المقالاتفكر وفلسفة

ثم ماذا ما بعد الغرب؟!

توشك كلمة «ما بعد» أن تصير لازمةً مفهوميةً تُمسك بناصية التفكير الغربي، ولا تترك له فسحة من راحة العقل. لكأنما الغرب استحال ظاهرة زمانية، أكثر منه حقيقة واقعية راسخة في جغرافيا ومستقرة فيها. وإلَّا كيف نفسِّر شَغَفَهُ المَرَضِيَّ باليوم التالي، وهو لا ينفك يمكث في جوف الحاضر المستمر لحداثته المهزوزة؟

لسنا نرى من إجابة محتملة على هذا التساؤل سوى الرغبة المحمومة بالقفز إلى الأمام ولو كان نحو المجهول. نقول هذا لأن مُدَّعى «ما بعد الغرب» هو ككل المُدَّعيات السابقة عليه، يأتي محاطاً بسيلٍ عَرِمٍ من التعريفات والتآويل. واللاَّفت أن جلَّ «الما بعديات» التي يُعكَفُ عليها مثل: ما بعد الحداثة – ما بعد الميتافيزيقا- ما بعد الأخلاق – ما بعد البنيوية – ما بعد العلمانية – ما بعد الاستعمار- إلخ… نزلت إلى حقل التداول وكانت أقرب إلى «تجاوزات معرفية» أعربت في مجملها عن الإحساس بعدم اليقين. وأنَّى كان الحال، فما هو حاصل يتعدَّى كونه لعبة لفظية تفترضها غريزة الأنس بانتزاع المفاهيم، بل هو تعبيرٌ عن وقائع ومعطيات مختزنة في الَّلاوعي الغربي يجري استظهارها من مجمل بنيته المفاهيمية الحديثة.

كل ما سبق للتفكير الغربي أن أنتجه في حقل «المابعديات» عَمِلَ على إحاطته بمبرِّرات منهجية قصد تجديد حيويته، ومنعاً للوقوع في الخواء. مقولة «ما بعد الغرب» وحدها ظلَّت بالنسبة إليه مصدر قلق لا نفاد له، ذاك أنها تستحثُّه على إعادة النظر بأصل وجوده، وتدفعه إلى السؤال الأشد هولاً حول مآلاته الغامضة.

*     *       *

لا شك في أن مقولة «ما بعد الغرب»، وبسبب من جاذبيتها الاستثنائية، تحثُّ على تظهير نظرية معرفة لا تني تسري بخفر وبطء في حلقات التفكير. وهذا راجع، في المقام الأول، إلى تعثُّر ظهورها كمفهوم مكتمل الأركان. والمشكلة هنا ليست في إخفاق الفكر الغربي أو عزوفه عن تصنيع المفاهيم والمصطلحات، فذلك مما يُشهدُ له في إنجازه سواء في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع أم في سائر العلوم الإنسانية والعلوم البحتة. أصل القضية واقعٌ في منزل آخر من منازل النظر والمقاربة. فعبارة «ما بعد الغرب» تقترب من كونها قضية كلِّية متصلة بالبنية الحضارية الغربية وتاريخها الأشمل… أما سَرَيانُها الآن على أرض المداولات فيدلُّ في الأغلب، على وصول هذه البنية إلى المحل الذي توضع فيه الأختام النهائية على سجلها الطويل…

قد يكون جائزاً القولُ أن العبارة المارَّ ذكرُها تؤلِّف خلاصة «الما بعديات» على الجملة، مثلما تؤلِّف وعاءَها الأعظم. وبهذا التوصيف تكتسب أفقاً وجودياً يمسُّ المباني الكبرى للحضارة الغربية، كما تستولد أسئلة حاسمة حول بقائها أو فنائها.

ربما لهذا الداعي لا تنأى المداولات التي يشهدها النقاش حول «ما بعد الغرب»، عن الاستفهام حول ماهيَّة الغرب نفسه، وبالتالي حول دوره ومكانته في الحضارة العالمية. بهذه المنزلة يغدو السؤال استقصاءً جوهرياً عن حقيقة الغرب، لا مجرد استفهام عارضٍ عن ظاهرةٍ عارضة؛ ذلك لأن غاية السؤال هنا هي التعرُّف على حقيقة حضارية مبنية على المفارقة: تتموضع في التاريخ والجغرافيا، وتتعالى فوقهما في الآن عينه.

بسبب من هذه الخاصِّيَّة الماهويَّة تعثَّر الوصول إلى تعريف منجز للغرب كمصطلح ومفهوم. وربما للسبب عينه أيضاً، سينشأ «وعيٌ أعراقيٌّ» لدى النخب الغربية يمجِّد ذاته الحضارية ويرفعها إلى رتبة الحضارة المُنْجِية.

حريٌّ القول أن رؤية الغرب كثيراً ما دفعت النظَّار إلى متاخمتها كأرضٍ فسيحة لملحمة شبه أسطورية. من هذا النحو يصير سؤال «ما هو الغرب»، أكثر شَبَهاً بسؤال «ما هي اليونان» قبل عشرات القرون. ومع أن لكل من السؤالين سمْتَهُ الخاصة، إلا أنهما يشتركان ويتقاطعان على دعوى التأسيس لتاريخ البشرية. من أجل ذلك بدا الاستفهام عن ماهية الغرب ودوره الرسالي بمثابة استئناف للسؤال البَدئي والمؤسّس عن ماهية اليونان. وسيكون لهذه المعادلة الاستفهامية الأثر البيِّن في مدِّ الفلسفة الأوروبية الحديثة بالغذاء الآتي من الحقل اليوناني الأول. هذا ما نلقاه سارياً في أعماق ما أنجزه الروَّاد المؤسِّسون للحداثة من ديكارت إلى كانط، مروراً بهيغل وهوسِّرل وهايدغر، وصولاً إلى سائر المتأخِّرين. هؤلاء الفلاسفة الذين تصدّوا لتظهير الدلالة الأنطولوجية للذات الغريبة سيجعلون من هذه الذات معياراً للتفكير الجوهري في ماهية الإنسان المعاصر. وهكذا سنرى كيف ترتقي الأطروحة الغربية إلى رتبة مقوِّم من مقوِّمات جغرافية الروح على حد تعبير هيغل، والتي صارت تتحكم اليوم في بنية الإنسانية الحالية.

الكل أخذ بالحجة نفسها فلاسفة ومفكرون سياسيون وعلماء اجتماع: أي أن الغرب قام على تكوين حضاري وميتافيزيقي، أفضى إلى تفوُّق الإنسان الأوروبي على الإنسان الهندي والأفريقي فضلاً عن سائر الأعراق… التمثيل الأعلى لمثل هذا الاعتقاد سيجد تعبيره الصارخ في اكتشاف المهاجرين الإنكليز والإسبان أميركا وتحويلها إلى أيقونةٍ يحكمون بواسطتها العالم كلَّه. غير أن ما هو مفارق في التجربة الأميركية، أنها قامت أساساً على الانسلاخ عن أصلها الأوروبي والبَدءِ بأصل جديد. هذا هو السبب الذي جعل التأسيس الميتافيزيقي لأميركا مدفوعاً بعقدة الاستبراء من مصدرها الأوروبي. وهذا ما أولاه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عناية مخصوصة لمّا رأى أن العالم الإنكلوساكسوني للأمركة قرَّر تدمير أوروبا باعتبارها البَدْءِ الخاص للعنصر الغربي.

*     *       *

مع النشأة الأميركية الخارجة من أصلها الأوروبي والخارجة عليه في الآن عينه، تشكَّلت أول «ما بَعدية» كبرى في التاريخ الحديث. وهذا يعني أن أميركا هي «ما بعد أوروبا» بكل ما تدلُّ عليه العبارة من أبعاد تاريخية وثقافية ولاهوتية. غير أن المفارقة في هذا المنعطف من تاريخ القارة الأوروبية هي أن «الما بعد الأميركي» الذي انفصل عن أصله ما لبث أن عاد إلى هذا الأصل من أجل أن يحتويه ويضمَّه تحت جناحيه في إطار غرب حضاري تامِّ القوام. استناداً إلى هذه الصيرورة، أمكن لنا أن نعرف السبب الذي يجعل كل تنظير حول راهنِ الغرب ومُقبلِهِ محكوماً بالجمع اللَّاواعي بين أوروبا وأميركا بوصفهما كتلة حضارية واحدة. ومن أجل ذلك، يصير بديهياً أن يُنظر إلى أطروحة ما بعد الغرب بوصفها قاعدة كلِّية لدراسة مآلات القارتين الأوروبية والأميركية معاً.

*     *       *

تبعاً لما سبق، بدا كل تنظيرٍ لاحق يتناول ما بعد الغرب، محكوماً بمنهج تتآلف فيه ثلاث دوائر: زمانية ومعرفية وأنطولوجية:

أولاً: مقتضى الدائرة الزمانية، يشير إلى التعامل مع تاريخ الحضارة الغربية الحديثة بوصفه مجموعة من الأحقاب الزمنية المتعاقبة، فكلما انتهت حقبة تولد من بعدها، أو على أنقاضها، حقبة تالية، وهكذا دواليك…

ثانياً: مقتضى الدائرة المعرفية، يتصل بالتحوُّلات العميقة في عالم الأفكار. وهو ما يجد تمثُّلاته على وجه الخصوص في ما حفلت به حقبة ما بعد الحداثة من نموٍّ هائل للمفاهيم المابعديَّة، التي تشير إلى عمق الإحساس بعدم اليقين حيال قِيَم الغرب الحديثة.

ثالثاً: الدائرة الأنطولوجية (الوجودية)، وهي أبرز الدوائر التي استظهرها الحراك الفكري الغربي، لا سيما لجهة استشعاراته وتنبُّؤاته بنهاية الحضارة الغربية الحديثة وتبدُّدِها. على سبيل التمثيل، لنا أن نستحضر كتاب «سقوط الغرب» للمفكر الألماني أوسوالد شبينغلر الذي يتوقع فيه انهيار الحضارة الغربية، ويصفها بـ «الحضارة الفاوستية» (نسبة إلى يوهان فاوست 1480-1540) التي باعت روحها للشيطان مقابل المكاسب المادية والنعيم الاستهلاكي.  خلاصة هذا العمل، أنّ الحضارة الغربية حقّقت سيادتها العالمية استناداً إلى قوّتها المادية، وأن القرنين التاسع عشر والعشرين يشكِّلان سقف الحضارة الغربية، وأنّ نهاية القرن العشرين سوف تكون حافَّة هذا السقف وبداية الانهيار. غير أنّ شبينغلر، وهو سليل موطنه الغربي في بعده العنصري سيواجه مشقَّة الاعتراف بأن ثمة أمماً غير أوروبية مؤهّلة للنهوض بأعباء الحضارة العالمية. ورأى أن العلوم المادية الحديثة هي خاصِّية تكوينية يمتاز بها العقل الغربي الفاوستي تحديداً وحصراً.  يضيف: وبما أنّ الأمم الشرقية روحانية فإنّها غير مؤهّلة عقلياً حسب زعمه لاستيعاب العلوم المادية. على هذا الأساس، تنبّأ شبينغلر بأن ما سوف يترتّب على انهيار الحضارة الغربية هو الفراغ والفوضى والحروب، حيث سيواصل «الفاوستيون» فرض سيادتهم العالمية عن طريق القوة الجائرة وحروب الإبادة.

*     *       *

لقد تعدَّدت آفاق الدراسات الغربية التي تناولت حالة ما بعد الغرب، ولنا هنا أن نستخلص أهم ما توصلت إليه عبر أربعة مداخل: سياسي واقتصادي ولاهوتي وفلسفي:

– المدخل السياسي:

هو ما تعكسه بيئة من المفكِّرين الغربيِّين تسعى إلى رسم نهاية حتميَّة لمستقبل السلطة السياسيَّة والاجتماعيَّة للغرب. وينقسم العاملون في هذا المدخل إلى ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: يعمل على تحليل أفول الهيمنة الغربيّة بعيداً عن مسقط رأسها الشرقي أو الغربي. وعلى الرغم من صدقها في بيان آفات ومشكلات الغرب، إلَّا أن غايتها من وراء ذلك هي الدفاع عنه وضمان قوَّته وهيمنته.

الاتجاه الثاني: يعاين الغرب ويختبره من الداخل، ثم يتوصل إلى استنتاج مؤدَّاه الانهيار التام للمنظومة الغربية، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي أمانوئيل واليرشتاين، والمفكر الأميركي بول كينيدي في كتابه المعروف «صعود وسقوط القوى العظمى».

الاتجاه الثالث: يتشكَّل من المحلِّلين الذين ينتمون إلى مناشئ شرقيّة، وقدموا أدلّة تشير إلى انهيار الهيمنة السياسيّة للغرب المعاصر، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر عالم الجيوبوليتيك الروسي ألكساندر دوغين، إلى جانب عدد من الباحثين والمفكرين الأفارقة والآسيويين وتحديداً أولئك الذين أنجزوا دراساتهم حول فكر «ما بعد الاستعمار».

ـ المدخل الاقتصادي:

معظم الدراسات المعمَّقة التي تدور مدار مستقبل العالم الغربي، ترجِّح نهاية أحادية الاقتصاد الأميركي، وتنظِّر لتعدُّدية قطبية تتشكَّل من الصين وروسيا والهند إلى عدد من البلدان الآسيوية الأخرى. في حين نجد بلداناً مثل: بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، أو بكلمة واحدة أوروبا، تعاني من مستقبل غامض ومبهم.

ـ المدخل اللاَّهوتي والأيديولوجي:

ثمة تيارات وازنة تنظر إلى عالم ما بعد الغرب بوصفه عالماً يميل نحو ترجيح كفة الإلحاد. وهذا الادّعاء، على الرغم من افتقاره إلى الأدلّة المنطقية والعملية الكافية، يُعتبر رأياً جادَّاً باعتباره منافساً خطيراً للمسيحيَّة.

تلقاء ذلك، هنالك مفكِّرون وعلماء اجتماع قاربوا البعد الأيديولوجي واللَّاهوتي لحقبة ما بعد الغرب بصورة معاكسة. فقد أعادوا طرح سؤال الدين والإيمان الديني باعتباره سؤالاً له حضورُه البيِّن في المجتمع المعرفي الغربي. نذكر من بين هؤلاء: الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، والفرنسي بول ريكور، والأميركي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا وسواهم. ومن المعاصرين من يمضي أبعد من هذا ليرى أن أمواج الإسلام في البلدان الغربيّة باتت من الكثرة بحيث بدأ الغربي يستشعر الخطر، وينتهج شتّى الأساليب لمحاربتها. وهذه المحاربة تظهر أشدَّ ضراوة من تلك التي ينتهجها في مواجهة الإلحاد وسائر التيارات الأخرى. ينتمي إلى هذه الشريحة عدد من المفكِّرين الغربيين أبرزهم الأميركي صاموئيل هنتنغتون الذي يرى أن مستقبل الغرب يميل إلى مصلحة الإسلام؛ وتوصَّل في تحليلاته الإحصائيَّة الخاصَّة إلى التنبُّؤ بأن عام 2050م سيشهد غلبة الإسلام، وأن المسيحيّة في بلدان مثل إنكلترا سوف تتحوّل إلى أقليَّة دينيَّة.

ـ المدخل الفلسفي والمعرفي:

لا تتوقف رحلة الكلام عند حدود ما سبق المرور عليه. فما هو أهم يتعلَّق بالعوامل والمؤثِّرات الفلسفية والمعرفية في التأسيس لـ «الما بعديات» جميعاً وفي مقدَّمها مقولة ما بعد الغرب…

من البيِّن أن التأسيسات الأولى لحقبة ما بعد الحداثة لم تكن سوى تأسيس مستأنف لـ «ما بعد الغرب» في أفقه الفلسفي. وما كنا لنخلع على هذه الحقبة صفة الما بعدية إلَّا لأنها انعطفت بالحضارة الغربية نحو مآلات انقلابية عميقة في أنساقها القيمية طاولت ثوابتها الكبرى. ولو أجرينا مراجعة تحليلية مجملة لتلك الحقبة لوجدنا أن الحضارة الحديثة شهدت انتقالات جذرية لم تقتصر على التغيير في السياسة والثقافة وعلاقات الإنتاج، وإنما امتدت إلى منهج التفكير وفلسفة عمل العقل. ولنا في ذلك شاهد مبين تمثَّل بثورة العلم على الفلسفة.

لمَّا اختصر إيمانويل كانط مشروعه الفلسفي رائياً أن مهمته العظمى تكمن في تحويل الفلسفة علماً فقد كان يمارس فعلاً مؤسِّساً لـ «ما بعد الفلسفة» بنسختها الكلاسيكية. ربما غَفِل كانط عن أن سحر العلم سيحجب قسطاً وفيراً من جاذبية الفلسفة، إلَّا أن شغفه من بعد ذلك أوصل التفكير الفلسفي نحو مآلٍ لا قبَل له به. فبدل أن تُحفظ الفلسفةُ بوصفها بحثاً دؤوباً عن حقائق الأشياء من خلال السؤال، جرى تحويلها إلى علم تسري عليه المناهج الحاكمة على سائر العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتربية والفن وما سوى ذلك. مع كانط، ومن قبله ديكارت، لم تعد ماهيَّة الفلسفة وهويَّتها على سابق عهدها.

يبدو جليَّاً أن الحداثة الغربية بعد المنعطف الكانطي ستوظِّف أطروحة الإنسان كمركز للكون لكنها ستمضي نحو إخضاعه لأوثان التقنيّة. وهنا ستبدأ إرهاصات «ما بعدية» مستحدَثة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي سعى بدأبٍ كبير إلى استخلاص الميتافيزيقا من معضلتها الكبرى من خلال إعادتها إلى مهمَّتها الأصلية بما هي البحث عما يحتجب من أسرار الوجود. التقنية التي أدَّت إلى «نسيان الكينونة» لم تعد حسب هايدغر تشكِّل تهديداً للمصير الإنساني، وإنّما أيضاً، تبديداً لأسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. ها هنا سيظهر غرب فلسفي آخر غير الذي عهدناه في التأسيسات الكبرى لعصر النهضة مع ما سمِّي «أزمة الأنسية»، أي مشكلة حضور الكائن الإنساني في عصور الحداثة المتداعية. لقد كشفت تقنية ما بعد الغرب الكلاسيكي عن مسار عام يسير نحو نزع الإنسانيّة (Disumanzzazione)، وانحطاط قِيَمِها وتهافُت معاييرها. لو نظرنا إلى حقيقة هذا التحول من زاوية فلسفة التاريخ، لألفيناه تأسيساً لغربٍ من طراز غير مألوف. وهذا التأسيس لم يكن سوى افتتاح العقل الغربي لبَدءٍ جديد يطوي سجلاً كاملاً من العمر الميتافيزيقي للحضارة الغربية المعاصرة.

هذا المستوى من النقاش، وإن كان لا يزال منحصراً في بيئات محدَّدة، يكشف عن وعود بانعطافات كبرى في بنية العقل الغربي حيال العلاقة بين الإيمان الديني والتورات العلمية المعاصرة، ولعلَّ ما يضاعف من تحقُّق هذه الوعود ما نشهده من مراجعات فكرية طاولت مساحة وازنة من ثوابت النظام المعرفيِّ الذي قامت عليه الحداثة. ويشكِّل النقاش المستحدَث حول دخول العالم الغربي في ما سُمِّي بـ «حقبة ما بعد العلمانيّة»، وعودة أسئلة الدين لتحتلّ حيِّزاً وازناً من حلقات التفكير، أحد أبرز العلامات الدالَّة على عمق الفراغ المعرفي الثاوي في قلب الحداثة المعاصرة.

*     *       *

*محمود حيدر

مفكر وأستاذ في الفلسفة – لبنان.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات