النُّقود التي وجَّهها أوليفيي روبول لكتاب “مجتمع بلا مدارس” لإيفان إيليتش
مِهَادٌ إِشْكَالِيٌ:
يعتبر إيفان إيليتش Ivan Illich (1926-2002)، فيلسوفاً وسوسيولوجياً تربوياً بامتياز، إضافة إلى كونه كاثوليكياً كرواتياً نمساويُّ الأصل، الذي نلمس فيه حساً نقدياً لاَذِعاً للحضارة الغربية بشكل عام، والذي كان متأثراً بالأفكار المسيحية الكاثوليكية، إضافة إلى الأفكار الثورية الماركسية، ومن غريب الصدف، أن المسيحية والماركسية لا يجتمعان أبداً! حتى اجتمعا في هذا الفيلسوف، أقصد إيفان إيليتش! نضيف كذلك أنَّه كان رحالاً، أي متنقلاً جغرافياً بين فرنسا وإيطاليا والنمسا وكرواتيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، ومتقناً للعديد من اللغات العالمية كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية، سيكتب مؤلفه الشهير “مجتمع بلا مدارس” سنة 1971م، والذي سيثير ضجة على المستوى العالمي، حيث إنَّ صَدَاهُ سيصل إلى فرنسا آنذاك، وسيعمل أوليفيي روبول Olivier Reboul(1925-1992) على الردّ على هذا الكتاب، أو على هذه الفكرة “مجتمع بلا مدارس”، وذلك من خلال شذرات في كتبه المتفرِّقة، بدءاً من كتاب “فلسفة التربية”، سلسلة “ماذا أعرف؟”، الصادرة عن المطابع الجامعية لفرنسا، سنة 1974م، أو كتاب “ما معنى التعلُّم؟” الصادر عن المطابع الجامعية لفرنسا، سنة 1980م، إضافة إلى كتاب “لغة التربية”، الصادر دائما عن نفس المطابع، سنة 1984م، ثم أخيراً كتاب “فلسفة التربية”، الذي سيقوم بالتعديل عليه وتنقيحه في حلة جديدة، في سلسلة “ماذا أعرف؟”، المطابع الجامعية لفرنسا، سينشره سنة 1989م، وهو الذي سنعتمد عليه نظراً لتخصيصه فقرة كاملة منه عنونها بـ “المدرسة” يوجِّه فيها جام نقده لفكرة مجتمع بلا مدارس لصاحبها إيفان إيليتش.
إذن ما نلحظه هنا، هو أن هناك نقاشًا نقديًّا مفتعلّا، شَبَّ بين كل من أوليفيي روبول المدافع العام عن المدرسة، وإيفان إيليتش الناقد/الرافض للمدرسة.
ومن أجل توجيه هذا النقاش الناقد وعقلنته، ارتأينا كتابة مقال هو عبارة عن تعقيل لهذا الجدال، حيث جعلنا من إيفان إيليتش مناظرا لخصيمه أوليفيي روبول، وهي عبارة عن مناظرة افتراضية، حيث لم يحدث في الحقيقة نقاش وجدال وسجال ودي واقعي بينهما، بل كل هذا مجرد فرضية، لكن النقود الموجهة لإيفان إيليتش حقيقية!
ولهذا نوجه هذا النقاش عبر مجموعة من الأسئلة المنظَّمة الموجَّهة للتحليل والمناقشة النقديَّة، وهي كالآتي:
أولاً: ماهي الأفكار العامَّة لكتاب “مجتمع بلا مدارس” لصاحبه إيفان إيليتش؟
ثانياً: ما هي النقود التي وجَّهها أوليفيي روبول لكتاب “مجتمع بلا مدارس” لإيفان إيليتش؟
ثالثاً: ماهي مقترحات أوليفيي روبول لفكرة المدرسة؟
إذن سنحاول الانطلاق من الأسئلة أعلاه، محاولين الإجابة عنها وذلك بغرض توجيه نقاشنا النقدي، وذلك بالتعرُّف أولاً على مجمل الأفكار الأساسيَّة لكتاب “مجتمع بلا مدارس” لصاحبه إيفان إيليتش وهي كالآتي:
- رفضه إلزاميَّة التعليم المدرسي أو المدرسة.
- رفضه استبداديَّة النظام المدرسي أو المدرسة.
- دفاعه المستميت من أجل الحرية وتحرُّر الإنسان من كل القيود المؤسَّساتيَّة المفروضة على الحياة.
- البديل الذي يقترحه إيفان إيليتش هو أن يستفيد جميع الناس بدون استثناء من تربية وتعليم مفتوح Ouvert و مرغوب فيه من قبل المتعلم، وهذا النمط من التعليم هو تربية و تعليم مدى الحياة Life long education .
- يسمَّي إيفان إيليتش هذا النمط من التعليم البديل “شبكات التعليم”، وما شجَّعه على ذلك، هو التجربة التي قام بها بمعية رفقائه، وهي تجربة تعليم اللغة الإسبانية في أحد أحياء نيويورك، وكذا في ضواحي ميكسيكو، حيث أذهله نجاح هذه التجربة في تعليم اللغة الإسبانية لأناس لا يعرفون عنها شيئا وبسرعة.
- ينتقد الكلفة الباهظة للتعليم، والميزانيات الضخمة التي تصرف عليه بدون أية نتائج فعالة!
- دعوته إلى اللامدرسية / Unschooling/Déscolarisation أو التعليم غير المدرسي أو التعلم اللامدرسي، وهو تعلم فطري طبيعي، أو التعليم والتعلم الذاتي، أو تكوين موجه ذاتي، وهو تعليم يرتكز أساسا على الميول الذاتية والرغبات الداخليَّة للمتعلِّم.
ولهذا قصد إيليتش من خلال التعريف الذي يعطيه للمدرسة، حيث يعتبرها “مكانا تتجمع فيه كائنات بشرية في سن معين حول مدرس. يخضعون فيها لحضور إجباري مع ضرورة اتباع برامج محددة” [1]، ومعنى ذلك أن إيليتش ينتقد المدرسة من جهة إلزاميتها وكذا من جهة احتكاريتها على اعتبار أن “المدرسة الإجبارية تدمر لدى الشباب الرغبة في التعلم وتعارض هكذا الغاية التي تدعي أنها تخدمها” [2]، نلحظ هنا أن أوليفيي روبول يحاول أن يختزل أطروحة إيفان إيليتش في مجموعة من الأفكار الأساسية وذلك بغرض نقدها وتحديد قيمتها وحدودها فيما بعد، خاصة عندما سيعتبر أنَّ دور المدرسة لا يمكن تعويضه خاصة وأنها “تضمن تكوينا أخلاقيا خاصا. فهي تعلِّم قيما لا نجدها لا في الأسرة ولا في عالم الشغل مثل المساواة، العدل، الحسِّ النقدي” [3]، هذه التربية على القيم الأخلاقية والقيمية، لن نجد لها مكانا آخر غير المدرسة، فالحياة التي يدعو إيفان إيليتش للانفتاح عليها لن تعلمنا العديد من القيم التي يتعلَّمها المرء داخل المدرسة وفقط، حتى الأسرة رغم ادِّعائها أنها تعطي تعليما قيميا إلا أنها لا تقدِّم لنا حسًّا نقديا أو التربية على الحكم النقدي والاستقلال الذاتي وتحمل المسؤولية، كما أن إيفان إيليتش يدافع عن فكرة التعلم بواسطة المحاولة والخطأ لثورندايك، عن طريق تعميمها أثناء التعلم في الحياة، إلا أننا كما يقول روبول : “لا نصير علماء جغرافيا أو متخصِّصين في علم الهندسة بواسطة هذه المحاولات والأخطاء، بل لا بد من المدرسة” [4]، وبالفعل فلا يمكن أن نصبح علماء جغرافيا، إذا انطلقنا من تحديدات الحياة أو جغرافيا الحياة، ذلك أن الجغرافيا هي علم قائم بذاته، حدد موضوع خاصا به بالدقة المطلوبة إبستيمولوجياً، ومناهجه وطرائقه التطبيقية الخاصة به أيضًا، كما هناك العديد من الأشكال والأنواع في حقل الجغرافيا، إضافة إلى العديد من النظريات الجغرافية سواء القديمة أو الحديثة أو حتى المعاصرة، وهكذا في جميع العلوم، كما ينتقد روبول كذلك، حتى تلك الزيارات التي دعى إليها إيفان إيليتش؛ “إذ ليس بزيارتنا لمعمل الفيزياء نتعلم الفيزياء، وليس بملاحظة الزهور نفهم النباتات؛ فالحياة جد غامضة لكي تعلم” [5]، ولعل هذا في حقيقة الأمر ما تمتاز به المعرفة المدرسية، وسيعبر عنها بقوله : “أولاً، هي معرفة طويلة المدى. (…).
ثانياً، هي معرفة منظَّمة. (…).
ثالثاً، هي معرفة مضبوطة أو مكيفة من قبل الديداكتيك. (…).
رابعاً، هي معرفة برهانيَّة. (…).
خامساً، هي معرفة نزيهة، بمعنى خالية من كل غاية مهنية أو غيرها. (…).”[6].
إذن ما يمكن ملاحظته هنا، هو أن روبول يلعب دور المدافع عن المدرسة، بل عن المعرفة المدرسية، والتي هي معرفة طويلة الأمد، أي نافعة مدى الحياة، تنعكس إيجاباً على صاحبها وتؤثر عليه مدى الحياة، فهي ليست معرفة آنية أو لحظية، بل معرفة ممتدة، كما أنها معرفة منظمة، فهي ليست بتلك المعارف العشوائية والتلقائية والعبثية، والفارغة من المعنى والغاية، بل هي معرفة منظمة ومضبوطة بدقة ومتنوعة، ولعل المقصود هنا بكلمة “مضبوطة” هي أنها مكيفة ومعدلة بواسطة الديداكتيك، تجذر الإشارة هنا إلى أن الديداكتيك هو فن تدريس مادة دراسية معينة، وبالتالي فالتعديل الديداكتيكي هو تعديل يشمل المواد الدراسية أو المعرفة الدراسية، وذلك من خلال جعل المعرفة قابلة للتدريس عبر نقلها من مجالها العَالِم إلى مجال قابل للتدريس، وهذا التعديل هو ما يطلق عليه النقل الديداكتيكي، كما أن المعرفة المدرسية معرفة برهانية، أي معرفة استدلالية وحجاجية، أي معرفة يمكن البرهنة عنها والاستدلال عليها وتبريرها، نعم معرفة قابلة للتبرير، عقلية ومنطقية، أي متماسكة منطقياً، أما فيما يتعلق بالخاصية الأخيرة والمهمة، هي أن المعرفة المدرسية معرفة حيادية ونزيهة من كل غرض أو غاية مهنية، فالنزاهة والشفافية والموضوعية وترك مسافة بين الذات والموضوع هو ما يميز هذه المعرفة المدرسية، فليس الغرض منها إعداد عمال أو حرفيين أو صناع أو تقنيين أو متخصصين، حيث أن المعرفة المتلقاة في المدرسة نزيهة عكس المعرفة المتلقاة في معاهد التكوين المهني، هذه الأخيرة التي غرضها تكوين مؤهلين وتقنيين متخصصين بغرض ولوجهم لسوق الشغل، المعرفة المدرسية هي معرفة عامة تقدم للمتعلمين، لا تهدف ولوجهم لسوق الشغل أو تقبل مهن مخطط لها سلفا! ولهذا نجد أن طبيعة المعارف المدرسية أنها معارف منظمة ومنسجمة بشكل منطقي : “ليست هناك كيمياء بدون أسس رياضية، ولا أدب بدون كفاءة لغوية وبلاغية، باختصار ليس هناك تعليم بدون محتوى يتم من خلاله تحديد المكتسبات الأولية، أي ما ينبغي معرفته أولا لكي تتم متابعته” [7]، ونفس الأمر من الناحية الأخلاقية والقيمية، فيضيف : “الحياة هي جائرة، متعسفة، مستلبة؛ ودور المدرسة هو الضبط أن تعلم قبل فوات الأوان، العدالة والمساواة الحقة” [8]، وبالفعل فعندما نتحدث عن الحياة، نتحدث عن الحرية العمياء، غير العاقلة، لذلك يأتي دور المدرسة الرئيسي المتمثل في الضبط، على الأقل ضبط تلك المصطلحات والمفاهيم الأخلاقية والقيمية مثل العدالة والمساواة الحقة والإنصاف والحرية المسؤولة،…إلى آخره.
كما يرى روبول أن “على المدرس أن يبرمج داخل المحتوى تعليمه الخاص، وملائمته مع مستوى تلامذته وحاجياتهم. فإذا اكتفى بسبب ملل أو إكراه، بالبرنامج الذي تم تحديده من الخارج، فإنه بهذه الطريقة يتخلى عن وظيفته كمدرس ويصبح كما لو أنه يدرس بدون محتوى” [9]، لذلك فالمدرس يحاول ما أمكن إبداع طريقة تعليمية خاصة به، بغض النظر عن المحتوى المدرسي الرسمي، وبهذا يصبح المدرس شخص مبدع، لا يمكن الاستغناء عنه، ولا وجود لتعليم بدون مدرسين ولا يمكن أن يوجد، فهو موجه ومرشد وميسر ومسهل وفاعل ومبدع ونصوح ومساهم إيجابي في العملية التعليمية التعلمية، “إن فكرة أن أي أحد يمكنه تدريس أي شيء، هو شيء مناقض للتعليم” [10]، وهي الفكرة التي يدافع عنها إيفان إيليتش، إن العملية التعليمية التعلمية عملية عقلانية، تحتاج إلى مدرس ينظمها، بل أصبح المدرس ضروريا جداً، ذلك أنه يوجهنا ويرشدنا ويسهل علينا طريق تحصيل العلم والمعرفة.
كما أن هناك فكرة غريبة عجيبة جدا في كتاب “مجتمع بلا مدارس” وهي فكرة أن الأطفال والراشدين الذين يشعرون بالرغبة في التعلم، بغض النظر عن ما يريدون تعلمه، يمكن أن يتعلموا بأنفسهم عبر ذاتهم أو بالرجوع بكل حرية إلى أشخاص متخصصين أكفاء، وهذا هو مربط الفرس، فحسب روبول “من يضمن أن الراغبين في هذا النمط سيجدون متخصصين فعليين وليسوا مجرد متطفلين؟ وحتى إن تعلق الأمر بمتخصصين حقيقيين، فهؤلاء قد تم تكوينهم من طرف التعليم الحالي، وهو إذن ليس سيئاً للغاية؛ ثم من يقول لنا بأننا في الجيل الثاني أو الثالث سنستمر في إيجاد متخصصين أكفاء؟” [11]، لذلك يجب علينا الحذر أثناء العملية التعليمية التعلمية، من أن نتعلم على أيدي أشخاص غير أكفاء، فالمتخصصين الأكفاء هو ما تحاول المدرسة أن توفره لنا، فالأستاذ متخصص كفؤ في تخصصه، فليس من السهل أن تصبح مدرسا، الأمر يحتاج إلى بكالوريوس أو إجازة أساسية في التخصص مع تكوين تربوي بيداغوجي وديداكتيكي صارم جداً، الحياة لن توفر لنا مثل هكذا متخصصين أكفاء ! “إن التربية الجديدة في دعوتها لهذا الشعار، تنسى أن الحياة ليست مدرسة، وإنما هي معركة شاقة على المدرسة أن تهيئنا لها” [12]، إذن شعار “المدرسة في الحياة” يحتاج إلى إعادة النظر والتفكير مليا وبجدية، ولذلك “إذا كان بالإمكان تعلم أشياء وأشياء مهمة خارج كل تعليم، فإن ذلك لن يكون إلا من خلال تعليم منظم يسمح بالتعلم، بحيث يعد لمواجهة وضعيات الحياة وذلك بمحاكاتها” [13]، هنا يدعو إلى تعليم منظم ومضبوط جداً، وصارم أيضًا ينطلق من وضعيات مشكلة متواجدة في الحياة عبر محاكاتها، وذلك بغرض حل هذه الوضعية المشكلة وتجاوزها، وهنا تصبح الوضعيات الحياتية وضعيات يتم مجاوزتها داخل أسوار المدرسة.
يضيف كذلك قائلاً: “في المدرسة يوجد الوقت الكافي لتفكيك فعل ما، وتحليل معطيات مشكلة ما، وتعويض تمرين شامل بتمارين جزئية، وأيضاً القيام بالشرح. ثم هناك مزية أخرى هي غياب الخطر بالنسبة لمن يتعلم؛ ذلك أن المشكلات التي تطرح في المدرسة مماثلة لتلك الموجودة في الحياة، لكن دون تحمل نتائجها، (…)، في المدرسة، إن لم يُكْتَبْ حرف بشكل صحيح لن يكون سببا في إلغاء التوظيف، ووقوع خطأ في الحساب لن يخرب أحدا، وحماقة التلاعب لن يترتب عنها خطر. فلا تعد مدرسة السياقة مدرسة إلا لأن أخطاء السياقة لا تنتج حوادث.” [14]، رغم طول هذه الفقرة إلا أنها مهمة جداً ويمكن أن نستشف منها العديد من الأفكار الجوهرية التي تدافع عن بقاء المدرسة وهي كالآتي:
- أولاً المدرسة تتيح لنا الوقت الكافي لتفكيك وتحليل فعل ما أو مشكلة ما.
- المدرسة تتيح لنا الاشتغال على وضعيات تربوية ديداكتيكية مفترضة، هي عبارة عن وضعيات مشكلة وجب حلها في نهاية المطاف.
- يتطلب الاشتغال على هذا النوع من الوضعيات المشكلة، الانطلاق من تمارين عبارة عن حالات أو مسائل شاملة، لننتقل فيما بعد إلى حالات وتمارين جزئية، بمعنى الانتقال من المركب المعقد إلى البسيط المجزئ.
- الوضعيات المشكلة المطروحة داخل الفصل الدراسي هي نفسها الوضعيات المطروحة في الحياة، فقط نعمل على حلها دون تحمل نتائجها.
- كما أنه داخل فضاء المدرسة تتاح إمكانية طرح الخطأ ومحاولة تجاوزه، بمعنى أن المدرسة تؤمن بيداغوجيا الخطأ، عكس الحياة التي ترفض الوقوع في الأخطاء.
كما يتساءل روبول بقوله : “عندما ينتقد الطالب قيمة قول ما، فهو يقوم بذلك دون أن يؤذي أي شخص آخر، حتى دون أن يؤذي ذاته، فهل يمكن أن نطور حسه النقدي في مكان آخر غير المدرسة؟” [15]، وبالفعل فالحياة لا تنمي الحس النقدي، عكس المدرسة التي تشجع على تنمية الروح النقدية لدى المتعلمين، وتحثهم على تحديد قيمة وحدود كل قول معين، الحياة لا تعلمك النقد أو كيف تنتقد، فهي تعودك على التلقي السلبي بدون إعمال حاسة النقد، وتجذر الإشارة إلى أن أوليفيي روبول فيلسوف النقد بامتياز لأنه تجسدت فيه هذه الحاسة النقدية التي علمتها له المدرسة، والتي طبقها بغرض هدم تصور إيليتش وتقديم البديل، كما انتقد بذلك عددا من المفكرين الذين حاولوا إلغاء سلطة المدرس والمدرسة، نشير هنا إلى روجيرز، أما إيليتش فهو يدعو ليس فقط إلى ضرورة إلغاء سلطة المدرسة وإنما يعمم إلى إلغاء المدرسة بشكل تام! ذلك “أن ما يدَّعون هدمه هو التعليم كإكراه خارجي، أي مؤسسي، لصالح التربية باعتبارها تسمح بازدهار الشخصية المبدعة لدى الفرد” [16]، لذلك فبدل انتقاد الإكراه الخارجي الذي يمارسه التعليم المؤسسي على حياة الفرد، والدعوة إلى تكوين الحرية الخلاقة لدى الفرد، يدعوا إيليتش إلى رفض المدرسة بشكل عام، هذا لا يمكن بتاتا، خاصة وأن إيليتش ينتقد المدرسة من جهة إلزاميتها وكذا من جهة احتكاريتها على اعتبار أن “المدرسة الإجبارية تدمر لدى الشباب الرغبة في التعلم وتعارض هكذا الغاية التي تدعي أنها تخدمها” [17]، وهذه الفكرة هي ما سيرفضها روبول وينتقدها وبشدة، ويقترح بديلا عن ذلك، وهو على الشكل الآتي:
“ولهذا فإن فلسفتنا للمدرسة لا تكون لها قيمة إلا إذا استكملناها بفلسفة البيئة التعليمية الثالثة: الحركات الشبابية، المراكز الثقافية، جمعيات الهواة، بعض دورات التعليم المستمر الخاصة بالثقافة، إلخ. (…) . بمعنى آخر، ليس من العدل أن يكون لدى الناس مدرسة فقط لتعليم أنفسهم. إن احتكار المدرسة، حيث تميل إلى فرض نفسها، هو أمر مَرَضِيٌّ؛ وهذا يثبت أن المجتمع أصبح ضد التربية.” [18] (أنظر المرجع)، ولهذا فما نلحظه في هذا البديل الذي يقترحه روبول هو أنه بديل يدعوا إلى أن تنفتح المدرسة على محيطها، وأن يصبح التعليم ليس حكرا على المدرسة وفقط، وإلا سقطنا في مجتمع ضد التربية والتعليم، ولهذا يجب على التربية والتعليم أن يَمْتَدَّا، ليشملا الحركات الشبابية، المراكز الثقافية، جمعيات الهواة، بعض دورات التعليم المستمر الخاصة بالثقافة.
على سبيل الختم، نلحظ أن أوليفيي روبول حاول توجيه نقود سديدة لأطروحة “مجتمع بلا مدارس” التي كانت متسرعة في الإعلان عن أفكارها، وكان ينقصها نوع من الحكمة أو السداد في الرأي، أو الآراء التي تضمنتها، بل حتى التعليم الشبكي الذي اقترحته، لم يكن حكيما لتلك الدرجة لنعوض به وظائف المدرسة المتعددة، لذلك عمل على هدم ونقد ودحض أطروحته بغرض مجاوزته، خاصة عندما أهملت المدرس ونفت المدرسة، فكأنها سقطت في التناقض، عندما ألغت دور المدرسين ودعت إلى أخذ الخبرات من متخصصين أكفاء، فمن يكون هؤلاء المتخصصين الأكفاء غير الأساتذة؟ فليس من السهل أن تصبح أستاذا، حيث لا تصبح مدرسا إلا بعد تراكم الخبرة المعرفية والبيداغوجية والديداكتيكية، كما أبانت الظروف، ضرورة وجود أستاذ يلعب دور المُوَجِّهُ والمُخَطِّطُ، والمرشد والنَّصُوحُ والمُيَسِّرُ والمُسَهِّلُ للعملية التعليمية التعلمية، لذلك يقدم لنا روبول نموذجا مقترحا لتجاوز أزمة المدرسة، عن طريق عدم احتكاريتها للتعليم، بل تقوم بهذا الدور هي والعديد من المؤسسات الأخرى الذين يمثلون دور الشركاء في التدريس، كما أنه يرفض كل إلزامية، ويدافع دفاعا مستميتا عن حرية الفرد واستقلاليته الذاتية.
__________
المراجع والمصادر المعتمد عليها :[1]-Reboul, Olivier, Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P103.[2]-أوليفيي روبول، لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي، ترجمة: عمر أوكان، أفريقيا الشرق-المغرب، 2002، الدار البيضاء، ص 177.[3]-Reboul Olivier, LA PHILOSOPHIE DE L’ÉDUCATION, PUF, PRESSES UNIVERSITAIRE DE FRANCE, 1989, Paris, P41-42.[4]- Reboul, Olivier, Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P103.[5]- أوليفيي روبول، لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي، ترجمة: عمر أوكان، أفريقيا الشرق-المغرب، 2002، الدار البيضاء، ص 71.[6]- Reboul Olivier, LA PHILOSOPHIE DE L’ÉDUCATION, PUF, PRESSES UNIVERSITAIRE DE FRANCE, 1989, Paris, P41-42-43.[7]-ibid, P40.[8]- أوليفيي روبول، لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي، ترجمة: عمر أوكان، أفريقيا الشرق-المغرب، 2002، الدار البيضاء، ص 71.[9]- Reboul, Olivier, Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P138.[10]-ibid, P110.[11]-ibid, Même page.[12]-Reboul, Olivier, Les valeurs de l’éducation, PUF, 1992, Paris, P10.[13]- Reboul, Olivier, Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P14.[14]-ibid, P15.[15]- أوليفيي روبول، لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي، ترجمة: عمر أوكان، أفريقيا الشرق-المغرب، 2002، الدار البيضاء، ص 99.[16]- Reboul, Olivier, Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P101.[17]-ibid, P110.[18]- Reboul Olivier, LA PHILOSOPHIE DE L’ÉDUCATION, PUF, PRESSES UNIVERSITAIRE DE FRANCE, 1989, Paris, P45. Voir: ” C’est pourquoi notre philosophie de l’école n’a de valeur que si on la complète par une philosophie du tiers milieu éducatif : les mouvements de jeunesse, les maisons de la culture, les associations d’amateurs, certaines formations continues à but culturel, etc. Et la jeunesse populaire aurait sans doute bien plus besoin de ce tiers milieu que la jeunesse privilégiée. Autrement dit, il est inique que le peuple n’ait que l’école pour s’instruire. Le monopole de l’école, là où il tend à s’imposer, est pathologique ; il prouve que la société est devenue anti-éducative.”
__________
محمد فراح:طالب في المدرسة العليا للأساتذة بالرباط، سلك الإجازة في التربية تخصص التعليم الثانوي التأهيلي-الفلسفة، السنة الثالثة.
*المصدر: التنويري.