المقالاتمنوعات

فقه المواساة

يمر كل إنسان بمجموعة من الامتحانات الصعبة في الحياة، وهو مقدر له ذلك، وعليه أن يجهز نفسه لتلقي البلاء مهما كان نوعه أو عظمته.

وقد أكد الله تعالى على أهمية مواجهة البلاء بالصبر والمواساة، فقد قال جل جلاله «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين».

ومن هنا فإن مواساة المبتلين بالأمراض والحرمان ومختلف المصائب من التكافل والتضامن الاجتماعي الذي أسسه الإسلام، ومن الصفات الإيمانية والخلق الربانية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم؛ فالوقوف إلى جنب شخص أو مجموعة أشخاص، لمشاركتهم في كل ما يعنيهم في حياتهم، فيتحول المجتمع بكل أفراده إلى كتلة واحدة متراصة متشابكة.

إنها المواساة، وهي من القيم الأساسية التي تنسج بخيوطها قلوب الأفراد فتجعلها متصلة ومترابطة، فتوحدها على هدف يخدم المجتمع العام، فيخرج الإنسان من محدودية المصلحة الخاصة إلى المصلحة العامة غير المحدودة، فيصبح الفرد أمة، وتصبح الأمة مندكة في الفرد، كما وصف رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه الأخيار «من واسى الفقير، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقا». وقال عنها الإمام علي عليه السلام «المواساة أفضل الأعمال».

المواساة في الإسلام أسلوب تربوي اجتماعي لتقاسم مدلهمات الحياة

لا شك عندما يصاب الإنسان ببلاء أو بحزن أو بمصيبة مهما كانت صغيرة أو كبيرة فإن وقعها النفسي سيكون شديدا، لذلك وجب الوقوف مع المبتلين ومواساتهم فالإسلام ركز على المواساة بين المؤمنين، مصداقا وعملا بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه الأخيار : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

وعن الإمام علي عليه السلام قال «خير إخوانك من واساك بخيره، وخير منه من أغناك عن غيره»، ومعنى المواساة أن ينزل الإنسان غيره منزلة نفسه في كل شيء.

وورد الكثير من الآيات الكريمة في مواساة الله عز وجل لأنبيائه ولعباده حتى لا يقنطوا من رحمته ويستبشرون بالفرج بعد الضيق والرخاء بعد الشدة والأجر بعد البلاء منها:

«فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون»، «ولا تحزن إنا منجوك»، «واصطبر»، «سيجعل الله بعد عسر يسرا»، «في السماء رزقكم وما توعدون»، «وما كان ربك نسيا»، «وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا»، «لهم البشرى فبشر عباد»، «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب».

وفي قوله تعالى: «واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم» يظهر الله سبحانه وتعالى المواساة صفة من صفاته عز وجل، حيث واسى نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله الأخيار وسلم، وأخبره سبحانه أنه يرى ما يتحمل صلى الله عليه وآله وسلم من أذى المنكرين لنبوته، وصعوبات لتطبيق أوامره تعالى، فيأتي كلام الله سبحانه ليواسي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشعره بالحضور الدائم.

أعظم ما في المواساة أن يقدم الإنسان الآخرين على نفسه، وهو ما حصل مع أهل بيت النبوة عليهم السلام: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسير» «إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا» إذ بلغت المواساة حد فناء الذات، وتحقيق رضا الله سبحانه، وإظهار المحبة والطاعة عبر خلقه، فكان المسكين واليتيم والأسير عناوين هذا العشق الإلهي.

تكون المواساة بمختلف الوسائل المتاحة، فهناك مواساة بالأموال، وهناك مواساة بالأبدان والأنفس بالجوع والعطش والألم، والمواساة بالعمل والكلمة والنصيحة والدعاء والجاه والخدمة وفي حالة الحر والبرد وغيرها من الوسائل التي تجبر كسر الخاطر والجراح، وتتجلى المواساة بالدعم المالي بمواساة أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها ودعمها لرسول الله في وقت الشدة والكرب والضيق العظيم الذي تعرض له رسول الله وصحابته، فلطالما واسته بمالها حين حرمه الناس وبكلماتها التي كانت بمثابة البلسم للجراح حين كذبه الناس، كقولها: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتنصر المظلوم، وتعين على نوائب الحق»، ولا ننسى دعوة رسول الله المسلمين إلى كفالة الأيتام وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) وأشار صلى الله عليه وآله وسلم بالسبابة والوسطى، إضافة إلى الكثير من القصص والأحاديث عن رسول الله وأهل بيته وصحابته التي تؤكد على ضرورة وأهمية مواساة المرضى والفقراء والمساكين والمكروبين والمنكوبين ومن فقد عزيز.

الغاية من المواساة وأثرها

المواساة ذات الطابع التربوي والتهذيبي للإنسان، حيث تطرح أن المؤمن يقاس بمدى خدمته للآخر، لنيل رضا الخالق سبحانه، ليصبح كل الوجود انعكاسا للرحمة الإلهية، وتجليا لحب الله لخلقه، فلا شك أن للمواساة أثرا مزدوجا على المبتلى وعلى من يقوم بفعل المواساة، فهي حاجة وإحساس بمعاناة الآخرين وإدخال السرور على قلوبهم خاصة الذين يعانون من البلاء والأمراض والحرمان ومختلف المصائب والوقوف إلى جانبهم هو بمثابة دعم وتقوية لهم وتخفيف أثر المصيبة عليهم.

كما تشكل المواساة في المقابل شعورا بالمسؤولية للمواسين وأهمية أن يكونوا سببا في إخراج المبتلين من شعور الإحباط والحزن والقنوط، فهذا لا شك يشعرهم بالسعادة لما له من أثر طيب وإيجابي على القلب، ويكتشفون جانب العطاء والإيثار في مالهم وعواطفهم ومشاركة الآخرين فيها، ولا ننسى أن المواساة تدخل في إطار التعاون على البر عملا بقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»، فمن المهم التأسي بهذه الأخلاق النبيلة؛ لأننا جميعا معرضين للابتلاء وجميعنا بحاجة للمواساة.

فأحسن الإحسان مواساة الإخوان كما قال الإمام علي، بل إنها تزيد في تماسك العلاقات وترابطها وتمتينها وكما قيل عنه أيضا «ما حفظت الأخوة بمثل المواساة»، ومخطئ من كان يعتقد أن دعم إخوانه منقصة للمال بل إنها تزيد في الرزق كما قال الإمام، كما ينبغي أن ندرك أن المواساة هي خلق من يتحلى بالإيثار، حيث قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام وصف من يتحلون بها «هم البررة بالإخوان في حال العسر واليسر، المؤثرون على أنفسهم في حال العسر كذلك وصفهم الله فقال: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة».

خلاصة القول في فقه المواساة بأنه يجب أن تتحول المواساة إلى نمط حياة يحكم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنساني، وبذلك تختفي المشاكل، ويسود الانسجام والمحبة والوئام.
__________
*العلامة السيد محمد علي الحسيني

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات