المقالاتمنوعات

فقه الرأي والرأي الآخر

ليس هناك من دين أو نهج فکري أو فلسفي سائد في العالم يمکن أن يضاهي الإسلام في تأکيد‌ه على التدبر والتفکر قبل اتِّخاذ أي قرار، بمعنى أنَّ الإسلام قد شدَّد في دعوته على التمعُّن والتأمُّل قبل اتِّخاذ أي موقف، فهو لايريد نهج”إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ” کما قال أصدق القائلين، وهو يرفض أولئك الذين يصنِّفون ضمن”أفلا يتدبّرون القرآن  أم على قلوب أقفالها”، بل إنَّ الإسلام يريد بإصرار أناسا يصنّفون ضمن ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام “النوم على يقين خير من صلاة في شك”، فكل إنسان له الحقّ في التعبير وإبداء الرأي، وهذا لا شكّ يعني أننا سنكون أمام آراء مختلفة ومتنوّعة، وهو أمر مهم للغاية، لأنَّ التعدُّد يخلق حالة من النضوج ويفتح المجال أمام فهم أعمق للوصول إلى الحقيقة، ولكن ينبغي أن يكون هذا التنوُّع:

*التوازن والاعتدال في الرأي لغة الإسلام*

إنَّ عناصر الاختيار التي خلقها الله في تكوين الإنسان متوازنة ومتعادلة، ومثلما له عوامل عضويَّة “طعام، مشرب، منام” وغريزيَّة”حب الذات والغرور وما إليها” المدافة  في الجانب النفسي، فإن قوة التحاجج والنقاش مداف أيضا في الجانب العقلي له، وإن الخيار والقرار النهائي هو لکيفيَّة ترتيب واصطفاف جانبي المعادلة، فکلما مال الإنسان للجانب العقلي فإنَّ قراره وموقفه يکون الأصوب، وکلما مال للجانب النفسي فإنَّ قراره وموقفه سيکون في غير محلّه، وبالتالي فإنَّ موقفه لن يکون صائبا، فلذلك لابد ألا يكون الرأي ميالا للهوى كما قال تعالى:” وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ”،وإننا نعتقد بأن الجماعات والأحزاب المتطرِّفة تميل إلى غلبة الجانب النفسي على العقلي، ولذلك فإنَّها تظهر الإسلام بمظهر العاجز أو المفتقر لقوَّة المنطق والحجَّة، وفي هذا ظلم وتجنٍّ فاحش على الإسلام وعمقه الفکري التحرُّري.

*بالدليل والبرهان..الإسلام يعترف بالاختلاف ويدعو إلى احترامه*

استحضار نماذج تاريخيَّة ولاسيما من العهد المبارك للرسول الأکرم”صلى الله علیه وآله وصحبه وسلم”، فإنها يجب أن تکون کمنهاج ونمط عمل وتعامل لنا مع الآخرين الذين يخالفوننا، ذلك أن النبي الأکرم”صلى الله  علیه وآله وصحبه وسلم” بعد أن استقر في يثرب”المدينة المنورة”، صار يمتلك زمام الأمور کلها، فإنه لم يبادر لإجبار المنافقين وإکراههم على الإيمان والطاعة، وإنما کانت لهم الحريَّة في ما يرون ويعتقدون “لكم دينكم ولي دين”. 

إنَّنا نعتقد بأن الإسلام أعلى کعبا وأرفع مقاما من أن يفتقر إلى المنطق والحجَّة في مناقشة ومجادلة المخالفين له، بل إنَّ سرّ عظمة الإسلام تکمن في کونه قد جمع تحت جناحيه کل الأديان والطوائف والأعراق، وکفل لهم سبل العيش والتواصل ونبذ کل أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر، وإنَّ مدرسة أهل بيت النبوة”ع” والصحابة الكرام، قد کانوا أکثر من أسوة حسنة لنا في هذا الإطار، خصوصا وأنهم کانوا يردون السيئة بالحسنة ويواجهون الرأي بالرأي ويخفضون الجناح لمخالفيهم ويجادلونهم بکل لطف وأدب وخلق، والأجدر بنا أن نعود إلى النبع والمصدر الصافي ونترك وراء ظهورنا هؤلاء الذين ظهروا فجأة ويسعون للخلط بين الحق والباطل من أجل مصالح وأهداف خاصة متعارضة ومتناقضة مع الإسلام وقيمه السمحة ومبادئه النيرة.

__________

*السيد محمد علي الحسيني/ صحيفة مكة.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات