( قراءة في كتاب)
الجديد في عالم اليوم هو مقدرة الإنسان على تغيير العالم والظروف الموضوعيَّة للحياة والوسائل الأكثر كفاءة المتاحة له لتحقيق هذه الأهداف، وباختصار فإنَّ الجديد هو الاتِّساع المدعم لا للإرادة فقط، وإنَّما لقوى الوعي البشري الذي اكتسبه الإنسان أو يمكن أن يكتسبه من خلال علاقات جديدة وتحكُّمٍ متناه في قوى الطبيعة، وهنا تشنّ المعركة الفاصلة من أجل الإنسان وتحرير المجتمع وإضفاء الصبغة العلميَّة عليه، في كتاباته وضع المفكِّر الاشتراكي إدوارد كارديلي تصوُّرًا جديدًا للديمقراطيَّة الاشتراكيَّة، كما صوّر النضال ضدّ البيروقراطيَّة وكيف يكون الإنسان صانع قرارات، وهنا يمكن أن نفتح قوسًا ونقول إنَّ كثيرين لا يفرقون بين الاشتراكيَّة كنظام اقتصادي وبين الشيوعيَّة كإيديولوجيا.
عرف المفكِّر السلوفيني إدوارد كارديلي بنشاطه السياسي داخل الحركة العماليَّة ودخل السجن عدَّة مرَّات بسبب مواقفه السياسيَّة، عاش حياته كلها باسم مستعار بسبب ملاحقة الشرطة له، عندما كان أحد منظِّمي حركة للتحرُّر الوطني إلى جوار تيتو، ضدّ قوى الاحتلال الفاشيَّة، وكان عضوًا في هيئة أركان الحرب العليا لجيش التحرير الوطني، وأشرف على تنظيم الانتفاضة الشعبيَّة في سلوفينيا وكرواتيا، كما انتخب نائب رئيس اللجنة القوميَّة لتحرير يوغسلافيا (الحكومة المؤقَّتة) وكان من بين الذين أرسوا أسس يوغوسلافيا الجديدة، وإلى جانبي نشاطه العسكري اهتمَّ كارديلي ببحوثه في حقوق الإنسان لاسيما الطبقة العمَّاليَّة، مع تحليله للديمقراطيَّة الشعبيَّة بوصفها شكلًا من أشكال الدكتاتوريَّة البروليتاريا، ليشير في أبحاثه إلى تطوُّر الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة وتدعيمها، كانت له مشاركات عديدة في وضع الدستور الجديد ليوغسلافيا، في كتاباته يؤيِّد كارديلي إقامة تعاون أوسع وأكثر ديمقراطيَّة فيما بين الأمم على قدم المساواة، كما يؤيِّد تقدُّم كل الأمم والبلاد بصرف النظر عن أنظمتها السياسيَّة والاجتماعيَّة والحكوميَّة وذلك من أجل إحلال السلام والتعايش السلمي بين الشعوب.
يقدِّم إدوارد كارديلي رؤية إنسانيَّة طرحها في كتابه بعنوان: ” في النقد الاجتماعي” ترجمه أحمد فؤاد بديع، مقدِّما في ذلك أمثلة من الواقع وهي أمثلة محسوسة يدركها كل إنسان، فقد كانت الإنسانيَّة الجوهر والهدف معا لكل نزعة إنسانيَّة مخلصة سواء في الأزمنة القديمة أو الحديثة، والإنسانيَّة هي لبُّ النزعة الإنسانيَّة الاشتراكيَّة، يقول كارديلي إنَّ الأمر يتطلَّب حكمة بالغة كي نؤكِّد أنَّ المعدة الممتلئة هي أفضل علاج للجوع، وأنَّ الصحَّة خير بديل للمرض، فالمرء يجب أن يحصل على الطعام كي يخفِّف من وطأة الجوع وعلى الدواء كي يحارب المرض، بيد أنَّه عند معالجة المسائل المتعلِّقة بوجود الإنسان مثل الإنسانيَّة والحريَّة، فإنَّ الوعي البشري الحديث يفضِّل الفرار إلى عالم المضاربة الذاتيَّة الذي يمكن إيجازه في التأكيد بأنَّ الحريَّة هي أفضل علاج للعبوديَّة والإنسانيَّة للإنسانيَّة، ولذا نجد الإنسان في صراع دائم لبلوغ هذه الأهداف.
كيف نقرأ النظريَّة الكارديليَّة؟
فمن خلال النظريَّة الكارديليَّة يلاحظ أن الفكر الاشتراكي حدَّد شرطين أساسيين لاستمرار الحياة الإنسانيَّة وهي الجوع والمرض، وكيف يمكن مواجهتهما من أجل إنقاذ البشريَّة وتحقيق التقدَّم الصحيح باعتبار أنَّ هذين الشرطين من الضروريات، ومن ثمَّ تحرير المجتمع والإنسان من كل ما هو غير إنساني، عكس الرأسماليَّة التي جعلت الربح هو رأس مال الإنسان مهما كانت الطريقة والوسيلة، وبالتالي يمكن القول إنَّ الفكر الرأسمالي قضى على الوجود الإنساني، لأنَّه يرى الإنسان كأداة، وقد أفقدته المادَّة الاتِّصال بكل ما هو إنساني، لدرجة أنَّ الرأسماليين حاولوا إغراء الإنسان على نبذ كل ما هو إنساني، أي جعل الإنسان على صورة ليست صورته، بعدما تحوّل إلى عبد للمادة وداس على كل المقدَّسات، الأسوأ من ذلك كله، هو أن بعض الرأسماليين أو عُبَّادُ المادّة كما يمكن وصفهم جعلوا أنفسهم وُعَّاظًا لكن في حقيقة الأمر، فإنَّ مواقفهم تتناقض مع الأخلاق والإنسانيَّة تناقضًا تامًّا مع دورهم الفعلي في التطوُّر الاجتماعي، فقد خلق الرأسماليون ظروفا اجتماعيَّة، اقتصاديَّة وسياسيَّة تولدت معها البيروقراطيَّة بكل أخطارها.
حاول كارديلي أن يشرح في كتابه صور النضال ضدّ البيروقراطيَّة وكيف يكون الإنسان صانع قرارات، كما وضع كارديلي تصوُّرًا جديدًا للديمقراطيَّة الاشتراكيَّة، وكان يرى أنَّ تحقيق الوجود الإنساني يجب أن يتبعه نضال ضدّ الاستعمار الاقتصادي، والملاحظ من خلال كتاباته أنَّ كارديلي اعتمد في بحوثه على الأسلوب النقدي لواقع المجتمع في الدول المتخلِّفة فكان نقده، نقدًا للنقد نفسه، ذلك للردّ على النقاد الذين أولوا اهتماهم بـ: “الإنتلجنسيا” إذ يرون أنَّ هذه الأخيرة (أي الإنتلجنسيا) هي الدفاع عن البيروقراطيَّة، وقالوا إنَّها الضمير النقدي للمجتمع أو بعبارة أخرى، صانعة الأهداف الاجتماعيَّة العليا، وأنَّ الصراع ضدّ الحكم الذاتي الاجتماعي هو من أجل اغتراب الإنسان، يقول كارديلي: “إنَّ البيروقراطيَّة والتشويهات السياسيَّة المعادية للديمقراطيَّة هي بالتحديد نتاج لهذا الاغتراب، ويكون ذلك تحت ضغط البراغماتيَّة الضيقة الأفق”، ويبدو أنَّ كارديلي من أكثر المدافعين عن أفكار ماركس، عندما قال إنَّ ماركس غايته أن يفتح آفاقا جديدة للبحث أو التطبيق العملي للعلم، والماركسيَّة في المنظور الماركسي تكمن في نقد المجتمع الرأسمالي وإيديولوجيته، واكتشاف سلسلة من القوانين الاجتماعيَّة التي تسمح للإنسان أن يمارس وعيه، مستندا على مُسَلَّمَتِهِ الشهيرة القائلة بأنَّ الفلاسفة لم يقدِّموا حتى الآن سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، بيد أنَّ الأمر المهمّ هو تغييره، وهذا يعني أنَّه ينبغي نقد كل ما هو قائم بصرف النظر عن الموقع الذي ينطلق منه النقد.
الصراع بين المثقَّف والسلطة هو صراع رأي
الهدف من هذا النقد، هو أن يتحَّمل المرء نصيبه من المسؤوليَّة عن الآخرين، إذ لا يمكن التهرّب من المسؤوليَّة إلا إذا رفض الإنسان تحمّلها، يوضح كارديلي أنَّ الذين يفضِّلون السلبيَّة ويظلّون سلبيّين خوفًا من ارتكاب خطأ ما، هم أكثر الناس خطأ ممَّن يعملون ويرتكبون أخطاء، لأنَّ الممارسة الاجتماعيَّة تظهر الأخطاء وتعلِّم كل إنسان كيف يصحِّحها، فليس هناك ما هو أكثر أخلاقيَّة من أن يتحمَّل الإنسان المسؤوليَّة بشجاعة، كما ليس هناك ما هو أكثر معاداة للأخلاق من أن يتنصَّل المرء من المسؤوليَّة بالانسحاب، وجب هنا التفرقة بين النقد الهدَّام الذي لا يعرف المهادنة والنقد الخلاق الذي يجمع الشمل ويضيِّق شقَّة الخلاف، ويدعم الظروف الملائمة لنجاح التعايش السلمي، كما أنَّ اللغة بين النقدين مختلفة تماما، أي أنَّ هناك دائما أندادًا بينهما صراع رأي (المثقَّف والسلطة)، فمن وجهة نظر كارديلي فإنَّ الإنسان لا يستطيع أن يغيِّر العالم وأن يغيِّر نفسه وفقًا لصورة مقدَّسة مرسومة ومستقرَّة في داخله، بل يستطيع فعل ذلك عن طريق تغيير الأشياء من حوله، وبذلك يُعَبِّدُ الطريق أمام علاقات بشريَّة مختلفة لأن ما تخلقه يد الإنسان لا يمكن أن يكون كاملًا أو مثاليًّا، وهكذا بالمثل لا يمكن أن تكون الحريَّة أو الإنسانيَّة كاملة.
وبالعودة إلى فكرة الإنتلجنسيا، فإنَّ أيّ مجتمع ما، نجده يبحث بوعي عن وسائل وطرق التقدُّم والرقي الحضاري، فلا ينبغي عليه أن يبخس دور المثقَّفين بل ينبغي عليهم جمعهم كمًّا وكيفًا باعتبارهم قسمًا من المجتمع مهما كان نوع النظام الذي يعيشون فيه، أكان نظامًا اشتراكيًّا أو رأسماليا، فعكس المثقَّف الذي يعيش في نظام اشتراكي، نظام يتَّسم بالحريَّة والديمقراطيَّة والعدالة، فالمثقَّف في النظام الرأسمالي يكون مسلوب الإرادة والحريَّة في التفكير والإبداع وإبداء الرأي واتِّخاذ القرار، فهو تحت الضغوط يبيع جهده وقوَّة عمله الفكريَّة المتخصِّصة للسلطة، فتتوهَّم أنَّها القوَّة الاجتماعيَّة القائدة ولها دور قيادي، حيث تمارس الاحتكار السياسي والإداري في كل مجالاته، وبدلا من أن يكون المثقَّف صاحب الدور القيادي في المجتمع بوصفه الضمير النقدي للمجتمع، نجده إمّا ملاحق ومتابع قضائيًّا بسبب مواقفه وإمّا أن تضعه ين خيارين: أي أن يكون منزويًا في مكتبه يتأمَّل ما يحدث من بعيد وليس له حقّ المشاركة أو إبداء الرأي وصنع القرار، أو أن يكون أقرب إلى الصعلكة أي تخلق منه مثقَّفًا صعلوكًا، يبيع نفسه من أجل المنصب والمال، وهنا تتَّضح الصورة المثاليَّة للمثقَّف المتوحِّد والمناهض لكل ضروب الطاعة والامتثال لغير مرغوب فيه.
فالسلطة ترى أنَّ رسالة المثقَّف هي التعليم والنشاط الثقافي، ما عدا ذلك لا يحقّ له أن يقحم نفسه في المجالات الأخرى وبخاصَّة الجانب السياسي، وتتجاهل أنَّ دورهم هو أن يكونوا أحد العوامل الخلاقة التي ترفع وعي الشعب ليدرك أين تكمن مصالحه الاجتماعيَّة التاريخيَّة والسياسيَّة أيضًا، وتساعده على اكتشاف طرق ووسائل تحقيق هذه المصالح، ولإبعادهم تعمل السلطة على أن تبخسهم دورهم وتمنعهم من تقدُّم الصفوف، وقد رفعت شعار: الثقافة للمشتغلين بالثقافة”، وهذا يعتبر انعكاسًا لمستوى التطوُّر الذي وصل إليه الوعي الاجتماعي وللمستوى الثقافي للمجتمع، لأنَّها لا ترى المثقفين كصفوة، بل كجماعة أو جمهور في جماعات، كما تسعى أن تستبدل الصفوة الحقيقيَّة من المفكِّرين والمبدعين وأصحاب الرأي أو رجل الإجماع بصفوة بيروقراطيَّة لها، وهي بالتالي تسعى لنفي الدور الاجتماعي التاريخي والسياسي والقيادي لمصالح الإنسان والنخبة المثقَّفة، لأنَّها تريد أن تشكِّل حكومة بيروقراطيَّة.
_____
* قراءة علجيَّة عيش بتصرف/ كاتبة صحافيَّة.
*المصدر: التنويري.