… أو من “الجراحات والمدارات” نحو “فلسفة التّدقيق والتّحقيق”
تمهيد:
إنّ الكتابة عن الفيلسوف والشاعر سليم دولة “الفيلسوف الحرّ“، “مفكر غيريّاء الكرّ والفرّ الفلسفية“ صاحب القلم الحبري الذي يكتب بالدّم كتابة صُوانيّة تقدح زناد الفكر وتحفر في التواريخ المنسيّة لذاك الجنس البشري المغدور، ذاك الجنس المغضوب عليه والمهمّش والمقصيّ والمنبوذ و”المسكوت عنه“ (le non dit) بتعبير فوكو متخذا من هذا الأخير قبلة لفلسفته السقراطية وهو يكتب لأولئك البشر الآدميين الذين تم إسقاطهم عنوة من بيبليوغرافيا الإنسانية وشطبهم من فهارسها ومحوهم من سجل الحالات المدنية أو إسكاتهم وتبكيتهم وهو واحد منهم.
حقيق أنّها كتابة فلسفية سواء في “ما الفلسفة؟” أو “الثقافة، الجنسوية الثقافية (الذكر والأنثى ولعبة المهد)” أو “الجراحات والمدارات” لا تتركك تجلس جلسة القرفصاء، بل هي تجعلك على قلق كأنّ الريح تحتك وتتموّج بك على ألواحها ذات اليمين وذات الشمال في رحلة معرفية شاقة مع الفيلسوف سليم دولة وبين الفينة والأخرى تطرد النّعاس بداخل عقلك الباطني وتعطّل مرتاج باب الحماقة فيه وتفتح كُوَى حيث ينتأ منها الاستفهام الفلسفي نتأة واحدة من مداره مفصحا القول حول من تكون أنت؟ ومن نحن؟ ولذلك وضع الفيلسوف نصب عينيه تثوير الإرث الذي بات “وُرَاثًا” “مرضا” “باثوسا” ومقدما عقاقيرا فلسفية من أجل علاجه ومداواته بسنّ عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التّدقيق والتّحقيق“. وإن كان ذلك كذلك، فهو من أجل نشر التنوير بدل التدمير. وتلك مهمّة عويصة لا يقتدر عليها إلاّ “ذوي النّفوس الكبيرة” بتعبير ابن رشد.
فلا جرم أنّها كتابة تهرسك هرسا حتى تصير أنت كما أنت بلا أقنعة عاريا إلاّ من إنسانيتك أو قل من آدميتك وبشريتك أو بتعبير “صعلوك الفلاسفة” سلوتردايك “من حيوانيتك”. فالحقيق أنّها تهيئ لك الأسباب لتستعد لأهبة السفر في سديم مصادر أنفسنا العميقة. ومن ثمّة تسافر بك إلى حيث تصير أنت كما أنت “مجنون معرفة” بتعبير “سقراط قفصة” عبد الحميد الزاهي** حيث تشرد بك العبارة وتنتصب مقامها في الإشارة وتغرق في وحلها بلا رجعة.
بيد أنّنا حينما نهُمّ انهماما بالكتابة عن الفيلسوف سليم دولة، فلا “تحرن اللّغة” بتعبير التوحيدي في “إمتاعه ومؤانسته” كما تفعل مع راكبها بلا أحلاس، بل هي تأبى إلاّ أن تزحزح طبقات اليقين الرّاسب بداخلك إيقانا منها بأنّك “تستطيع أن تغيّر من حياتك” بعبارة سلوتردايك من خلال كسر جدارية الصمت بيننا وبينه، أو بالأحرى بين “سقراط الموظف” الذي خرس لسانه وخرص في خطابه و”سقراط الفيلسوف” الذي عرف الطريق نحو نفسه وفهم حكمة “اعرف نفسك بنفسك“.
فحالما تهتك حجب أسلوب الكتابة الفلسفي الماتع لسليم دولة وتمزق شغافها وما ران على أديمها وتسترق السمع لهسيس العبارة فيها وتصغي إلى حمحمة الإشارة بداخل نصوصه الفلسفية الشاهقة، آنذاك فقط ستستفيق على كونك ما تزال تحبو على قدميك متحسّسا الطريق نحو عتبات الوجود الإنسيّ. وأنّ كمية العرق الأنتولوجي ما تزال لم تتصبّب بعد.
وعليك أن تجرّب تمارينا فلسفية سقراطية شوارعية من أجل أن تنهض باستكمال مشروع فلسفي يدعو إليه الفيلسوف سليم دولة في جراحاته ومداراته وهو مشروع فلسفة “التّدقيق والتّحقيق“. هي تمارين فلسفيّة تطل علينا من مكان شرقي وتطالبنا نحن سكان حداثة باستكمال المشرع الفلسفي. أجل، نحن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بحاجة ماسّة لجرعات فلسفية نغرفها غرفا من برميله الفلسفي لتطهير أجسادنا من درن العوائد السيئة وتحرّير عقولنا من سلطة تعلو سلطة عقولنا حيث شعارنا السقراطي “لا رئيس إلاّ رأسي” و” أعجبه فليعجبه ومن لا يعجبه، فله وحشة الطريق“. وتلك لهي حكم ديوجنسية فالتة من لسان الفيلسوف سليم دولة.
فحريّ بنا في هذه “الخواطر” الفلسفية على الطريقة البسكالية إطنابا وليس إسهابا في سرد بيبليوغرافيا حول فيلسوف سليم دولة وعليه ينبغي أن لا نبدأ الكتابة عنه رأسا من حصاده المعرفي (كتاباته الفلسفية) وإنتاجه الفكري أثناء ترحاله الفلسفي، وإنّما علينا شقّ الطريق للتوّ نحوه من خلال فرك وفكفكة اسمه الرّخامي “سليم” بمعنى ما تعنيه العبارة “الحجارة” ومن معانيها الصلابة والقوة. ولعلّها تلك الحجارة الصُوّانية القادحة التي نستأنس بقبسها لقدح زناد الفكر وتحويله إلى لهيب يشتعل حيث لا يخمد أواره ويحرق كلّ هشيم يعترضه. كما يمكن لنا أن نستل من اسمه معنى “النقد والقدح والحفر والكفر (الفلاحة) والوقاحة والسخرية و”الهكامة“* و”القيافة” و”الرّيافة” أيضا…
ولكن حينما نضيف إليه لقب “دولة” بضم الدال نستشف منه معنى “الكارثة” و”الواقعة” و”الصاعقة” و”الديناميت“. وتلك لا محالة معاني موجبة تبذرت في “التلمود” بمعنى “الخلاص” وفي معاني “القرآن” تشير إلى معنى “التّكرار” و”الاستمرار“. وهي جميعها معاني إن دلت على شيء، فإنّها تدل على هذا الفيلسوف سليم دولة الموسوعة المعرفية التي بزغت إياءات شمسها من أعرق المدن الكونية حضارة “قبصة” “مدينة قفصة” أو المسماة “الحضارة القبصية” التي كتبت على “أحد أبوابها كتابة منقوشة على حجر من عمل الأول ترجم فإذا هو: “هذا بلد تدقيق وتحقيق“[1].
بيد أنّ الفيلسوف “سليم دولة” اسم ولقب يعدّ بمثابة الوشم على ذاكرة الإنسانية لن يمحوها الزمان وصروف الدهر والحدثان…لذلك علينا أن نسأل للتوّ: من هو الفيلسوف سليم دولة؟ ولماذا تخيّر الفيلسوف تسمية نفسه بـ”الكاتب الحرّ” دون بقية الصفات الآدمية؟ وما الذي يعنيه بالتفكير؟ وماذا تكون “فلسفة التدقيق والتحقيق“؟ وما الذي يعنيه بفلسفة “الجراحات والمدارات“؟ وما الذي يعنيه بالتفكير على نحو مختلف؟ وكيف نفكر معه؟
1. سليم دولة الفيلسوف والكاتب الحرّ:
لنلتفت هنيهة إلى القرن المنصرم حيث إيَاء شمس فوكو تسطع بضوئها علينا بقول مستراب: “إنّ القرن سيكون دُلوزيّا” سنة 1970″ («Un jour le siècle sera Deleuzien» Michel Foucault)، والحقيق أنّ تخمينه كان صائبا إلى حد ما وعليه نخمّن بـ”أنّ القرن الحالي سيكون دُوليّا” (نسبة إلى الفيلسوف سليم دولة) (“Ce siècle sera Doulien”) و”دولة” من معانيها أيضا “دُولةٌ” وتعني فيما تعنيه “الكارثة” بمعناها الإيجابي وفق اللسان العبري وتحمل في معانيها الانفجار والحدث والانتشار والتشظي.
أجل، فإن كل اسم يحمل في ذاته إستراتيجية وفق “إستراتيجية التسمية” لمطاع الصفدي عن صاحبه. وعليه فإنّ اسم سليم دولة حمّال معاني ودلالات تحفّ به، إذ علينا خرق حجبها وهتك شغافها. فلو عدنا إلى “علم الفراسة” بما هو علم قديم خبِره العرب القدامى خبرا وحديثا يسمّى “الفيزيزنومي” (Physiognomiker). وقد كان العرب لهم قصب السبق فيه ففصلوا فيه القول تفصيلا مثل “علم القيّافة” (التفرّس في الوجوه) و”علم الريّافة” (تتبع مواطن الماء) و”علم العيّافة” (تتبع الأثر) و”علم الزّكانة“[2]. لوقفنا على دلالات دفينة نتعرّف من خلالها على وجه الفيلسوف سليم دولة ونقرأ فيه ما لم يقرأ بعد.
لكن حينما نجري اختبارا أو بتعبير سلوتردايك “تمرينا فلسفيا” “فيزيزنزميا” على الفيلسوف سليم دولة عندها فقط، نكتشف في وجهه “صورة العبقري” وحالما نتفرّس فيه باستخدامنا علم القيّافة نقف على رأس كبير ومن علامة ذلك “أنّ الرأس الكبير ينّم عن التدبير” كما يقول الجاحظ في “البيان والتبيّين“. فهو يتوفر على رأس كبير وأنف طويل ومن معانيه الجارية ودلالات صاحبه أن يكون ذكيّا وذو حس رهيف وقلب عقول ومثّاجة “كثير السؤال“.
وحين فليّ كتابات نيتشه نتوقف على عبارة لطيفة وإشارة ذكية وهي “حاسة الأنف” أهم حاسة فلسفية لديه يتشمّم بأنفه الأشياء عن بعد كما يقول نيتشه “عبقريتي تكمن في أنفي” في “هو ذا الإنسان” (Mein Genie ist Nüstern) وسليم دولة أيضا يتميّز بحاسة الشمّ الفلسفي إذ يتشمّم الفلسفة بأنفه الطويل ويحرثها حرثا مفلقا أرضها ومحتقلها احتقالا ومثال ذلك ما قام في كتاب “الجراحات والمدارات” من حفر عميق في مصادر أنفسنا العميقة وفي الإرث الفلسفي العربي؛ خصوصا قصة “حي بن يقظان” لابن طفيل الأندلسي التي كشف مكبوتها الفلسفي وقراءتها من زاوية نظر فوكولدية حيث المعرفة تلتحم بالسلطة مبرزا المشروع السياسي الذي امتنع ابن طفيل عن الإفصاح عنه منتهيا بـ”انتصار ابستيمولوجي“[3]وخيبة أمل فلسفية.
كما نرصد حين تفرّسنا في وجهه جبهة عريضة تتسع للعالم ولا يتسع العالم لها. وهي دليل على اتساع معرفته وقوة حدسه وكذلك نتوقف عند أذنيه الكبيرتين وتلك علامة وأمارة من أمارات صاحبها أن يكون من أرباب العلوم ومن أساطين المعرفة عالما لا يشق له غبار ونحرير لا تسقط له حجارة و فهّامة كبير من أرباب القلم لا يقارع. فهو يقمر ولا يقمر. وجميع هذه “السيمات” “الفيزيونومية” التي استلهمناها من قراءة سلوتردايك للفيلسوف ديوجينس والتي استطعنا أن نجريها تمرينا فلسفيا على شخص الفيلسوف سليم دولة ونقف على معاني جليلة.
فهو إذن، فيلسوف فهّامة وعلامة ونحريرٌ في معرفته بالفلسفة وتفاصيل تفاصيلها ودقائق دقائقها وإن سايرنا الحبر لقلنا أكثر من ذلك ولدخلنا باب الشطح كما لدى المتصوفة في خلوتهم. فمن هو سليم دولة؟ هل هو اسم عادي يدرج ضمن بطاقات الحالة المدنية كغيره من البشر الآدمي أم أنّ اسمه خرق باب المعهود من الأسماء وحين ذلك يصدق القول عليه “توجد كثيرا من الأسماء تسمّى “سليم” ولكن ثمّة اسما واحدا هو “سليم””، كما صدق القول على صاحبه فوكو حين قال فيه جورج دومزيل “يوجد كثيرا من أسماء لفوكو ولكنه يوجد اسما واحدا يدعى “فوكو“”. وليس غريبا عنا أن اسم “سليم” الذي من معانيه أيضا “الملدوغ” و”الجريح” و”المكلوم” و”السالم من الآفات والعيوب” و”الحجارة“. وهي جميعها معان تدل على صلابة وقوّة صاحبها. فحقيق القول فيه أنّه “فلتة” فلتت من الزمن كما هو “الأخير زمانه” بتعبير المعرّي في لزومياته.
أجل، سليم دولة هو صوت ديوجينس الكلبي المنبعث من داخل برميله الفلسفي ليزعج العقول الكسولة أو بتعبير فيلسوفنا “أصحاب الوعي السعيد” و”سقراط الموظف“[4] و”الوعي الإسمنتي المسلّح“[5]. هو برق سنا نيتشه الذي تنبأ بأنّه “لن يفهم إلاّ بعد قرن“. لعلّ نبؤة نيتشه تحقّقت في قرننا الحالي حينما فتح الفيلسوف سليم دولة باب الاستفهام عن التواريخ المسكوت عنها في الثقافة العربية وعندها فقط تفتقت جراحها إلى “جراحات” على طاولة التشريح الفلسفي مستخدما “النقد المدماكي” على طريقة فوكو الأركيولوجية الحفرية في تاريخ الأفكار للعقل الغربي مستعينا بجينيالوجيا نيتشه ليستعيدها بلسان عربي مبين خصوصا في كتابه “الجراحات والمدارات“[6] والذي يعدّ بمثابة “الصدمة” و”الرّجة” أو بالأحرى “تسونامي فلسفي” زعزع به كلّ الثوابت “العقل الهووي” بتعبير الفيلسوف فتحي المسكيني وأزاح من خلاله كلّ الأساطير عن العقل العربي وحضارته القابعة في “حضارة السورة” والمتلطخة بالدماء والاقتتال والأكل للحوم البشر. ذاك الضرب من “الطوبوفاجيا” المتلفعة ببرقع الحضارة العربية.
فلعلّ الناظر بعين نظور وبإدمان في التمعن أشد الإمعان خصوصا في “الجرح الخامس والمدار الخامس” المعنون بـ: “المهول في أخبار الإنسان الآكل والإنسان المأكول“[7] من كتابه “الجراحات والمدارات” سيصطدم مذ الوهلة الأولى من هول الفاجعة فاجعة كوننا نحن أصحاب اللّسان العربي المبين نعيش على أوهام المعرفة ونقتات من قمامة العالم دون أن نسترد حقنا في معرفة تاريخنا المنسيّ ونكتشف جراحاتنا التي وقع تخمير عيوننا عنها تحت معاطف ميتافيزيقية ودينية وسياسية وإيديولوجية سيطرت لأمد طويل على فكرنا. وكأنّه ليس من حقنا أن نخطئ وليس من حقنا أن نطالب بحقنا في الخطأ كما يشير فيلسوفنا.
والحال أن تداوينا بعقار فلسفي يبرئ سقمنا لن يكون إلاّ كما قال النواسيّ “داويني بالتي كانت هي الدّاء“. فداؤنا هو بيت القصيد ومربط الفرس وإرثنا هو “وُراثنا“، مرضنا “باثوسنا” الذي علينا فتح هذه المستندات السرية والدفاتر الصفراء وتقليب صفحاتها وتنقيتها من الشوائب بلا خجل ولا احتشام. فلسنا حضارة سبحانية ملائكية ربانية ولا إبليسية شيطانية مفيستوفيلسية (شيطان فاوست لغوته) كما صورته لنا التواريخ المحبرة من لدن رهط من المؤرخين العرب مثل الطبري والبهيقي وابن كثير والمسعودي وغيرهم، بل علينا كما يدعونا الفيلسوف سليم دولة إلى أن نمتهن مهنة “الطبّابة” “الجرّاحة” لهذا التاريخ “المسكوت عنه” بتعبير فوكو. وهو تعبير يعدّ مُحّ فلسفة المطرقة وفُصُ القول في “الجراحات والمدارات” ينطوي على كميّة كبيرة من المرح والروح الفلسفة النيتشوية الذي يضع الفيلسوف الحقيقي في مقام “طبيب الحضارة” ومداويها.
2. سليم دولة وفلسفة “التّدقيق والتّحقيق“:
فلا جرم، أنّ الفيلسوف سليم دولة صاحب كتاب مفلق بكل المعاني الفلسفية “الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربية جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التّدقيق والتّحقيق“”[8] أحاط بكل مستلزمات “النّقد المدماكي” “المتعتع” في هذا الكتاب ولم يفرط فيه من شيء إلاّ أتى عليه نقدا أو تركه منقودا يقول عن نفسه ما لا ينقال. فمن فاتحة هذا الكتاب تلفح القارئ إيَاءَ شمس حارقة يسميها فيلسوفنا فلسفة “التّدقيق والتّحقيق” لم يكن لها من قبل سميّا، لتحاكم العقل العربي أمام محكمة العقل النقدي ذاته وتجري عليه تمارينا فلسفية لا عهد له بها معرية وفاضحة بوقاحة نيتشوية مرّة مرارة نبت الحنظل وثاقبة بحصافة فكر فوكوي عن المسكوت عنه والذي لم ينقال ولم يقرأ بعد ولم تطأه قدم فلسفية بعد.
فحريّ بنا القول أنّ سليم دولة تفرّد في طروحاته الفلسفية في جلّ كتاباته الفلسفية وكان له قصب السبق فيها. أمّا ترحاله الفلسفي فقد ناخ برحله في بداوة المعرفة ونبش فيها عن المطمور والذي يعد ممنوعا ومحظورا سياسيا وثقافيا ودينيا مثل طرحه لمسألة “الجنس” وربيبتها “السلطة” وتميز بأطّاريحه الفلسفية تلك التي لم تخطر على بال المتفلسفين ولم تسمع بها آذانهم أو وقع اكتراؤها من لدنهم ولم تراها عيونهم أو هم خمّروها عنها. ومرد ذلك يعود رأسا إلى إلمامه العجيب بمصادر ومراجع فلسفية لم تطأها حتى يد الإنس والجآن مثل الكتاب “الاستنصار في عجائب الأمصار” لمؤلف مجهول في متن يعود إلى القرن الثاني عشر ميلادي الذي صدّر به كتابه بقول طريف ومستطرف “مدينة قفصة مدينة كبيرة قديمة أزلية (…) وكان على أحد أبوابها كتابة منقوشة على حجر من عمل الأوّل ترجم فإذا هو: “هذا بلد تدقيق وتحقيق“”[9].
فلا استغراب في القول أنّ كتاب “الجراحات والمدارات” يستنطقك بلا سابق إذن عن التسآل تلو التسآل للتوّ: من أنت؟ ومن نحن؟ وهلّم جرّا… فهو “كتاب الجرج وجرح الكتابة” كما قال صاحب التقديم له حيث يأخذك إلى الفيافي ويتركك بلا دليل ووجهك والهجير بلا لثام لما فيه من جراحات ومدارات تطفو على أديم اللغة الطافحة بذاكرة التراث وتمتح من مصادرنا الروحية ما به نعرف أنفسنا ونقف على حقيقة عنفها وصخبها وضجيجها ومدى تعطيلها عقارب ساعة عقولنا نحن سكان جنوب الحداثة المتأخرة. ومن ثمّة تميط اللثام عن هُويّتنا المجروحة وتعكس جميع تلك المرايا المتكسرة بداخلها تشوهات وكدمات وأزمات وجراحات يختلط فيها السلطوي بالمعرفي إلى حدّ التشابك.
ومن هذه المساحة الفكرية يبدو لنا الفيلسوف سليم دولة ذلك الحفّار حفار المعرفة وجرّاح الذاكرة وبحاثة عن الكنوز والآثار على طريقة فوكو الذي يحلو له تسميته بـ”العبقريّ” على طريقته الأركيولوجية إذ يحفر في كلّ “مكان شرقي” عن “المسكوت عنه” (Le non dit) بتعبير فوكو ثقافيا وحضاريا ودينيا بحثا أنثروبولوجيا يعيد للإنسان إنسانيه المفقودة وذاكرته الضائعة في غياهب التاريخ خصوصا العقل العربي الذي ضاع عقاله وضيعه في سجالات وجدالات عقيمة حول “القشور” من حضارته وحوّل تراثه الحضاري إلى “وُراث” مرض لم يبرأ بعد من سقمه. فلا جرم، أنّ كتاب “الجراحات والمدارات” للفيلسوف سليم دولة هو بمثابة “عقاقرية فلسفية” ليس على غرار “عقاقرية أفلاطون“[10] لجاك دريدا وطريقته التفكيكية، بل هو على طريقة فوكو “رسام خرائط” كما يقول دلوز.
فحريّ بنا القول أنّ الفهّامة والنّحرير سليم دولة رسم لنا خريطة العقل العربي من بين تلك الخرائط المنسية والضائعة في المتون القديمة وفي أمهات الكتب التي عثرت قدماه الفلسفية (قدَمُ نيتشه) عليها وقلّب صفحاتها تقليبا من زوايا حسيرة على نظر المتفلسفين من قرننا الحالي، فبعثها من مرقدها، وأزاح النّعاس عن جفنها، لتقول عنا ما لم تستطع من قبل قوله في ستة جراحات ممزقة كجلد ثور “أليسار” وستة مدارات مفزعة تتسع رقعتها ليس فقط على أديم الكتابة الفلسفية، بل تمتد لتسع أرجاء الكون وتتحوّل إلى “نداء الكينونة” بتعبير هيدغر وحشة ووحدة وتدبيرا للمتوحد ورسالة في عمق أعماقها تدفع الأحزان وترسخ أوتاد التفلسف “الأصيل” أو “الأثيل” كما ألمع إليه هيدغر أو حين يصبح التفلسف “انهماما” (Souci) أو “عناية” (cura) لدى فوكو أو “همّا” (Die Sorge) بتعبير مفكر الغابة السوداء هيدغر. هو فعلا تفلسفا أصيلا تحتقلُه فلسفة “التدقيق والتحقيق” وتستنبته على “منحدر زلق” سقطت فيه الحضارة العربية و”انحدرت” بمعنى ما يعنيه أوزفالد شبنغلر في كتابه “تدهور الحضارة الغربية“.
حقيقٌ هي فلسفة تتفجّر ينابيعا من الفيافي وتسيل صيْبا من الحكمة يفتح باب الاستفهام من جديد في القضايا الإنسانية بلسان عربي مبين يتهجّى قراءة الوجود الإنسيّ العربي ويحفر في ذاكرته ويفتح جراحاته على سجلات منسية وقع قبرها ووأدها حية بفعل “العقل الكلبي” (العربي) بتعبير نستلفه من سلوتردايك. فهي فلسفة موؤودة يعيد نبشها بعدما وارى “أصحاب الوعي السعيد” التراب عنها متلفّعة برداء يوناني “هذا بلد تدقيق وتحقيق” “فلسفة التدقيق والتحقيق” تأثيلا وتأصيلا من لدنه لفلسفة عربية جديدة تدعى “فلسفة البداوة” كما يحلو للفيلسوف تسميتها من أجل أن تنهض حافية القدمين تجري في “الشّوارع” حاملة مصباح ديوجينس الكلبي في رابعة النهار أو “وقت الظهيرة“[11] (Mittags) بتعبير نيتشه، غايتها القصوى تحطّم بيوت “العقل الحانوتي” وتقول الحقيقة عارية بلا مساحيق إيديولوجية أو دينية مثلما تفصح عنه فلسفة “الجراحات والمدارات الستة“: “الجرح الأوّل والمدار الأول: المرآة والمطرقة“[12] و”الجرح الثاني والمدار الثاني: “تبديع الإبداع أو “كيف أعاودك وهذه آثار فأسك” أيتها السلطة الجميلة“[13] و”الجرح الثالث والمدار الثالث: الانتصار الابستمولوجي والخيبة الفلسفية؛ مشروع “قراءة” في فلسفة ابن طفيل“[14] و”الجرح الرابع والمدار الرابع: “المثقف، القطيع، والنظرة الجنائزية للايدولوجيا“[15] و”الجرح الخامس والمدار الخامس: “المهول في أخبار الإنسان الآكل والإنسان المأكول“[16] و”الجرح السادس والمدار السادس: مقدمة في جينيالوجيا حداثة العرب الأولى“[17].
فجميع هاته الجراحات تنفلق على لسان الفيلسوف سليم دولة المتمرد والشريد والصعلوك والمشاكس والمزعج و”الكلُوم” (المجروح) “القُونيّ” (Der Kyniker) بتعبير سلوتردايك يهُشّ بعصاه أوراق شجرة المعرفة الديكارتية ويستعيضها بشجرة المعرفة المرحة النيتشوية الساخرة من عنجهية “العقل الإسمنتي المسلّح” أو بتعبير سلوتردايك “العقل الكلبي“[18] لا تنزل الأحزان ساحتها. تلك هي فلسفة “التدقيق والتحقيق” أخرجها الفيلسوف سليم دولة من تحت يراعته، لتقول ما لم تستطع قوله وتنظر بعيون حؤولة لا تترك حجر على حجر في ذاكرتنا ومصادرنا الروحية إلاّ قلبته رأسا على عقب متفرسة في فلاة الوجود الإنسيّ العربي وفاتحة جراحاته الستة على المدارات الستة في حركة عود على بدء تطرح الأفكار المنسية وتقرعها بعصاها وتدق النواقيس مِؤذنة بالخطر المحدّق بحضارتنا وتزلق بعيونها الزائغة على حجوم الواقع الإنساني الذي يحمل الفيلسوف جسده ذاكرته وآثار فأس السلطة تجربة تعاش ولا توصف كرّا ومفرّا معها بلا هوادة.
هو بالكاد قرع الحرف ضدّ صلصلة السيف، صراع بين “سقراط الفيلسوف” و”سقراط الموظف” والغلبة لذبيح السلطة وذبيح المعرفة وذبيح الفلسفة الذي أفنى عمره في تعرية الحقيقة وإماطة اللّثام عن المسكوت عنه والذي لا ينقال إلاّ “من وراء أقفال الأبواب” بتعبير سلوتردايك تلك الأبواب المحرّمة والمحظورة فتحها دينيا وحضاريا ومليّا كما خلعت كل الأبواب في كتابه “الثقافة والجنسوية الثقافية“[19]وأحدثت انقلابا وثورة في تناول المسائل التي تقع تحت ما يسمى بـ”الطابوات“. فلم يعد ثمّة “طابو” أمام الفلسفة أو بالأحرى أمام هذا “الديناميت” (Dynamit) [20] الفلسفي المتفجر في أسلوب الفيلسوف سليم دولة الذي يصدق فيه قول الشاعر المتنبي “حتى تركت الموت يقول أمات الموت أم ذعر الذعر“.
هذا الديناميت الفلسفي الذي ما إن مسّه أحد إلاّ وتفجر. فقد فجره فيلسوفنا في كتاباته الفلسفية والشعرية على حدّ السواء وغيّر به نظرتنا إلى العالم، فلم تعد الحضارة حضارة السورة، بل نحن نعيش في حضارة الصورة، ولم يعد العالم آية سبحانية ربانية، بل العالم أصبحت أداته تقنية صرفة وهذه النقلة النوعية أتى عليها الفيلسوف في “الجراحات والمدارات” و”الثقافة، الجنسوية الثقافية“.
3. سليم دولة “فيلسوف الوقاحة“ لا “فليسوف الرّقاحة“ أو “مفكر غيريّاء الكرّ والفرّ الفلسفية“[21]:
إنّ النّاظر المدمن النظر في الكتابات الفلسفية على حدّ السواء للفيلسوف سليم دولة “صعلوك” (Vagantische) الفلاسفة بلا معاندة، بدءا من باكورة كتبه الفلسفية “ما الفلسفة؟“، و”الثقافة، الجنسوية الثقافية (الذكر والأنثى ولعبة المهد)، و”الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التدقيق والتحقيق”، وأعيد طبعه للمرة الثالثة والشعرية منها “ديوان ديلانو شقيق الورد“[22]، و”كتاب السُلوان“[23] وكتاب “كليمنسيا الجميلة” و”حين لا صيدلية عاطفية” وكتاب “ضد الموت والموت الرمزي“[24] سيكتشف عن مدى العمق النيتشوي في إشاراته وتنبيهاته وإيماءاته وستنبس الفلسفة ببنت شفة على لسانه شعرا في قالب فلسفة وفلسفة في قالب شعر كما هو الشأن في كتابات نيتشه باستثناء كتاب “الجراحات والمدارات” الذي يبدو فيه الفيلسوف نزوعا فوكولديا إلى حدّ النّخاع.
فجملة هذه “الحدائق” الفلسفية والشعرية تفتح باب الاستفهام على الوجود الإنسيّ وتدرّب عشاق الفلسفة ومريديها على ممارسة “تمارين فلسفية يومية” تجعل من الفلسفة “فلسفة شوارعيّة” تحشر أنفها في كلّ “لحم وعظم” وتمُخّ الواقع مَخًّا وتعرّي ما يجري بخُلده من أحداث جسّام على سطحها تلتقط الإنسانيّ في الإنسان الفالت منا أو الذي سلب منا عنوة بفعل أفاعيل السلطة واحتوائها للمعرفي. ذلك الإنساني الذي هو نحن كلّ مرّة. فلا ريب، أنّها فلسفة ستحدث فينا شروخا وخدوشا وجروحا وشقوقا في إماطتها اللثام عن تاريخ الجنس البشري خصوصا العربي منه (الطوبوفاجي) غير عابئة بمواقيت الميتافيزيقا ولا برقاص عقاربها.
فلا غرو، أن فلسفة “التّدقيق” لا تعترف إلاّ بدبيب الكلمات وحمحمة المعاني وهمهمة الدلالات وحسيس الفكر وهو ينكث غزله ويعيد نسيجه كما تفعل “أسطورة بنيلوب” أو معاودة الفرق كما “قصة شهرزاد” حالما تنتهي تبدأ من جديد. أجل، هي فلسفة تهمس وتنصت وتقرأ وتتجسس على كل كبيرة وصغيرة تسقط من غربال الواقع وتلوذ بالسخرية محولة حماقات البشر ومكر أصحاب الوعي السعيد إلى مضاحيك ومسامرات تقترب من “مسامرات الأموات“[25] للفيلسوف السوري لوقيانوس السميساطي وتربو عليها. فهي لا تهجع ليلا وترقد نهارا وإنّما هي فلسفة تنْكتُ بعصا الفيلسوف سليم دولة المهمت والمنسي والغابر من ذاكرتنا وما لم يقع عليه الحبر الحضاري العربي والذي وقع وأده حيا. فلسفة يريدها صاحبها أن تمشي بين الناس مثلما فعلها ديوجينس الكلبي لتعلّم النباح والعواء والعضّ والاهتراش والوهْوهة والوقاحة ولا تعترف بفلسفة الجامعات والحوانيت أو الدكاكين ولا بسلطة غير سلطة العقل الوقاد. فالحقيق أنّها فلسفة “شهرزادية“[26] تدرّبنا على رفع “اللاءات” بدل “النعمات“.
فلقد تعلّمنا من لدن الفيلسوف سليم دولة معنى الدرس السقراطي ومعنى أن يكون الفكر حرّا ومعنى أن تكون الفلسفة سخرية ووقاحة لداغة بشولتها، وتعض وتنبح وتستنبح وتعوي ولا تعترف كما يقول فوكو “العبقريّ” “لا تعترف ببطاقات الهويّة” و”الحالة المدنية” وليس “لها وجه واحد” لتصافح به الوجود الإنسيّ. فمعنى الفلسفة القصووي هو رمي “أصحاب الوعي السعيد” بحجارة من سجيل تدمغ وتترك شروخا أو لا تكون فلسفة، بل ثأثأة يسبقها ضجيج تلاشى في غبار الوجود. هي نقد وقّاد لـ”الوعي الإسمتني المسلّح” ورفض لكلّ المواقيت الميتافيزيقية وتعتعة لكلّ أشكال السلطة البُديّة الاستبداديّة الرقابيّة العرقوبيّة “الفصاميّة” بتعبير دلوز و”الانضباطية” بتعبير فوكو. فلسفة شوارعيّة، متصعلكة، متشردة تسكن البراميل ولا تعترف بسلطة “الملل والنحل” ولا بالعادات والتقاليد “كلبيّة ديوجنسيّة” أو بالأحرى “قونية ديوجنسية” بتعبير سلوتردايك، لا تعبأ بالوقفات الطلالية البكائية ولا بما اندرس واندثر إلاّ بما علق بالذاكرة الإنسانية من أجل حفرها والتنقيب على المعاني المدفونة وتسريحها لتقول عن نفسها ما لم تستطع قوله تحت “التشكيلات الخطابية” بتعبير فوكو التي تحاصرها من كل صوب وحدب.
فلا مُشاحّة أنّها فلسفة شهرزادية تزعج وتقلق وتربك كل شهرايارية تنتصب في الوجود وتقف في وجهها. وهي لا تعترف بالتشريفات والمناسبات الاحتفالية التي ينصبها “العقل الكلبي الحديث” بتعبير سلوتردايك هنا وهناك. ولا تعترف بفلسفة الجامعات و”سيادة الأدمغة المزيفة” بعبارة سلوتردايك ولا بالتفكير من داخل المغاور ولا بفلسفة “الرّقاحة” (التتجيير)، وإنّما فلسفة “لحميّة” “لها شعر وأسنان وفم ويدان وأنف وأذنان” بمعنى ما يعنيه سلوتردايك عن الفلسفة “القونية” الديوجينسية ولا ريب أنّها عجنت من طينة “شهرزاد” من اسمها اشتقت عبارة “شهر” (المدينة) وعبارة “زداي” (الحرية) وتعني “مدينة الحرية“.
فمن الآكد، أنّها فلسفة سليلة سقراط الحكيم قبل أن تلقفه “محاورات” أفلاطون وتكبت صوته وتئد حسيسه. فهي شبيه بطائر “الفنيق” تنبعث من رمادها لتستجيب لنداء “الكينونة -الهناك” أو “الدّازين” (Dasein) بتعبير هيدغر التي هي نحن كلّ مرّة، ولا تقنط من التفلسف ولا تمل من النباح والعواء حين يسكن الوجود الإنسيّ ويرقد في ليله البهيم. وأنّه ليس ثمّة ما يدعو الفيلسوف أو “المثقف التقني” بتعبير غرامشي إلى الخسران المبين عندما يلوذ بالصمت ويتكلم حين لا يدعوه الوجود للتكلم ويصمت حينا لا يدعوه إلى الكلام. فهو مجبول على التّسآل والتّرحال والتنكيت بعصاه فوق أديم كلّ أرض معرفية ريّافة وقيافة بحثا عن الذي “لا ينقال” تحت ترابها. ألم يقل فوكو “يوجد فوق الأرض ما يجعلنا نتفلسف إلى ما لا نهاية“؟ فلماذا “ندسّ الرأس في تراب السماء” بتعبير نيتشه في “هكذا حدّث زرادشت قال“؟
فالفيلسوف سليم دولة بفكره الوقّاد ونقده اللاذع وسخريته الفلسفية المرّة مرارة نبت الحنظل تجرؤ على المروق على نواميس الملّة وتدعونا إلى التفكير “خارج النظام” بتعبير هيدغر وهو يجيب عن سؤال طرحه هيدغر على الفكر الغربي “ما الذي نعنيه بالتفكير؟” (Was heisst Denken?). هو يستنبت فلسفة يصفها بـ”النبتة البريّة” تجهر بالكفر (الفلاحة) فلاحة الوجود من جديد وحرثه على نحو مختلف عودة إلى الوراء وتلفت نحو المستقبل وتبيئة مقام “الفلاسفة المستقبليين” بتعبير نيتشه. ولكنه من بين الفلاسفة القلائل الذين ضحوا بحياتهم من أجل “التّفلسف الأصيل” ونفس القطيع الذين دعوا كنْط بأن “لا يفكر” هم نفسهم الذين دعوه إلى “عدم التفكير” ورميه بالزندقة وتفننوا في تنغيص العيش الآدمي عليه وحادثة كسر أضلعه دليل على “فأس السّلطة” وآثارها على جسده وشما لن يمحوه طول الزمان أم قصره. فقد لقي “جدّه الفلسفي” سقراط الحكيم نفس ما لقاه من السلطة بشرب “سمّ الشّوكران” ولكن الفرق أن سليم نجا من الموت الحقيقي هو سقراط قتلته السلطة.
ولكن محاصرة السلطة له لم تكتف بتنغيص العيش عليه وقطع كل سبل العيش الكريم له بتعذيب جسده وتحطيم ذاكرة عقله الاصطناعي “الحاسوب” وحرق مكتبته وسرقتها من أمهات الكتب والمخطوطات النادرة. وقد ضايقت السلطة قديما الفيلسوف الكندي وافتكت منه مكتبته وأحرقت مكتبة ابن سينا وفرّ هاربا متسربلا الليل سريّا وحرقت كتب الغزالي ومنعت الناس من تداولها وأحرقت كتب ابن رشد ونفي إلى حارة يهودية تسمّى “أليسانة“. فسليم دولة الملّقب بـ”الكاتب الحرّ” والقائل حكمة تلقفتها العقول النيرة ولهجت بها وباتت شعار الأحرار الديوجنسيين “لا رئيس لي سوى رأسي“. لذلك وحده أصبح الفيلسوف سليم دولة ملكية مشاعة لدى المتفلسفين الأحرار في كل شبر من أشبار هذه الأرض التي خرجت من “جلد ثور” حاكمة قرطاج أليسار “قرط حدشت” (قرطاج).
في مقام الخاتمة أو كيف نفكر مع الفيلسوف المتصعلك سليم دولة؟
إنّه لقمينٌ أن نفكر مع الفيلسوف سليم دولة. فهو يعدّ بالنسبة لنا وللباحثين عن “المعرفة المرحة” بتعبير نيتشه “مرجعية فلسفية” لا يمكن الاستغناء عنها ولا يمكن تخمير العيون أو غضّ البصر عنها. فإنّ الذي يروم التفلسف الحقيقي اليوم لا يمكنه المرور وشق طريق الفلسفة دون أن يعُوج عوجا سليما على فلسفة الفيلسوف سليم دولة “مفكر غيريّاء الكرّ والفرّ الفلسفية” بتعبير فيلسوف الجُودية مصطفى كمال فرحات خاصة “فلسفة التدقيق والتحقيق“. فهو بلا ريب، فيلسوفا “مفرطا في إنسانيته” افراطا مهولا، ليس لديه ما يخسره غير صمته عن الإنسانية المضطهدة و”المغدورة“. عندها فقط ننبس ببنت شفة أنّ سليم دولة “فيلسوف البداوة“، المرتحل والرّحالة على غرار العلامة ابن منظور وصاحب “معجم لسان العرب” ولكنه رحالة ترحالا معرفيا فلسفيا والسائل تسآلا فلسفيا عن مصادرنا الروحية ومنغص عيش أصحاب الوعي السعيد بنقده المدماكي الساخر له.
فحقيق أن نطلق عليه حفّار المعرفة وحفّار الذاكرة وتلك هي حال “الرّحل” (les nomades)بتعبير دلوز ونعتهم بـ”البدويين“. أجل، هو مسافر زاده مخلاة مليئة بالكتب الفلسفية تنطق بلسان صاحبها فلسفة عربية مبينة لا تنزل الأحزان ساحتها قد أطلق عليها نيتشه من قبله “المعرفة المرحة” أو بتعبير فيلسوفنا في كتابه “ما الفلسفة؟” “الحكمة البهيجة” يشبه تماما حال الفيلسوف ديوجينس السينوبي القونيّ الذي ربح خساراته وأخذ من دنياه زادا تمثل في عصا ومخلاة وبرميل فلسفي. فليس أصدق من قول الشاعر أصدق إنباء مثل قول الشاعر عبد الوهاب الملّوح في “رقاع العزلة الأخيرة“[27] “كم أجيد التشرّد في الطرق الغامضة مع وحدي” معبّرا أيّما تعبير عن حال الفيلسوف المتشرد البدوي الذي اتخذ مكانا عتيا “قرية قطيس أو عمرة” قريبا من سرّة مدينة قفصة التي كتب على بابها قديما باللّسان اليوناني “هذا بلد تدقيق وتحقيق” مثلما هو الشأن مع كبار الفلاسفة الذين يجدون في البداوة إمتاعا ومؤانسة ويعيشون “الوحدة” وليس “العزلة” ويجعلون منها مقاما فلسفيا ويجدون في الخلوة جلوة مثلما هو الشأن مع هيدغر “مفكر الغابة السوداء“.
إذا، سليم دولة هو ليس من جنس الفيلسوف المتشائم (شوبنهاور وشبنغلر وسوران) وليس من جنس الفيلسوف المتشائل، وإنّما هو من جنس الفيلسوف المتفائل دائما بكون “سقراط الفيلسوف” لم يمت ولم يقتله سمّ الشوكران ولكن شبه لهم أصحاب “العقل الكلبي” بتعبير سلوتردايك أنّ “الربيع نبت على دمنته”. فمن آكد قوله ما نبست به بنت شفته: “لست يائسا فقد تنجب هذه المدينة أو تلك نبتة بريّة أو كائنا استثنائيا متوحشا مثلي تماما ليكمل العناصر الأولية لهذا المشروع“[28]. فلا خوف إذن على الفلسفة ولا هم يحزنون عليها ما دام ثمّة فسحة من الأمل وما زال بعد أفق انتظاراتنا مشرعا أبوابه على مصراعيه حتى تجري الرياح بما تشتهي السفن كما قال المتنبي ذات مرة.
* عبارة “الهَكَامَةِ” نحتها الفيلسوف محمّد محجوب من العبارة الفرنسية (Ironie) والتي تعني “السخرية“.
** عبد الحميد الزاهي المشهور بلقب “سقراط قفصة” خريج جامعة المستنصرية بالعراق وصديق الفيلسوف جون بول سارتر ومخائيل نعيمة ومحمود درويش رحل عن عالمنا 12 أكتوبر 2010. وقد كان قبلة فلسفية يحج إليه خلقا كثيرا من المتفلسفين والنّقاد والأدباء من كل حدب وصوب في “مقهى المهجر” المسمّى بـ”مقهى خليل” بقفصة حيث يجلس في كرسيه الذي لا يجلس فيه من بعده أحدا وقد كان معروفا بشطحاته الفلسفية وتخريجاته الفلسفية التي تتدفق على لسانه مرّة بلغة الإفرنج يحدثك عن جون بول سارتر وصداقته له ومشاغبته للفيلسوف سارتر وحينا آخر يحدثك عن بودلير ومالارميه وفولتير وهو موسوعة معرفية لا يترك شاردة ولا واردة في الأدب العربي والفرنسي والفلسفة وفي الشعر من المتنبي إلى محمود درويش. ولقد كنت أحد المدونين لكل ما يفلت من لسانه قولا ثقيلا أو خفيفا أو شطحا صوفيا. فهو منارة فلسفية لم يدوّن أفكاره مثله مثل سقراط. إذا التقى مع سليم دولة في ندوة فكرية أو ثقافية تغص شوارع المدينة بالمتهافتين على التزود من هذه الموسوعات المعرفية. [1]- سليم دولة، الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التدقيق والتحقيق”، تونس، الطبعة الأولى، 1991. انظر الصفحة الأولى من الكتاب.[2]- فخر الدّين الرازي، علم الفراسة، تحقيق وتعليق مصطفى عاشور، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1987.[3]- سليم دولة، الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التدقيق والتحقيق”، مرجع سابق، ص.51: “الجرح الثالث والمدار الثالث: الانتصار الابستمولوجي والخيبة الفلسفية، مشروع “قراءة” في فلسفة ابن طفيل.“[4]- سليم دولة، ما الفلسفة؟ دار نقوش عربية، تونس، الطبعة الثانية، 1991، صص.181-182.[5] – سليم دولة، الثقافة، الجنسوية الثقافية (الذكر والأنثى ولعبة المهد)، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2008.[6]- سليم دولة، الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التدقيق والتحقيق”، مرجع سابق، الجرح الخامس والمدار الخامس، ص.129.[7]- نفس المرجع، 129.[8]- نفس المرجع. انظر الصفحة الأولى.
[9] – نفس المرجع. انظر الصفحة الأولى.[10]- جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998. وعبارة “عقاقرية أفلاطون” ترجمة محمّد محجوب. را: محمّد محجوب، هيدقر ومشكل الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر-تونس، الطبعة الثانية، 1996، الهامش، ص.51.[11]- Friedrich Nietzsche, Also sprach Zarathustra, Fischer Taschenbuch Verlag, Frankfurt, August 2008, S,304.
[12]- سليم دولة، الجراحات والمدارات، عناصر أوليّة من أجل فلسفة عربيّة جديدة في القضايا الإنسانية، فلسفة “التدقيق والتحقيق”، مرجع سابق، ص.17: “الجرح الأوّل والمدارالأوّل: المرآة والمطرقة“.
[13]- نفس المرجع، ص.35.
[14]- نفس المرجع، ص.51.
[15]- نفس المرجع، ص.103.
[16]- نفس المرجع، ص.129.[17] – نفس المرجع، ص.161.[18] – Peter Sloterdijk, Kritik der zynischen Vernunft, Suhrkamp Verlag. Frankfurt am Main 1983.[19] – سليم دولة، الثقافة، الجنسوية الثقافية (الذكر والأنثى ولعبة المهد)، مرجع سابق.[20] – Friedrich Nietzsche, Ecce Homo, édition numérique, §.1, S, 44: „ich bin Dynamit“.[21]- مصطفى كمال فرحات، لماذا الفلسفة اليوم؟من ممكنات التفلسف آخريّاً، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2016، ص.39: “العائلة المقدّسة والتّعاقد مع السلطان، إلى الصديق سليم دولة، مفكر غيريّاء الكرّ والفرّ الفلسفية”.[22]- سليم دولة، ديوان ديلانو شقيق الورد، دار المعرفة للنشر، 2010.[23]- سليم دولة، كتاب السُلوان، دار سحر للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2009.[24]- سليم دولة، ضد الموت والموت الرمزي، دون تاريخ. هذا الكتاب ظفرنا به في زمن غابر “التسعينات” وأخذ منا عنوة.[25]- لُوقْيانُوسْ السميساطي، مسامرات الأموات واستفتاء مَيْت، ترجمة إلياس سعد غالي، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت، 2015.[26]- مصطفى كمال فرحات، لماذا الفلسفة اليوم؟من ممكنات التفلسف آخريّاً، مرجع سابق، ص.269.[27]- عبد الوهاب الملّوح، رقاع العزلة الأخيرة، مطبعة السرعة- قفصة، الطبعة الأولى، 1995، ص.107.[28]- مجلة الملاحظ، تونس، العدد 35، 2001.
* المقال منقح وهو منشور بموقع الحوار المتمدن وجريدة الشعب التونسية.
__________
* الدكتور الصادق عبدلي متحصل على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة.
*المصدر: التنويري.