المقالاتفكر وفلسفة

الملاذات الهشَّة

مقدِّمة وسياق:

يطلُّ الهاجس الفلسفي مع كل منعطف حرج تضطرب معه مسيرة المعهود من مواضعات الحياة المستقرَّة. وقد شكَّلت وسائل الاتِّصال، منذ القديم، خضَّات قيميَّة حادَّة، وكانت مقدّمات لتحوّلات كبرى في الأنساق الثقافيَّة للأمم والشعوب، ولكن في حدود الزمان والمكان، أو دوائر وملاذات الانتماء المغلقة. غير أن السرعة والشمول اللذان انطلقت بهما ثورة الاتِّصالات الحديثة، وتحدّيها المطلق للقيود والحدود، أوجدا إشكاليات فلسفيَّة عميقة في كل مناحي الحياة، ليس أقلّها التهديد المباشر للقيم المستقرَّة، وما ارتبط بها من تنشئة، وغرس محدّدات الهويَّة، وترسيخ يقينيات الأمن والحماية المجتمعيَّة. ومن ثم التأكيد على المفاهيم المعقَّدة للملاذات الضامنة لاتزان السلوك الجمعي، في الزمان والمكان، التي تتناقض مع مفاهيم تجزئة المجتمعات الافتراضيَّة، والتي أدَّت وتؤدِّي إلى توتّرات ثقافيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة، كلما اختلت معادلاتها غير المستقرَّة.

بهذا الفهم، تعترف هذه المساهمة بالتغيرات المتسارعة في بيئات الأجيال الجديدة، وما ينعكس منها على المعرفة المرتبطة بأهميَّة فهم الشباب لفضائهم الخاص، ومشاركتهم في القضايا المتعلقة بمجتمعاتهم المحليَّة والعالم الأوسع. ويلزم هنا أن نُشير أيضاً إلى أنه لكي يفهم الشباب هويتهم، التي هي ملاذهم الآمن، ويطوّروا شعوراً بالانتماء لمنظومة من القيم الراسخة، فإنَّ إرساء العلاقة الصحيحة بين الخبرات المحليَّة والعالميَّة أمر بالغ الأهميَّة. إذ تطرح هذه المسألة، في الوقت الحاضر، بعض التحدّيات أمام الاعتراف بأهميَّة الهويَّة كملاذ جمعي بالنسبة للشباب في مجتمعاتهم المحليَّة، ودورهم في فهم تنوّعات المجتمع العالمي، الذي يعيشون فيه. والأساس المنطقي لذلك، هو أنه في الوقت الذي يتمّ فيه الاعتراف بسيادة وسائل التواصل الاجتماعي كعامل رئيسي يؤثِّر في حياة الشباب في الفضاء الافتراضي، لم يكن هناك جدل كبير في مؤسَّسات التعليم بشأن العلاقات بين الهويَّة والعيش في مجتمع تقليدي راسخ القيم.

تداخل المحلي والعالمي:

إنَّ الفضاء الافتراضي يجب أن يُنظر إليه، في المقام الأول، على أنه مرتبط باختلال منظومات القيم التقليديَّة في المجتمعات الحديثة على نطاق عالمي، إذ تحوَّلت الروابط القائمة بين الأفراد والمجتمعات، وتلك التي يجري تطوير تحويرها محلياً وعالمياً، إلى ملاذات هشَّة وفضفاضة، لا تقي من جائحات الأيام وعوادي الزمن، بنفس القدر الذي كانت تقدّمه كثافة منظومات الحماية الموضوعيَّة والعضويَّة للملاذات التقليديَّة. ومن هنا، يمكن القول إنَّ الشباب هم الأكثر تضرّراً بشكل مباشر من ثورة الاتِّصالات وتبعاتها، لأنهم لم تتجذَّر في وعيهم أسس المناعة الاجتماعيَّة الجمعيَّة. وبالتالي، هم محور النقاشات الحاليَّة حول الهويَّة والانتماء كمعادلين موضوعيين لفكرة الملاذات التقليديَّة. إذ إنهم يختبرون عالمهم الافتراضي على أساس يومي من خلال استخدامهم للإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، ويتعرَّضون لتأثيراتها الثقافيَّة الأوسع على أنماط حياتهم، وطبيعة العلاقات، ومجموعات الصداقة التي يطوّرونها فيما بينهم، قبل أن يكتمل تَشَكُّل وعيهم بإرثهم الخاص، بينما هم محاطون بمجموعة هائلة من اللافتات والموارد الرمزيَّة المنزوعة عن المراسي والرواسخ التقليديَّة.

لهذا، فإنَّ حياة كل فرد من الأجيال الجديدة تتشكَّل عبر رسائل قوى افتراضيَّة، وفيض من المعلومات مجهولة المصدر، والتشكيك الممنهج في الضوابط الأخلاقيَّة التقليديَّة والدينيَّة، وفوضى من القيم المتناقضة والمتعارضة، ودعوات متزايدة لتبني التعدديَّة الاجتماعيَّة الأوسع. الأمر الذي يستلزم مراجعة الخطوط العريضة للمناهج الدراسيَّة، التي تحتاج إلى فهم هذا العالم متعدِّد القنوات، والنظر بعمق لتشابك العلاقات بين العرق والدين والثقافة والهويات، حتى نُدرك أبعاد الملاذات الجديدة والعديدة، والتي تسكنها هذه الأجيال. فيما تحتاج السياسات التعليميَّة إلى إدراك الطبيعة المعقَّدة للفضاءات الافتراضيَّة، ومدى تأثير ما يسمَّى بالقيم العالميَّة على المجتمعات المحليَّة، التي إن لم يجري تكييفها بشكل عقلاني، قد تؤدِّي إلى شعور البعض من الشباب بأنهم أكثر عزلة. فالانترنت بطبيعتها، التي تلغي ما تعارف عليه الناس من مدّيات الزمان والمكان، تضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى تماسك المجتمعات التقليديَّة، أي أنه عندما تُصبح وسائل التواصل في متناول معظم الناس، وتمكِّن تقنياتها الحديثة الأجيال الجديدة من الانغماس في الثقافات الموجودة في أماكن أخرى، فإنَّها تزرع في وعيهم قيم هويَّات متعدِّدة، وتصبح مسألة الانتماء أكثر تعقيداً، وأكثر أهمّيَّة في النقاش حول كيفيَّة بناء ملاذات نعيش فيها معاً.

إلى جانب ما تقدَّم، هناك حاجة ماسَّة لأبحاث أكثر عمقاً، لاستكشاف مفاهيم الإحساس بالانتماء والمفاهيم المتعلِّقة بالتنوّع العالمي فوق الطبيعي، أو غير التقليدي، على أن يقترح بعضها إطاراً مرجعياً جديداً يتعدَّى المفاهيم التنازليَّة للملاذات الافتراضيَّة، أو التنوّع الهشّ، الذي يتجاهل التعدّديَّة الثقافيَّة الحقيقيَّة. وإضافة إلى ذلك، لا بدّ من اتِّخاذ نهج أوسع يهدف إلى تعزيز الحاجة إلى أن يجد الناس الاعتراف والراحة والشعور بالراحة في المنزل حول الآخرين حيث يعيشون، أو مكان العمل، أو فضاءات التفاعل الإنساني. وهنا، نقترح أنَّ الشعور “بالانتماء” ينطوي على لغة مختلفة، ويهدف لبناء الفكر؛ ترسيخاً للهويَّة والثقافة والحقوق والواجبات. فالانتماء هو إطار مرجعي أساس يتعلَّق بالحاجة الإنسانيَّة للحماية، ولكنه أمر معقَّد ومرتبط برغبة أن يكون الإنسان جزءاً من مجتمع، أو عائلة، أو مجموعة، أو حتى عصابة. إذ يمكن للانتماء أن يربط الشباب بالآخرين من حولهم، وكذلك يؤدِّي إلى الشعور بالقيمة والاعتراف، وتَمَثُّل حكمة المجتمع الموروثة.

تحدّيات الواقع:

إذن، ما مدى استجابة الشباب لتحدّيات العيش في ملاذ افتراضي عالمي فضفاض وهش، إذا كان الثابت، حتى الآن، أنهم يعيشون وينشأون في عالم من المخاطر وعدم اليقين. على سبيل المثال، لم يعد فضاء العمل مكاناً للدوام مع الالتزام بروابط الهويَّة والولاء والشعور بالهدف الجمعي. رغم أن حالة عدم اليقين هذه تختلف وفقاً للسياقات الثقافيَّة والاجتماعيَّة، ممَّا يؤدِّي إلى إشكاليَّة ما إذا كان لدى العديد من الشباب الموارد الثقافيَّة والأخلاقيَّة لتعويض المخاطر المرتبطة بهذه التحولات نحو عدم الاستقرار في الملاذات التقليديَّة. فهذه الحالة من عدم الاستقرار تخلق هجيناً وتميّزاً متزايداً وعاماً أكثر تعقيداً واتِّساعاً. كما أن العيش في عالم افتراضي معولم لا يخلق التجانس، ولكنه مزيج من استقطاب الهويَّات المستحدثة والعارضة. ففي سياق هذا العالم المتغيِّر بسرعة، يمكن للشباب أن يجدوا صعوبة في بناء الهويَّات الاجتماعيَّة المستقرَّة، لا سيما وأنَّ طبيعة التلقّي، والتأثيرات الثقافيَّة، واحتياجات سوق العمل، اختلفت.

وفي الختام، يمكن القول باطمئنان إنَّ الشباب ليسوا عاجزين عن التغيير، إلا أن عيشهم في عالمهم الافتراضي يجعلهم أكثر عرضة، من العديد من الفئات الاجتماعيَّة الأخرى، للشكوك والمخاطر المرتبطة بالعولمة الثقافيَّة والاجتماعيَّة. وعلى العكس من ذلك، ليس من المستغرب أنهم يستخدمون النطاق الواسع من وسائل التواصل العالميَّة للتعبير عن أنفسهم، فهم غالباً ما يكونون في طليعة التغيُّرات التكنولوجيَّة، التي قد ترتبط بالعولمة. ويمكن رؤية دمج التأثيرات الثقافيَّة العالميَّة في الهويَّات المحليَّة داخل الملاذات المستحدثة لهؤلاء الشباب، لا سيما من خلال ثقافة الاستهلاك. على سبيل المثال، هناك افتراض أنَّ غالب الشباب لديهم إمكانيَّة الوصول إلى الإنترنت، وأكثر منهم لديهم القدرة على استخدام تقنيات الهاتف المحمول، ما ساهم في توسيع الخيارات المتاحة لهم. ولكن ما هي المعايير وما هي القاعدة المعرفيَّة والقيم الأخلاقيَّة، التي يزن بها الشباب في هذه الخيارات؟ وترتبط بهذا الافتراض أنهم مجرَّد متلقّين سلبيّين، أو ضحايا ضعفاء للتغير العالمي المتسارع في بنية الملاذات التقليديَّة.

______

*الدكتور الصادق الفقيه

دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

أديس أبابا، السبت 2/2/2019

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات