اجتماعالمقالات

حول مفهوم الانثروبولوجيا الاجتماعيَّة

الإنسان كائن فاعل وهادف يمضي قُدماً في مسار هذه الحياة التي يسعى فيها إلى إشباع غرائزه واحتياجاته المختلفة، ومن بينها: الاحتياجات الجسدية، والاقتصادية، والنفسية، والذهنية، والاجتماعية. إن الأهداف والاحتياجات من جملة محركات الإنسان ودوافعه، وعلى الإنسان أن يحدد لنفسه مساراً محدداً ومشخصاً من أجل الوصول إلى أهدافه في الحياة، ويطلق على هذا المسار أسلوب الحياة أو نمط الحياة. تسعى الانثروبولوجيا عموماً إلى دراسة أسلوب حياة الإنسان دراسة تفصيلية من كافة الجوانب والأبعاد، إلا أن الانثروبولوجيا الاجتماعية تتخصص على وجه التحديد في دراسة وتحليل الأبنية الاجتماعية ونظمها والعلاقات الناتجة عنها بناءً على فلسفة أسلوب الحياة المحدد لكل تجمع من التجمعات الإنسانية بكافة أشكالها، وأنماطها.

ينظر إلى الانثروبولوجيا أحياناً بأنها الدراسة التي تعرفنا بكل ما يمكن معرفته عن الإنسان. تسعى الانثروبولوجيا الاجتماعية إلى دراسة مجموع البناء الاجتماعي لأي جماعة أو مجتمع، بما يحتويه هذا البناء من علاقات وجماعات وتنظيمات. وبالرغم أن اهتمام الانثروبولوجيا الاجتماعية في بداياتها انصب على المجتمعات البدائية والبسيطة، وسادت آنذاك تسمية هذا العلم ووصفه بأنه علم اجتماع المجتمعات البدائية إلا أن تراكم الدراسات في هذا المجال أدى بالانثروبولوجيا الاجتماعية إلى علم يدرس كل المجتمعات الإنسانية البسيطة والمركبة وليس المجتمعات البسيطة فقط.

– مفهوم الانثروبولوجيا الاجتماعية: تُعرف الانثروبولوجيا الاجتماعية بأنها الدراسة التكاملية المقارنة القائمة على ملاحظة السلوك الإنساني في مضمونه الاجتماعي. بمعنى أدق، هي دراسة السلوك الاجتماعي الذي يتخذ في العادة شكل نظم اجتماعية كالعائلة، ونسق القرابة، والتنظيم السياسي، والإجراءات القانونية، والعبادات الدينية، وغيرها. كما تدرس العلاقة بين هذه النظم سواء في المجتمعات المعاصرة أو في المجتمعات التاريخية، التي يوجد لدينا عنها معلومات مناسبة من هذا النوع، يمكن معها القيام بمثل هذه الدراسات.

ولذلك، فمن الضروري في دراسة الإنسان وأعماله، أن نميز بين عبارة ” ثقافة ” وعبارة ” مجتمع ” المرافقة لها. فالثقافة – كما في تعريفاتها – هي طريقة حياة شعب ما، أما المجتمع فهو تكتل منظم لعدد من الأفراد، يتفاعلون فيما بينهم ويتبعون طريقة حياة معينة. وبعبارة أبسط: المجتمع مؤلف من أناس، وطريقة سلوكهم هي ثقافتهم.‏

تعتبر تصنيفات المؤسسات والأنظمة الاجتماعية، أدوات نافعة للأغراض الوصفية، كما أن التعميمات بالنسبة للعلاقات المتداخلة والمتبادلة بين النماذج والمؤسسات، تساعد في الاهتداء إلى نوع من النظام وسط أوضاع تبدو مشوشة وغامضة، وفي زيادة الفهم الحقيقي للعمليات الاجتماعية. وفي الوقت ذاته، يعتمد هذا الفهم على دراسة النسق الكلي الذي يؤلف النظام الاجتماعي جزءاً منه. ويضم هذا النسق ثلاثة عناصر متميزة، هي: شخصيات الأفراد الذين يؤلفون المجتمع، والبيئة الطبيعية التي يتعين على المجتمع أن يكيف حياته وثقافته معها، وأخيراً المجموعة الكاملة من الوسائل الفنية اللازمة للمعيشة، التي تضمن استمرار بقاء المجتمع عن طريق نقلها من جيل إلى جيل.

ولكن، هل يمكن أن نفصل بناءً على هذا الشكل بين الإنسان كحيوان اجتماعي، والإنسان كمخلوق ذي ثقافة؟ أليس السلوك الاجتماعي في الواقع سلوكاً ثقافياً؟ ألم نرَ أن الحقيقة الكبرى في دراسة الإنسان، هي الإنسان نفسه أكثر مما هي مُثُل الإنسان أو نظمه، أو حتى الأشياء المادية التي نجمت عن ارتباطه بتكتلات نسميها      ” مجتمعات “. فالنظام الاجتماعي إذن، هو التعبير التقني الانثروبولوجي الذي يدل على المظهر الأساسي في حياة الجماعة الإنسانية، وهو يشمل النظم التي تؤلف إطاراً لأنواع السلوك جميعها، سواء كان فردياً أو اجتماعياً.

إن اللغة والحياة الاجتماعية المنظمة، زوّدتا الإنسان بأدوات لنقل الثقافات، مهما بلغت من التعقيد، والمحافظة على تراثها بصورة غير إيجابية. وعملت الحياة الاجتماعية أيضاً على جعل الإنسان في حاجة إلى إرث اجتماعي، يفوق في ثروته ما تحتاج إليه الحيوانات. وتمت المحافظة على المجتمعات البشرية، بتدريب أجيال متلاحقة من الأفراد. ولذا كانت المجتمعات، هي نفسها، حصيلة الثقافة.

بناءً على ذلك، تهدف دراسة الانثروبولوجيا الاجتماعية إلى تحديد العلاقات المتبادلة بين هذه النظم، سواء في المجتمعات القديمة التي تدرس من خلال آثارها المادية والفكرية، أو في المجتمعات الحديثة والمعاصرة، التي تدرس من خلال الملاحظة المباشرة لمنجزاتها وتفاعلاتها الخاصة والعامة.‏

– نشأة الانثروبولوجيا الاجتماعية: يعد اهتمام الانثروبولوجيا عامةً، والانثروبولوجيا الاجتماعية خاصةً، بدراسة المجتمعات الإنسانية، وعلى المستويات الحضارية كافة، منطلقاً أساسياً من فلسفة علم الانثروبولوجيا وأهدافها، ولا سيما دراسة أساليب حياة المجتمعات المحلية، إلى جانب دراسات ما قبل التاريخ، ودراسات اللغات واللهجات المحلية. وهذا ما يميز الانثروبولوجيا عن العلوم الإنسانية – الاجتماعية الأخرى، ولا سيما علم الاجتماع.‏

وتوصف الانثروبولوجيا الاجتماعية بأنها علم حديث العهد، لا بل من أكثر العلوم الاجتماعية حداثة. فقد استخدم مصطلح (الانثروبولوجيا الاجتماعية) للمرة الأولى في عام 1980 عندما كرمت جامعة ليفربول في بريطانيا العالم ” جيمس فريزر” ومنحته لقب الأستاذ.‏ ومما يدل على حداثة هذا العلم الذي يدرس الجانب الطبيعي – التطبيقي، من البنى الاجتماعية، ذلك الاختلاف الذي ما يزال قائماً بين علماء الاجتماع حول هذه التسمية: (الانثروبولوجيا الاجتماعية).

– موضوع الانثروبولوجيا الاجتماعية: تهـتم الانثروبولوجيـا الاجتماعيـة بدراسـة الـنظم الاجتماعيـة ووظـائف هـذه الـنظم فـي إطـار البنـاء الاجتمـاعي للمجتمـع.والواقع أن كثرة الدراسات والبحوث في هذا المجال، قد انصبت في البداية على دراسة المجتمعات البدائية للأسباب التالية:

  1. جذبت المجتمعات البدائيـة انتبـاه علمـاء الانثروبولوجيـا الاجتماعيـة المهتمـين بدراسـة الـنظم الاجتماعيـة. لأنهـا أثـارت انتباه فلاسفة القرن الثامن عشر باعتبارها تمثل الحالة الطبيعية الأولى التي كان يعيشها الإنسان الأول.
  2. اعتقد علماء الانثروبولوجيا الاجتماعية طوال القرن التاسع عشر بأن دراسة هذه المجتمعات تقدم لهم شواهد ودلائل تساعدهم في بحثهم عن أصول النظم الاجتماعية.
  3.  ســاد الظــن لــدى علمــاء الانثروبولوجيــا الاجتماعيــة فــي بدايــة القــرن العشــرين بـأن المــنهج الســليم يقتضــي التقــدم والانتقال من دراسة النظم الأكثر بسـاطة إلـى الـنظم الأكثـر تعقيـداً، حتى يتسـنى للباحـث أن يسـتعين فـي دراسـتها بمـا تعلمه من الدراسة السابقة.
  4. أدى ظهور الانثروبولوجيا الوظيفية إلى الاعتقاد بأن مهمة الانثروبولوجي الاجتماعي هي دراسـة الـنظم الاجتماعيـة كأجزاء متعاونة متساندة في النسق الاجتماعي، وهذا لا يتوافر إلا في المجتمعات البدائية التي تمتاز بدرجـة عاليـة مـن بسـاطة البنـاء بحيـث يمكـن ملاحظتهـا مباشـرة ككـل متميـز، وذلـك قبـل أن يقـدم الباحـث علـى دراسـة المجتمعـات الحديثة المعقدة التي يتعسر دراستها بهذه الطريقة.
  5. مــن المؤكــد أن الباحــث الأجنبــي الغريــب عــن المجتمــع الــذي يدرســه أكثــر حساســية وقــدرة علــى ملاحظــة الــنظم والعلاقــات الاجتماعيــة للشــعوب المغــايرة، وبالتــالي فإن دراســة الانثروبولوجيين الاجتمــاعيين الأوروبيـين للشــعوب البدائية، يتيح لهم سرعة الوقوف على طريقة الحياة السائدة ويساعدهم في الوصول إلى تأويلات موضوعية.
  6. إن هــذه المجتمعــات البدائيــة تتعــرض لتغيــر اجتمــاعي وثقــافي ســريع ممــا يســتوجب المبــادرة إلــى دراســتها قبــل أن يعصـف بهـا التغيـر. إذ إن الأنسـاق الاجتماعيـة التـي تتعـرض للتغيـر تعتبـر نمـاذج بنائيـة فريـدة، ولا شـك في أن دراسـتها ستسهم بهذه الكيفية في فهم طبيعة المجتمع الإنساني.

عموماً يمكن القول إن الانثروبولوجيا الاجتماعية لم تعد تقتصر في دراساتها على المجتمعات البدائيـة فقـط بـل أضـحت تهتم بجميع المجتمعات الإنسانية بما في ذلك الحضارات الكبرى والمجتمعات الحديثة في العالم.

ومن أهم المفاهيم الأساسية التي تناولها الانثروبولوجيا الاجتماعية بالدراسة والتحليل والتفسير مفهوم البناء الاجتماعي.

– البناء الاجتماعي: في حقيقة الأمر تمثل دراسة مفهوم البناء الاجتماعي المقدمة النظرية لفهم الأنساق والنظم الاجتماعية. إلا أنه بالمقابل، أجمع علماء الانثروبولوجيا الاجتماعية على أن مفهوم البناء الاجتماعي يعبّر عن المفاهيم الاجتماعية التي يصعب تحديدها وتعريفها، نظراً لسعتها وشموليتها، إلا أننا في هذا المقال سنحاول توضيح مفهوم البناء الاجتماعي والعناصر المكونة له. 

لغوياً، تعود كلمة البناء structure إلى مصدر الفعل بَنَى، يبني، ابنِ، بناءً فهو بانٍ والمفعول به مَبْنِيّ. ويشير إلى الأسلوب الذي تنتظم بموجبه أجزاء الكل فيما بينها. ووفق هذا المعنى نتحدث عن بناء المبنى وبناء التنظيم أو بناء جماعة اجتماعية وحتى بناء السلوك الاجتماعي. وبكلمة واحدة نقول هو ” الشيء الذي يعطي للمجموع وحدته “. بذلك تشير كلمة ” بناء ” إلى فعل بناء شيء ما، والمنتج النهائي لفعل البناء هذا. كما أشارت الكلمة في الأصل إلى بناء مادي فعلي والتوازن الداخلي للقوى المادية التي تمنحه تماسكاً. 

إن أكثر التصورات أهمية للبناء الاجتماعي هي تلك التي تتصوره بوصفه كلاً مركباً يشمل النظم الأساسية السائدة في المجتمع والجماعات المختلفة التي يتألف منها، ذلك لأن للمجتمع متطلبات وظيفية سواء كان منها ما يتعلق بالاتصال أو بالنشاط الاقتصادي، أو ما يتعلق بأجهزة التنشئة الاجتماعية والسلطة وغيرها.

وإذا نظرنا إلى أي مجتمع فإننا سوف نجد درجة معينة من الاطراد والاتساق والترتيب وتوزيع الأدوار الاجتماعية بحيث نجد أن كل فرد يعرف ما هو مطلوب منه وما يتوقعه من الآخرين، وإلا استحال قيام المجتمع أصلاً واستحال على أعضائه العيش معاً. فالناس لا يستطيعون في الواقع العيش معاً والانصراف إلى شؤونهم إلا لأنهم يعرفون نوع السلوك الذي يرتقبه الآخرون منهم، كذلك نوع التصرفات التي يتوقعونها هم أنفسهم من الآخرين في مختلف مواقف الحياة الاجتماعية.

يضاف إلى هذا أن الناس ينظمون نشاطهم وسلوكهم وقيامهم بأدوارهم طبقاً لقواعد مرسومة وحسب قيم معينة متعارف عليها. فهم يستطيعون التنبؤ أو توقع الأحداث بشكل يمكنهم من العيش في نظام اجتماعي ما واتساق مع سلوك وتوقعات الآخرين. ولكل مجتمع صورة أو نمط معين يسمح لنا أن نتكلم عنه على أنه نسق أو بناء يعيش فيه أفراده وينزلون على مستلزماته. واستخدام كلمة بناء Structure بهذا المعنى يتضمن وجود نوع من التماسك والتوافق بين أجزائه بحيث يحدث تكامل بشكل ما بين وظائف هذه الأجزاء – على الأقل- إلى الحد الذي يمكن معه تجنب التناقض الصارخ أو الصراع المكشوف.

ويمكننا بذلك تعريف مفهوم البناء الاجتماعي بأنه ” شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الأفراد، وتتضمن أنساقاً ونظماً تؤدي وظيفتها، ومن ثم تتشابك هذه الوظائف مع بعضها، واهتم علماء الاجتماع والانثروبولوجيا بدراسة البناء الاجتماعي بوصفه أداة تحليلية لفهم المجتمع “.

ويشير مفهوم البناء إلى الوحدات المكوِّنة لهذا البناء، وإلى العلاقات التي تربط بين هذه الوحدات، لتشكل كلاً متماسكاً. حيث يشبه هربرت سبنسر المجتمع بالكائن العضوي، وأكد على ضرورة التناسق الوظيفي والاعتماد المتبادل بين النظم.

ويقول ناديل إن بإمكاننا التعرّف على بناء المجتمع من خلال الكشف عن العلاقات السائدة، ومن خلال قدرته على أداء الأدوار المختلفة. ولا يمكن تحقيق التكامل بين الأشخاص إلا من خلال المراكز التي يشغلونها، وهناك فرق بين مفهوم التنظيم الاجتماعي والبناء الاجتماعي: فالتنظيم الاجتماعي هو الاختيارات والقرارات المتضمنة في العلاقات الجوهرية داخل البناء الاجتماعي. أما البناء الاجتماعي هو العلاقات الجوهرية التي تعطي المجتمع صورته الأساسية وتحدد مجريات الفعل الاجتماعي. بمعنى آخر، إن البناء الاجتماعي هو العلاقات التي تربط بين الجماعات الأساسية في مجتمع ما مثل الأسرة. وقيل أيضاً إنه: النظم الاجتماعية التي عن طريقها تصل مجموعة من السكان إلى درجة من التكامل والترابط.

بذلك يعبّر مفهوم البناء عن العلاقة المتبادلة والأدوار، وقد أدرك علماء الاجتماع أن نظم المجتمع مركبة في هذه الأدوار، وعليه فإن البناء الاجتماعي مجموعة أفراد يتفاعلون في الأدوار، فالعلاقات التي تربط بين الأفراد تحدد أوضاعهم ومراكزهم الاجتماعية.

والمركز هو الوضع أو المكانة التي يحتلها الفرد في النسق، وفي المجتمع ككل، ويرتبط المركز بالدور رغم اختلاف مدلول المركز عن مدلول الدور، والدور* هو بعض التوقعات للفرد الشاغل مكانة أو مركزاً أو وضعاً اجتماعياً معيناً.

  • المركز الاجتماعي: نمط من السلوك المتوقع من الشخص الذي يشغل وضعاً اجتماعياً معيناً أثناء تفاعله مع الأشخاص الآخرين يشغلون أوضاعاً اجتماعية أخرى داخل النسق  يشمل الحقوق والواجبات التي يقوم بها الفرد في الحياة كمركز الأب في الأسرة والعامل في المصنع.
  • المكانة الاجتماعية: هي الموضع الذي يشغله الشخص في سلم التأثير داخل نسق اجتماعي، كما هي الدرجة التي يصنف المجتمع فيها أفراده كالمهنة، والمستوى الاجتماعي، والاقتصادي.
  • الدور الاجتماعي: هو السلوك والوظيفة اللذان يتوقع المجتمع أن يقوم بهما الأفراد حسب نوعية ومستوى مراكزهم ومكانتهم الاجتماعية التي يشغلونها في البناء الاجتماعي.

– خصائص البناء الاجتماعي: في حقيقة الأمر، يتميز البناء الاجتماعي بعدد من السمات والخصائص، وهي كالآتي:

أ- كينونة البناء: إن البناء الاجتماعي كيان واقعي واضح وملموس، وإذا لم يكن البناء الاجتماعي بناء فيزيقياً، فإن وجوده واضح وضوح الظواهر الفيزيقية، فنحن نستطيع تصور ذلك الكيان حين ننطق كلمات ” أسرة، جماعة، مجتمع محلي “، ونحن بذلك لا نقصد الوجود الفيزيقي أو المجموع العددي للأفراد، بل نقصد كياناً واضحاً تعمل على إيجاده العلاقة التكاملية للأفراد.

ب- استمرارية البناء: إن البناء الاجتماعي يتميز بدرجة معينة من الاستمرار عبر الزمن، الأمر الذي يشير إلى استمرار جماعة اجتماعية وإنسانية لها كيان مستقل، بصرف النظر عن التغيرات التي تحدث لهذا البناء الاجتماعي.

ج- السمة التنظيمية للبناء: إن هناك علاقات اجتماعية وأخرى سياسية واقتصادية… إلخ، ولهذا فإن دراسة البناء الاجتماعي تتم من خلال دراسة ما يسمى بالأنساق. ويدرس علماء الانثروبولوجيا العلاقات الاجتماعية من خلال تقييمها إلى نوعيات من العلاقات ” علاقات نوعية “، ويطلق على مجموعة العلاقات النوعية بالنسق. فالنسق هو ذلك الجزء من البناء الاجتماعي الذي يحوي علاقات نوعية تهدف بانتظام معين إلى إرساء قواعد تحكم هذه العلاقات الاجتماعية.

د- اختلاف الأبنية الاجتماعية في الجماعات والمجتمعات البشرية: تختلف البناءات الاجتماعية للجماعات البشرية- هذه الجماعات التي تتخذها الانثروبولوجيا موضوعاً لدراستها- فهناك اختلافاً بين بناء اجتماعي لقبيلة تعيش في صحراء، وبين بناء اجتماعي لقرية ريفية، ويختلف البناء الاجتماعي في منطقة متخلفة في مدينة كبرى، عن البناء الاجتماعي لغيرها من الجماعات الهامشية.

بناء على ما سبق نستنتج أن البناء الاجتماعي يتصف بالخصائص التالية:

– يتكون البناء الاجتماعي من أنماط العلاقات الاجتماعية المحسوسة بين أفراد وجماعات مجتمع ما.

– البناء الاجتماعي كلٌّ أو نسيج متشابك الأجزاء.

– البناء الاجتماعي مستقر وذو ثبات نسبي، ومن أهم شروطه الحفاظ على تماسكه واستمراره لفترات طويلة من الزمن.

– المبادئ الأساسية والعامة لدراسة البناء الاجتماعي: تنحصر تلك المبادئ بما يلي: أولاً، ضرورة تصور البناء: تتدرج العلاقات من العلاقات الثنائية إلى العلاقات بين المجتمعات. أي أنها تبدأ بالعلاقات الثنائية ” علاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخت “، ثم توجد علاقات بين مجموعات أكبر بين الأفراد وبين الجماعات المختلفة، كالعلاقة بين القبائل والعلاقات القرابية. ثانياً، ضرورة أن يأخذ الباحث في العلوم الاجتماعية في اعتباره فكرتي المكانة والدور: لأن دراسة العلاقات الاجتماعية تتطلب دراية لاختلاف الأفراد والفئات، ويكون هذا الاختلاف تبعاً للمكانات والأدوار التي يقوم بها الأفراد. ثالثاً، ضرورة تحديد الأشكال البنائية في العلاقات: من خلال عمليات التعميم والتجريد للصور التي تتجسد فيها العلاقات البنائية. رابعاً، وأخيراً ضرورة إدراك الترابط بين العلاقات: لأننا ندرس العلاقات في وجود رابط يربط بينها، على أنها جزء من شبكة كبيرة من العلاقات الاجتماعية.

– أهداف الانثروبولوجيا الاجتماعية‏: في حقيقة الأمر، لم تصل الانثروبولوجيا الاجتماعية إلا إلى قوانين محددة النطاق أي لا تطبق على كل المجتمعات الإنسانية في كل زمان ومكان، وإنما على عدد محدود من المجتمعات. ونلاحظ أن الوصول للقوانين الاجتماعية هو الهدف النهائي البعيد للدراسات الانثروبولوجية، وللوصل لذلك الهدف البعيد لا بد من تحقيق أهداف قريبة يمكن اعتبارها الوسائل الموصلة للهدف النهائي، بذلك سعت الانثروبولوجيا إلى دراسة وتحليل ما يلي:

1) تحديد نماذج عالية للأبنية الاجتماعية:‏ إن التوصل إلى نوع من التصنيفات والنماذج للأبنية الاجتماعية، يعد أمراً صعباً بالنظر إلى عدم اتفاق العلماء على هذه النماذج من جهة، ولعدم وجود مصطلحات عالمية لمفاهيم الانثروبولوجيا الاجتماعية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى المشكلة الأساسية، التي تتمثل في عدم وجود الدراسات الميدانية الشاملة للمجتمعات الإنسانية جميعها، على الرغم من محاولات الكثير من العلماء الوصول إلى ذلك الهدف.‏

فالإنسان وحده – من بين المخلوقات – يتمتع بإمكانية تطوير سلوكه المكتسب ونقله بالتعلم، وأن نظمه ومؤسساته الاجتماعية، تتصف بالتنوع وبدرجة من التعقيد أكبر مما تتصف به الأشكال الاجتماعية لأي نوع آخر من أنواع الحيوان.‏

ولما كان الإنسان قادراً على التفاهم مع أمثاله بواسطة أشكال اللغة الرمزية والمفاهيم، فهو وحده الذي استطاع أن يوجد أنواعاً لا تحصى من المباني الاجتماعية الأساسية كبنيان الأسرة. وإذا نظرنا إلى حياة الجماعة في أي نوع من أنواع ما دون الإنسان من الكائنات الحيوانية، وجدنا أن مبانيها الاجتماعية أكثر رتابة من المباني الإنسانية، وبالتالي يمكن توقعها لأن كل جيل من أجيالها يتعلم السلوك المشترك بين معاصريه جميعهم، بينما يبني الإنسان على تجارب كل من سبقه.

وقد أنفق العالم ” رادكليف براون ” ثلاثين عاماً في الدراسة، للوصول إلى بعض النماذج العامة للأبنية الاجتماعية. وبفضل جهوده وجهود علماء آخرين، أصبح هناك اتفاق شبه عام على بعض النماذج الأساسية للبناء الاجتماعي، مثال: (العشيرة – القبيلة – الدولة – الأمة – المجتمع).‏

واستطاع هؤلاء العلماء تحديد الأشكال الأسرية الرئيسة، في المجتمعات الإنسانية. ويعد ذلك خطوة مهمة نحو الوصول إلى القوانين الاجتماعية، التي يترتب عليها ذلك التنوع الملحوظ في الأبنية الاجتماعية المختلفة، وما أطلق عليه اصطلاحاً: (الدراسات المورفولوجية).‏

2) تحديد مظاهر التداخل والترابط بين النظم الاجتماعية:‏ أي تحديد التأثير المتبادل بين النظم الاجتماعية، التي تدخل في نطاق البناء الاجتماعي الواحد. ويهتم العلماء اليوم، بهذا الهدف، إذ لا يوافقون على اقتصار الدراسة الانثروبولوجية على الجانب الوصفي فحسب، وإنما لا بد من التحليل للكشف عن الوظائف الاجتماعية للنظم الاجتماعية، عن طريق تحديد التأثير المتبادل فيما بينها.‏

ولذلك، يمكن القول إن كل نظام اجتماعي، هو جزء من وحدة متناسقة متكاملة، أوسع جداً في مداها من النظام نفسه، أما العناصر التي تتكون منها هذه الوحدة، فهي متشابكة ومتداخلة. ولا يمكن فهم النظام الاجتماعي، إلا إذا درس في ضوء علاقته بالوحدة المتناسقة الكبيرة، التي تضم عناصر أخرى تظل تفرض باستمرار حدوداً على نموه وعمله.

ويجب على الباحث – من وجهة النظر الوظيفية – أن يأخذ في الحسبان عاملين أساسيين يلعبان دوراً تبادلياً وفاعلاً في هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، وهما: النموذج الذي يعرفه الأفراد ويؤثر في سلوكياتهم من جهة، والثقافة التي ينشأ عليه هؤلاء الأفراد، والتي تعنى بتلبية الحاجات الكلية للمجتمع من جهة أخرى، وذلك لأن الأنظمة الاجتماعية لا يمكن أن تؤدي وظيفتها، إلا كجزء من المجموع الكلي للثقافة.‏

3) تحديد عمليات التغيير الاجتماعي:‏ تهدف الدراسات الانثروبولوجية الاجتماعية، إلى تحديد خصائص التغيير الاجتماعي وعملياته، والتي تحدث في الأبنية الاجتماعية، سواء ذات المعدل السريع في التغيير أو المعدل المتوسط أو المعدل البطيء.‏

فلكل مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، والتي يطلق عليها العلماء الانثروبولوجيون مصطلح ” الثقافة “. ويعتبر مفهوم الثقافة من أهم الأدوات التي يتعامل معها الباحث الانثروبولوجي. وكما هي الحال في الأبحاث العلمية الأخرى، تنحصر الخطوة الأولى في جمع الحقائق عن الأنماط الثقافية المختلفة، ويتطلب هذا من العالم الاثنولوجي، القيام بأبحاث ميدانية في أماكن نائية، وإلى العمل في أنوع مختلفة من المجتمعات.

وبما أن الكائنات البشرية تعيش في تجمعات (مجتمعات) وتطور طرقها الخاصة في الحياة بما يتلاءم مع أوضاعها الخاصة والعامة، فإن للثقافة هنا دوراً كبيراً في عمليات التغيير الاجتماعي، الفكري والسلوكي.‏

ومن هنا يتعين على الدراسات الانثروبولوجية أن تحدد عمليات التغيير الاجتماعي، بطريقة الكشف عن الأنماط والأبنية الاجتماعية الجديدة، وكذلك تحديد كيفية تطور الظواهر الاجتماعية البسيطة، إلى ظواهر اجتماعية مركبة، وهذا يتطلب الدراسات الميدانية المركزة، والمعمقة.‏

خلاصة القول إن الانثروبولوجيا الاجتماعية التي هي موضوع مقالنا الحالي، نشأت لكي تدرس النظم الاجتماعية والحضارية للإنسان بوصفه صانعاً للحضارة والمجتمع، وهي بذلك تعد أقرب صلة سواءً من حيث الموضوع أو منهج الدراسة بعلم الاجتماع.

وفيما يتعلق بظروف النشأة، نجد أن الانثروبولوجيا عموماً أقدم بكثير من علم الاجتماع، فقد ظهرت الانثروبولوجيا خلال القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي خصوصاً بعد قيام الرحالة الجغرافيين بتجوال العالم والوصول إلى أماكن بعيدة لم يصلها الإنسان من قبل ومثل هذه الرحلات الجغرافية التي اكتشفت أراضٍ وقارات جديدة مهدت السبيل للانثروبولوجيين إلى دراسة شعوب هذه القارات دراسة انثروبولوجية وصفية تلقي الضوء على عاداتهم وتقاليدهم وقيمهم ونظمهم الاجتماعية ومهنهم وأساليب حياتهم ومعتقداتهم وأديانهم، وقد سجل الانثروبولوجيون الأخبار والمعلومات والحقائق المفصّلة عن المعطيات المادية وغير المادية للمناطق التي درسوها وأحوال شعوبها ومعتقداتهم الدنيوية والدينية. وهذا يعني أن للانثروبولوجيا جذورها التي تمتد إلى عصور قديمة، كما أن لها أصولها النظرية التي تشكلت عبر قرون متتالية، إلا أنها اتخذت لنفسها طابعاً أكاديمياً متخصصاً، وبدأت في بلورة موضوعاتها ومناهجها المميزة في نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وعلى الرغم من وجود تشابه كبير بين علمي الانثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الاجتماع، إلا أن أوجه الاختلاف بينهما ظل قائماً لفترات طويلة، ويمكن إرجاعه إلى اختلاف موضوع الدراسة. فقد انشغل علماء الانثروبولوجيا الاجتماعية بدراسة المجتمعات الصغيرة أي دراسة الشعوب البدائية (على الرغم من وجود استثناءات كثيرة)، والتي تختلف في طبيعتها تمام الاختلاف عن المجتمعات المتقدمة من حيث إنها لا تخضع نسبياً للتغير ولا تتوافر عنها سجلات تاريخية، وكانت المناهج المستخدمة في دراستها تتسق مع هذه الحقائق. غير أن هذا الموقف قد تغير في الوقت الراهن.

فمعظم المجتمعات البدائية قد تغيرت، وبدأ عالم الانثروبولوجيا يتجه نحو الاهتمام بنفس المشكلات القيمية التي يهتم بها عالم الاجتماع. وأصبحت النظرة إلى المجتمعات البدائية بوصفها تمثل موضوع الانثروبولوجيا الاجتماعية أخذت تختفي بصورة واضحة، كما أن انفراد عالم الاجتماع بدراسة المجتمعات المتقدمة (دراسة معالم المجتمع والثقافة الغربية) هي مسألة موضع جدل إلى حد ما.

ومع ذلك فلا تزال التفرقة قائمة بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا في ضوء اختلاف المصطلحات، والمدخل، والمنهج، بل أحياناً ما يعتبر البعض أن تداخل نشاط العلماء في ميدان الدراسة غير صحيح منهجياً، لكن الالتقاء بين العلمين واضح برغم كل ذلك، كما تزداد الرغبة في تحقيق المزيد منه.

بناءً عليه يمكننا القول إن هناك علاقة وثيقة ومتفاعلة بين علم الاجتماع والانثروبولوجيا بشكل عام إذ يمكن القول بأن الجذور النظرية والتطبيقية لعلم الاجتماع هي جذور انثروبولوجية طالما أن المجتمع المعقد الذي يتخصص بدراسته علم الاجتماع متأصلاً في المجتمع البدائي البسيط الذي هو موضع دراسة علم الإنسان أو الانثروبولوجيا هذا من جهة. ومن جهة أخرى نجد أن كليهما يهتم بدراسة المعايير، ولكن الانثروبولوجيا تركز أساساً على دراسة العلاقات بين مجموعة معينة من المعايير ومجموعة أخرى، بينما نجد علم الاجتماع يهتم بالدور الذي تلعبه المعايير في عملية التفاعل الاجتماعي.

___________

– مراجع المقال:

– زينب زيود: علم الإنسان (الانثروبولوجيا الثقافية)، منشورات جامعة دمشق، كلية التربية، دمشق، 2017- 2018.

– عيسى الشماس: مدخل إلى علم الإنسان (الانثروبولوجيا)، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2004.

– حسن شحاتة سعفان: علم الإنسان (الانثروبولوجيا)، منشورات مكتبة العرفان، بيروت، ط1، 1966.

– محمد الجوهري وآخرون: الانثروبولوجيا الاجتماعية قضايا الموضوع والمنهج، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.  

– محمد الخطيب: الانثروبولوجيا الاجتماعية، دار علاء الدين، دمشق، ط1، 2005.

– حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، الجزء الأول، ط1، 2021.

– سناء الخولي: مدخل إلى علم الاجتماع، عالم الكتب، القاهرة، ط4، 2008.

– جون سكوت: علم الاجتماع المفاهيم الأساسية، ترجمة: محمد عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2009.

– محمد السويدي: بدو الطوارق بين الثبات والتغير (دراسة سوسيو – انثروبولوجية في التغير الاجتماعي)، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.

– محمد محمود الجوهري: المدخل إلى علم الاجتماع، سلسلة علم الاجتماع المعاصر الكتاب (63)، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1984.

– محمد الجوهري، علياء شكري وآخرون: مقدمة في دراسة الانثروبولوجيا، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، القاهرة، ط1، 2007.

– نبيل محمد توفيق السمالوطي: الدين والبناء الاجتماعي، دار الشروق، السعودية (جدة)، الجزء الأول، ط1، 1981.

– غراز الطاهر: محاضرات في مقياس انثروبولوجيا اجتماعية وثقافية، جامعة محمد الصديق بن يحي (جيجل)، الجزائر، السنة الجامعية: 2018/2019.

– مجموعة باحثين: الانثروبولوجيا قراءة تحليلية – نقدية في سياقاتها التاريخية (مناهجها، نظرياتها، ومبانيها)، تقديم وتحرير: سامر توفيق عجمي، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف (العراق)، ط1، 2023.

– صلاح مصطفى الفوال: علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية (علاقات ومجالات وميادين)، عالم الكتب، القاهرة، 1982.

– فاروق مصطفى إسماعيل: الانثروبولوجيا الثقافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب (فرع الإسكندرية)، الإسكندرية، 1980.


* الدور: بأنه السلوك المتوقع من الفرد أو المؤسسة، ويكون غطاءً شاملاً من السلوك المميز اجتماعياً، يوفر وسيلة لتعريف وضع الفرد في المجتمع، ويعمل أيضاً كاستراتيجية ليكون بمستوى الوضاع المتكررة. انظر سناء الخولي: مدخل إلى علم الاجتماع، عالم الكتب، القاهرة، ط4، 2008، ص (11).
_______
*د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات