المقالاتفكر وفلسفة

تشوّهات المثقّف

إن رغبتنا في تناول تشوّهات المثقّف، نابعة من غيرتنا عليه ومن رغبتنا في استعادة أدواره الحقيقيَّة وعودته إلى بيته الذي ولد فيه، وهو النضال الثقافي؛ المتمثِّل في الإبداع والبناء المعرفيّين، الذي يصحِّح اعوجاجات الفعل السياسي وانحرافات المسار المجتمعي.

وحديثنا هذا، لا نعتبره محاكمة للمثقَّف أو جلدا له، بل هو مساهمة في نقد الذات المثقّفة، في بعض جوانبها الأخلاقيَّة، وإسهام جدّ متواضع في وضع بعض المثقّفين أمام المرآة، قصد التخلُّص من الزوائد التي أخفت الملامح الحقيقيَّة للمثقَّف الذي يحملونه في ذواتهم.

أكيد انني لن أخوض في الحديث عن أزمة المثقّف، الفكريَّة والتي لها علاقة بأسباب وعوامل تاريخيَّة واجتماعيَّة وتثاقفيَّة… كما لها مظاهر متعدِّدة، وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة كثيرا من أعمال عبد الله العروي خصوصا كتاب “أزمة المثقّفين العرب”. وإدوارد سعيد في “صور المثقّف”.  ولكن سأسلِّط الضوء على جانب من جوانب الأزمة الأخلاقيَّة للمثقَّف، كما تجسِّدها بعض التشوّهات الأخلاقيَّة الجليلة. أمَّا السؤال حول العلاقة بين الأزمة الفكريَّة والأزمة الأخلاقيَّة للمثقَّف، فيمكن اعتباره مدخلا آخر من مداخل التفكير النقدي في المثقّف العربي، يمكن أن يكون موضوعا لبحث أو مقال مقبل.

المثقّف ليس ملاكا، وما هو بإله، هو إنسان تجرفه الأهواء ويمكن أن تتلاعب به النزوات وتضعفه الأطماع، فيعدم ضميره أمام رغباته ومتعه. من هذا المنطلق أردت أن أسلِّط الضوء على بعض أهمّ انحرافات المثقّف، التي اعتبرها تشوّهات أخلاقيَّة لا صلة لها بأصله وحقيقته.

  1. في معنى المثقَّف

 قبل التطرّق إلى أخطر التشوّهات التي يمكن أن تصيب المثقّف، وتسلخ جلدته الثقافيَّة، لتحوّله إلى مسخ غريب عن ذاته وعن مجتمعه، لا بد من القيام بمحاولة تعريفيَّة بالمثقّف لنستبين صورته الأصيلة ومعدنه الحقيقي.

إنَّ المثقّف بالنسبة لي، ليس صفة لتمييز معرفي أو تصنيف فكري، بل هو دور اجتماعي حيوي. فليس كل من يحمل شهادة جامعيَّة أو دبلوما من مدرسة عليا مثقفا، قد يكون متعلّما،  لكن ليس بالضرورة سيكون مثقّفا، فالمثقّف يمثِّل فئة اجتماعيَّة مميَّزة لها  القدرة على التأثير في المجتمع في اتِّجاه إحداث التغيير المعرفي والثقافي الذي يسفر عن تغييرات أخلاقيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة، لذلك فهو–أي المثقّف- يتحدَّد بالوظيفة والمكانة، إنَّه  صاحب رؤية يحاول تنزيلها في المجتمع قصد تغييره لما هو أفضل، كما أن له موقع اجتماعي يسمح له بالقيام بوظيفته، ما دام ينتمي إلى فئة اجتماعيَّة مميَّزة ومؤثِّرة، ينتجها التنافس الاجتماعي بما هو الواقع الجوهري للمجتمع. يؤكِّد ” جرامشي ” Gramsic   في معرض حديثه عن المثقّف العضوي “على أن المثقّفين هم منظِّمو الزعامة الاجتماعيَّة، وذلك باعتبارهم موظّفين في البناء الفوقي للمجتمع – على حدّ تعبيره – يستطيعون أن يتوسَّطوا عالم الثقافة وعالم الإنتاج”، فالمثقّف وحده القادر على أن يقدِّم أفكاراً يتقبّلها جماهير الشعب بطريقة تلقائيَّة على أنّها أفكار مشروعة، لأنّها تعبِّر عمَّا هو أكبر بكثير من مصالح الجماعة المسيطرة.

لا يمكن التشكيك إذن، في السلطة الثقافيَّة والمعرفيَّة التي يمتلكها المثقّف، وتأثيره القوي على الجمهور، بالنظر إلى الرأسمال الرمزي الذي يحظى به، إضافة إلى الأدوات الخطابيَّة والاقناعيَّة التي يحسن استخدامها في الدفاع عن أفكاره، ناهيك عن تملّكه للقدرة على إنتاج الكلام وتأسيس البرهان وإحكام البيان. والنقد والقدرة على مواجهة العنف بالحقيقة….. مزايا كثيرة للمثقَّف تجعله قوَّة مؤثِّرة في محيطه الاجتماعي. ويكفي أن نعود إلى التاريخ لنقف على دور المثقّف في إحداث تغييرات جذريَّة، ذات طبيعة معرفيَّة، كتلك التي أحدثها الكوجيطو الديكارتي في الفكر الغربي؛ أو ذات طبيعة اجتماعيَّة، وهنا يمكن الإشارة فقط إلى ما أسفرت عنه النظريَّة الماركسيَّة من تغييرات اجتماعيَّة وسياسيَّة في العديد من المجتمعات.

إنَّ قوَّة المثقّف التأثيريَّة في الجماهير، كانت مصدر إزعاج لأنظمة سياسيَّة قويَّة في استبدادها ومتطرِّفة في طغيانها، ولنتذكَّر جميعا قولة نابوليون بونابارت: “عندما أسمع كلمة مثقَّف أستل مسدسي على الفور”. قولة تبرز بجلاء أنّ المثقّف يشكِّل قوَّة رمزيَّة تكون مصدر تهديد للقوَّة السياسيَّة، لكون أثرها في المجتمع يفوق أثر القوة السياسيَّة والاقتصاديَّة.

1-التشوُّه الأكبر أو التحالف مع الشيطان.

للأسف الشديد يمكن لهذه القوَّة الاجتماعيَّة، والطاقة الفكريَّة والعقليَّة القويَّة، أن تنحرف عن مسارها الصحيح وتغادر طريقها الأصيل، الذي أشرنا إليه، فتتحوَّل من قوَّة تزعج بونابرت إلى مسدس يستخدمه بونابرت، ليزيد من عدد ضحاياه، ويحكم قبضته ويبسط سلطته وينشر جبروته. هذا التشوُّه الذي يصيب المثقّف، له أسبابه الموضوعيَّة، التي لا يمكن تجاهلها، ولكن أرى أن أبرز أسبابه وأهمّها على الإطلاق تكون ذاتيَّة.

السائد في بعض الدراسات النقديَّة للمثقَّف في عالمنا العربي هو الكشف عن مظاهر الأزمة الفكريَّة للمثقَّف، وينتهي المطاف بهذه الدراسات إلى الوقوف على تصنيف المثقّفين إلى أصناف عدَّة. على سبيل المثال لا الحصر، صنف العروي المثقّف إلى نوع مصاب بالاغتراب، ويقصد المثقّف المتشرِّب للفكر الحداثي الغربي والمستلب بالثقافة الغربيَّة. ثم النوع الثاني من المثقّف وهو ذاك الذي يصاب بالاغتراب، أي المثقّف المعتقل في التراث العربي والمنافح عنه، لا الأول قادر على التحرُّر من مقولات الحضارة الغربيَّة ولا الثاني قادر على الإبداع خارج التراث.

كل هذه التصنيفات النقديَّة وغيرها، تندرج في إطار محاولات تشخيص مكوّنات الأزمة الفكريَّة للمثقَّف والتعرّف عليها، قصد تجاوزها. وهي مكوّنات لا تمسّ، بضرر كبير، دور المثقّف في مجتمعه. لذلك لا تصل إلى حدّ نعتها بالتشوُّه، لأن التشوّه هو تحوُّل في الوظيفة وتغيير جذري في الدور وانحراف في الممارسة الاجتماعيَّة، يرتبط أساسا بتحوُّل المثقّف إلى أداة في يد السلطة لتكريس هيمنتها وإحكام سيطرتها على الجمهور، بحيث يصير قلما يحرص على خدمة ايديولوجيَّة السلطة والعمل على حراسة أفكارها، هذه الأيدلوجيا التي تسوِّغ بها ممارساتها السياسيَّة المنحرفة وتشرعن بها قراراتها المجحفة والمستبدّة. ومن الواضح أن السلطة في زماننا هذا، لم يعد السيف كافيا لكي تستقوي به، بل لابد لها من قلم يتواطأ معها، مثقف قادر على تخطيط إستراتيجيات تحكمها، وعلى تنفيذ برامجها، التي تستهدف تطويع وعي المحكومين مع أفكارها التي تزيد من مشروعيَّة الاستبداد، وتوسع من دائرة الاستقواء.

يروِّج المثقّف الشيطان الوعي الماكر الذي تحرص السلطة على تثبيته لتؤمن تحكمّها في وعي الأفراد كشرط أساسي للتحكُّم في رغباتهم وميولاتهم وبالتالي استغلالهم واستعبادهم، ومقابل هذه الخدمة الشيطانيَّة التي يضطلع بها مثقَّف السلطة، أو بالأحرى شيطانها، يحصل على مكافآت مغرية عبارة عن مناصب ممتازة أو ثروة ريعيَّة. في هذا الوضع المرضي، يموت كل ما هو جميل في المثقّف، الروح النقديَّة والاستقلاليَّة والحريَّة والحسّ الأخلاقي، ويحيي كل ما هو قبيح فيه، روح المكر وحسّ المراوغة وفن الكذب، وذكاء التملّق.

الأشد خطورة في تحالف المثقّف مع الشيطان السياسي هو أنه يلبس انبطاحه لقوى الاستبداد إلى الجمهور بصياغات فنيَّة تجعل الانبطاح والركوع لهذه القوى، يأخذ صورة كبرياء وأنفة ونديَّة. يتقن المثقّف الشيطان دور الساحر الذي يخدع الأنظار ويشوِّش على الأبصار بكلامه العذب وبلاغته المسمومة وبيانه الملغوم ومغالطاته المبنيَّة.

من جهةٍ أخرى، يظلّ هذا النوع من المثقّفين، الذين يتمرَّغون في هبات السلطة وينعمون بمكافأتها الريعيَّة، مثل الدهان الذي تلمع به السلطة المستبدَّة محياها لتخفي مساوئها، فبقدر ما يتلهَّف المثقّف الخائن للحريَّة والكرامة وراء إغراءات السلطة، بقدر ما يتدفَّق لعابه من لسانه الذي يلعق به الأحذية الحاكمة، فيزيدها تلميعا. هكذا يصبح مصيره مرهونا بمصير السلطة، بعدما كان مرتبطا بالثقافة والفكر والمعرفة، بمجرَّد ما أن تسقط السلطة يسقط ويندحر، بمجرَّد ما أن تعلو يعلو ويزدهر. إنَّه مجرد مثقَّف مرتزق شقي بتعبير سارتر، يدخل بطمعه في حالة عجز رهيب بحيث تتحكَّم الايديولوجيا الحاكمة في حركة فكره وترسم حدودا لاشتغال وعيه، واختيار مفاهيمه، وتعتبر حدود ايديولوجيا السلطة الحاكمة خطوطا حمراء لا يمكنه تجاوزها. صرح عبد الاله بلقزيز قائلا: إذا كان السلطان السياسي قد احتاج إلى المثقّف دائما حتى يؤثّث له مجال النفـوذ الشرعـي لدى الجمهور، فقد ظلّ يدرك أن وظيفة المثقّف تلك لا تنتمي إلى الثقافة، وأن هذه تقف _ في حقيقـة أمرها _ على مسافة بعيدة من السلطان السياسي. وحتى حينما كان هذا الأخير مضطرا_ تحـت وطأة ضغوط ما _ إلى منح المثقّف أقساطه _ أو بعض أقساطه _ المستحقة من الحـريَّة، كـان يحيط حقوقه بقدر هائل من الكوابح القانونيَّة والعرفيَّة وغيرها، ويرسم له خطوط حمـراء يدفعـه _ دفعا_ إلى احترامها مقابل تمتّعه بذلك النزر اليسير من الحرّيَّة والويل له_ كل الويل إن هو تطلَّع إلى مخادعـة السلطـان السياسـي وخـرق الصفقـة من خـلال انتهـاك أي مـن الخطـوط الحمراء المرسومة…”.

الاكثر قرفا في هذا النوع من المثقّفين، الذين يملؤون أوطاننا العربيَّة، ليس فقط التنازل عن حرّيتهم وبيع ضمائرهم وخيانة الثقافة و الإبداع،  بل أيضا حرصهم على تشويه الفكر وتطبيع الثقافة مع الفساد السياسي والاستبداد، مستغلّين تواجدهم في مناصب القرار الموجّهة للفعل الثقافي على مستوى الإعلام والجامعة والمناهج التربويَّة و….فالسلطة تحرص على تنزيلهم في  المؤسّسات الراعية للفكر والثقافة والتربيَّة،  ليتمكّنوا من تفريخ  مقولات ثقافيَّة تسوغ الممارسات السياسيَّة المعطوبة وتحويلها إلى واقع يبدو طبيعيّا،  ويعملوا على  إنتاج مفاهيم تخفي الشذوذ السياسي وما يترتَّب عنه من  انحراف اجتماعي.

هذا النوع المشوّه من المثقّفين، أكثر خبثا وأنانيَّة من غيره من المحكومين، تجده منشغلا بمطامحه الشخصيَّة في السلطة والمال، وبتحصيل المغانم والمغارم أكثر من انشغاله بما يهمّ المجتمع،  هاجسه هو الاقتراب أكثر فأكثر من الحاكم، وهو أشدّ خوفا من غيره منه، نفاقه ينفي ايمانه بقضيَّة أو مبدأ، قادر على الجمع بين الأصوليَّة والسلفيَّة والشيوعيَّة والليبراليَّة والديمقراطيَّة والديكتاتوريَّة، أعمى في طاعته، حربائي في مواقفه، متفنِّن  في نفاقه وتملّقه.

كثيرة هي معايب المثقّف الشيطان، وتاريخه الأسود، ما فتئ يتكرَّر بصور مختلفة وأكثر تطوّرا في حاضرنا السياسي العربي. وهذا ما يستدعي تجنيد مختلف الفاعلين الثقافيِّين الذين يحصّنون أنفسهم من مثل هكذا تشوّه، لمواجهة هذا الطاعون الذي يتلبّس بالفكر ويتقنَّع  بالثقافة، للحدّ من خطورته السياسيَّة والاجتماعيَّة، من خلال الكشف عن مناوراته وفضح مقاصده، سواء من داخل المؤسسات الثقافيَّة والفكريَّة التي يقبع بها كعنكبوت فتاك، أو من داخل  العالم الافتراضي الذي لم يجد له وسيلة للسيطرة عليه، فاستعمال الوسائط التكنولوجيَّة الحديثة للتواصل مع الجمهور وتعبئته ضد ألاعيب المثقّف الشيطان، كفيل  على الأقل بخلق صعوبات أمامه في استغباء الجمهور.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات