بين نيتشه وكانط؛ الحداثة الغربيَّة بين حقيقة التوحُّش ووهم التحضُّر
بين نيتشه وكانط، يمكننا فصل المقال فيما بين الصورة الحقيقيَّة للحداثة الغربيَّة/ ما هو كائن دون ماكياج، وبين الصورة المتخيَّلة/ما يجب أن يكون باستعمال الماكياج !
** ما هو كائن، الحداثة الغربيَّة عدميَّة وانحطاط، بالصياغة النيتشويَّة، وهذا عايشه العالم، عمليًّا، منذ بزوغ فجرها (ق 15) الذي يؤرِّخ لمذابح وحرائق الغرب ضدّ الشعوب الأصليَّة وراء الأطلسي/ (العالم الجديد) ، مرورا بمرحلة تجبّرها (ق 19) الذي يؤرِّخ للمذابح والحرائق التي قادتها الحركة الاستعماريَّة الغربيَّة ضد القارتين الإفريقيَّة والآسيويَّة، وصولا إلى حالة الانتحار الذاتي مع الحربين (الغربيتين) الأولى والثانية (ق 20).
** ما يجب أن يكون، الحداثة الغربيَّة، أنوار/تنوير، أي ﲡﺎوز اﻹﻧﺴﺎن ﳊﺎلة اﻟﻘﺼﻮر اﻟﱵ ﻫﻮ ﻣﺴﺆول عنها عبر عجزه ﻋﻦ توظيف ملكة العقل… هذا ما خطّه كانط (ق 18) وهو يحاول التمويه عن البرجماتيَّة الميكيافيليَّة (ق 15) التي تقوم على مبدأ “الغاية تبرِّر الوسيلة”. ورغم التمويه الكانطي، ظلَّت الميكيافيليَّة هي الموجّهة للنظام القيمي الغربي، حيث تمّ محو كل الخطوط الحمراء التي وضعها الإنسان لتكريس خصوصيته بعدما خرج من مملكة الحيوان.
هذا ما وعاه الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” (ق19) بحسّه الفيلولوجي الثاقب، وهو يمارس حفرياته الفلسفيَّة كاشفا عن جينيالوجيا المنظومة الفكريَّة/ القيميَّة الغربيَّة التي ولدت ونشأت مع الحداثة، كمنظومة للعدميَّة والانحطاط/ La décadence.
العدميَّة/الانحطاط الغربي يدركه، أكثر، من تعمق في متون الحداثة وانفتح على تيَّارها النقدي. أمّا الحداثوي المراهق الذي ينبهر بكل لمعان عابر ويعتبره ذهبا، فهو يكتفي بالمواعظ الكانطيَّة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنَّها تموّه عن حقيقة الانحطاط/العدميَّة الغربي باسم شعارات أخلاقويَّة/عقلانويَّة زائفة يدحضها واقع الممارسة الرأسماليَّة الموغل في التوحُّش.
لذلك، نخطئ، أحيانًا، حينما نوظِّف المنهجيَّة الكانطيَّة التي تتعامل مع الغرب كعالم متحضِّر قطع مع طفولته البشريَّة/بدائيته وحقق النضج الحضاري، بينما الأجدى هو توظيف المنهجيَّة النيتشويَّة التي تتعامل مع الغرب كجماعات من البدو الرّحّل مقياس أخلاقهم كلؤهم قبل كلأ دوابهم.
لقد راكم المتن الحداثي الغربي أوهامًا إيديولوجيَّة عن الإنسان الغربي الـــ (متحضِّر) الذي حقَّق طفرة بيولوجيَّة عن الإنسان البدائي، نتجت عنها قطيعة ابستملوجيَّة مع الفكر ما-قبل الحداثي !
لكن، العبقري “نيتشه” كان فطنًا ولم ينطل عليه التزييف الحداثوي، لأنَّه يدرك نفسيَّة الإنسان الغربي ذلك المسيحي المحروم، ماديًّا ورمزيًّا، الذي يتصوَّر الحياة مرضًا/خطيئة، يسعى إلى التخلُّص منها بتناول السمّ على الطريقة السقراطيَّة.
______
*د. إدريس جنداري – باحث في سوسيولوجيا الثقافة .
*المصدر: التنويري.