المقالاتحياة ومجتمع

تراتيل التنوُّع؛ كيف يؤثِّر تعدُّد ألحان تلاوة القرآن على إنتاج هويَّات إسلاميَّة متباينة

“وَرَتِّلِ الْقُرآن تَرْتِيلا” (Qur’an LXXIII, 4).

عن أبي سلامة، قال أبو هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: “ليسَ مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالقُرآن”. (Al-Bukhari 1997, v9: 97).

القُرآن هو جوهر الإِسلام، وانتقاله في المجتمع الإِسلامي شفاهي في الأساس، حيث يصبح الصوت السائد للتِلَاوَة أمراً أساسياً لإحساس المسلمين بثقافتهم ودينهم، حتى قبل أن يتمكَّنوا من التعبير عن هذا المعنى، ومن خلال الاستماع إلى تِلَاوَة قُرآنية، فإنَّهم يشاركون في تجربةٍ ذاتِ معنىً يتجاوز الصوتَ أو المناسبة المباشرة (Nelson 1985: 188).

القُرآن هو كتاب المسلمين المقدَّس، وهو النصُّ الذي يؤمن جميع المسلمين أنَّه كلام الله، وقد أُنزل على البشرية من خلال رسولِه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ. إنَّ اعتبارَ القُرآن نسيجاً متداخلاً في الحياة الدينيَّة اليومية للمسلمين يجعله شعاراً رئيسياً للإِسلام، ويتقاطع مع الثَّقافة الإِسلامية. اللهُ جلَّ جلالُهُ يدعو، في القُرآن الكريم، قارئَ الكتابِ المقدَّسِ إلى التأمُّلِ في معاني نصوصه، وقد دعا نبي الإِسلام العظيم، صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، قارئ القُرآن الكريم إلى التغني بآياته (Qur’an LXXIII, 4). في محاولة لمواكبة الدعوة النبوية لإِنْشَاد القُرآن، طوَّر المسلمون مدارس دينيَّة، كرَّست فنَّ التِلَاوَة القُرآنية، حيث تغلغلت هذه المؤسسات الدينيَّة في المجتمعات الإِسلامية منذ ظهور الإِسلام، ونتيجةً لذلك، أصبحتْ تِلَاوَة القُرآن على نحو شائعٍ بين المسلمين (Michon 1991: 482-483).

يُلاحَظُ أنَّ الجماعات المسلمة التي تعيش في المجتمع نفسه، وتتشارك في الخلفية العرقية ذاتها، تلجأ إلى ترديد القُرآن باستخدام ألحانٍ مختلفة، كتعبيرٍ جماليٍّ لتمييز الانقسامات الداخلية.على الرَّغم مِنَ الممارسة الثَّقافية المتمثلة في تمييز المساحات العامة للمَجَالِس والحلقات بألحان مميزة، إلا أن هذه الاختلافات ما تزال غيرَ قابلةٍ للتمييز في الحياة اليومية، مما يجعل هذه الاختلافات غامضةً.

إنَّ وَعيي الذاتي بوجود (كمؤلف) اختلافات في أساليب التِلَاوَة والأداء الصوتي للقُرآن، بين المَجَالِس وحلقات الصوفِيّين والسَلَفِيّين في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة، جاء مصادفة، حيث لاحظتُ هذا الارتباط بعدَ أيامٍ من الهجوم الأمريكيِّ على أفغانستان في عام 2001.

خلالَ الأسبوع الأوَّل من تلك الحرب، فشل السَلَفِيّون في البَحْرين في صياغة خِطَاب عام يوضح موقفهم السِّياسيّ من طالِبان؛ حكَّامِ أفغانستان في ذلك الوقت، وقد سبقَ للسَلَفِيّين في المملكةِ العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة والبَحْرين أن صوَّروا حركةَ طالِبان على أنَّها جماعة دينيَّة سَلَفِيّة كانت تخلق دولة إِسلامية “حقيقية”. وهكذا، فإن وجهة النظر الرَّسمية المناهضة لطالبان، والتي تتبناها الحكومة السُّعُودِيّة، منعت الشَّيْخ السَلَفِيّ السُّعُودِيّ من إبداء رأي ديني يتردد صداه مع وجهة نظرهم التفضيلية الراسخة تجاه طالِبان. على أي حال، تسبب تذبذب الشيوخ السَلَفِيّين في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة في ازدواجية مماثلة بين السَلَفِيّين في البَحْرين. في تلك اللحظة من التردد السِّياسيّ من جانب السَلَفِيّين البَحْرينيين، صاغ الصُّوفِيّون في البَحْرين خِطَابهم ببراعة، الذي نزع الشَّرعية عن الحرب الَّتي قادتها الولايات المتحدة على أفغانستان، ودعوا المسلمين إلى التَّسرُّعِ في مساعدة جميع الأَفَغَان. غالبيةُ المجتمع البحريني، إن لم يكن المجتمع السني بأكمله في البَحْرين، بما في ذلك السَلَفِيّين، قبلوا هذا الموقف.

كان خِطَاب الشَّيْخ الصوفِيّ الجهري في صلاة الجمعة عام 2001 مثالاً جيداً للخِطَاب السِّياسيّ الصوفِيّ المحلي، وأثارَ جملةً من التَّساؤلات مثلَ: “لماذا لم تقدِّم الحكومة الأمريكيَّة البراهينَ الَّتي تَدينُ طالِبان؟ الحكومة الأمريكية تزعم أنَّ القاعدة هاجمت أمريكا، فلماذا هاجموا طالِبان؟ لماذا يُقتلُ آلافُ المدنيين بحجَّةِ “أضرارٍ جانبيَّةٍ” لا مفرَّ منها؟ لماذا يُقتلُ أميركيونَ أبرياءَ؟ ولماذا يجب معاقبة الأفغان الأبرياء انتقاماً لشيءٍ لم يشاركوا فيه؟ لماذا تتركنا الحكومةُ الأمريكية، ضحايا، لتخميناتنا بشأن صدق عملها؟

كما قارن بين انتهاكِ حقوق الإنسان من قبل دولة إسرائيل وطالِبان، متسائلاً: “لماذا لا تُعاقَبُ دولة إسرائيل على قدم المساواة مع العراق وأفغانستان؟”. وهكذا، من خلال رَفْضِ المزاعم الأمريكية، باعتبارِها تقدِّم أدلَّةً غير َكافية على غزو دولةٍ أجنبية، مَهَّدَ الشَّيْخ الصوفِيّ الطريقَ فعلياً لخِطَابٍ دينيٍّ نزعَ الشَّرعيَّة عن الهجوم الأمريكي على أفغانستان، ثمَّ طلبَ مِنَ المصلِّين تقديمَ مساهمةٍ لإغاثة الحرب لصالح “الضَّحايا المدنيين الأفغان”، وليس طالِبان، وهكذا، من خلال التَّحايل على تجنب ذكر إسم طالِبان، تجنَّب خِطَابُه معارضةً مباشرة لوجهاتِ النَّظر السِّياسيّة الرَّسمية للحكومتين البَحْرينية والسُّعُودِيّة.

كواحِدٍ مِنَ الذين حضروا صلاةَ الجمعة هذه، أدركتُ أنَّ المساحاتِ الخَطَابية الصُّوفِيّة (المَجَالِس وَالحَلَقَات) تُعَبِّرُ عن آراءٍ مستقلَّة عنِ المركزِ السَّلَفِيّ في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، وبالتالي قد يكون لديها، في ذلك الوقت، وجهة نَظَر سياسيَّة سَلَفِيّة في كل من المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة والبَحْرين.

حينَ أدركتُ حقيقةَ الاستقلال السِّياسيّ الصوفِيّ، كان ذهني في تلك اللحظة متناغماً مع ملاحظةِ أنَّ الشَّيْخَ الجهريَّ كان يتلو القُرآنَ دون تقليدِ قُرَّاء القُرآن السُّعُودِيّين، وهيَ مسألةٌ لم تلفت انتباهي من قبل. في تلك اللحظة فقط، تمكَّنتُ من إدراك أهمية النَّغَماتِ في التِلَاوَة، كعلامةِ هويَّة للمساحات التّواصلية. منَ الآن فصاعداً، بدأ اهتمامي بالتحقيقِ في تأثيرِ الفِقْهِ على النطق الدِّينيّ للنُّصوص المُقَدَّسَة، كعلامةٍ على المَجَالِس الجماعيَّة؛ الحلقات.

في هذه المقالة، سأكشف النّقاط التي يرمز فيها القُرآنُ المرتَّل بشكل مختلف من قِبَلِ هاتين الثَّقافتين الدِّينيّتين المحليَّتين، كما أنَّني سأحقِّق في كيفية قيامِ كلٍّ مِنَ السَلَفِيّين والصوفِيّين بإضفاءِ الشَّرعية على تعبيرات أنغامهم الجمالية. تتمثل إحدى طرق تحقيق ذلك في فهم عملية تمثيل الهويات، وبالتالي، فإنَّ ما أهدِفُ إلى إظهاره هو كيفَ يعرِّف المؤمنون، مِنْ كُلِّ مجموعةٍ، مِنَ النَّاحية الجَمالية أنفسَهم وأقرانَهم في المجموعاتِ الأخرى.

دِلالَةُ الصَّوتِ السَّاحِرِ

خلالَ فترةِ صَيْدِ اللُّؤْلُؤ، كانتْ دورُ تعليمِ القُرآنِ (muawwa‘ 78) مسؤولةً تقليدياً عنْ تعليمِ القُرآن للتَّلاميذ. كانوا يهدفون إلى تعليم الفتياتِ والفتيان كيفيّة القِرَاءَة والكتابة باستخدام القُرآنِ ككتابٍ تدريبي، ووفقاً للشيخ يوسف الصِّديقي (retired supreme Sunnī judge of Bahrain, d. 2010)، “كان يُنظر إلى الصَّوتِ الجميل لتِلَاوَة القُرآنِ الكريمِ على أنَّه هبةٌ فطريَّة”. رغمَ أنَّ “نُطقَ الصَّوتِ لم يكن مهمة المطوِّعينَ في البَحْرين” (Al-Siddiqi 2008, in his majlis in Al-Zallaq).

فيما بعد، فإن دور الحلقات، مع اهتمامها الأساسي بمحو الأمية، أدَّى بدرجةٍ أقل إلى تعزيز المواهبِ الثانويَّة لدى الطلاب. قال لي الشَّيْخ الصديقي:

“علَّمني والدي، الذي كان إماماً محلياً ومعلماً للقُرآن في مسجد صغير، كيفية قِرَاءَة القُرآن، وعندما كنتُ في الثانية عشرة من عمري، أرسلتني أمي إلى منطقة الأحساء المجاورة لتطوير تعليمي الدِّينيّ، حيث تعلَّمتُ أثناء وجودي هناك، كيفيةَ تِلَاوَة القُرآن الكريمِ بألحانٍ جميلةٍ…

… في فترة صيد اللؤلؤ، كان الصوتُ الجميل هو الصِّفة الرئيسية التي كانت متوقَّعَة منْ أيِّ خطيبِ جُمُعَةٍ.

لكنْ خلال الفترة ذاتِها، كان الصوت الجميل صفةً أقلَّ أهميَّةً لمنصب الإمام الرَّاتب، وهو الشَّخص الذي يؤمُّ المسلمين في الصَّلوات الخمس” (2008, in his majlis in Al-Zallaq).

تشير هذه المعلومات إلى أنَّ المدارس الدينيَّة المحليَّة في البَحْرين لم تكن مناسبة لتدريس تِلَاوَة القُرآن، بخلاف الألحانِ المحليَّة التي ازدهرت خلال فترة صيد اللؤلؤ، وقامت بتقليد أسلوب الإِنْشَاد للبحَّارة، ومع ذلك، كانت مدارس الأحساء التقليدية أكثر ملاءمةً لتدريب طلابها على تِلَاوَة القُرآن بأساليب لحنية متقنة، كما قام المدرِّسون في الأحساء بتعليم الطلاب فنِّ ابْتِهَالات التراتيل الدينيَّة في مناجاة الله؛ الابتهالات، والأناشيد التي تمدح النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ.

وحسبَ الشَّيْخ راشد المرِّيخيّ، فإنَّ فنَّ الإِنْشَاد في الأحساء لم يقتصر على تعليم تلاوات جميلة منَ القُرآن الكريم؛ عن الابْتِهَالات الدينيَّة التي تثني في مناجاتها على الله وفي أناشيدها على رسول الإِسلام العظيم صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ” ( R. Al-Muraykhī 2011, in his majlis in Muharraq).

كان الهدف الأساسي للمعلمين الصوفِيّين التقليديين في الأحساء هو إعداد طلابهم لتولِّي أدوارٍ دينيَّة أعلى، على سبيل المثال؛ كخطيبٍ وقاضٍ في مجتمعاتِ المناطق المحيطة (R. Al-Muraykhī 2011, in his majlis in Muharraq).

عند التخرُّج، كان من المتوقَّع أن يقوم الطلاب بأداء أدوارهم الجديدة كخطباء أو قضاة، بتأسيس حلقة خاصة بهم (pl. ḥilaq, circles) للتدريس، حيث يسمع منهم طلابُهم، ويتعلمون الإِنْشَاد الجميل للنُّصوص المُقَدَّسَة، التي تشمل الشِّعْر الدِّينيّ بما يناسب الموضوعات والميول الصوفِيّة.

ومن خلال تلك الحلقات، تم تكوين علاقات ثقافية اجتماعية ودينيَّة مترابطة. على سبيل المثال، يتلقى الشَّيْخ، برفقة طلابه، دعوات لإِنْشَاد نصوص دينيَّة في مناسبات اجتماعية ودينيَّة مختلفة، مثل المَولِد؛ (الاحتفال بالمولد النبويِّ)، وجلسات الذِّكر، والزَّواج، والموت، والولادة الجديدة، وما يرافقها من احتفالات بالمولود وعملية الختان الخاصة بالمواليد الذكور (R. Al-Muraykhī 2011, in his majlis in Muharraq).

الصور التي تنسجها الثقافة المحلية عن الصوفِيّين متداخلة بعمق في ذاكرة كلِّ شخص حضر مثل هذه المناسبات. على سبيل المثال، فإن تأثير الصوت المهدِّئ للنصوص الدينيَّة الصوفِيّة على الفرد الذي يكافح من أجل التعامل مع رحيلِ فردٍ محبوب من أسرتِهِ، قد يترك تأثيراتٍ دائمة، والذكريات السعيدة للاحتفال بمولود جديد، بمباركة النُّصوص المُقَدَّسَة التي يغنيها شيخ صوفِيّ، تترك انطباعاً دائماً لدى الأفراد الذين يحضرون هذه الطقوس. تشكلت هذه العلاقات الاجتماعية والدينيَّة خلال فترة صناعة صيد اللؤلؤ، وكونت آثاراً تحوَّلت إلى ملامح مميِّزة للهويَّة الصوفِيّة، وبهذا المعنى، كانت العلاقات الاجتماعية والدينيَّة التي نشأت من خلال تِلَاوَة القُرآن الكريم والتراتيل الدينيَّة، ودون أي مرافقة موسيقية، لا تنفصل عن القوة التي رسَّخت الهيمنة الصوفِيّة في المجتمع، وبالتالي، فإن السيطرة على ما يشكل معايير سنيَّة مقبولة دينياً للألحان الدينيَّة، والإعجاب بالموسيقى، سيعني بشكل فعال توسيع الهيمنة الدينيَّة على المجتمع السنِّي الأوسع في شرق شبه الجزيرة العَرَبِيَّة.

بعدَ سنواتِ الطَّفرة النّفطيّة في سبعينيات القرن الماضي، أدخلَ السَلَفِيّون في البَحْرين العديد من التغييرات فيما يتعلق بأسلوب ترديد النُّصوص المُقَدَّسَة، وأعادوا هيكلة الطريقة السَلَفِيّة في تِلَاوَة القُرآن (Abu Ibrahim 2011, in a mosque in Umm Al-Hassam). كان أحد هذه التطورات هو استبدال البيوت التقليدية لتعلُّم القُرآن بشبكة من المؤسسات الدينيَّة السَلَفِيّة. لقد حرر هذا الاستبدال مراكز تعليم القُرآن المعاصرة من مهمة محو الأمية، حيث أن الكيانات الجديدة توجِّه الموارد بشكل عام نحو نشر فنِّ تِلَاوَة القُرآن بدلاً من محاربة الأمية. لقد ضَعُفَ الطلب الاجتماعي على الصوفِيّين لتِلَاوَة النُّصوص الدينيَّة، بسبب القيود السَلَفِيّة على الأسلوب الصوفِيّ في إِنْشَاد الابْتِهَالات والاحتفالات الاجتماعية والدينيَّة، على أساس أن مثل هذه الأعمال تصرف الناس عن المسار الدِّينيّ الصحيح. كما أن مقاربات المبادرات الشخصية، من النوع الذي حاول توظيفه بعض شيوخ الصوفِيّة مقيَّدة أيضاً، لأن التدريس قد تم نقله إلى المنظمات المدنية الدينية، ولم يعد حكراً على الأفراد (Abu Khalid 2011, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama). قد يُنظر إلى هذه التغييرات الجديدة على أنها نتائج للتقدم الطبيعي إلى عصر الحداثة، وهو العصر الذي اختارته المجتمعات الدينيَّة البَحْرينية لإعادة تشكيل طريقة عمل التعلم القُرآني، لكن بدلاً من ذلك، يمكن أن يكون مخطَّطاً سَلَفِيّاً محسوباً، يعكس فهماً عميقاً لخِطَاب ترديد النُّصوص المُقَدَّسَة، وكيف يعمل هذا الخِطَاب كجهاز يؤسس الهيمنة الدينيَّة، وبالتالي، فإنَّ أيّ اختراق اجتماعي يكتب له النجاح إذا تمكن من أن يكون تحدِّياً لألحان الصوفِيّة الدينيَّة، وأماكن التِلَاوَة وموضوعات التِلَاوَة.

ملاحظة: سيتم استكشاف تحديات السَلَفِيّين في الأقسام التالية.

الشَّبكات السَلَفِيّة الجديدة لتعلُّم القُرآن

أدى تحويل القاعدة الاقتصادية في البَحْرين، من صيد اللؤلؤ إلى الصناعات القائمة على النّفط، إلى إحداث تغيير جذري في بيئة التعليم التقليدية المحليَّة، وتطلَّبت الصناعات الجديدة موظفين من خلفيات مختلفة، وأنواع مختلفة من التدريب، إختلاف مما كانت تتطلَّبه الصناعات التقليدية قبل النّفط. نتيجة لذلك، انضم الطلاب الشباب إلى أنظمة التعليم الحكومية الحديثة، حيث يُعتبر تدريس القُرآن مادة ثانوية، وتَخَلَّوا عنِ المدارس الدينيَّة التقليدية في البَحْرين، حيث كان القُرآن مادَّةً رئيسَّية. أدى التحول الاجتماعي الجديد، الذي عمل على توقُّف جهاز التعلم التقليدي، إلى تقليل الطلب الاجتماعي على تعلُّم القُرآن.

وفقاً للسَلَفِيّ أبو خالد، فإن مهمَّة إعادة تدريس التِلَاوَة القُرآنية يقودها السَلَفِيّون البَحْرينيون منذ نهاية السبعينيات (Abu Khalid 2010, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama). كان النجاح السَلَفِيّ في جذب التلاميذ نتيجة جهد طويل وبطيء، ولكنه مستمر (Abu Khalid 2009, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama). على سبيل المثال، كان الشَّيْخ السَلَفِيّ عبد الله حمادة؛ معلم القُرآن في أم الحصم، خلال الثمانينيات (Abu Ibrahim 2011, in Al-Junayd majlis in Umm Al-Hassam). وللتَّعريف فإنَّ أمُّ الحصم هي قرية تقع في جنوب المنامة عاصمة مملكة البحرين بالقرب من الماحوز، وتعتبر من مصايف البحرين قديماً، وهي منطقة سكنية مكونة من المنازل والمباني حديثة الإنشاء، إلى جانب احتوائها على عدد من المتاجر والمطاعم الأجنبية.

أخبرني أبو إبراهيم أنه “خلال تلك الأيام، في الثمانينيات، كان عدد قليل جداً من الطُّلاب يحضرون دروس القُرآن في أم الحصم، والآن تغير الوضع، وازداد عدد الطُّلاب بشكل كبير” (Abu Ibrahim 2011, in Al-Junayd majlis in Umm Al-Hassam).

في الوقت الحاضر، أصبح كل من أبي إبراهيم وأبي راشد، اللذين كانا طلاباً صغاراً في دروس تعليم القُرآن الكريم السَلَفِيّ، جزءاً من الجيل الشاب والمؤثر من السَلَفِيّين في أم الحصم. كانت جمعية التعليم الإِسلامي (MES) واحدة من المجتمعات السنية، التي جعلت تعليم التِلَاوَة القُرآنية مؤسسية، من خلال إنشاء شبكة متقنة من مراكز تعليم القُرآن في جميع أنحاء البَحْرين (Abu Khalid 2011, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama). يعمل كل مركز من مسجد محلي يقع في منطقة مأهولة. المعلمون متطوعون وتبدأ دروسُهم بعد صلاة العصر (Abu Khalid 2011, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama).

طورت المنظمات السَلَفِيّة العديدة، التي تسيطر على مراكز تعليم القُرآن، خِطَاباً دينياً لكسب الدعم المالي للسُّنَّة، ولتشجيع الآباء على تسجيل أبنائهم في أحد هذه المراكز، ويصوِّرُ هذا الخِطَابُ المجتمع الإِسلامي المعاصر على أنه مجتمع تخلى عن قِرَاءَة القُرآن، وفي نداء للمشاعر الدينيَّة لدى جمهوره، نشر الخِطَابُ أيضاً صورةً لهذه المراكز على أنَّها جزء من الجَنَّة التي تحيي الطرق التَّقِيَّة لأسلافهم، الَّذين قرأوا القُرآن الكريم. إن الأعداد المتواضعة من خريجي مراكز التعلم MES في البَحْرين آخذة في الازدياد تدريجياً.

كما ذكرنا سابقاً، هناك العديد من المنظمات السَلَفِيّة، كل منها تتنافس لجذب الطلاب إلى مركز تعليم القُرآن الخاص بها. بالإضافة إلى MES، هناك صندوق الحد الخيري، الذي لديه أيضاً شبكة خاصة به من مراكز تعليم القُرآن

(Abu Khalid 2011, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama). يقع الصندوق الخيري في بلدة الحد، وكان يديره الشَّيْخ السَلَفِيّ فوزي الأثري؛ خريج الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة (Abu Rashid 2011, private interview in Umm Al-Hassam). وثمة منظمة أخرى هي مراكز الفرقان لتعليم القُرآن، التي يقودها النائب الحالي الشَّيْخ السعيدي، وتعمل من مدينة الرّفاع الشرقي (Abu Khalid 2011, private interview in Al-Fātih Qur’an Learning Centre in Manama).

إنَّ وجود العديد من المنظمات السَلَفِيّة التي تقوم بتدريس القُرآن، هو علامة واضحة على الخلاف بين القيادة السَلَفِيّة في البَحْرين، وأكد أبو راشد وجود خلافات بين الشيوخ وراء التنظيمات القُرآنية (2011, private interview in Umm Al-Hassam). قمتُ شخصيّاً بزيارة شيخٍ سَلَفِيٍّ في مسجده في الرفاع الشرقي، وسألته عن سبب عدم انضمامه إلى تنظيم سَلَفِيّ آخر. قال لي: “حاولتُ التعاون مع شيوخ سَلَفِيّين آخرين، لكنني وجدت أنهم غير متعاونين. كان هذا مصحوباً بطريقتهم في اتخاذ القرارات المستقلة، مما جعل أي معنى للتعاون جهداً غير مُجْدٍ. ومع ذلك، فإنهم؛ الأعضاء السَلَفِيّون في المنظمات الأخرى، مدعوون للمساعدة في إدارة حلقات القرآن، إذا رغبوا في ذلك (in his ḥalaqa in a mosque in East Riffa).

ويترتب على ذلك أنَّ تدريس تِلَاوَة القُرآن هو أداة فعَّالة لتبسط السَلَفِيّة سيطرتَها على الفضاء الدِّينيّ، وللسيطرة السَلَفِيّة على مراكز تعليم القُرآن ميزة إضافية، تتمثل في حرمان الصُّوفِيّين من الوصول إلى حالة الاستمرارية بين الأجيال، أي الأطفال الموجودين هناك، والذين يتم تشكيل أفكارهم. علاوة على ذلك، فإن تعليم القُرآن؛ أداة الاشتراك في السَلَفِيّة، هو أيضاً طريق غير مباشر، يتيح ترسيخ واقعهم المتفكك. أصبحت الصورة المتجانسة المتصوَّرة للسَلَفِيّة في سياق إِنْشَاد النُّصوص المُقَدَّسَة واضحة للعيان الآن، على أنها صورة سَلَفِيّة، لذلك، فإنَّ تعلُّم فن تِلَاوَة القُرآن هو تجربة فنيَّة، تنطوي على عملية يعرّف فيها الطالب السَلَفِيّ الشاب نفسه بسَلَفِيّة مُتَخَيَّلَة، بينما يربط نفسه بمجموعة فرعية تدَّعي أنها تمثِّلُ السَلَفِيّة.

لمحاتٌ مِنَ الحَلَقاتِ المعاصرة لتَعَلُّمِ القُرآنِ الكريم

لفهم طريقة عمل مراكز تعليم القُرآن، انضممتُ إلى حلقات قُرآنيَّة صوفِيّة وسَلَفِيّة، وخبراتي موصوفة في القسمين التاليين.

كان الدافع وراء تتبع أماكن تدريس الصوفية للقران، هو تزايد هيمنة السَلَفِيّين والجماعات السلفية المتنافسة التي طغت على الجماعات الصوفِيّة. سعياً لفهم ما تبقى من نشاط الصوفية مع القرآن انضممتُ إلى تعلم القُرآن الكريم في مسجد في المحرق، يشرف عليه الشَّيْخ الجهري، الذي وجَّهني للانضمام إليه في نهاية جلسته التدريسية الأولى، حتى أتمكن من البدء مع المجموعة الثانية من الطلاب.

تألَّف الفصل الأول من حوالي 35 طالباً شاباً، وكان الفصل، الذي أقيم في ساحة مسجد معين في مدينة المحرق، تحت رعاية جمعية التربية الإِسلامية السَلَفِيّة (MES). سألتُ الشَّيْخ الجهري عن سبب قيامه بالتدريس في مركز سَلَفِيّ لتعليم القُرآن، فأخبرني أنَّ الهدف أن يعرِّف الصغارَ ما هو الصوفِيّ (2011, in his ḥalaqa in a Mosque in Muharraq).

بعد أن انتهى مع طلابه السَلَفِيّين، طلب مني أن أتبعه إلى مسجد يديره الصوفِيّون. مَشَينا معاً عبر الأزقة الضيقة والمعقدة في الجزء القديم من المحرق، وكان الغسق والنسيم الخفيف يزعج عباءته العَرَبِيَّة الطويلة؛ البشت، بينما كنتُ أستمع إليه وهو يروي بعض ذكريات طفولته في المنطقة، حيث وَجَدَ عددٌ قليلٌ من الأولاد البَحْرينيين الصغار، الذين يرتدون ملابس رثة، بعض المساحة للعب كرة القدم في الممرات الصغيرة. دخلنا مسجداً صغيراً قديماً، حيث كان خمسة عشر طالباً بالغاً ينتظرون وصوله. استقبلهم الجهري، ثم جلس، وظهره على الحائط القديم، وأحاط به الطلاب. قبل أن تبدأ أي تِلَاوَة، أعطاهم تفسيراً للمقطع القُرآني للنص الذي كان يجب تلاوته، بعد ذلك، قرأ القُرآن، وأمر كل تلميذ أن يقرأ المقطع ذاته بصوت عالٍ.

عند الضرورة كان يقوم بالمقاطعة لتصحيح خطأ صوتي، وفي منتصف الطريق، جاء دور الطالب الذي كان يعاني من مشكلة في الكلام وسأل الشَّيْخُ الشابَّ: أتريد القِرَاءَة يا بني؟ هز الشابُّ رأسَه. أجاب الجهري: لا تقلق يا بني، يوماً ما ستتمكن من ذلك. وفي نهاية الدرس شكر اللهَ على البركة التي منحها لنا جميعاً، من خلال تمكيننا من حضور جلسة التعلم في هذا المكان المبارك.

ثم نظر الشَّيْخ الجهري إلى رجل مسن، وطلب منه أداء بعض ابْتِهَالات الجلّة، فبدأ العجوز يغني قصيدة صوفِيّة في لطف الله واستغفاره. في نهاية ترنيمتين من الشِّعْر الدِّينيّ، دعا جميع المتفرجين في نفس الوقت للصلاة على النبي مُحَمَّد، صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، بصوت عالٍ. عندما اقترب الرجل العجوز من نهاية أدائه، غنى تدريجياً بهدوء أكثر، ولكن قبل أن يتوقف تماماً، انضم صوت عازف منفرد آخر، وهو يغني بصوت أعلى قليلاً لحنَ ترنيمة أخرى، أما المُنْشِد الثاني فكان مؤذن المسجد، وهو شيخ بعمامة على الطراز البَحْريني، أراح جسده الصغير على أحد أعمدة المسجد، وكانت يده اليمنى تلامس خده وأذنه.

مَنَحَني الجمعُ، من خلال تعبيرات الوجوه المؤثرة، الشجاعةَ للإِنْشَاد مع بقية المجموعة؛ البَحْرينيون والآسيويون والعمال ذوو الياقات الزرقاء والياقات البيضاء والصغار والكبار والشيوخ والمتدربون، الذين جلسوا جميعاً في الدائرة (الحلقة) في باحة ذلك المسجد الصغير، حيث يتلو كل شخص نصوصاً مقدسة بصوته الفردي، والتي تعكس الصفات الصوتية للقارئ في الفضاء المقدس للمسجد. لحظات الذكر تدور حول تجربة النُّصوص المُقَدَّسَة من خلال العديد من التفاعلات الحاصلة باستمرار، والتي تتغير مع تغير ألحان الأَنَاشِيد، ومع الاختلافات الطبيعية والعيوب في أصوات الأفراد في الحلقة. يدرك المنشد معنى النُّصوص المُقَدَّسَة التي يسمعها، ويدرك باستمرار أن الآخرين في الحلقة متورطون في تجربة مماثلة. هذه هي النقطة التي بدأ عندها يدرك أنه يتماهى مع جماعة تسمي نفسها مُتَصَوِّفَة.

في هذه الحالة، كانت قصيدة معاذ الدين تصف ألم الوحدة بعد رحيل رفاقه، حيث تلاشت ببطء في الأفق القافلةُ التي كانت تُقِلُّ المسافرين نحو مدينة النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، ولم يبق أحد يمكن أن يشاركه المشاعر، وتطاير الرمل الذي أثارته القافلة في اتجاهه، وتسبب في نزول الدموع من عينيه.

عند هذه النقطة، قاطعَ إمامُ المسجد، الذي كان يحضر درس تِلَاوَة القُرآن، الجهري المنشد، وقال: حان وقت الأذان لصلاة العشاء. طلب الإمام من الشَّيْخ أن يؤم في الصلاة، فأجاب الجهري قائلا: “إني أريدك أن تصلي، لأنِّي أتمنى أن أسمع صوتك”. وكرَّرَ الإمامُ طلبه، لكنَّ الجهري قال: لا تحرمني من سماع صوتك. وبعد سماع الاستئناف الثاني رضخ الإمام لطلب الشَّيْخ.

بعد انتهاء الصلاة اجتمعت المجموعة مرة أخرى في باحة المسجد، حيث جلس الجميع على الأرض حول بساط طعام يُستخدم لمرة واحدة، لأن بعض الطلاب أحضروا الطعام، وتتراوح أعمار الطلاب بين أكثر من عشرين إلى أكثر من سبعين عاماً. كان هناك ثلاثة من جنوب شرق آسيا، وكانوا يعيشون في الحي ويتحدثون العَرَبِيَّة بشكل جيد. الشَّيْخ الجهري، كونه هو نفسه من أهل المنطقة، شرع في تحقيق مكثَّف حول رفاهية الأعضاء في المنطقة، وتحدَّث بشكل جيد، حتى عن أولئك الذين وافتهم المنية، وبصورة ملحوظة للغاية، سأل عن رفاهية النساء، وعن صديقات والدته الراحلة، ثم أنهى الحصة الأسبوعية، وتفرَّق الحشد الممتن، وقال الشَّيْخ الجهيري مودِّعاً: “لا تحرموني من رؤيتكم قريباً”.

في السياق الصوفِيّ، فإن الأداء الصوتي القُرآني هو احتفال اجتماعي أسبوعي لِلَمِّ الشَّمل، يتمحور حول مفهوم البركة؛ بركة المكان، وبركة رؤية الصحابة المحبوبين. من السِّمات الجوهرية لحفل النطق القُرآني للصوفِيّين، ترديد الكلمات الدينيَّة التي تمدح الله جلَّ جلالهُ والنبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، والصحبة الحسنة. (سيتم مناقشة المزيد من التفاصيل حول هذا العنصر لاحقاً في هذا الفصل). في هذا المنعطف، يمارس الطلاب الإِنْشَاد الجماعي بترديد الابْتِهَالات التي تعكس الروح الصوفِيّة.

أثَّر أسلوب الحياة الاجتماعي والدِّينيّ المفرط للشيخ الجهري في نهاية المطاف على قدرته على العمل، وفي عام 2003 خلص إلى أنه لم يعد بإمكانه مواصلة درس تِلَاوَة القُرآن في مسجد يسيطر عليه الصوفِيّون، في ظل عدم وجود منظمة مضافة أخرى أو شيخ صوفِيّ آخر لدعم مسعاه، كان يجب أن ينتهي المشروع بأكمله، وبعد عشر سنوات من الانقطاع، استأنفت جمعية الإمام مالك إشراف الصوفِيّة على مركز تعليم القُرآن في عام 2013، ووفقاً للشيخ القاضي المرِّيخيّ، فإن الجمعية لها فرع واحد، ويشارك فيه ما معدله خمسة عشر تلميذاً (2014, in his majlis in Muharraq). تتبع مراكز تعليم القُرآن الحالية التي يشرف عليها الصوفِيّون نموذج MES في التدريس.

حلقات القُرآن السَلَفِيّ

الحلقات السَلَفِيّة التي انضممتُ إليها تعمل من مسجد سَلَفِيّ في مدينة الرفاع الشرقي. مُدَرِّسُ التِلَاوَة هو الشَّيْخ يوسف زينل، وهو شخص ودود للغاية، ومعلم تِلَاوَة معروف، نصحني به أصدقائي السَلَفِيّون في أم الحصم. كنت أنا ورجل صومالي العضوين الوحيدين في المجموعة الذين تجاوزا الثلاثين من العمر؛ الخمسة الآخرون كانوا شباناً بحرينيين في أوائل العشرينات من العمر. بدأ الشَّيْخ زينل بقِرَاءَة القُرآن بصوت لحنيٍّ جميل ونغمة مؤثرة، فأثار لحنه مشاعر معينة بداخلي، إلى درجة أنها يمكن أن تجعلني أبكي، وغالباً ما كنت أجد صعوبةً في التركيز على أسلوب الهتاف، بسبب التأثير الاستثنائي الذي أحدثه صوته في نفسي، كما تأثر الصوماليون بالمثل. حصل الشَّيْخ زينل على إجازته من عالم التجويد السَلَفِيّ الشهير الشَّيْخ مُحَمَّد سعيد الأفغاني، وهو مقيم سابق في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة. لقد أخبرنا الشَّيْخ زينل كثيراً أن هناك اثنين وثلاثين “مُرْسَلاً” بينه وبين النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، وهو أول إنسان يتكلم بكلمات القُرآن، وادَّعى بالفعل أنَّنا إذا كسبنا الإجازة، فكلُّ أحد منا “يمكن أن يكون الناقل الثالث والثلاثين للقُرآن” (2010, in his ḥalaqa in a mosque in East Rifa). علاوة على ذلك، أخبرنا أن من تخرَّج في الحلقة يمكن أن يتم اختباره شفهياً على يد الشَّيْخ سعيد الأفغاني ويحصل بعدها على إجازته.

وذات يوم، في نهاية الدرس، مدَّ الشَّيْخ زينل يده إلى جيبه، وأعطاني شيئاً ملفوفاً قائلاً: “هذه هدية لك”. وابتسمتُ بهدوء، ثمَّ أجبت: “لماذا تهديني هدية؟” فأجاب: “إنني أُطَبِّقُ حديث الرسول صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم؛ (تَهَادَوْا تَحَابُّوا)”. بعد أن قبلتُ الهدية قال لي: “لديك موهبة صوتية خاصة، هل ترغب في الحصول على دروس إضافية في حلقتي؟” قبلتُ عرضَه. في غرفة الزوَّار الصغيرة؛ المجلس في شقَّته، جلسنا على سجادة ممدودة على الأرض. لقد تمكَّنتُ من حضور هذا الفصل لعدة أسابيع، وخلال هذه الفترة علَّمني بصبرٍ أساسيات تِلَاوَة القُرآن الكريم.

تقدَّمتِ الرِّحلةُ الجمالية للطَّالبِ السَلَفِيّ في تعلُّم فنِّ تِلَاوَة القُرآن، نتيجة جهود المؤسسات السَلَفِيّة، والنتيجة المباشرة لهذا التقدُّم هي أنَّ الطريقة الوحيدة للحصول على الترخيص الدِّينيّ لقِرَاءَة القُرآن الكريم؛ الإجازة، هي من خلال سلطة الشَّيْخ السَلَفِيّ، كما يتلقى الطلاب الذين يحصلون على إجازاتهم الرَّسمية كتابة اسم “الرُّواةِ” الَّذين نقلوا معرفة القُرآن تِلَاوَةً من جيل إلى جيل، ويرتبط اسم الطالب في هذه اللحظة بسلسلة الرُّواة، ويوجد رابط مقدس بين التلميذ والنبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم؛ أوَّلِ مَنْ نَطَقَ بكلمات القُرآن الكريم، والنَّتيجة الفعلية هي أنَّ قُرَّاء القُرآن عبر الأجيال يعيشون من خلال الجهود السَلَفِيّة.

علاوةً على ذلك، على الرَّغم مِنْ أجنداتهم المتطلِّبة، فإن مُعَلِّمي القُرآن على استعداد لإعطاء دروس خاصة لأولئك الذين يُعتبرون من ذوي الإمكانات الصَّوتية. في تلكَ الدُّروس، تتطوَّر علاقةُ الشَّيْخ بالطالب، لتتجاوز علاقة رئيس بمرؤوسه، مما يؤدي إلى أن يزداد ميل الطالب إلى استيعاب فلسفة شيخه، أي السَلَفِيّة، ويكشف هذا أن السَلَفِيّين ينظِّمون نوعين مختلفين من مراكز تعليم القُرآن؛ واحدٍ يعمل على مستوى علاقة واحد بأطراف متعددة، والآخر يسمح بتعزيز علاقة فرد بفرد، وأولئك الذين يُعتبرون من أصحاب المستقبل الواعد يتم ترقيتهم إلى مستويات تدريس فرديَّة.

طلب مني الشَّيْخ الصوفِيّ الجهيري أن أرافقه إلى حفل تخرُّج تِلَاوَة القُرآن لابنه في 2011، فقبلتُ دعوته، وتوجَّهتُ إلى منزله، وذهبتُ معه في سيارته إلى مسجد الفاتح الكبير في مدينة المنامة. أثناء قيادتنا للسيارة، أخبرني أن ابنه كان طالباً في مركز تعليم القُرآن الخاص به، والذي يعمل من مسجد في المحرق. كان المركز واحداً من اثنين وعشرين مركزاً تديرها جمعية التربية الإِسلامية السَّلَفِيّة. وأضاف: “لا مانع من العمل مع السَّلَفِيّين من أجل القضية النبيلة، لتعليم الصِّغار فَنِّ تِلَاوَة القُرآن”.

تم تقسيم مئات التلاميذ الذكور في جامع الفاتح الكبير حسب المركز الذي ينتمون إليه، وكان لكل مجموعة لافتة كبيرة عليها اسم مركز التدريب الخاص بهم، وعادة ما يكون اسم أحد الصَّحابة الكرام مثل؛ ابي بكرٍ الصِّديق أو عمرَ الفاروق أو عثمان بن عفان. بدأ الحفل، الذي أُقيم تحت رعاية وزير العدل والشؤون الإِسلامية البَحْريني، بتِلَاوَة القُرآن من قِبَلِ أحد الطُّلاب، ثمَّ ألقى الشَّيْخُ أحمدُ، الَّذي كان والده السَلَفِيّ الشَّيْخ عبد العزيز بن باز، أعلى سلطة دينيَّة في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، خطبته الخاصة بإنجازات والده، وبعد ذلك ألقى عالمٌ سَلَفِيّ سعودي آخر كلمةً أثنى على الشَّيْخِ الراحل، وبعد طول انتظار، تمَّ استدعاء كلِّ طالب بالاسم لاستلام شهادته من الوزير، وعلَّق الشَّيْخ الصوفِيّ الجهري على ذلك بقوله: “من الواضح أنَّهم (السَلَفِيّون) يعتبرون مدح محبوبهم فضيلة الشَّيْخ ابن باز عملاً مشروعاً. عندما نمدح نبيَّ الإِسلام العظيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم في المولد، فإنه يُعتبر بدعةً عندهم” (2011, in Al-Fātih mosque in Manama). أثناء عودتي إلى المنزل، فكَّرتُ في ملاحظة الجهري، متسائلاً عمَّا إذا كان الشباب الذين شهدوا الخُطَب المبجِّلة للشيخ السَلَفِيّ الحديث، يوافقون فعلاً على رأي الشَّيْخ الجهري.

وقد عرضَ حفلَ التَّخرُّج قُرَّاءُ القُرآن الشَّباب أمامَ الوزير والنخبة الاجتماعية في البَحْرين والمملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة. إنَّ الإنجاز الجمالي للقارئ الشاب هو رمز للقوة، ومن الإنجازات، بالإضافة إلى الجماعات السَلَفِيّة المحليَّة التي قد يتعاطف معها الطالب، فإنَّه يتعلَّم أيضاً الارتباط بالمملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، معقلِ السَلَفِيّة. ما أعنيه هو أنه يمكن للأطفال الآن التعرُّف على من يقرؤون القُرآن على الطراز السُّعُودِيّ السَلَفِيّ الذي يعرفونه.

على سبيل المثال، في كلِّ يوم تبثُّ المحطاتُ التلفزيونية المحليَّة وقناة MBC، الصَّلاة اليوميَّة مِنَ المسجد الحرام في مكة المكرمة، وتتيح التغطية للمؤمنين مشاهدة لقطات من المكان المقدس، وسماع الأداء الصوتي للنصِّ المقدس.

ما يمكن للخريجين الشباب اكتشافه هنا، هو أنَّ الإمام السُّعُودِيّ النَّجدي السَلَفِيّ الذي يقود الصلاة في المسجد الإِسلامي الأكثر قدسيَّةً في مكة المكرَّمة، يتلو القُرآن بالطريقة ذاتها التي يتلوها بها.

إنَّ حداثة الإجازة، التي هي على شكل شهادة يوزِّعها وزير الشؤون الإِسلامية في حفل رسمي، ويحضره نجل المغفور له الشَّيْخ ابن باز، هي ذكرى لا تُنسى لقارئ شاب، ويمكن النظر إلى إنشاء مراكز تعليم القُرآن في فترة ما بعد اللؤلؤ على أنَّه مجرد محاولة لإعادة دمج الطَّلب المتضائل على تِلَاوَة القُرآن الكريم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ التغيير الهيكلي الواسع والمعقَّد للسَلَفِيّين، في كيفية عمل التعلُّم القُرآني في البَحْرين، يمكن اعتباره أيضاً محاولة جادَّة لتغيير أساليب العمل الصوفِيّة، وبعبارة أخرى؛ لاقتلاع سيطرتهم على مراكز تعليم القُرآن، والمجموعات والشبكات الاجتماعية التي ترافقها.

يُعتبرُ شهرُ رمضانَ المبارك شهرَ القُرآنِ بامتيازٍ، وهو أكثر الشهور التي يحتفل بها المسلمون دينياً، ومن بين الممارسات الدينيَّة الخاصة العديدة، التي يقوم بها المؤمنون خلال هذا الوقت، صلاة التَّراويح، التي تتمُّ في اللَّيل بعد صلاة العشاء اليومية. لعدة سنوات، قامت العديد من القنوات التلفزيونية ببثِّ تغطيةٍ حيَّةٍ لصلاةِ التَّراويح اليومية في الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة خلال شهر رمضان، والقُرَّاءات القُرآنية للشيوخ، وهم جميعاً سَلَفِيّون نجديون سعوديون، ويظهر في اللَّقطات المؤمنون وهم يُصَلُّون ويُظهِرون على وجوههم تعبيراتٍ فيها قَدْراً كبيراً مِنَ التقوى، والبعض تنهمر الدموع على خدودهم، والبعض الآخر يرفعون أياديهم بتواضع وفرح، وهم يُكَرِّرون صلاةَ الإِمام، كما تنقل كاميرات التليفزيون مشاهد من حشد كبير من المؤمنين الذين يطوِّقون الكعبة، قبلَ تجميد الصورة على الكعبة، التي تعتبر المحورَ الرَّمزيَّ للعقيدة الإِسلامية، بينما تتغيَّر المشاهدُ المُقَدَّسَة باستمرار أثناء التَّغطية الحيَّة، تظلُّ التِلَاوَةُ الصَّوتية للقُرآن العنصرَ الثَّابت في البثِّ، وبهذه الطَّريقة، أصبح أسلوبُ التِلَاوَة السُّعُودِيّ في نطق القُرآن الكريمِ متشابكاً على مر السنين مع المكان؛ مكة المركمة، والزمان؛ شهر رمضان المبارك.

في أم الحصم، شهر رمضان المبارك هو وقتٌ لصقل التَّقوى الشخصية، حيث يحضر العديد من المسلمين المتديِّنين صلاةَ التَّراويح، وفي عام 2004، عندما قاد الشَّيْخ السَلَفِيّ السُّعُودِيّ صالح النُّويجم؛ الرئيس السابق لمركز الإرشاد الإِسلامي السُّعُودِيّ في البَحْرين، صلاة التَّراويح خلال شهر رمضان، كان على الحشود الفائضة الصلاة خارج المسجد الرئيسي؛ مسجد الملك خالد. خلال العديد من الأحاديث الطويلة التي أجريتُها معه، كرر الشَّيْخ النُّويجم أنه، بسبب جودة الصوت الطبيعي الذي بدا وكأنه صوت إمام المسجد الحرام في مكة؛ المرحوم الشَّيْخ عبد الله الخليفي، وحدَّثني عن حدث في الرياض قائلاً: “ذات مرة، عندما كنت أقوم بإمامة الصلاة في أحد مساجد العاصمة الرياض، كان هناك شخص يقود سيارته بجوار المسجد. سمع هذا الرجل صوتي عبر مكبرات الصوت، وظن أنني الشَّيْخ عبد الله الخليفي، ولهذا قرر أن يصلي معنا. بعد انتهاء الصلاة جاء لإلقاء التحية، وأخبرني عن قصته. قلت له إنني أقرأ القُرآن على هذا النحو لأنه صفة طبيعية لصوتي، ولا أقوم بتقليد الخليفي” (2000, in his ḥalaqa in a mosque in Umm Al-Hassam).

وتابع ليخبرني أنه يمكنه أيضاً تقليد الشَّيْخ السُّديس؛ الإمام الحالي للحرم المكي في مكة، بالإضافة إلى أربعة قُرَّاء آخرين بطريقة التلاوة السُّعُودِيّة. عندما سألته ما إذا كان أسلوبه يمثل أسلوباً سعودياً نموذجياً للقِرَاءَة، أجابني بذلك. سألته: إذاً ما هو النمط السُّعُودِيّ؟ قال: اسمع تِلَاوَة فضيلة الشَّيْخ الشريم مثلاً، ستجد أنه يقرأ بنغمة واحدة، دون أي استخدام سطحي للألحان المعقدة”. عندما سألته عن هذه “الألحان المعقدة”، قال لي: “إن أساليب التِلَاوَة في البلدان العَرَبِيَّة الأخرى معقَّدة لأنها توظِّف عدداً من الألحان في تقنياتها أثناء الإلقاء، وهي ليست كالأسلوب السُّعُودِيّ”. إنَّ تمسُّك الشَّيْخ النويجم الرَّاسخ بأسلوب التِلَاوَة بنبرة واحدة، أو ما يصفه بـ “الأسلوب السُّعُودِيّ”، قد مكَّنه بوعي ودون وعي من إعادة إنتاج صوت كلٍّ مِنَ الإمام الرَّاحل والإمام الحالي للمسجد الحرام في مكة المكرمة.

ولمدة أشهر توقف الشَّيْخ السُّعُودِيّ النويجم عن ارتياد مسجد الملك خالد، بسبب خلاف وقع بينه وبين بعض السَلَفِيّين في أم الحصم، وأدى رحيلُه إلى انخفاض كبير في حضور صلاة الجمعة، ومع ذلك، عندما ظهر مرة أخرى في عام 2000 لإمامة صلاة التَّراويح في رمضان، أكَّدتْ عودتُه أنَّه لم يكن مستهلِكاً للقوة، كما تم التَّحقق من سمعته باعتباره جاذباً للحشود، من خلال نجاح صلاة رمضان الليلية في مسجد الملك خالد.

منذ عام 2001، عَيَّنَ الشَّيْخُ النويجم إمامين من الرياض، يأتيان إلى أم الحصم في كل شهر رمضان، بشكل أساسيٍّ لإمامة صلاة التَّراويح في مسجد الملك خالد، ونجحت هذه الخطوة في الحفاظ على مستويات الحشد الكبير في مسجد الملك خالد.

يضيف القُرَّاء السُّعُودِيّون، الذين يمكنهم إعادة إنتاج أصوات أئمة المسجد الحرام في مكة، لمسةً روحانيَّةً إضافيَّة للمسلمين المتديِّنين في الجماعة، ويستحضر الأسلوب السُّعُودِيّ في النطق بالقُرآن في أذهان المصلين صُوَرَ المقدَّسات، ومكة، والكعبة، والمتضرعين المخلصين بدموع الإخلاص وأياديهم المرفوعة بتواضع. ليس العرض الجمالي في صلاة التراويح في مسجد الملك خالد مجرد صلاة، بل هو طريقة للسَّماح لكلِّ فرد بزيارة المكان المقدَّس، ليختبر بشكل شخصيٍّ القوَّة الرُّوحيَّة للصَّلاة، وبذلك، يُسمح لكلِّ شخص بإعادة تعريف الذَّاتِ، في سياقٍ جماليٍّ، في كلِّ مرَّة يؤدي فيها الصلاة في المسجد، وخلال العملية الجمالية، يتعرَّف المؤمن على هؤلاء الأفراد الذين يمرُّون بالتجربة ذاتها، ويبدأ في تطوير هويته مع مجتمعه، وعلى هذا النحو، فإنه إلى حد ما يعود إلى التوجُّه السَلَفِيّ للإِسلام.

نموذج الأناشيد الشِّعْرية الدينيَّة العَرَبِيَّة

يركِّزُ هذا القسمُ على مجموعةِ الأناشيدِ التَعَبُّديةِ العَرَبِيَّة النّموذجيَّة، لمعرفةِ أساليبِ استخدامِ هذهِ الأناشيدِ/التَّراتيلِ كَنصوصٍ تساعدُ على تشكيلِ الهويَّة الدينيَّة في السِّياق الاجتماعيِّ والدِّينيّ والثَّقافيِّ لِكِلا الاتِّجاهَينِ؛ الصوفِيّ وَالسَلَفِيّ في البَحْرين. يمكنُ مُلاحظةُ إِنْشادِ الشِّعْر التَعَبُّدي العربيِّ في جميعِ أنحاءِ المجتمعِ الصوفِيّ في البَحْرين، معَ التِزامِ اللُّغَة العَرَبِيَّة الفَصيحةِ كلغةٍ رسميَّة للأَناشيد. تُعتَبرُ قصيدةُ (البُرْدَة) الشَّهيرة للبوصيريِّ، الَّذي عاش بين (608 هـ / 1212 هـ – 695 هـ / 1296 م)، مِنْ أَشهَرِ نماذِجِ الشِّعْر التَعَبُّدي العربيّ. هذه القصيدةُ تمدحُ الرَّسولَ مُحَمَّداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وَيترنَّمُ بِها الصوفِيّونَ في البَحْرين. على سبيلِ المِثال، الشَّيْخ راشِد المرِّيخيّ الَّذي أَحَبَّ قصيدةَ البُرْدَة، وخصَّص لها أُمسياتِ الأَربعاءِ لإِقامةِ احتفالٍ أسبوعِيٍّ مفتوحٍ للجُّمهور، حيثُ يحتَفي بالقصيدةِ ويترنَّم بها. تُقامُ هذه اللِّقاءاتُ والتَّجمُّعاتُ في مسجدٍ قريبٍ مِنْ منزله، ويبلغُ متوسِّط عددِ ​​الحاضرين حوالي خمسةَ عشرَ شخصاً مِنْ مختلف الأعمار في كلِّ أسبوع. والبُرْدَةُ هي قصيدةٌ طويلةٌ تتكوَّن من حوالي مئةٍ وخمسةٍ وستِّين بيتاً مِنَ الشِّعْر الموزونِ على البَحْرِ البَسيطِ، مع اختلافٍ بينَ الدَّارسين في عدد الأبيات، وهي مقسَّمةٌ إلى عشرةِ مقاطِع لِتمكِّنَ القارئَ مِنْ أَخْذِ استراحةٍ قصيرةٍ في نهايةِ كلِّ مقطعٍ، وهذه المقاطع هي بالتَّرتيب:

المقطع الأوَّل: في الغزل وشكوى الغرام.

المقطع الثَّاني: في التَّحذير مِنْ هوى النَّفس.

المقطع الثَّالث: في مَدْحِ سيِّد المُرسلين.

المقطع الرَّابع: في ذِكْرِ مولدِهِ والأحداثِ المُرافقة.

المقطع الخامس:  في معجزاته.

المقطع السَّادس: في شَرَفِ القُرآن وَمَدْحِه.

المقطع السَّابع: في رحلةِ الإسراءِ والمِعراج.

المقطع الثَّامن: في جِهاد النبيِّ.

المقطع التَّاسع: في التَّوسُّلِ بالنبيِّ.

المقطع العاشر: في المُناجاةِ وعَرْضِ الحَاجات.

في بداية الاحتفال يتمُّ إِعارَةُ كلِّ شخصٍ حاضرٍ كُتَيِّباً يحتوي على نصِّ قصيدة البُرْدَة، ويتمُّ أخذُهُ في نهاية جلسةِ الابْتِهَالات، مع مَنْحِ الحاضرين خيارَ الاستماعِ الصَّامِتِ أوِ الانضمامِ إلى الجَوقَةِ والمشاركةِ في النَّشيد. بعد ذلك يطلبُ الشَّيْخ راشد مِنْ كِبار المنشدين مِن طلَّابه الجلوسَ بالقرب منه، ويشير إلى أحدِهم ليبدأ في التَّرنُّم بالقصيدة، دون مرافقة آلات موسيقيَّة. يبدأ المنشد الأوَّل بالتَّرنُّم الفرديِّ بالأبياتِ الأولى من القصيدة، ثمَّ ينتقل الأداءُ منَ الإنشاد الفرديِّ إلى الإنشاد الجماعيِّ، حيثُ يكرِّرُ الجميع الأبياتَ ذاتَها بالنَّمطِ الإيقاعيِّ ذاتِهِ. يستمرُّ المُنشدُ الرئيسيُّ في التَّرنُّم بالأبيات الشِّعْريَّةِ التَّالِيَةِ، ويستجيب الحاضرون بتكرار هذه الأبياتِ الجديدة حتَّى نهاية القصيدة. يقتصر الدَّور الصَّوتيُّ للمنشدِ الرَّئيسيِّ على مسألتين مُحدَّدتين؛ الأولى هي مسألةٌ تتعلَّق بالنُّطق السَّليم للكلمات العَرَبِيَّة الفصيحة، والمسألة الثَّانية تتعلَّق بالنَّاحية الموسيقيَّة، حيث يساعد أسلوبُ المنشد في الأداءِ السَّليمِ الجمهورَ على ممارسة أسلوبِ الإِنشاد الجيِّد. وبما أنَّ البُرْدَة مقسمةٌ إلى عشرةِ مقاطع مختلفة في موضوعاتِها، فإنَّ هذا يتيحُ للمنشدِ الرَّئيسيِّ أنْ يترنَّم بكلٍّ مِنها بألحانٍ أو مقاماتٍ موسيقيَّة مختلفة. يسمِّي الشَّيْخ راشد كلَّ مَقامٍ منهاأُنْشُودَة تامَّةَ الأركان، وبهذه الطَّريقة يشهدُ الجمهور تنويعاتٍ كبيرةً وثريَّةً في الأنماطِ الموسيقيَّة الإِسلاميَّة. تحتوي الموسيقى العَرَبِيَّة على عددٍ كبيرٍ غَيْرِ مُتَّفَقٍ عليه مِنَ المَقامات الموسيقيَّة، فالبعضُ يقول إِنَّ مَقاماتِ المُوسيقى العَرَبِيَّة تصلُ حتَّى 360 مَقام، في حين يحصرُها البعضُ بنحو مِئَتَي مَقام، ما بين مقامات أساسيَّةٍ وفرعيَّة. ويرجع كلُّ مَقامٍ من المقامات المعروفة إلى أصوله الَّتي تكونُ إما شرقيَّة عربيَّة أو تُركيَّة أو فارسيَّة أو أندَلسيَّة، والكثيرُ منها معروفٌ لدى المُنشدين الصوفِيّين، والمَقاماتُ الأساسيَّة في الموسيقى العَرَبِيَّة هي مقامات الصَّبا والنَّهاوند والعجم والبيات والسِّيكاه والحجاز والرَّست والكُرد ونوا أثر، وهناكَ الكثير من المقامات الفرعيَّة التي تنبثق من هذه المقامات الأساسيَّة. بعضُ هذه المقامات نُسِبَتْ إلى مناطق جغرافيَّةٍ، كمَقام الحِجاز الَّذي سُمِّيَ نسبةً إلى منطقةِ غربِ شبهِ الجزيرة العَرَبِيَّة، ومَقام العراق نسبةً إلى العراق. بينما تَمَّتْ تسميةُ أحدِ المقامات نسبةً إلى مجموعةٍ عِرْقِيَّةٍ، وهو مقامُ الكُردِ نسبةً إلى الأَكرادِ، وهناكَ مَقامٌ آخر يحمل لقباً فارسيّاً هو مقام جَهاركاه، وهو جزءٌ من مَقامِ العَجَمِ الأساسيِّ. مِنْ جهةٍ أُخرى، يُنشد الشَّيْخ راشد المرِّيخيّ وطلابُهُ لحناً تعلَّموهُ مِن مدينة تَريم اليمنية.

وهكذا، يشهدُ الحاضرون في حفلاتِ البُرْدَة الأسبوعيَّة العديدَ منَ الأمور الهامَّة المتعلِّقة بالتَّاريخ والدِّين واللُّغَة والموسيقى، فقصيدةُ البُرْدَة كُتِبَتْ باللُّغَة العَرَبِيَّة الفُصحى في القَرنِ السَّابِعِ الهجريِّ الموافقُ للقرنِ الحادي عشر الميلاديّ. إنَّ تكرار القصيدة ذاتِها أسبوعيّاً يُطلع المستمعين على أسلوبٍ شِعريٍّ ينتمي إلى القرونِ الماضية، عندَما كانتِ اللُّغَة العَرَبِيَّة الفُصحى في مستوىً عالٍ منَ البلاغةِ قياساً على اللُّغَة العَرَبِيَّة الفُصحى الَّتي نعرفُها في هذا العصر، لذلك يستطيعُ المشاركونَ في حفلات قصيدة البُرْدَة أن يتعلَّموا صياغةَ اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصيحةِ ذاتِ البلاغةِ العالية، والَّتي يُمكنُ أنْ تحسِّنَ القدراتِ اللُّغويَّةَ العَرَبِيَّة المنطوقةَ بين الصوفِيّين.

يُعَدُّ التَّعرُّض للمقامات ميزةً فريدةً أخرى، توفِّرُها الحلقات الصوفِيّة لجمهورها، حيث يتم إدراك الإحساس بالهويَّة الجماعيَّة صوتيّاً من قِبَلِ أفراد الجوقة الَّذين يؤدُّون في انسجام، على النَّغَمات ذاتِها، وفي المجال نفسه الذي يحدِّده المنشدون الفرديون. ومع ذلك، فإنَّ الاختلافات في القدرات الصوتية البشرية تنتج تغايراً غير مقصود، مما يعطي مجالاً للهويَّات الصوتية الفردية لتبرز من بين الجماهير. إنَّ اكتساب بعض المعرفة الرَّسمية بمختلف الأعمال الموسيقية يُمكِّن المُؤَدِّي من التَّعرُّفِ على الأنماط والتراكيب المختلفة التي نشأت في المناطق الجغرافية الإِسلامية، ولدى الأعراق الأخرى. وهكذا فإنَّ المقامات هي بيئة موسيقية يعيد فيها الصوفِيّ، في عصر ما بعد الدولة القومية، التعرُّف على أسماء المناطق الجغرافية الإِسلامية قبل فترة الدولة القومية؛ الفترة التي كانت فيها الأمة بالمعنى العرقيِّ والثَّقافي، ويتم تذكر وجهات النظر الفنية والإبداع للشعوب الإِسلامية المنتشرة في آفاق شاسعة من الأراضي في تأليف وإِنْشَاد الموسيقى. كما أن اختلاط الثقافات، والتَّعرض لمقامات الحِجازِيّ والعراقي والكردي والحضرمي داخل مسجد، تُغنَّى فيه البُردةُ، ويُتلى فيه الدعاء لنبيِّ الإِسلام صلى الله عليه وسلم، يوحي أيضاً بأن المسلمين من مناطق جغرافية أخرى ومن خلفيات متعددة الأعراق يدعمون تِلَاوَة شعر البُردة؛ أي الشِّعْر التَعَبُّدي.

يتم تِلَاوَة عدد كبير من الأناشيد العَرَبِيَّة الصوفِيّة الرَّسمية في البَحْرين إلى جانب البُردة، وفي كلِّ ليلةِ خميس، يُقام احتفال بالمولد بعد عشاء جماعي.

ليلة الخميس هي أيضاً ليلة يمكن فيها للصوفِيّين الاستماع إلى تلاوات قصائد تَعَبُّدية كتبها شعراء مختلفون، حيث يتم إقامة العديد من الاحتفالات الصوفِيّة في هذه الليلة. الشيخ طالب، وهو أحد تلاميذ الشَّيْخ الصوفِيّ الكبير الحِجازِيّ، يستضيف مثل هذه اللقاءات، وكذلك الشَّيْخ راشد المرِّيخيّ ونجله القاضي إبراهيم المرِّيخيّ، بالإضافة إلى أحد تلاميذ الشيخ الحِجازِيّ (ت 2003)، يقيم مولداً أيضاً. إن تعدُّد جلسات المولد من قبل الطلاب المريدين للمعلم ذاته؛ الشَّيْخ الحِجازِيّ، يعكس التنافس بين المريدين على خلافة سيِّدهم. بعبارة أخرى، يمكن النظر إلى جلسات ترديد النُّصوص المُقَدَّسَة على أنها مَجَالِس تنتج صوفِيّات “التعددية الصوفِيّة”.

وفيما يتعلق بأداء الأناشيد الدينيَّة، فمن الجدير بالذكر أن هناك فَرقاً بين أسلوب أداء البُردة؛ جوهرة الابْتِهَالات الصوفِيّة، وبقية القصائد العَرَبِيَّة الرَّسمية. في أداء أي قصيدة دينيَّة، ما عدا البُردة، يصبح أوَّل بيتين لازمةً، وهما الجزء الوحيد الذي تغنيه الجوقات، بالإضافة إلى ذلك، حين يحدِّد القارئُ المقاماتِ التي يجب أن يؤديها، فسيكون قد اختار المقام الذي يُغَنَّى في نهاية الترنيمة. في حالة البُردة خاصَّةً، فإن المنشدين المجتمِعيين يرددون كلَّ سطر، متَّبعين القائد، وكما أشرنا سابقاً، يتم إِنْشَاد كل مقطع من المقاطع العشرة باستخدام مقام مختلف، ومع ذلك، فقد استخدم السَلَفِيّون السابقون والمعاصرون البُردة لنقل القيم المغايرة للصوفِيّة، حيث يتم استخدامها كمثال على كيفية تَعارض الأفكار الدينيَّة للقصيدة مع المعتقدات الإِسلامية السَلَفِيّة، على سبيل المثال، في كتاب (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، للشَّيْخ سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب (ت 1233 هـ)، نجد فحصاً نقدياً للخطوط التي حدَّدها لنشر العقيدة والممارسات الشاذة، مع النسخة المتضاربة من العقيدة الإِسلامية (Ibn ‘Abdullah, 1962: 179-199). يشير الشَّيْخ سليمان للأبيات التالية من قصيدة البوصيري:

“يا أكرمَ الخَلْقِ مالي مَن ألوذُ به      سواكَ عندَ حدوثِ الحادثِ العَممِ
إن لم تكنْ آخذاً يوم المَعادِ يدي            عفواً، وإلا فقل يا زَلَّةَ القَدَمِ
فإنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيا وَضَرَّتها           ومن عُلومِكَ علمُ اللَّوحِ والقَلَمِ”.

يشير الشَّيْخ سليمان إلى الرسائل الخاطئة التالية المتشابكة:

البوصيري، يبدو أنه يقول أنه ليس له ملجأ إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم (Al-Busiri 1987: 146-147; Ibn ‘Abdullah 1962: 187).

الشاعر قد رجع عن المأوى الوحيد لكل إنسان وهو الله تعالى.

في القصيدة، أسلوب الدعاء المتواضع الذي يقدم صورة الحاجة وطالبها الذليل أمام النبيِّ صل الله عليه وسلم، وهذا مسموح به عند الله فقط (Ibn ‘Abduallah 1962: 187).

كما كتب الشَّيْخ السَلَفِيّ عبد الله بن عبد الرحمن البابطين نقداً جدليّاً آخر للبُردة، ووفقاً للشيخ البابطين، فإن بعض الأسطر جعلت رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم مكان الله تعالى (Aba Butain, 1412A.H.: v.2, 237). على سبيل المثال، أبيات البوصيري: ” إن لم تكنْ آخذاً يوم المَعادِ يدي … عفواً، وإلا فقل يا زَلَّةَ القَدَمِ”، دفعت أبا بطين إلى القول: “يدَّعي بعض المتعصبين أن الهدف المقصود، عند قِرَاءَة هذه الأبيات، هو كسب شفاعة الرسول”. وفي رأيه، لا ينبغي للمسلم أن يطلب من أي إنسان، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، أي شيء لا يفعله إلا الله.

ومع ذلك، هناك صيغة مناسبة للكلمات يمكن للمسلم أن يستخدمها إذا أراد أن يسأل الله تعالى شيئاً بشفاعة إنسان آخر، فالطريقة الصحيحة، في نظره، هي أن تسأل الفرد: (يا فلان، ادعُ اللهَ أن يوفقني…) (Aba Butain, 1412A.H.: v.2, 235-240). على هذا النحو، فإن الوسيط البشري ليس غاية بل وسيلة.

ظلت البُردة للبوصيري عملاً أدبياً يعبّر السَلَفِيّون من خلاله عن إدانتهم المتكررة لما يعتبرونه تديّناً صوفِيّاً غير مقبول. مثال على هذا النوع من الهجوم هو مقال سليمان الفريجي (2001: 163-174)، حيث تواصل المواقع السَلَفِيّة، أيضاً، إظهار وجهات نظر معادية لبردة البوصيري، لذلك، من خلال تشويه سمعة البردة، يهز السَلَفِيّون في البَحْرين أسس ترنيمة الصوفِيّة التقليدية.

في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن الصوفِيّين يتلقون أيضاً تطمينات من حضور التِّلَاوَة الأسبوعية للبُردة، فعلى سبيل المثال، في الاجتماعات الصوفِيّة الأسبوعية، قاموا بتجميع الإجابات المتعلقة باستخفاف السَلَفِيّين اللاهوتي واللغوي فيما يتعلق بالبُردة. في هذا التجمع، يكرِّر الصوفِيّون دفاعَهم المنطقي مِنْ خلال تصوير السَلَفِيّين على أنهم غير قادرين على الوصول إلى المعنى الباطني لقصيدة البُردة.

الأجهزة الحديثة والنُّصوص المُقَدَّسَة

خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت القدرة على تحمل تكاليف مشغلات الكاسيت السمعي، وتوافر تقنية تسجيل الصوت الجماعي، وغياب قانون حقوق التأليف والنشر، من العوامل الحاسمة التي ساهمت في انتشار العديد من المقطوعات الموسيقية الصغيرة في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة، التي تبيع تسجيلات موسيقية مسجلة منخفضة الجودة. (Abu Ahmad, 2011 private interview in Manama). باعت هذه المشاريع أيضاً تسجيلات محلية منخفضة الجودة للقُرآن الكريم (Abu Ahmad, 2009 in private interview in Manama). ومع ذلك، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت المتاجر الصغيرة المخصصة لبيع التسجيلات الدينيَّة بالظهور في شرق شبه الجزيرة العَرَبِيَّة (Abu Ahmad, 2011 in private intervie22w in Manama)، وأصبحت هذه المنافذ، ذات التوجُّه السَلَفِيّ في المقام الأوَّل، مراكز مهمة لتوزيع التسجيلات الصوتية للقُرآن، وللتسجيلات الدينيَّة المتنوعة لخطب الشيوخ السَلَفِيّين (Abu Ahmad, 20119 in private interview in Manama). في المجال السِّنِّي للبَحْرَين، لم يتمكن الشباب السَلَفِيّون المتحمسون، الذين أسسوا المنافذ، من الحفاظ على ربحية كافية لمواصلة عملياتهم (Abu Salih 2011, private interview in Manama)، وتلاشت هذه المنافذ المتعثرة أخيراً كمشاريع قائمة بذاتها.

اتَّبع المالكون السَلَفِيّون لتلك المتاجر، مع فهم ناضج لكيفية إدارة الأعمال، ثلاثة مسارات مختلفة؛ على سبيل المثال، اشترت وزارة التربية والتعليم (MES) منفذ ابن الأرقم، ووسَّعت نطاق عملها ليشمل بيع الكُتَيِّبات ذاتِ التوجُّهِ السَّلَفِيّ. في هذه الحالة، تم دعم الخسارة التشغيلية من قِبَلِ المالك الثريِّ الجديد؛ وهي جمعية التربية الإِسلامية. كما قام الشَّيْخ السَلَفِيّ عادل حسن بتوسيع منفذه الصغير “اليقين”، ليشمل بيع الكاسيتات الصوتية والكتب ولوازم القرطاسية، بالإضافة إلى خدمات أخرى كالطباعة والتصوير والتجليد، التي تلبِّي احتياجات طلاب الجامعة (Abu Salih 2011, private interview in Manama). حافظت هذه العملية على توجهها السَلَفِيّ الصارم، لكنَّها تعلمت كيفية البقاء في السوق، من خلال تنويع مجموعة منتجاتها وخدماتها. السيد عبد الله صالح؛ صاحب تسجيلات الفاروق الإِسلامية التي بدأ تداولها عام 1987، هو شخص ذو ميول سَلَفِيّة، ولكنه ليس شيخاً. كان عليه أن يوسِّع نطاق عمله للحفاظ على الربحية، وفي أوائل التسعينيات طور أعماله لتصبح في الأساس مكتبة إِسلامية تبيع شرائط صوتية دينيَّة كمنتج ثانوي (Abu Salih 2011, private interview in Manama). حوّل السيد أبو صالح عمليته إلى أنجح مكتبة دينيَّة في البَحْرين، عندما قرَّر تلبية احتياجات السنّة الأوسع، وليس فقط لعملاء معينين من السَلَفِيّين أو الصوفِيّين أو الإخوان. أشار هذا الفهم الواسع لعمليات التسويق والأعمال، إلى تقدُّمٍ ملحوظ في القطاع الاقتصادي ذي الدوافع الأيديولوجية، وعكس نظرة أوسع لعمل الرأسمالية. في هذه الحالة، تفوق عنصر البقاء التشغيلي على الأيديولوجية التي بدأت المشروع.

ثمة تطوُّر هامّ آخر في التسعينيات؛ كان إدخال قانون حق المؤلف في دول الخليج العربي (Abu Salih 2011, private interview in Manama). شجع حظر المواد المقرصنة نمو المشاريع الدينيَّة التجارية الجديدة، التي شعرت بأنها قادرة على الاستثمار في إنتاج تسجيلات عالية الجودة للمواد الدينيَّة، مثل تلاوات القُرآن والخُطب الدِّينيَّة (Abu Salih 2011, private interview in Manama). أدركت شركات الإنتاج هذه أنها بحاجة إلى القيام بأكثر من إخراج أشرطة صوتية ذات جودة صوت منخفضة إذا أرادت الحفاظ على النمو، وبدأت في تنويع منتجاتها وعملائها.

جزء واحد من السِّياق الذي قاموا بتلبية احتياجاته شمل الشباب، الذين احتاجوا إلى حفظ القُرآن كجزء من متطلبات المناهج الدراسية للمدارس الحكومية، أو كجزء من الواجبات المنزلية التي حدَّدتها مراكز تعليم القُرآن.

بدأت الشركات في تقديم تسجيلات عالية الجودة، بناءً على شرائط القُرآن المسجَّلة بعناية، والتي كانت تهدف إلى مساعدة الطلاب على قِرَاءَة مهامهم وحفظها.، وقد تشتمل أشرطة التدريس هذه على بعض أو كل الميزات التالية؛ التِلَاوَة بسرعة أو ببطء، وتكرار كل كلمة، وتكرار كل آية، وكذلك نسخة مطبوعة من القُرآن لتمكين الطَّالب من الحفظ والاستماع والقِرَاءَة مع صوت القارئ، بالإضافة إلى الاهتمام بالقُرآن الكريم، فقد حظيت الخُطب الدينيَّة بتحسينٍ مساوٍ من حيث جودة الصَّوت، والعرض الملوَّن لملحق غلاف الشريط، وإدخال المؤثرات الصوتية الخاصَّة مثل أصوات الرعد، والشلالات، والطيور المغردة. تم تقديم تقنية الوسائط المتعددة الرقمية، مثل الأقراص المضغوطة، في أواخر التسعينيات، وأتاحت ميزات تربوية إضافية لم تكن ممكنة من خلال التكنولوجيا التناظرية للأشرطة الصوتية.

بعد النظر إلى الشركات التي تنتج مواد دينيَّة مثل القُرآن، والابْتِهَالات الدينيَّة، والدروس والخُطب الدينيَّة على أقراص مدمجة وأشرطة صوتية، وفي المكتبات التي تبيع هذه المواد الدينيَّة لمستخدميها النهائيين، يتضح أن هذه الأرباح جعلت مؤسسات الأعمال الموجهة تساهم في عدد من القضايا المهمة المتعلقة بترديد النُّصوص المُقَدَّسَة الدينيَّة. إحداها أنَّ القدرة على حصر أنماط تِلَاوَة القُرآن على الشيخ السُّعُودِيّ لم تعد ممكنة، لأن طلبات المسلمين المغتربين وبعض السكان المحليين الراغبين في شراء غير القُرَّاء السُّعُودِيّين، باتت تمثِّل طلباً في السوق يجب تلبيته.

تعكس كلُّ هذه التغييرات الدِّينيَّة والاقتصادية الأخيرة، لصالح التسجيل الدِّينيّ والتِلَاوَة، تغييرات مماثلة في العلاقات الدينيَّة والثَّقافية، وتمثِّل هذه الوسائط الجديدة طُرقاً بديلة لتِلَاوَة ودراسة وحفظ النُّصوص المُقَدَّسَة خارج المنطقة الإِسلامية الأصيلة والتقليدية للمَجَالِس أو المساجد، والنتيجة النهائية لهذا التفكك لحالة المُريد والطَّالب المُحْتَمَلَيْن، عندما تصبح قاعدة، تَزَعْزُع الثَّقافة التقليدية لمريد الشَّيخ في السياق الصوفِيّ، وطالب العلم الديني العلم في الحالة السَلَفِيّة.

إن التحرك نحو الحداثة من قبل الأفراد، ضمن سياق تقليدي، هو قوة تعيد تشكيل شعور المجموعة بالهويَّة الجماعية، حيث أن التغييرات، مثل تلك المشار إليها أعلاه، تؤكد على استقلالية الطالب عن مجلس الشَّيْخ، وإعادة تشكيل الثَّقافة الاجتماعية والدينيَّة التقليدية بين الشَّيْخ والطَّالب، والتفاعلات الاجتماعية الأوسع.

وهكذا، فإن المشاريع التجارية الدينيَّة، التي انفصلت تدريجياً عن الشركات التي تنتمي إلى ميول دينيَّة معينة، أصبحت قوة فريدة من نوعها للتغيير الذي يؤثر على السياق الدِّينيّ والثَّقافي المحلِّي. إن ظهور هذه الشركات، ونجاحها اللاحق في نشر أدوات الحداثة في المجال الدِّينيّ، هو المظهر المباشر لتحول جديد غير متكشف إلى حد كبي،ر ويحتمل أن يكون ثورياً في الخِطَاب الإِسلامي للحداثة. إنَّ علماءَ المسلمين البارزين الأوائل، مثل جمال الدين الأفغاني ومُحَمَّد عبده والطهطاوي في مطلع القرن العشرين، مهدوا الطريق للخِطَاب الدِّينيّ لِتَبَنِّي الأساليب الغربية للحداثة، على أساس أن الاختراعات المادية منفصلة عن الثَّقافة، ونظام القِيَم الذي أنتجها (Sadiki, 2004: 101-110; ‘Ali, 1998: 16). مثل هذه النظرة الإيجابية الَّتي تفصل بين السِّلع الماديَّة وثقافتِها التصنيعية الأصليَّة، مهَّدت الطريق للتصريحات والفتاوى الدينيَّة التي سهَّلت الانتشار الواسع لأدوات الحداثة في المجتمعات الإِسلامية، وكنتيجة عَمَلِيَّة، لا يمكن إصدار فتوى دينيَّة لحظر استخدام مثل هذه الوسائل الحديثة.

لقد وُضِعَ الخِطَابُ الإِسلاميُّ المعاصر للحداثة، في مطلع القرن الحادي والعشرين، جنباً إلى جنب مع تَبَنِّي أدوات الحداثة، ومع ضرورة العودة إلى “الإِسلام الأصلي غير الملوَّث” للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين (Sadiki, 2004: 101-110; ‘Ali, 1998: 16). ما يزال “الإِسلام البِكر”، الشِّعار الثَّاني للخِطَاب السَلَفِيّ، وهو يدعو إلى نوع الثَّقافة التي يمكن العثور عليها في المجال التَّقليدي للشيخ المريد أو الشَّيْخ طالب العلم. تتمثل إحدى نتائج جانب “الإِسلام الأصيل” في الخِطَاب الإِسلامي للحداثة في إنشاء البُنى التقليدية، بينما يميل جزء آخر من نفس الخِطَاب وهو جزء التكيُّف مع الحداثة، إلى إحداث تغيير كبير، كما هو واضح في الحالة المذكورة أعلاه. النظرتان – حيث ينظر المرء إلى إرث التقليد والآخر إلى الحداثة التقدمية – يعكسان الخِطَاب الدِّينيّ الذي يستضيف أصواتاً مختلفة في فضائه. إن وجود هذه البيئة الخِطَابية غير المتجانسة، والتي تعمل على تقليد عملائها في آن واحد، وتقلل من تأثير تراثهم، يعني أن الخِطَاب الدِّينيّ هو لغة يمكن أن تستوعب الواقع الاجتماعي والثَّقافي متعدد المتغيرات للمسلمين. من جهة أخرى، يؤكد الخِطَاب الدِّيني متعدد الألحان مثل هذا أنه لا يوجد رأي واحد يمكنه إبطال وجهات الآخرين، أو أن يكون قادراً على إعلان هيمنته المطلقة. تفتح هذه التوترات، بين وجهات النظر الدينيَّة المتنافسة والمتضاربة أحياناً، مجالاً للاختيار بين المسلمين، مع الأخذ في الاعتبار هذا التنوع في الخيارات التي يملكها الطالب، يعني أن هناك مجالاً للحركات بين وجهات النظر الدينيَّة في متناوله، ويمكن للطالب الاستفادة من هذه المساحة المختارة، لإعادة تعريف طبيعة العلاقات التي تربطه بشيخه.

تبَادُلُ تَسجيلاتِ الأَناشيدِ الدِّينيَّة

في احتفالات الابتهالات الدينيَّة التي حضرتُها في البَحْرين وأم الحصم ومكة، سجَّل العديد من المشاركين الصوفِيّين الابْتِهَالات التَعَبُّدية، وتم توزيع نسخٍ مجَّانية من تسجيلات التجمعات الدينيَّة المحليَّة مجاناً لكلِّ مَنْ أراد، وإلى حدٍّ ما، فإنَّ هبة هذه التسجيلات تُعَوِّضُ عن عدم وجود منافذ توزيع صوفِيّة مخصَّصة. على سبيل المثال، عندما يتم تسليم التسجيلات بعيداً، يتم إبلاغ المستلم، وهو عادةً الشخص الذي لم يحضر التجمع، بمجريات الحفل، وستكون هناك مناقشة موجزة حول اسم المضيف والمنشدين البارزين والجوقة، وما إذا كان الجمهور قد شارك في الأَنَاشِيد، وما إذا كان هناك مستوى جيد من الحضور.

وبهذه الطريقة، ساعدت أناشيد الشِّعْر الدِّينيّ المسجلة، التي تتجاوز اللقاءات وجهاً لوجه، المُتَلَقِّين الغائبين، على تخيُّلِ أولئك الذين حضروا الحفل، ونَقْلِ فكرة وجود مجموعة من المستمعين المتشابهين في الوقت نفسه، والتي تشترك في ممارسة إِنْشَاد الابْتِهَالات التَعَبُّدية ذاتها.

من وجهة نظر كلية، فإن الابْتِهَالات المسجلة هي مساعدات قوية في تخيُّل وجود هويَّة صوفِيّة جماعية.

منذ أوائل الثمانينيات، أصبح بيع التسجيلات غير الصوفِيّة للأَنَاشِيد التَعَبُّدية ملحوظاً أيضاً في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة، وذلك عندما تم إطلاقها لأول مرة، وكانت الأصوات من إنتاج شباب عرب؛ عادة من الكويت، والذين جاءوا من خلفية جماعة الإخوان المسلمين (Abu-Shakir, 2011 in Shaykh ‘Abd Al-Wahab Al-Hassan majlis in ‘Isa Town; Al- Mirri, 1999: 6)، وكان غناؤهم مصحوباً بآلة موسيقية واحدة؛ الدُّفّ، وهي طبلة منبسطة، وأدى التساؤل المتكرر من قبل السَلَفِيّين البَحْرينيين عن الصلاحية الدينيَّة للاستماع إلى الأناشيد الدينيَّة المصحوبة بآلات موسيقية، إلى تحويل السؤال إلى خِطَاب اجتماعي، أدَّى بهم في النهاية إلى صياغة موقف شديد النقد تجاه جميع مظاهر تِلَاوَة القصائد الدينيَّة المصحوبة بالموسيقى. هذا الموقف السَلَفِيّ الهادف إلى زعزعة أسس عقيدة الصوفِيّين وإخوان البَحْرين، لم يمنعهم الفئتينِ من ممارسة ذلك، لأنَّ الصوفِيّين وإخوان البَحْرين اعتبروا الدُّفّ وسيلةً مباحة، على أساس أنه كان يعزف في بيت نبيِّ الإِسلام صلى الله عليه وسلم، كما فشل أسلوب الإخوان البديل للإِنْشَاد السلس غير المصحوب بالموسيقا، في اكتساب شعبية بين السَلَفِيّين في البَحْرين، الذين رفضوا الطريقة، التي بدا فيها أن أسلوب العازف المنفرد في الابْتِهَالات يحاكي الأَنَاشِيد غير الدينيَّة.

مِنَ الكَاسيتاتِ الصَّوتِيَّةِ إلى الأَقراصِ المضغوطَةِ ثُمَّ إِلَى الهَواتِفِ الذَّكِيَّة

كان هوس الهواتف الذكية إيذانا بنقطة التحول الثانية، التي نتجتْ عن الانتشار الواسع للأجهزة الحديثة – بعد الكاسيت الصوتي – الذي غيّر البنية الاجتماعية للجزيرة العَرَبِيَّة.

وفقا للسِّيد الدَّاوودي، في الماضي، سمحت شرائط الكاسيت للعرب بالاقتراب من ذلك الشَّيْخ وأن يحظوا باحترام كبير، وسمعوا صوته وإِنْشَادِه الدِّينيّ ومحاضراته وآرائه الدينيَّة وكيف شرعها دون الحاجة إلى السفر إلى مقر ذلك الشَّيْخ. عندما تم تقديم مشغلات الأقراص المدمجة، كانت التسجيلات عالية الجودة لتلاوات القُرآن والأَنَاشِيد الدينيَّة متاحة بسهولة.

ثم عندما تم تقديم أجهزة الكمبيوتر المكتبية، استخدم الناس الأقراص المدمجة للاستماع إلى قُرَّاء القُرآن والمُنْشِدين الدِّينيّين، وكذلك للوصول إلى عدد كبير من الموسوعات الإِسلامية ومجموعات الكتب الدينيَّة الرَّقمية، ومع ذلك، بسبب ترقية أنظمة التشغيل، لم يعد بإمكان الأشخاص استخدام الإصدارات القديمة من الأقراص المضغوطة، ولقد أهدروا الكثير من المال بسبب هذا، لكنَّ التقدم الحديث لم يتوقف عند هذا الحد، ونظراً لأن الإنترنت أصبح سمة من سمات أجهزة الكمبيوتر المكتبية في المنازل الخاصة، فقد واجه النَّاسُ، مرَّةً أُخرى، وجود عدد قليل من المواقع الدينيَّة، التي توفر الوصول المجاني إلى التسجيلات الإِسلامية للتلاوات والابْتِهَالات الدينيَّة. أدى هذا الوصول إلى تقليل الاعتماد على الأقراص المدمجة، وبعد فترة وجيزة من إدخال الإنترنت، وبالاشتراك مع أجهزة الكمبيوتر المكتبية المنزلية، أصبح موقع YouTube موقعاً جيداً لتشغيل مقاطع فيديو للقُرَّاء المسلمين والمُنْشِدين الدِّينيّين (Al-Duwadi, 2014, in private meeting in ‘Isa Town).

ومع ذلك، بعد عام 2010، خَفَّضَ كلٌّ مِن مُزَوِّدي خِدمة الإِنترنِت والهواتِفِ الذَّكِيَّةِ أَسْعارَهم، وأصبحت الهواتف الذكية، إذن، هي المعيار، وكانت متوفرة في جيب كلِّ شخص يتردَّد إلى المَجَالِس والحلقات تقريباً، فتعرَّف الناس على WhatsApp Messenger، وهو تطبيق مراسلة للهواتف الذكية يمكن أن يعمل على iPhone و BlackBerry و Android و Windows Phones، وساعد في إنشاء مجموعات دردشة ذات اهتمام خاص، وسمح تطبيق WhatsApp للناس بتأسيس مجموعات صوفِيّة وتبادل التسجيلات الصوتية لأنشطة الإِنْشَاد الصوفِيّة. كما سمح للناس بإعادة توجيه روابط اليوتيوب أو تنزيلها، والاستماع إلى تلاوات من القُرآن الكريم، أو الأَنَاشِيد الصوفِيّة، أو محاضرات المجالس أو الحلقات للشيوخ الصوفِيّين (Al-Duwadi, 2014, in private meeting in ‘Isa Town).

رَأْيُ السَلَفِيّين في الابْتِهَالات الدينيَّة

باستثناء آراء الراحل الشَّيْخ ابن باز، الذي أشار إلى أنه إذا كان محتوى القصيدة الدينيَّة المصحوبة مقبولاً دينياً، فلا يرى أي مخالفة دينيَّة في الاستماع إلى مثل هذا الأداء أو التسجيلات (http://www.almostaqbal.com/mostaqbal158/leqal%20opinion/legal _opinion.htm)، فإنَّ الخِطَاب السَلَفِيّ الحالي، يختلف عن نقد السَلَفِيّين المؤسسين للجزيرة العَرَبِيَّة، مثل الشَّيْخ سليمان (ت 1233 هـ) والشَّيْخ البابطين، في نهجهم، حيث عارض الجيل السَلَفِيّ الأول أبياتاً معينة في قصيدة البوصيري، ووجدوا أنها غير مقبولة من وجهة نظر العقيدة، لكنهم لم يحاولوا أي رفض صريح للاِبْتِهَالات الدينيَّة التي تُكَرِّمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

تمثل خطوط التفكير السَلَفِيّ المعاصرة انحرافاً أكثر راديكالية عن الموقف السابق، وتستند عدم موافقتهم على أسلوب الابْتِهَالات الإخواني على الحجج التالية:

طريقة تنافس الابْتِهَالات مع القُرآن من خلال جذب قلوب الصغار.

الإِنْشَاد الجماعي يقلِّد ابْتِهَالات الجماعات الصوفِيّة.

يتم تِلَاوَة الأَنَاشِيد التي ليس لها مرافقة آلات بعد أنغام الأَنَاشِيد المصحوبة بآلات موسيقية (Al-Mirri 1999: 10-11, 27).

يمكن أن يدفعنا الانفصال السَلَفِيّ الأخير عن الابْتِهَالات الدينيَّة، غير المصحوبة أو المصحوبة بالآلات الموسيقية، إلى رؤية وجهة نظرهم الدينيَّة على أنها موقف ديني متصلِّب.

بدلاً من ذلك، من خلال النظر إلى موقفهم كجزء من العملية المعقدة لبناء هويَّة سَلَفِيّة مميزة، يمكننا تلطيف وجهة النظر الخارجية غير السياقية بنهج أكثر دقة وتمييزاً. إنَّ تعريف الذات السَلَفِيّة المتزمتة المختلفة، عندما تكون جنباً إلى جنب مع الجماعات السنية المتحدِّية، مثل الصوفِيّين والإخوان، في كل من الكويت والبَحْرين، حيث ينتجون ويُؤدون تلك الأَنَاشِيد الدينيَّة، هو سمة أساسية للسَلَفِيّة في البَحْرين.

الخِلافَاتُ حَوْلَ الآلاتِ الموسيقِيَّةِ في التَّعَبُّدِ الدِّينيّ

يستكشف هذا القسم الخلاف حول عزف الدُّفّ، والذي كان مشكلة مستمرة في المجتمع السِّنِيِّ. تّمَّ تقديم الدُّفّ لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي، من قِبَلِ مُهاجِرٍ سِنِّيٍّ إلى البَحْرين؛ وهو الملا حسن (ت. 1990)، لمرافقة الابْتِهَالات التَعَبُّدية (Abu Shakir, 2011 in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb Al-Hasan majlis in ‘Isa Town).

كان الشَّيْخ الصوفِيّ النقشبندي الراحل الحِجازِيّ متحفِّظاً للغاية بشأن مرافقة الدُّفّ مع الابْتِهَالات الدينيَّة (Abu Shakir, 2011 in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb Al-Hasan majlis in ‘Isa Town)، وحظر استخدامه في النهاية. الفتوى لم تمنع المُلَّا حسن في المضي في عمله، الذي صنع حقبة، وغرس التسامح نحو الأغنية الدينيَّة في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة (Abu Shakir 2011, in his majlis in ‘Isa Town). طلاب الشَّيْخ الحِجازِيّ، مثل الشَّيْخ ربيع وغيره، رفضوا الدُّفّ، لكنَّ المجتمع الصوفِيّ الأكبر في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة قَبِلَه.

وضع الخِطَابُ السَلَفِيّ شروطاً مقيِّدَةً لإِنْشَادِ آياتٍ قُرْآنِيَّةٍ في أبريل 2001، عندما أصدر الشَّيْخ السَلَفِيّ السُّعُودِيّ الراحل حمود الشعيبي فتوى تنص على إعدام المُنْشِد الكويتي عبد الله الرويشد، لإِنْشَادِه قصيدة تضمنت القليلَ مِنَ الآيات القُرآنية المصحوبة بالموسيقى. خلق هذا المطلب الجذري جدلاً محلِّياً بين الصوفِيّين والسَلَفِيّين في البَحْرين، وكانت له تداعيات بعيدة المدى. في مقال في جريدة الأيام، أفاد مبارك العمري؛ خبير بحريني في الشِّعْر العَامِيّ، أنَّ القصيدة التي غَنَّاها الرُّوَيْشِد كتَبها الشَّاعر السُّعُودِيّ راشد البنعلي (ت 1960)، أحدُ سكَّان دارين؛ وهي بلدة صغيرة تطلُّ على الخليج العربي. وأشار العماري (2001) إلى أن الملحِّن اشتهر بكونه شاعراً دينياً، وكان كثيراً ما ينسج النُّصوص المُقَدَّسَة في شعره، مشيراً إلى أنه، خلال فترة صيد اللؤلؤ، غنَّى البحارةُ القصيدَةَ ذاتَها.

بناءً على معلومات العُمَارِي، تم إلهام الصوفِيّين في البَحْرين للتعبير عن مزيد من الآراء النقدية للسَلَفِيّين، على سبيل المثال، سلَّطَ عيسى درويش (2011, in Shaykh R. Al- Muraykhī majlis in Muharraq) الضَّوء على حقيقة أن هذه الفتوى تشير إلى أن الشُّعَراء النجديين لم يختبروا روحانيَّة عميقة، فقصائدهم لا تحتوي على آيات من النُّصوص القرآنيَّة المُقَدَّسَة. لذلك، عندما يسمعون قصيدة كتبها رجل عربي شرقي، يدمج فيها نصوصاً مقدسة، فإنهم يعتبرونها غير مقبولة دينياً للسَلَفِيّين النَّجديين (2011, in Shaykh R. Al- Muraykhī majlis in Muharraq).

وبحسب درويش، فإن هذا يشهد على الأثر العميق للرُّوحانية، الذي مارسته الصوفِيّة “في تليين قلوب العرب الشَّرقيين، بينما عمل شيوخ السَلَفِيّة على زيادة قسوة قلوب أتباعهم”. (2011, in Shaykh R. Al- Muraykhī majlis in Muharraq).

لم تحظَ فتوى الشعيبي بتأييد غالبية السَلَفِيّين الذين التقيتُ بهم، بحجَّة أنَّها كانت مقارَبَة متطرِّفة في التَّعامل مع إِنْشَاد الآيات المصحوبة بالموسيقى، بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم السَلَفِيّين في البَحْرين هم من نسلِ البَحَّارة الَّذين اعتادوا على إِنْشَاد القصيدة نفسِها. لقد وضعَتِ الفتوى السُّعُودِيّة السَلَفِيّين البَحْرينيين في موقفٍ غامضٍ، من خلال تحدِّي عبادة بحرينية شعبية من قبل إبراهيم أبو صندل، السَلَفِيّ البَحْريني، الذي كان من بين الاستثناءات، حيث كتب مقالاً حاول إظهار الأساس الدِّينيّ لفتوى الشَّيْخ (2009: 19). على الرغم من جهوده، لم يكتسب رأيه الكثير من الزخم، خاصة عندما أشار شيخ سَلَفِيّ سعودي آخر؛ هو ابن حميد، المرجع الدِّينيّ في المسجد الحرام في مكة المكرمة، في أبريل 2001، إلى أن فتوى الشعيبي استندت إلى حكمه الشخصي، وبالتالي تفتقر إلى المصداقيَّة. نجحت هذه الفتوى المضادة لشيخ سَلَفِيّ سعودي في إنهاء القضية برمَّتها.

الشِّعْر الدِّينيّ العَرَبِيُّ العَامِيّ

اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصحى (الكلاسيكية المكتوبة)، هي أحد أشكال اللُّغَة التي تتكون من خلالها الابْتِهَالات الدينيَّة، واللَّهجة العَرَبِيَّة العَامِيّة هي وسيلة لغوية أخرى يتم من خلالها التعبير عن الشِّعْر التَعَبُّدي. هذا النوع الذي لم يتم استكشافه بشكل كافٍ، هو علامة هويَّة مهمة في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة. أبلغني الشَّيْخ يوسف الصِّدِّيقي أنَّ والدَه كان يرافق رحلات صيد اللُّؤلؤ، وأنَّ مِنْ واجباتِهِ تِلَاوَة الابْتِهَالات العَامِيّة في ليالي الصَّيف على ظهر المركب (2008, in his majlis in Al-Zallaq). كان من الشائع أن يقوم البحارة بترديد الشِّعْر الشعبي الدِّينيّ وغير الدِّينيّ (Abu Shakir, 2011, in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb majlis in ‘Isa Town)، وبقيت بعض القصائد الدينيَّة التي تم تأليفها خلال حقبة صيد اللؤلؤ قيدَ التَّداول.

كلَّ ليلة خميسٍ، يردِّدُ الشَّيْخ راشد المرِّيخيّ مثل هذه الابْتِهَالات العَامِيّة بأسلوبٍ سلس، يُعرف باسم فن الفجري، ويحاكي لحن البَّحَارة، حيث يتم التعبير عن عدم اليقين بشأن المصير، عند الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، وسطَ العواصف والأعاصير، والمبلغ غير المعروف للمكافأة المالية، والتي تعتمد على العدد الإجمالي للؤلؤ الذي يتم صيده. اليوم، غالبية من يحضرون الحلقات الصوفِيّة وُلِدوا في حقبة ما بعد صيد اللُّؤلؤ. من خلال تِلَاوَة الابْتِهَالات التي تتبع ألحان البحارة، يعرف هذا الجيل الشاب، والذي يشكل غالبية الجوقة، معلوماتٍ عن الزواج من القصائد الغنائية التي تعكس مصاعب الحياة في الماضي، مع المشاعر الأخلاقية والدينيَّة التي يثيرها الحاضر.

من المعتاد في المساجد والمَجَالِس التي حضرتُها لإلقاء قصيدة عَامِيّة، أن تسبقها تِلَاوَة فردية مبدعة مؤثرة للقلب لشِعر قصيرٍ مؤلَّف باللُّغَة العَرَبِيَّة الفصيحة. قد تكون هذه العادة بمثابة ترتيب يُظهر الإعجاب والاحترام للغة العَرَبِيَّة الرَّسمية، مع تذكير المستمعين بأن اللُّغَة العَامِيّة لا تهدف إلى محو رتبتها أو دورها في سياق الشِّعْر الدِّينيّ.

ومع ذلك، فإن اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصيحة، وهي الوسيلة التي يتواصل من خلالها معظم العرب المتعلمين، تقترن باللهجات العَامِيّة، وهي اللُّغَة اليومية، وربما اللُّغَة الوحيدة للتواصل بين الجماهير غير المتخصِّصة.

وبالتالي، فإن اللُّغَة العَرَبِيَّة الشفوية الشاملة والمتسامية، مرتبطة باللُّغَة العَامِيّة، والتي لا يمكن فهمها بالكامل، إلا في الإطار الضَّيِّق للإقليم المحلي.

هناك ممارسة أخرى يمكن ملاحظتها في تلك المجموعات الصوفِيّة، وهي أن السكان المحليين يقرأون الابْتِهَالات الدينيَّة بلهجتهم المحليَّة، وباللَّهجات العَرَبِيَّة الإقليمية الأخرى، مثل لهجة الحجاز في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، واللهجة الدمشقية في سوريا، ولهجة القاهرة في مصر، ولهجة تريم في اليمن، ولهجة البصرة في العراق (Rashid Al- Muraykhī 2011). إنهم يتعلمون هذه اللهجات من خلال الاستماع إلى الأشرطة التي قُدِّمَتْ لهم كهدايا، وبعد ذلك، إذا أحبَّ شخصٌ ترنيمةً عَامِيّة معيَّنة من أي لهجة عربية، فسيبدأ في إِنْشَادِها في الحلقات، وبهذه الطريقة يتم تقديمها للمجتمع المحلي ((‘Abd Al- Wahab Al-Hasan 2011, in his majlis in ‘Isa Town). قد يواجه الجمهور الذي يحضر الحفل التَعَبُّدي صعوبة في تحديد الفترة التي تنتمي إليها اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصيحة، التي تبدو راكدة وغير متغيرة، وقد تعود إلى أزمنة الأمويين أو العباسيين أو غيرهم، ولكن لن يواجهوا مشكلة في رَبْطِ لهجة معينة بإقليمها، حتى لو كانت معانيها ليست مفهومة تماماً.

من خلال تقليل التأكيد على النقص المحتمل في الوضوح اللفظي، سيتحول التركيز إلى المناقشة الأكثر وضوحاً للإقليم، وبعبارة أخرى، الدول القومية المعينة.

في هذه الحالة، يتم تقدير قيمة فهم اللُّغَة الرَّسمية العالمية التي تتقاطع مع العالم العربي بشكل كامل من خلال الوظيفة الرمزية الموحدة التي تلعبها في ربط الكل المُجَزَّأ.

وهكذا، فإن اللُّغَة العَرَبِيَّة الفصيحة؛ لُغَةَ النُّخَبِ، والتي تشمل الشيوخ وغيرهم، يتم الاحتفاظ بها كعامل تماسك وتوحيد اللهجات بين الأعراق لعامة العرب في لحظات الدعاء التَعَبُّدي. إنَّ التَّقاطع بين الاتصالات اللفظية “العالية” و”المنخفضة” العديدة، يعني أنَّ آذانَ المستمعين مدرَّبةٌ على تذكُّرِ، ليس فقط المتعلمين، ولكن أيضاً غير المتعلمين في المجتمع العربي والإِسلامي الأوسع. إن فكرة الانتماء إلى أمة إِسلامية؛ حيث يمارس المعلمون الشِّعْر التَعَبُّديَّ ذاتَهُ، هو مثال طقسي تجريبي يعمل كضمان للصوفِيّين المحليين، لضرورة الحفاظ على هذه الممارسات، على الرغم من انتقادات السَلَفِيّين المحليين.

يُعرف نوع آخر من الشِّعْر العَامِيّ بالشِّعْر النَّبَطِيّ، ومن المعروف أنَّ بلاد نَجْد هي موطنُ الشُّعَراء النَّبَطِيّين الأصليين، ولكن، بسبب السفر المستمر للقبائل العَرَبِيَّة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العَرَبِيَّة، انتشر هذا النوع من القصائد (Sowayan 1985: 1). كان فنُّ الشِّعْر النَّبَطِيّ هو الوسيلة التي عبَّر من خلالها البدو العرب، قبل العصر الحديث، عن أسلوب حياتهم القَبَلِيّ الفريد، والاضطراب السِّياسيّ والواقع الاجتماعي والثَّقافي (Sowayan 1985: 18, 50)، ولكلِّ مجموعة عِرقية محليَّة خيارها الراسخ للكلمات والأمثال، وحروبها، وأبطالها، وجغرافيتها، وتاريخها، وطريقتها العَامِيّة في الكلام، وهذا يكرِّس طريقتها المحليَّة في التأكيد على مقاطع معينة، وإلغاء التأكيد على مقاطع أخرى في الابتهالات التعبدية.

يتم نسج كل هذه العناصر في الشِّعْر العَامِيّ، ويمكن لهذه الخصائص الجوهرية أن توجِّهَ خبيراً في الشِّعْر النَّبَطِيّ نحو تمييز هويَّة الشاعر بسهولة؛ من حيث القبيلة والمكان.

تغيَّر السياق الاجتماعي والثَّقافي لشبه الجزيرة العَرَبِيَّة الحديثة، والذي كان يُنطق فيه الشِّعْر النَّبَطِيّ في الأصل، وينقل بشكل أو بآخر بعد التغييرات المنتشرة التي حدثت مع اكتشاف النفط، لكن، في فترة ما بعد النفط، انتقلت العديد من القبائل إلى مدن حديثة للعيش فيها، وورث أبناء هذه القبائل المتحضرة فنَّ إلقاء الشِّعْر الشعبي (Abu Shakir 2011, in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb majlis in ‘Isa Town). لقد عمَّمَت الأماكن والأوساط الاجتماعية والثَّقافية المختلفة، والحكم السِّياسيّ للدولة القومية التي حدَّت من السلطة القَبَلِيّة التقليدية، الخِطَابات المختلفة والأغراض الجديدة للشعر العَامِيّ، عن تلك الموجودة في سياقات ما قبل الحداثة.

حلَّ هذا الشِّعْر النَّبَطِيّ الحضري الناشئ حديثاً محلَّ القصائد الشعبية ما قبل الحديثة، وفي نهاية المطاف، في أواخر السبعينيات، وَجَدَتْ هذه النسخ الجديدة من الشِّعْر الشعبي، طريقَها إلى وسائل الإعلام في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، وبقيَّةِ دول الخليج العربي (Abu Rashid 2011, in private interview in Umm Al-Hassam). نشأ أعضاء العائلة المالكة السُّعُودِيّة كشعراء نبطيين موهوبين، كما أن ثرواتهم وقوتهم وشِعرهم الجميل المصحوب بإلقاء متلفز ممتاز، جعلت الخِطَاب الجديد للشِّعر النَّبَطِيّ لا يُقاوم (Abu Rashid 2011, in private interview in Umm Al-Hassam)، ولذلك، تُخَصِّصُ الصُّحُفُ، في عدد من دول الخليج العربي، صفحات أسبوعيَّة لطباعة القصائد النَّبَطِيّة الجديدة، وظهرت مجلات جديدة متخصصة في مجال نشر القصائد الشعبية منذ الثمانينيات (Abu Shakir 2011, in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb majlis in ‘Isa Town)، وأعاد هذا المناخ التقديري الإيجابي نَشْرَ القصائد الشعبية بين سكان المدن العَرَبِيَّة الحديثة.

المواضيع الرئيسية لهذا الشِّعْر الشعبي المتحضر هي الحب والرومانسية، وعادة ما تنتهي القصائد على أنها كلمات لأَنَاشِيد عربية معاصرة، والتي بدورها تعمل على نشر هذا النمط بشكل كامل (Abu Shakir 2011, in Shaykh ‘Abd Al-Wahhāb majlis in ‘Isa Town). نادراً ما يؤلف الشُّعَراء المتحضرون الشباب قصائداً عن مواضيع دينيَّة، ولكن خلال أواخر التسعينيات ظهرت شرائط صوتية كابْتِهَالات شعبية عربية، تُشيد بالسَلَفِيّة في المحلَّات التجارية السُّعُودِيّة، الَّتي تخصصت في بيع شرائط صوتية دينيَّة (Abu Rashid, 2011 in private interview in Umm Al-Hassam).

تُعد ممارسة تأليف القصائد العَامِيّة، التي تُشيد بالسَلَفِيّة، واحدة من الأساليب الرائعة التي عادت من خلالها اهتمامات الشِّعْر القَبَلِيّ الحديث إلى الظهور، وبالفعل، فإن إِنْشَاد الابْتِهَالات الدينيَّة السَلَفِيّة بالطريقة القَبَلِيّة، غير المصحوبة بالموسيقى، لمْ يُثِرْ أيَّ معارضةٍ دينيَّة من الشيوخ السَلَفِيّين السُّعُودِيّين (Abu Rashid, 2011 in private interview in Umm Al-Hassam). بطريقة ما، يقدم هذا التطور الجديد الأَنَاشِيدَ التَعَبُّدية لسُكَّان المدن، الذين يبدو أنهم استسلموا لأسلوب حياة عادي (Abu Rashid, 2011 in private interview in Umm Al-Hassam)، وبالمثل، فهو يُقَدِّم للمجتمع الدِّينيّ السَلَفِيّ بديلاً ترفيهياً موسيقياً لم يكن لديهم من قبل.

سّهَّلَ جسرُ الملك فهد، الذي يربط البَحْرين بالمملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة، التنشئة الدينيَّة المستمرة بين السَلَفِيّين البَحْرينيين والسُّعُودِيّين (Abu Rashid, 2011 in private interview in Umm Al-Hassam). قَدَّم السَلَفِيّون السُّعُودِيّون أَنَاشِيدهم الدينيَّة الجديدة إلى البَحْرينيين (Abu Rashid, 2011 in private interview in Umm Al-Hassam)، على الرغم من أن التأثير الكامل للفن الدِّينيّ الجديد لم يتم تقديره بالكامل بعد، على الرغم من بعض العلامات المبكرة. على سبيل المثال، أثناء رحلات السيارة التي قمتُ بها مع أبي راشد؛ الشاب السَلَفِيّ الودود، كان يقوم أحياناً بتشغيل شرائط صوتية لأَنَاشِيد قبيلة سعودية معينة، وحاول أن يعرّفني على الإِنْشَاد القَبَلِيّ، من خلال شرح المبادئ البنيوية التي تنظم التلاوات الشِّعْرية الجماعية للقبيلة، والمعروفة بفن القلطة أو شعر المحاورة.

في ثقافة القبائل العَرَبِيَّة، يعتبر شعار المحاورة شكلاً تنافسياً من وسائل الترفيه، التي تجذب أعداداً كبيرة من الجماهير المقتصرة على الذكور فقط. يشارك في مسابقة الشِّعْر شاعران يتحدَّيان بعضهما البعض، من خلال تأليف الشِّعْر الفوري، وللشاعر الأول فرصة اختيار القافية والروي، وهي الحروف التي ينتهي بها كل سطر. يُشار إلى السطر الافتتاحي بالطرق، ويغني مؤلف الطروق الشِّعْر بلحن مبهج، بينما يقف في المنتصف رتل من الرجال الراقصين، الذين يكررون السَّطر ذاته، وعلى اللحن ذاته. بعد إِنْشَاد السطر مرتين، يجب أن يغني الشاعر الثاني شعره المؤلف على الفور استجابةً لذلك، وسيقوم فريقه بإِنْشَاد أبياته، وتجري المنافسة في فضاء يسمى ميدان القلطة (أرض شعر المحاورة).

المحاورة فنّ من الفنون الجميلة في الموروث الشعبي، وقد ظهر هذا الفنّ في بداياته في منطقة الحجاز منذ زمن بعيد، خصوصاً في منطقتي مكّة والطائف، وقد برز العديد من الشعراء ممن أشعلوا قناديل هذا الفنّ، وكان لهم بصمة على مدى العقود الماضية، من أمثال بديوي الوقداني، ودخيل الله الزايدي، وعبد الله الصليمي، ليأتي من بعدهم مريسي الحارثي وعبادل المالكي وحاسن المطرفي والجبرتي وابن تويم وغيرهم من الأجيال المتعاقبة، الذين أثروا الساحة الشعبية بمحاوراتهم الجميلة، ومن ثمّ سلموا الرَّاية لمن بعدهم ممن واصلوا المسيرة، ولعلّ ما يميّز أولئك الشعراء من خلال محاوراتهم الغموض في المعنى، وذلك من خلال إيحاءات فنيّة متبادلة، بقالب شعري بديع يطرب له الجمهور، ولعلّ الموهبة هي الأساس في هذا الفنّ، وتأتي بعد ذلك سرعة البديهة، والحضور الذهني، والثقافة الشعبية، بالإضافة إلى الممارسة.
والمحاورة مثلها مثل أي منافسة تتم بين خصمين، ولعلَّ حدّة المنافسة وقوّة المتنافسين هي الجاذب والمحرك الرئيس للجمهور، فكلَّما حَمِيَ الوطيس، وارتفعت وتيرة المنافسة، زاد حماس الحضور وتفاعلهم.

وهنا لابدَّ أن يكون للمحاورة مغزى وهدف، بحيث يتمّ طرح الموضوع بلغة رمزية لا يستطيع حلَّها سوى الخصمَين، والرَّاسخين في هذا الفنّ، وهذا ما يجعل بعض المحاورات باقية في أذهان البعض من محبيه ومتذوقيه، ولو استعرضنا بعضاً من تلك المحاورات كنموذج، سنجد فيها ما يعطي انطباعاً عن هذا الفنَ، وما يكتنفه من غموض، مع سلاسة في الطرح، وسرعة في التقاط المعنى، مما يضفي على المحاورة طابعاً جميلاً ومميّزاً، ومن هنا، يأتي اسمه الآخر (القلطة)، حين يلتقط المتنافسان المعنى.

ففي محاورة قديمة جرت في مكّة المكرَّمة بين الشاعرين حاسن المطرفي ومستور الحارثي، ولهذه المحاورة قصّة مأثورة؛ وهي أنَّ مستور، بعد أن طلَّق زوجتَه، تزوَّجت برجل آخر، وبعد أشهرٍ أنجبت مولوداً، فكان هناك من يشكّ بأن المولود ربما يكون لمستور، مما دعا حاسن بأن يقول له في تلك المحاورة:

أَنَا أوحيت يا مستور يمّك دعيّة

هني من دري هي صدق ولا ظليمةْ

يقولون يوم اطَّلقت حبل المطيّةْ

عليها شدادٍ روّحت به غنيمة

فأجابه مستور بعد ان التقط المعنى ببراعة:

هذا العلم يا حاسن رموا به عليّه

رموا به عليّ أهل الحسد والنميمة

يقولون فيّه علم ماهوب فيّه

وأنا من رجالِ له كرامة وشيمة

ولكن حاسن فتح له باباً آخر؛ وهو أنه ربما لم يكن يعلم عن هذا الأمر حينما قال:

أنا اقيّس أنه ما معك مخبرية

وبعض الركايب بالطبايع غشيمة

يقولون مالت قوم ماهي صريّة

بدا فيها ماريّة واظنه قديمة

ولكن مستور أجابه بالردّ القاطع قائلا:



لك الله لو جاها السبب من يديّه

لاجوّد رسنها لين تصبح سليمة

ولكنها راحت عريّة بريّه

ولاني من اللي يظلمون اليتيمة

بعد هذه المحادثة التربوية مع أبي راشد، كنتُ أستجوبه لاستقصاء مستوى معرفتي بالشِّعْر العَامِيّ القَبَلِيّ، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن هذا النوع من القصائد لم يخترق البَحْرين. أحد الأسباب التي تعترض مثل هذا الاختراق الاجتماعي الزمني هو أن القبائل في البَحْرين قد استغرقت فترة طويلة من الاندماج مع الثَّقافة الحضرية، مما قلل من العديد من جوانب الأنشطة الثَّقافية القَبَلِيّة، لذلك تلاشى حفل القلطة في البَحْرين نتيجة لعملية التحضُّر. لا يمكن فصل التقديم الحالي للاِبْتِهَالات الدينيَّة القَبَلِيّة عن إحياء طقوس القلطة. إنَّ إظهار المصطلحات الشِّعْرية القَبَلِيّة المتخصصة، أثناء الاستماع إلى التِلَاوَة التَعَبُّدية السَلَفِيّة، يدمج عنصرين حاسِمَين في الهويَّة.

يستحضر اللحن الإيقاعي للجوقة سعادة الروح في عالم شفاف، في حين أن فكرة أن فن الأداء يقوم به رجال قَبَلِيّون، فإنها تستحضر ذكريات قَبَلِيّة منسية منذ زمن طويل. وبهذه الطريقة، يزيد إِنْشَاد الشِّعْر العَامِيّ من المشاعر الدينيَّة والقَبَلِيّة.

يختلف التقارب بين الهويَّة الدينيَّة والقَبَلِيّة بين السَلَفِيّين الذين لا يستطيعون تذكُّرَ خلفياتهم القَبَلِيّة. على مر العصور، جذبت البَحْرين، الجزيرة الجذابة، الكثير من المهاجرين، وليس كلهم ​​من أصول قَبَلِيّة. السَلَفِيّة في البَحْرين حركة غير عنصرية، اختارت العديد من البَحْرينيين الذين ليس لديهم قبيلة، ومع ذلك، في حين أن هذه الطبقة السَلَفِيّة من المرجح أن تتمتع بالعنصر التَعَبُّدي في الجانب العَامِيّ، فإن التعاطف القَبَلِيّ يحتاج إلى التحقيق.

الابْتِهالاتُ كَعَامِلٍ لإِحياءِ الصُّوفِيّةِ في شَرْقِ شِبْهِ الجَزيرَةِ العَرَبِيَّة

سألني الحاج ربيعة؛ أحدُ تلاميذ الشَّيْخ الصوفِيّ الراحل الحِجازِيّ، وله علاقات اجتماعية ودينيَّة واسعة النطاق بين المجتمع الصوفِيّ في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة، إذا كنت أرغب في مرافقته إلى الأحساء في المملكة العَرَبِيَّة السُّعُودِيّة في يوم واحد، ضمن زياراته المنتظمة لأصدقائه (2011 in Shaykh Al-Madani majlis in Umm Al-Hassam). قبلتُ الدعوة، وقاد سيارتنا مُحَمَّد خليفة؛ تلميذ الشَّيْخ المدني، لمدة ساعة ونصف، للوصول إلى الجزء القديم من مدينة الهفوف في الأحساء. استقبَلَنا مضيفُنا الصوفِيّ الشَّيْخ إبراهيم مخبري. قدم المضيف لنا الغداء في غضون نصف ساعة، ثم أمر الشَّيْخُ إبراهيم أحدَ تلاميذه بمرافقتنا إلى المسكن؛ الزاوية. كانت زاويته، التي كان يسكنها العديد من طلابه، منزلاً تقليدياً، عمره حوالي خمسمائة عام، وفيه العديد من الغرف، وبعد ساعات قليلة، انطلقنا لزيارة أحد أصدقاء الحاج ربيعة، وبينما كنَّا نسير في الأزقَّة الضَّيِّقة، وتجمعات المنازل التي عمرها مئات السنين، جاء الكثير من الناس لتحيَّة الحاج ربيعة.

عندما انتهينا من زيارتنا لصديقه، توجَّهْنا إلى منزل الشَّيْخ إبراهيم. داخل المنزل، قادَنا مرافقُنا نحو باب معدنيٍّ ثقيلٍ، ثم نزلنا الدَّرج إلى مجلسٍ فسيح تحت الأرض، وقد رَحَّبَ بنا الشَّيْخُ إبراهيم، الذي كان جالساً في أحد طرفي المجلس، بحرارة، ودعانا للجلوس، وأعطى كل واحد كُتَيِّباً يحتوي على سورة ياسين، وهي سورة من القُرآن الكريم. بعد أن انتهينا من القِرَاءَة، قام بعض الطلاب، الذين يحملون زجاجات من الماء، بنقلها إلى أولئك الذين قرأوا القُرآن، حتى يتمكنون من النفخ برفق في أعلى كل زجاجة لجعل الماء متميِّزاً بالبركة، ثُمَّ أُعطيَت الزجاجاتُ للرجال المحليِّين الذين كانوا يحضرون المجلس.

ولم ينفخ الشَّيْخ إبراهيم في الزجاجات، وعندما طلب منه أحد الأهالي أن يفعل ذلك، قال: “البركة تأتي من قول كلام الله وليس مِنِّي، الليلةَ لم أقرأْ، ولا يستطيع أن يمنح البركة إِلَّا مَنْ قَرَأَ” (2011 in Shaykh Ibrahim underground majlis in Al-’Aḥsā’).

بعد قِرَاءَة القُرآن تحدثت مع السيد عبد الرحيم؛ وهو رجل محلِّي كان يجلس بجواري. تحدثنا عن الإِنْشَاد الدِّينيّ في منطقته، وأخبرني أن ممارسة الإِنْشَاد الدِّينيّ محظورةً، لأنَّ المرجع الدِّينيّ السَلَفِيّ المحلي لم يسمح بممارسة مثل هذه البِدعَة. في الوقت الحاضر، تعلَّمَتِ الطائفةُ الدينيَّة الصوفِيّة أنْ تتجنَّبَ الظُّهور أمامَ المجتمع الدِّينيّ السَلَفِيّ، وذلك عن طريق التخفي في ملتقيات تحت الأرض. ألهمت إرادةُ ودوافعُ الشَّيْخ إبراهيمَ الكثيرَ مِنَ الشَّباب الصوفِيّين، لإعادة تعلُّم العديد من جوانب الإِنْشَاد الدِّينيّ.

لقد جمعنا العديد من الأشرطة من حفلات الإِنْشَاد الصوفِيّة في البَحْرين، ونقوم بتقليد تلك الأشرطة، حتى نتعلم المقامات والألحان ووقت الإِنْشَاد الفردي ووقت الترديد معاً في مجموعة. لقد انضممتُ إلى مدرسة للإِنْشَاد في دمشق، لِتَعَلُّمِ كيفية العزف على آلات الدُّفّ، حتى أتمكَّن من إعادة تقديم هذه الآلة إلى المجتمع المحلي. الأشرطة البَحْرينية هي إلهامنا، حيث نزور البَحْرين وأبو ظبي للمشاركة في الاحتفالات العامة ((‘Abd Al- Rahim 2011, in Shaykh Ibrahim underground majlis in Al-’Aḥsā’ in Saudi Arabia).

إحدى القضايا المهمة المطروحة هنا؛ هي أن البَحْرين التي كانت المُتَلَقِّي التَّقليدي للمعرفةِ مِنْ قلبِ منطقة الأحساء، أصبحت، في هذه اللحظة من التاريخ، المركز الذي يتعلَّم منه سكانُ الأحساء ابْتِهَالاتهم التي يرددونها وينشدونها. يتم الآن إعادة تصدير القصائد والألحان والإِنْشَاد إلى موطن التدريس القديم في الأحساء. ترديد القصائد الصوفِيّة هو خِطَاب ثقافي يعبر الأقاليم، ويعيد ربط المجتمعات الصغيرة المنتشرة في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة فيما بينها وداخل الأمة الإِسلامية الأوسع. إنه العنصر الوحيد الأكثر قوَّةً، والذي يجمع الصوفِيّين معاً، لأنَّه يحدِّد ويعلِّم أولئك الصوفِيّين المتناثرين، بأشكال وممارسات الصوفِيّة المعاصرة في المنطقة.

خاتمة

خلال هذه المقالة، جرت محاولة لوصف وتحليل الأشكال المتغيرة والمتنازع عليها لتِلَاوَة النُّصوص المُقَدَّسَة، فيما يتعلق بالعملية الأوسع لتشكيل الهويَّات الدينيَّة في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة، وأودُّ أن أشدِّد هنا على أنه من خلال الشروع في الرحلة التَعَبُّدية للتِلَاوَة، يعيش الفرد تجربة شخصية للغاية، لاكتشاف تفرُّدِهِ الصَّوتي في لحظاتِ تَجَاوُرِ خُصوصيَّةِ الصَّوتِ الشَّخصيِّ مع بقيَّة المُنْشِدين. في الحفل ذاته، فإنَّ الأعضاء الآخرين، الذين يحاولون عيش التجربة ذاتها على المستوى الفردي، يختبرون أيضاً، وبشكل جماعيٍّ، كيفية التعرُّف على مجموعة معينة تسمي نفسها “صوفِيّة” أو “سَلَفِيّة”. حفل التوقيع، الذي قد يتم إجراؤه في المناسبات الاجتماعية؛ مثل الزواج أو الوفاة أو أعياد الميلاد، يربط الفرد بالمجموعة وبالمجتمع الأوسع، وهكذا، تتشابك علاقات عميقة ومعقدة، ويتَّفق هذا المفهوم لدور الهويَّة للعلاقات مع وجهة نظر فريث؛ بأنَّ الألحان هي مناسبات يتم من خلالها عيش الأفكار على المستويات الفردية والجماعية والاجتماعية (Frith, 1996:110-111). تؤكد النتيجة أيضاً على الملاحظة الرائعة التي قدَّمها ميشون، والتي مفادها أنه في لحظات أداء الألحان المُقَدَّسَة، يمكن للفرد أن يلاحظ، بحركاته وتفاعلاته المتبادلة، الإمكانات التي لم يكن على دراية بها حتى تلك اللحظة (Michon, 1991: 475). علاوة على ذلك، يتفق هذا البحث في أن تِلَاوَة النص الدِّينيّ، هو في الواقع وبصورة مباشرة، امتزاج الإنسان بالكلمة الإلهية، حيث يصبح مشبعاً بأهميته. وهذا يعني، لكلِّ مؤمن، أنَّه قادر على التقرُّبِ من الإله، والعيش في الوجود، وتذوق الأسماء والصفات، قبل أن يكون لديه شعور بالجوهر (Michon, 1991: 483).

كما أود أن ألفت الانتباه، في هذا الاستنتاج، إلى الخِطَابات الإِسلامية الأقدم، وإلى أقدم النُّصوص الإِسلامية “الأصيلة” وطرق فهمها (Sadiki, 2004: 106-110)، وبذلك، دعم الخِطَاب الإِسلامي تطورين متعارضين، أحدهما يحدِّق إلى الأمام، والآخر إلى الخلف في وقت واحد. على هذا النحو، يعتبر المسلم “أصيلاً” من خلال تعلُّم ألحان ابْتِهَالات القُرآن عند جلوسه مع شيخ في حلقة التَّعَلُّم، لكن، من المباح شرعاً، تعلُّم الألحان من خلال الاستماع إلى الأشرطة أو الأقراص المدمجة أو الإنترنت، عبر جهاز لوحي أو هاتف ذكي، ولا يتصدَّى الخِطَاب الإِسلامي السَلَفِيّ لمثل هذه الرؤى المتعارضة، وبالتالي لا يمكن للشَّيخ إصدار فتوى تمنع التطبيق الدِّينيّ لأدوات الحداثة هذه.

فيما يتعلق بالنقطة السابقة، تتفق نتائج هذا الفصل مع آراء وايد القائلة؛ بأنه لا ينبغي النظر إلى “الهياكل المتعددة” المتنافسة على أنها حالة تنشر التعصب، بل يجب النظر إليها على أنها حالة تفتح مجالاً للاختيارات (Wade, 1998: 3-4). بعبارة أخرى، يشجع الهيكل التقليدي لتدريس القُرآن في إعداد الطَّالب ليصبح شيخاً، مع الحفاظ على الروابط القوية بين الطرفين من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن بنية الحداثة التي تساعد على تَعلُّم القُرآن، من خلال صنع مسافة جذرية بين الطالب وشيخه، لا ينبغي النظر إليها على أنها تكرِّسُ بنيتين متعارضتين مع بعضهما.

بدلاً من ذلك، فإن حالة تجربة مثل هذه الازدواجية في المناهج هي أكثر ملاءَمَةً للتَّعايش السلمي في الواقع الاجتماعي متعدد الألحان في البَحْرين. هذه “الثَّقافة” متعددة الأوجه في الميدان اللُّغوي، باستخدام مصطلح ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin’s term)، تصنعُ وضعاً يتحرَّرُ مِنْ خِلالِهِ الطَّالِبُ مِنَ القهرِ الكامل لِبُنْيَةٍ فوقيَّةٍ واحدة.

منذ سبعينيات القرن الماضي، استفادت مراكز تعليم القُرآن في شرق الجزيرة العَرَبِيَّة من المساعي السَلَفِيّة لإحياء تداول ثقافتهم الجماهيرية، ومع ذلك، فإن اهتمامهم بالسيطرة على قنوات تعليم القُرآن، يعكس أيضاً فهماً عميقاً لخِطَاب ترديد النُّصوص المُقَدَّسَة، وكيف يعمل هذا الخِطَاب كجهاز يؤسس الهيمنة الدينيَّة في المنطقة. هناك مسألة أخرى تمَّت ملاحظتُها هنا؛ وهي أن المَجَالِس الصوفِيّة ليست مخصَّصة فقط لإِنْشَاد النُّصوص المُقَدَّسَة، ولكنَّها أيضاً مراكزُ قُوَّةٍ تٌشَكِّلُ الفروع الصوفِيَّة، وهي المجموعات الفرعية داخل الجماعات الصوفِيّة الكبيرة، وبالمثل، فإنَّ مراكز تعليم القُرآن، هي مناطق قوة تعمل على تشكيل وإضفاء الشرعية على المجموعة الفرعية السَلَفِيّة داخل السَلَفِيّة العَرَبِيَّة الشرقية.

أخيراً، من المهم ملاحظة أن منشد النُّصوص المُقَدَّسَة لديه ميلٌ شخصي نحو مقامات وألحان معينة. على هذا النحو، كلما أدَّى صوفِيٌّ جديدٌ فإنَّهُ يترك انطباعاً مختلفاً على المستمع، الذي يمر بالتغييرات عندما يتغير المنشد. وبالمثل، يواجه المشاركون تجربة جديدة كلَّما قرأَ إمامٌ جديد القُرآنَ في المسجد الحرامِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَة.

عندما يؤدي صوتٌ جديد نصوصاً مقدَّسةً مِن مكانٍ مُقَدَّسٍ، فإن الصَّوتَ يخدعُ روحانية المستمع بطريقة مختلفة، وتنتج الألحان الديناميكية والمتغيرة للنُّصوص المُقَدَّسَة، وتعيد إنتاج هويَّات دينيَّة تتغيَّر أيضاً باستمرار. عند التفكير في كيفية تأثير الألحان التجريبية على الهويَّات، يؤكِّد هذا الفصل أنَّ الألحان والهويَّة هي عملية ديناميكية (Frith 1996: 113)، كما أنَّها تتَّفق مع فكرة أنَّ الهويَّة دائماً في حالة تغيُّر مستمر، فهي تتحوَّل وتتغيَّر، وتستقرُّ في حالةٍ طارئة حيناً، وتخضع للتأريخ الراديكالي، وتتشكَّل عبرَ خِطَاباتٍ وممارساتٍ متنوِّعة، وغالباً ما تكون متداخلةً ومتعارضة، وتكونُ دائماً في حالة تأهُّبٍ ضمن عملية الصيرورة (Hall, 1996: 1-4).

________

*ترجمة من الأصل الإنجليزي إلى العربية  الدكتور مصطفى عبد الفتاح (رحمه الله).

(ملاحظة كتبت المقالة باللغة الإنجليزية وذلك عبر بحث ميداني ابتدأ من عام 2000 وامتد. بعض الشخصيات توفت، وبعض المؤسسات اختفت، عليه وجب التنويه)>

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات