المقالاتفكر وفلسفة

تعلُّم الفلسفة تعلّمُ التساؤلِ والتفلسف

ايقاعُ التقدم المتسارع للذكاء الصناعي والروبوتات، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، وتكنولوجيات متعدّدة تتحدث لغةَ الذكاء الصناعي وبرمجياته، يخلقُ طورًا وجوديًا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدمُ المتسارع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقدات، والثقافات، والاقتصادات، والنظم السياسية، والسياسات المحلية والإقليمية، والعلاقات الدولية، والعلاقات الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى وأزماتُ العقل والروح ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.

‏‏ لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلاتٍ ومشاكلَ وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية وعقلية، سواء أكانت هذه المشاكلُ والأزمات فرديةً أو مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغنى عن الفلسفة، مهما بلغ تقدّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه.كانت الفلسفةُ وستبقى تستجيبُ لما يستجدُّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء وغيرهما من العلوم، فقد كان لعلم الفلك الحديث الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده. وهكذا تأثّر هذا التفكير بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثَّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، ونظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955).

علاقةُ الفلسفة باللاهوت عضوية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوت بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات. إنه سؤالٌ مفتوح،كلُّ سؤال مفتوح منجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعدَ اللاهوتُ عن الفلسفة وقعَ فريسةً للامعقول. لا يضعُ اللاهوت في حدوده ويمنع تغوّله إلا الفلسفة، ولا يتجدّدُ اللاهوت إلا عندما يعيدُ النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملُها بعين فلسفية.

لم تشهد المكتبةُ الفلسفية العربية غزارةً في الإصدارات كما يحدثُ في السنوات الأخيرة نتيجةَ تعدّدِ المؤسسات الراعية للترجمة، والمبادراتِ الفردية والجماعية في التأليف، واتساعِ التعليم العالي وكثافةِ أعداد رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات العليا للفلسفة، والنشرِ الورقي والالكتروني. غزارةُ المطبوعات الفلسفية وتنوّعُها بقدر ما تثري المكتبةَ الفلسفية كميًا، قلّما تكشفُ عن عمق التفكير الفلسفي والخروجِ من تكرار الشروح وشروح الشروح والتعليقات الانطباعية وأحيانًا العبثية على أقوال الفلاسفة. هذه الغزارةُ في الكتابة توقع القارئَ المتخصّص في حيرة انتقاء ما هو جادّ من هذه الكتابات، إذ لا يتسع وقتُ الإنسان وطاقتُه لأن يقرأ كلَّ كتاب أو مقال يقع في إطار اهتماماته،كي يكتشف مدى تميّزه وفرادة تفكير كاتبه.كان الفشلُ أكثرَ من النجاح في انتخابي للكتاب أو المقال الذي لا أعرف كاتبَه، قلّما أعثر في الاختيار العشوائي، اعتمادًا على جاذبية العنوان، على عملٍ يثير اهتمامي ويشدّني إلى مطالعته بشغف. أكثرُ الكتب أتورط بشرائها، وبعد جولة سريعة في ثنايا صفحاتها من المقدمة حتى الخاتمة تخيّب ظني، وأحيانًا أنزعج لإنهاك عيني المتعبة بقراءة عبثية، ولضياع الوقت والجهد والمال، وكأني كنت ضحيةَ خدعةٍ دعائية أوقعني فيها عنوانٌ برّاق وطباعةٌ مغرية.

لا يفرض الفكرُ حضورَه بقوته وتعبيرِه عن الواقع فقط. بعضُ الكتّاب اتخذتهم أحزابٌ ماركسية وقومية وأصولية مرجعياتٍ فكرية مُلهِمة لها، ففرضت كتاباتُهم حضورَها بقوة، وإن كانت قيمةُ هذه الكتاباتُ متواضعة. الفكرُ الذي يفرضُ نفسَه يسوّقه حزبٌ سياسي فاعل ومؤثر، أو تفرضه سلطةٌ تخضعُ لها الأرواحُ طوعًا، أو ترضخُ لها العقولُ قهرًا.

لا يدلّنا رواجُ سوق كتابٍ على فرادته وقوة مضمونه، ولا تعني غزارةُ الكتابة وكثافةُ الإصدارات القدرةَ على التأملِ والتفكيرِ الصبور وامتلاكِ البصيرة الثاقبة. أعرفُ مَنْ يكتبُ بغزارة عنوانات فلسفية من دون أن يدرسَ أو يقرأ أيَّ نصٍّ فلسفي، وكأن الكتابةَ الفلسفية أمست مهنةَ مَنْ لا مهنةَ له. صارت الفلسفةُ لافتةً يختفي وراءها جماعةٌ من المولعين بالشهرة، يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، ويكتبون موضوعاتٍ عويصةً وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية، تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّطُ في دلالتها ولا تفصحُ عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّفُ على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجدُ أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّرُه لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعليم الفلسفة، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشدُ لنفسها إيقاظَ العقل.

يتعذّر فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقلية أرسطية،كلُّ محاولةٍ للفهمِ تُفَكِّر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصورية وبراهينُ وأشكالُ قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في الحوزات وغيرها من مؤسّساتنا التعليمية، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التصوريّة وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية. هناك خبراءُ ممن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيّدة باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربية، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيُّون متديِّنُون، غير أنهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءاتٍ موهمةً ومضلّلةً للفلسفة الحديثة، تلوّنها بألوان مشوّهة، وتقوّلها ما لا تقول. القارئُ الخبير يدرك أنهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.

العقلُ الفلسفيُّ عقلٌ كونيُّ، عابرٌ للجغرافية الإثنيّة والأيديولوجيَّة والدينية. قراءةُ الفلسفة بعيون أيديولوجية تنتجُ أيديولوجيا، قراءةُ الفلسفة بعيون لاهوتية تنتجُ لاهوتًا، قراءةُ الفلسفة بعيون كلاميّة تنتجُ علمَ كلام. لا ينتج الفلسفةَ إلّا التفكيرُ الفلسفي، والقراءةُ الفلسفيّةُ للفلسفة.

إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عناوينَ فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها تتحدثُ لغةَ الفلسفة. عندما يصادفني كتابٌ أو مقالٌ فلسفي يتحدثُ لغةَ الفلسفة أشعر كأني عثرتُ على كنز مفقود. فوجئت قبل سنوات بالعقل الفلسفي الخلّاق للدكتور منذر جلوب منذ قراءتي لمقاله الأول، عندما تكرّم فبادر بالكتابة لمجلة قضايا إسلامية معاصرة. أدمنتُ بعد ذلك مطالعةَ أعماله، في كّلِ مرة يفاجئني هذا العقلُ اليقظ بمحاكمته لآراء فلاسفة كبار وتقويضه لها، مثلما تعجبني براعتُه ببناء رؤىً فلسفية ينفرد بها. لا أتفق مع كلِّ نقاشاته وأدلته ورؤاه وآرائه ونتائجه، ليس المهم أن نتفق أو نختلف مع طريقة تفكير مَنْ يتفلسفُ ومحاججاته وتقويضاته ونتائجه، المهم أن نقرأ عقلًا يفكِّر فلسفيًا بطريقته الخاصة، ويكتب الفلسفةَ بلغته الفلسفية. منذر جلوب يفرض على قارئ الفلسفة المتمرّس الاعترافَ بذكائه الفلسفي. ذكاؤه يدهش القارئَ في الخروج على طريقة التفكير الفلسفي لأساتذته ولغيرهم، ولأكثر مَنْ يقرأ لهم من كتّاب الفلسفة العرب اليوم. منذرُ يمتلكُ موهبةَ التفلسف، مَنْ يريد تعلُّمَ التفلسف يلتقي في كتاب “الوعي والعدم” أحدَ المعلّمين الماهرين اليوم للتفلسف. تعلّمُ الفلسفةِ تعلّمُ التساؤلِ والتفلسف، التساؤل والتفلسفُ إيقاظٌ متواصل للعقل، لا تولد الفلسفةُ إلا بعدَ انبعاثِ واتساعِ التساؤلِ والتفلسف، لا حياةَ للفلسفة إلا بالتساؤل والتفلسف. لا تعكس الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطور الوعي البشري، الفلسفةُ تواكبُ الوعيَ ولا تتخلّفُ عنه حتى لو سادَ العلمُ الحياة العقلية للإنسان، العلمُ يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاتِه العويصة التي يعجزُ عن اكتشافِ طرق الخلاص منها في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، وهي لا سواها مَنْ يرشدُه لدروب الخلاص، لن تموتَ الفلسفةُ مادامَ الإنسانُ يتساءل ويتفلسف.
______________
*المصدر: المحطّة.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات