليها النظرة التقليديَّة في مستوى العقيدة وهيمنة النقل على العقل واجترار للآراء الفقهيَّة القديمة وغياب كبير للقضايا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة .وجد تيّار الإسلاميين التقدّميِّين في آراء حسن حنفي وفي كتاباته مرجعيَّة فكريَّة ستساعدهم على بلورة مشروعهم الفكري والثقافي ولا سيما كتابه ” التراث والتجديد ” الذي سيجدون فيه معالم تكرس اختلافهم مع أطروحات حركة الاتّجاه الإسلامي. فحتى داخل أسوار الجامعة التونسيَّة سيكون هذا الفصيل المنبعث من رحم الحركة الإسلاميَّة أقرب لليساريين والقوميين منه إلى طلبة الإتجاه الإسلامي. باعتماد نظريات جماليات التلقي في النقد الأدبي نقول إنَّ أفكار حسن حنفي وجدت  في تونس تربة خصبة للنمو والتفتح،  فتقبلتها جماعة الفكر الإسلامي المستقبلي وعملت على الترويج لها، وهو ما حدا بصاحب كتاب ” من العقيدة إلى الثورة  ” إلى الإسراع بزيارة تونس والالتقاء بالمجموعة التي مثَّلت النواة الأولى لفكر جديد يقطع مع الفكر الإسلامي التقليدي ويكون إرهاصا لبروز تيار إسلامي مختلف في الفكر والمعرفة والوعي .يقوم هذا الفكر على مجموعة من الثوابت حفلت بها مؤلفات حسن حنفي منها أهميَّة العقل في الفهم والتأويل، أسبقيَّة العقل والواقع على النص والنقل،  دور الفكر في التغيير الإجتماعي والسياسي، محوريَّة الإنسان في العقيدة الإسلاميَّة وأولويَّة القضيَّة الإجتماعيَّة على المطلب الإيماني. إنَّ هاجس الدين هو الإنسان وليس الإيمان بما يجعل من الفعل الديني  سعيا للبحث عن حلول الأرض وليس حلول السماء وأن غاية الدين إسعاد الناس في عالم الشهادة لا إسعادهم في عالم الغيب . ( نوفل سلامة، في تأبين المفكِّر حسن حنفي،  منتدى الجاحظ،5 نوفمبر 2021 ) لقد ظلّ الانفتاح على موضوع العدالة الاجتماعيَّة من غير المفكر فيه عند المسلم التقليدي وكذلك كل القضايا المرتبطة بها من فقر وبطالة وتهميش. ظلّ صدى هذه المبادئ يتردَّد في مختلف المقالات والدراسات التي حفلت بها مجلة 15/21 ولا سيما في افتتاحياتها التي يحبرها عادة الأستاذ حميدة النيفر تحت عنوان ” الكلمة شراع “. فقد خصَّص القائمون على المجلة- على سبيل المثال- العدد 16 للسنة الخامسة الصادر في شوال 1408 / جوان 1988، لملف الماركسيَّة العربيَّة وإشكاليَّة الهويَّة، الدين والدولة، الدين والدولة في أوروبا،فقد كتب إحميدة النيفر حول الدولة الإسلاميَّة حديثة وأكثر وكتب صلاح الدين الجورشي قراءة لأزمة اليسار الماركسي في تونس، ومحمد القوماني الماركسيَّة واليسار الإسلامي أيَّة علاقة؟ في إطار تقييم ما أنجزه الإسلاميون التقدميون في مستوى بناء الأفكار والتصورات، بعد أن نأوا بأنفسهم عن الاهتمام بالشأن العام ورفضوا التحوّل إلى جماعة سياسيَّة، فإن لما انجزوه وبفعل التغذية المرتدَّة feed back   كان له أثره في حركة الاتجاه الإسلامي والتي أصبحت فيما بعد حركة النهضة التي استفادت كثيرا من خلال إحتكاك طلبتها في الجامعة وانفتاحهم على مختلف المشارب الفكريَّة اليساريَّة والقوميَّة وكذلك على اليسار الإسلامي فكان لعمليَّة التثاقف هذه أثرها البين على الحركة وعلى كوادرها الذين نهلوا من المشاريع الفكريَّة لحسن حنفي ولمحمد أركون ولعابد الجابري ولحسين مروة ولعبدالله العروي،  ربما كان أثر ذلك على الحركة متأخّرًا بسبب ما عاشته من قمع مسلط عليها على امتداد أكثر من عقدين فقد  كان هاجسها الحفاظ على الوجود ولكن بعد الثورة برز أثر ذلك في طروحات الحركة في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك في الدفاع عن الحقوق والحريات وإسهامها الكبير في صياغة دستور الثورة وفي انفتاحها على مختلف المقاربات في مجالات الفكر وتفاعلها الإيجابي مع من يختلفون معها بعيدا عن منطق الإقصاء والتهميش. ولعلَّ أهم  رجع صدى لتصوّرات الإسلاميين التقدميين داخل حركة النهضة هو التحاق الأستاذ محمد القوماني أحد رموز ” اليسار الإسلامي ” بالحركة التحاق يشي بقدرة الحركة على تمثُّل كل القيم والرؤى والأفكار التي دافع عنها الإسلاميّون التقدّميون في تونس.

_________
*الدكتور رمضان بن رمضان.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات