المقالاتفكر وفلسفة

الله والعالم بين الحكمة والشريعة عند موسى بن ميمون

تقديم

سنسعى في هذه المقالة إلى الوقوف عند الكيفية التي عمل من خلالها ابن ميمون، في كتاب “دلالة الحائرين”، على التوفيق بين الفلسفة والدين أو بين الحكمة والشريعة، بخصوص رؤيتهما لله والعالم ولأشكال العلاقات القائمة بينهما، مع العلم أن الشريعة المقصودة هنا هي النصوص الدينية اليهودية، كما يفهمها ويؤولها الفيلسوف واللاهوتي موسى بن ميمون.

إذا كان موسى بن ميمون في المقام الأول لاهوتيا يهوديا، فإننا نجده يستعين بالفلاسفة وببراهينهم العقلية، لاسيما أرسطو وأتباعه من المشائين، من أجل إثبات مبادئ إيمانية تتعلق بالشريعة الدينية اليهودية. وهذا ما جعله يقدم في بداية الجزء الثاني من كتاب “دلالة الحائرين” خمسا وعشرين مقدمة مبرهن عليها فلسفيا، باعتبارها وسائل وآليات لإثبات أهداف وغايات رئيسية تتعلق بحقيقة وجود الإله والصفات الضرورية الملازمة له. هكذا يذهب ابن ميمون إلى أن «المقدمات المحتاج إليها في إثبات وجود الإله تعالى وفي البرهان على كونه لا جسما ولا قوة في جسم، وأنه – جل اسمه – واحد، خمس وعشرون مقدمة كلها مبرهنة لا شك في شيء منها قد أتى أرسطو ومن بعده من المشائين على برهان كل واحدة منها.»[1]

تظهر شخصية موسى بن ميمون الدينية، باعتباره لاهوتيا ومتكلما بالدرجة الأولى وليس فيلسوفا بالمعنى المدرسي المتداول، في استعانته بالبراهين والأدلة الموجودة عند الفلاسفة، لاسيما عند أرسطو والمشائين بعده، من أجل إثبات الحقائق الدينية الإيمانية المتعلقة بالشريعة التي يؤمن بها، وهي الشريعة اليهودية طبعا. ولذلك نجده يقول: «إعلم أن مقالتي هذه، ما كان قصدي بها أن أؤلف شيئا في العلم الطبيعي أو ألخص معاني العلم الإلهي على بعض مذاهب، أو أبرهن ما تبرهن منها، ولا كان قصدي فيها أن ألخص وأقتضب هيئة الأفلاك، ولا أن أخبر بعددها. إذ الكتب المؤلفة في جميع ذلك كافية… وإنما كان الغرض بهذه المقالة ما قد أعلمتك به في صدرها، وهو تبين مشكلات الشريعة وإظهار  حقائق بواطنها التي هي أعلى من أفهام الجمهور… فكل فصل تجدني أتكلم فيه في تبيين أمر قد برهن في العلم الطبيعي، أو أمر تبرهن في العلم الإلاهي، أو تبين أنه أولى ما يعتقد، أو أمر يتعلق بما تبين في التعاليم، فاعلم أنه مفتاح ضرورة لفهم شيء من كتب النبوة، أعني من أمثالها وأسرارها، ومن أجل ذلك ذكرته وبينته وأوضحته لما يفيدنا من معرفة قصة الخلق أو قصة الأمر أو تبيين أصل في معنى النبوة أو في اعتقاد رأي صحيح من الاعتقادات الشرعية.»[2]  

يمكن القول، انطلاقا من هذا، أن موسى بن ميمون يقوم بنوع من القراءة النقدية الفلسفية للنصوص الدينية، من أجل إضفاء نوع من العقلانية عليها وتبيان عدم تعارضها مع العديد من الأطروحات والتصورات الفلسفية. لكن مع ذلك، نجده بالمقابل يعلن موقفه الرافض لبعض الآراء الفلسفية، وينتصر لآراء مخالفة لها موجودة في النص المقدس كما قرأه وفهمه ابن ميمون. ويظهر هذا الأمر مثلا في دفاعه عن فكرة حدوث العالم، كما سنرى، ضدا على القول بقدمه من طرف أرسطو والعديد من الفلاسفة الآخرين. 

المبحث الأول: في إثبات وجود الله

إن القارئ المتفحص للنص الميموني في “دلالة الحائرين”، يتبين له بوضوح أن صاحبه يسعى إلى التنقيب في مواقف الفلاسفة وأطروحاتهم، لاسيما عند أرسطو، من أجل تقرير أفكار حول الله والعالم متطابقة أو متشابهة بين الفلسفة والدين. ولهذا نجده أحيانا يقدم أفكاره المستوحاة من الشريعة، ثم يعززها بما هو مناسب عند أرسطو، كما نجده أحيانا أخرى يقدم أفكار أرسطو ويدعمها أو يعارضها بما هو وارد في النصوص المقدسة، وإن كانت مكامن التدعيم أكثر بروزا وطغيانا من مكامن التعارض.

أولا؛ وحدانية الله وعدم جسمانيته

سعى ابن ميمون إلى إثبات أن هناك محركا أولا هو السبب الأول الذي تنتهي عنده سلسلة الحركة، وأن هذا السبب الأول أو العلة الأولى هو الإله، وهو واحد غير قابل للقسمة ولا يوجد له مثيل أو شبيه، وليس بجسم ولا قوة في جسم، كما أنه «ليس بواقع تحت الزمان أيضا لامتناع الحركة في حقه.»[3] وقد برهن ابن ميمون «أن محرك الفلك الأول إن كانت حركته سرمدية دائمة، يلزم أن يكون لا جسما ولا قوة في جسم أصلا، حتى لا تكون لمحركه حركة لا بالذات ولا بالعرض. فلذلك لا يقبل قسمة ولا تغيرا… وهذا هو الإلاه جل اسمه، أعني السبب الأول المحرك للفلك، ويستحيل كونه اثنين أو أكثر».[4]

من هنا ذهب موسى بن ميمون إلى أن ما سماهم بفضلاء الفلاسفة، وفي مقدمتهم أرسطو طبعا، قد برهنوا على ثلاثة أمور تخص العلة الأولى أو المحرك الأول أو الإله، ومن الضروري أنه يتصف بها؛ وأولها هو أنه ليس جسما، لأنه لو كان جسما لكان متحركا حينما سيقوم بتحريك جسم آخر، ولذلك ذكر في المقدمة التاسعة «أن كل جسم يحرك جسما فإنما يحركه بأن يتحرك هو أيضا في حال تحريكه».[5] ولهذا مادام السبب الأول لا يحركه محرك، فإنه ليس بجسم. والأمر الثاني يتمثل في أن الإله ليس قوة في جسم، وإلا كان متناهيا بتناهي ذلك الجسم أو متحركا بشكل عرضي حينما سيعمل على تحريك ذلك الجسم الذي يوجد بداخله. وأما الأمر الثالث فيتمثل في القول بأن الإله واحد لا يتغير، ولا يقترن وجوده بالزمان مادام غير متحرك وغير متغير، ومادام الزمان مقترنا فقط بما هو متغير ومتحرك؛ «فلا توجد حركة إلا في زمان ولا يعقل زمان إلا مع حركة. فكل ما لا توجد له حركة فليس هو واقعا تحت الزمان».[6]  

وإذا كان الإله واحدا ومتعاليا عن الزمان، فإنه محرك ثابت غير متغير ومحرك أول لا يتحرك أصلا. وفضلا عن ذلك فهو واجب الوجود لا ممكن الوجود، كما أنه لا يطاله الكون أو الفساد. ولهذا فقد تبرهن عند أرسطو «أنه لا بد ضرورة أن يكون ثم موجود واجب الوجود باعتبار ذاته، ولولاه لما كان ثم موجود أصلا».[7] وإذا كان الإله واجبا للوجود بذاته، فإنه لا يوجد سبب لوجوده. وهذا ما ورد في فحوى المقدمة العشرين من الجزء الثاني من كتاب “دلالة الحائرين”، حيث ورد فيها «أن كل واجب الوجود باعتبار ذاته فلا سبب لوجوده بوجه ولا على حال».[8] وإذا كان واحدا، فإنه بسيط وغير مركب، كما أنه لا ند له ولا ضد، ولا تصح فيه الثنوية بأي حال من الأحوال. وهو موجود بذاته، وعلة أولى مفارقة ولا جسمانية.

وما دام العالم، بأجسامه وأفلاكه، كائنا وفاسدا، فإن الذي أوجده بعد العدم هو الإله، إذ لا يمكن أن يوجد لوحده. كما أن هذا الإله هو سبب حركة هذا العالم، وهو ليس بجسم ولا قوة في جسم، فهو واحد وبسيط وواجب الوجود بذاته، بينما العالم ممكن الوجود بغيره الذي هو الإله. وقد دلت البراهين القطعية عند الفلاسفة، حسب ابن ميمون، على وجود الإله الواحد البسيط الذي لا سبب ولا محرك له بينما هو العلة الأولى والمحرك الأول للوجود، سواء كان العالم قديما أو محدثا.[9]  

ثانيا؛ الفيض عن العلة الأولى

يقسم موسى بن ميمون الموجودات إلى ثلاثة أقسام، مع إخراج الله طبعا من هذه القسمة باعتبار أن له وجودا خاصا يختلف عنها. فالقسم الأول منها يخص العقول المفارقة، والثاني يخص الأجرام الفلكية، والثالث يخص الأجسام الكائنة الفاسدة. ويتم التدبير والتأثير من الأعلى إلى الأسفل عن طريق نوع من الفيض؛ ذلك «أن التدبير يفيض من الإله تعالى على القول على ترتيبها؛ ومن العقول يفيض منها مما استفادته خيرات وأنوارا على أجسام الأفلاك، ويفيض من الأفلاك قوى وخيرات على هذا الجسم الكائن الفاسد… هكذا الأمر في الوجود أن الفيض الواصل منه تعالى لإيجاد عقول مفارقة فاض عن تلك العقول أيضا لإيجاد بعضها بعضا إلى العقل الفعال، وعنده انقطع إيجاد المفارقات. وكل مفارق فاض عنه أيضا إيجاد ما حتى انتهت الأفلاك عند فلك القمر، وبعده هذا الجسم الكائن الفاسد أعني المادة الأولى وما تركب منها. وكل فلك تصل منه قوى إلى أسطقسات حتى انقضى فيضها عند نهاية الكون والفساد».[10] وهذه التراتبية الوجودية التي تبدأ من العلة الإلهية الأولى وتنتهي إلى عالم الكون والفساد، والتي قال بها العديد من الفلاسفة والعلماء، هي تراتبية لا تتعارض بحسب منظور موسى بن ميمون مع ما جاءت به الشريعة الدينية، فهي «لا تناقض شيئا مما ذكرته أنبياؤنا وحملة شريعتنا لأن ملتنا ملة عالمة كاملة».[11] وهنا نجد هاجس التوفيق بين الحكمة والشريعة حاضرا بقوة عند موسى بن ميمون، مثلما هو حاضر أيضا في العديد من المسائل الفلسفية والكوسمولوجية التي سنقف عندها في كتاب “دلالة الحائرين”.

ما دامت العلة الأولى والعقول المفارقة ليست أجساما، فقد اقتضى الأمر أنها لا تؤثر ولا تفعل في الموجودات والأشياء بشكل مباشر، كما هو الشأن بالنسبة لفعل الأجسام في بعضها البعض. ولذلك كان فعل ما هو مفارق فعلا يتم بواسطة الفيض، و«قيل عن العالم من فيض الله وأنه أفاض عليه كل ما يحدث فيه. وكذلك يقال أنه أفاض علمه على الأنبياء، المعنى كله أن هذه الأفعال من فعل من ليس بجسم وهو الذي يسمى فعله فيضا وهذه الاسمية أعني الفيض، قد أطلقته العبرانية أيضا على الله تعالى من أجل التشبيه بعين الماء الفائضة».[12] وقد تم تشبيه فعل الله بالفيض لأنه صعب إدراك كيفية فعله، كما صعب إدراك طبيعته وماهيته. ومثلما تطلق مقولة الفيض على الله تعالى، فإنها تقال أيضا عن الملائكة باعتبارها عقولا مفارقة، وتقال أيضا عن الكواكب والأفلاك السماوية أنها تفيض في الوجود بالرغم من أن أفعالها تأتي عن أجسام.

يأتي موسى بن ميمون، في هذا السياق، بنصوص دينية يبين من خلالها أن الشريعة أيضا، مثلها مثل الفلسفة، تستعير مصطلح الفيض وتطلقه على الفعل الإلهي، مثل «قوله: تركوني أنا ينبوع المياه الحية يعني فيض الحياة أي الوجود الذي هو الحياة بلا شك. وكذلك قوله: لأن عندك ينبوع الحياة يريد به فيض الوجود».[13] ومادام أن المنظور الديني يرى أن الله فاعل كل شيء، فقد تم تشبيه فعله الفيضي هنا بعين الماء التي تفيض من كل الجهات، وتروي كل الأشياء والموجودات، وفي كل اللحظات والأوقات.

المبحث الثاني: في قدم العالم أو حدوثه

أولا؛ ثلاثة آراء في قدم العالم وحدوثه

يميز موسى بن ميمون بين ثلاثة مواقف من مسألة قدم العالم وحدوثه، وهي مواقف تخص من يعتقد أن ثمة إلها خالقا للعالم، أما من لا يعتقدون بوجود إله ويعتبرون أن العالم وجد بالصدفة عن طريق تفاعل عناصره الطبيعية، فإنه لا يدرج تصورهم لإشكالية القدم والحدوث ضمن هذه المواقف الثلاثة، والتي يمكن تقديمها كما يلي:

1- القول بحدوث العالم والخلق من عدم: وهو الموقف الذي يتبناه موسى بن ميمون، ويتبناه في نظره «كل من اعتقد شريعة سيدنا موسى عليه السلام».[14] ويتمثل هذا الموقف في القول بأن الله خلق العالم من عدم بإرادته ومشيئته، بما في ذلك الملائكة والأفلاك والزمان وكل شيء غيرها. فالله وحده كان موجودا، ولا يشاركه في القدم أي شيء، ثم شاءت إرادته أن يخلق العالم فخلقه من عدم، وذلك غير ممتنع في حقه لأنه قادر على كل شيء. وبهذا المعنى فالعالم محدث ومخلوق، ومفتقر في وجوده إلى الله تعالى.

2- القول بقدم العالم والإيجاد من شيء: وهذا «هو رأي كل من سمعنا خبره، ورأينا كلامه من الفلاسفة».[15] وفحوى هذا الموقف هو أنه يستحيل أن يوجد شيء من لا شيء أي من عدم، وأن هذا الأمر يمتنع عن الله تعالى إذ أنه لا يوجد الممتنعات، ولا عجز في حقه إذا لم يستطع أن يوجد شيئا من عدم. من هنا، فمادة العالم قديمة في الأزل والأبد، أي أنها لا تخرج من العدم ولا تنتهي إلى العدم. فالكون والفساد الذي يطال العالم، بما في ذلك العالم الأرضي والعالم السماوي، يتم داخل الوجود المادي أي عن طريق الانتقال من مادة موجودة إلى مادة موجودة أخرى، مع استبعاد العدم في البداية والنهاية. وإذا كان أصحاب هذا الرأي يعتقدون في قدم المادة، وأنها قديمة قدم الله، فإنهم مع ذلك «لا يعتقدون أنها في مرتبته تعالى في الوجود، بل هو سبب وجودها، وهي له مثلا كالطين للفاخراني أو الحديد للحداد وهو الذي يخلق فيها ما شاء. فتارة يصور منها سماء وأرضا، وتارة يصور منها غير ذلك».[16] من هنا يبدو أنه بالرغم من عدم وجود أسبقية زمنية لله على المادة، فإنه مع ذلك له أفضلية عليها من حيث المرتبة الوجودية، ومن حيث أنه يتحكم فيها ويمنحها أشكالا وصور مختلفة.

3- قول أرسطو بقدم العالم وأن السماء غير واقعة تحت الكون والفساد: يلتقي أرسطو وأتباعه مع الموقف السابق في القول بقدم العالم وبالإيجاد من شيء، لكنه يزيد عليهم بالقول إن السماء أو عالم ما فوق القمر يظل ثابتا على حاله لا يطاله الكون والفساد، أما عالم ما تحت القمر فيطاله التغير فقط على مستوى الصور، في حين تظل المادة الأولى التي تتعاقب عليها تلك الصور ثابتة. أما الزمان والحركة فهما أبديان لا كائنان ولا فاسدان. ويستنتج موسى بن ميمون من موقف أرسطو «أنه من باب الممتنع عنده أن تتغير لله مشيئة أو تتجدد له إرادة… فيلزم أن يكون هذا الموجود كله على ما هو عليه الآن. كذلك كان في ما لم يزل، وكذلك يكون في غابر الدهر».[17]

هكذا، يتبين أن موسى بن ميمون قدم ثلاثة آراء بخصوص إشكالية قدم العالم وحدوثه، وكلها آراء تخص من يعتقد بأن الله هو خالق العالم وموجده؛ إذ بعضها يقول بالخلق من عدم ويجعل العالم حادثا والله وحده هو القديم، وبعضها يقول بالخلق من شيء ويجعل المادة قديمة قدم الله. أما موقف من لا يعتقد بوجود إله مدبر للعالم، وأن هذا الأخير وجد عن طريق الصدفة والاتفاق وتفاعل عناصره الطبيعية، كما هو الحال عند أبيقور وأمثاله من الفلاسفة الذريين، فإن ابن ميمون لم يعرض لموقفهم لأنه لا فائدة في ذلك مادام قد تقرر وجود الله بالأدلة والبراهين، على حد اعتقاده.

ثانيا؛ الطرق التي أثبت بها الفلاسفة قدم العالم

ميز موسى بن ميمون في عرضه للطرق التي أثبت بها الفلاسفة قدم العالم، بين طريقين رئيسيين يحتوي كل واحد منها على عدة طرق. فأما الطريق الأول فيتم فيه إثبات قدم العالم من خلال العالم نفسه، وقد قدم فيه ابن ميمون طرقا اعتمدها أرسطو في إثبات قدم العالم، وأما الطريق الثاني فيتم فيه إثبات قدم العالم من جهة الإله، وهو يتضمن مجموعة من الطرق التي اعتمدها فلاسفة جاؤوا بعد أرسطو واستخرجوها من فلسفته.

1- إثبات قدم العالم من جهة العالم نفسه:

ميز موسى بن ميمون بين أربعة طرق سلكها أرسطو في إثبات قدم العالم من جهة العالم نفسه، وترتكز تلك الطرق على ما يلي:

1-1 القول بقدم الحركة والزمان: الحركة قديمة ولازمة لحدوث أي فعل، وهي غير كائنة ولا فاسدة، مثلها مثل الزمان، إذ هما متلازمان وتابع بعضهما للبعض الآخر. وإثبات قدم الحركة والزمان يترتب عنه إثبات قدم العالم.

2-1 القول بقدم المادة الأولى: المادة الأولى المشتركة للأسطقسات الأربعة لا يطالها الكون والفساد، فهي أزلية وقديمة. وقدمها يوجب ضرورة قدم العالم.

3-1 القول بقدم مادة الفلك: إن الحركة الدورية التي تتم من خلالها مادة الفلك لا تضاد فيها، وما لا تضاد فيه فهو لا يفسد، إذن فمادة الفلك لا تفسد. وما لا يفسد فهو لا يحدث ولا يتكون؛ ذلك «أن كل كائن فاسد، وكل فاسد كائن. وكل ما لم يتكون لا يفسد، وكل ما لا يفسد لم يتكون».[18] وإذا كانت مادة الفلك لا تتكون ولا تفسد، فهي قديمة، ومن قدمها يستنتج قدم العالم.

4-1 القول بقدم حامل إمكان الحدوث: لكي يحدث الشيء لا بد أن يتقدمه بالزمان إمكان حدوثه، ولا بد من شيء موجود هو حامل لإمكان ذلك الحدوث، وتقدم هذا الإمكان دوما على الحدوث يفضي ضرورة إلى الإقرار بقدم العالم. فإذا كان حدوث العالم «ممكنا فمن حامل ذلك الإمكان فلا بد من شيء موجود هو حامل الإمكان، وبه يقال لذلك الشيء، إنه ممكن. وهذه طريق قوية جدا في إثبات قدم العالم».[19]

 2- إثبات قدم العالم من جهة الإله:

يتضمن هذا النوع من الإثبات مجموعة من الطرق قال بها بعض الفلاسفة واستخرجوها من فلسفة أرسطو. وتتمثل فيما يلي:

2-1- إذا كان الله قد أحدث العالم، فقد كان فاعلا بالقوة قبل أن يصبح فاعلا بالفعل. وما دام الله قد خرج من القوة إلى الفعل، فإن فيه إمكان ما لا بد له من مخرج أخرجه من القوة إلى الفعل. وهذا ما يطرح إشكال قدم الإمكان، والذي يترتب عنه القول بقدم العالم.

2-2- لا توجد موانع تعطل فعل الله أو تغير مشيئته، أو تجعله يفعل في زمن دون آخر، ولذلك ففعله يحدث دائما، وهو قديم قدم ذاته.

2-3- أفعال الله كاملة لا يعتريها النقصان ولا يطالها العبث، ولذلك فهذا العالم هو كامل ويجب أن يكون موجودا دائما، دوام الإله الكامل والخالد.

ثالثا؛ قول أرسطو بقدم العالم وصدوره عن الباري على جهة اللزوم

يعرض ابن ميمون تصور أرسطو القائل بقدم العالم، وأن هذا العالم صدر عن الله بشكل لازم وضروري. فالله علة والعالم معلول. ومثلما أنه لا ينبغي أن نتساءل عن طبيعة الله ووجوده، فكذلك لا ينبغي التساؤل عن الأسباب التي جعلته يخلق العالم. فكل هذه الأمور مجهولة ولا يمكن إدراكها، وهي لازمة وثابتة ولا يمكن أن تكون إلا كما حصلت. ويفهم من هذا أن ما حصل هو أحسن العوالم الممكنة، وهو يمتاز بخصائص الحتمية والضرورة والثبات. ومن هنا «يلزم عن هذا الرأي لزوم دوام كل شيء على طبيعته، وأن لا يتغير بوجه شيء من الأشياء عن طبيعته. وبحسب هذا الرأي يكون تغير شيء من الموجودات عن طبيعته ممتنعا. فلا تكون إذن هذه الأشياء كلها بقصد قاصد اختار وأراد أن تكون هكذا، لأنه إن كانت بقصد قاصد، فقد كانت غير موجودة هكذا قبل أن تقصد».[20]

فما دام الله والعالم قديمين، فإن لكل واحد منهما طبيعة واحدة تخصه تظل ثابتة وأزلية. ولهذا فقد صدر العالم عن العلة الأولى بشكل حتمي وضروري، وليس نتيجة لإرادة وقصد واختيار، لأن هذا القصد يعني أن العالم محدث في حين أنه قديم.

وحينما يعرض ابن ميمون لهذا التصور الأرسطي، كما فهمه، نجده لا يتفق معه إذ لا يعتبر أن العالم صدر عن الله بشكل حتمي وضروري بل عن مشيئة وإرادة وقصد منه. ولهذا نجد ابن ميمون يقول: «وأما بحسب رأينا نحن فالأمر بين أنها بقصد لا على جهة اللزوم، ويجوز أن يغيرها ذلك القاصد ويقصد قصدا آخر، لكن ليس أي قصد بإطلاق، لأن ثم طبيعة امتناع ثابتة لا يمكن بطلانها.»[21] يظهر من هذا القول أن صاحب “دلالة الحائرين” يوقعنا في نوع من الحيرة؛ إذ يربط فعل الله بالقصد والإرادة والجواز من جهة، وبنوع من الضرورة والامتناع من جهة أخرى. وكأن الله قادر أن يغير طبيعة الخلق ولكنه في نفس الوقت يمتنع عن ذلك، أو أن هناك “طبيعة امتناع ثابتة” تمنعه من ذلك! لكن مع ذلك يظل ابن ميمون من القائلين بحدوث العالم، خلافا للموقف الفلسفي الذي يقول بقدمه، ومن القائلين بأن العالم تحكم الضرورة والحتمية، إلا أنها ضرورة بقصد قاصد هو الله سبحانه وتعالى. ولهذا نجده في حديثه عن حركة الكواكب يقول عنها أن «لا شك أن كل شيء منها ضروري بحسب قصد القاصد».[22] ويسند موسى ابن ميمون رأيه هذا بأن الأنبياء اتخذوا من الكواكب دليلا على وجود الله، نظرا للنظام الصارم الذي يحكمها، وأن هذا النظام هو أمارة على وجود الباري الذي خلقها لغايات ومقاصد مخصوصة.

رابعا؛ قول ابن ميمون بحدوث العالم وخلقه من عدم

يرى موسى ابن ميمون أن أرسطو لا يملك برهانا على قدم العالم. ويحذر قارئه من الانخداع بالرأي المشكك في حدوث العالم والقائل بقدمه، لأن هذا الرأي مخالف للشريعة ويشكل خطرا على العقيدة الدينية. ولهذا نجد ابن ميمون يقول بحدث العالم وبفكرة الخلق من عدم. فنحن نجده يقول: «فقد يوهمك أحد يوما ما بشك يشككه على حدوث العالم، فتسارع للانخداع لأن هذا الرأي في ضمنه هد قاعدة الشريعة، وافتيات في حق الإله، فكن أبدا متهما ذهنك فيه ومقلدا للنبيين الذين هما عمدة صلاح وجود النوع الإنساني في اعتقاداته واجتماعاته، ولا تعدل عن رأي حدث العالم إلا ببرهان».[23]

إذا كان ابن ميمون يرفض آراء أرسطو في الإلهيات، ويعتبر أن فيها من الشناعة والفساد الشيء الكثير، فإن منطلق رفضه ولا شك هو منطلق ديني عقدي، لأنه يجدها لا تتطابق مع ما جاء في النصوص الدينية المقدسة. هذا فضلا عن أن أرسطو لا يقدم فيها البرهان القاطع الذي لا تطاله الشكوك. فقول أرسطو بقدم العالم مشكوك فيه ويتعارض مع شريعة إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فقد «أظهرنا لك أن رأي القدم أكثر شكوكا وأضر في ما ينبغي أن يعتقد في حق الإله، مضافا إلى كون الحدث رأي أبينا إبراهيم ونبينا موسى عليهما السلام».[24] هذا إضافة إلى أن قول أرسطو بالقدم «هاد للشريعة بأصلها ومكذب لكل معجز ضرورة، وتعطيل لكل ما رجت به الشريعة أو خوفت منه».[25] فحينما يقول أرسطو بقدم العالم، فإنه يقول في الآن ذاته بأنه صدر عن الله بشكل لازم وضروري، وهذا اعتقاد يمس بالإرادة والمشيئة الإلهية، لأن الله خلق العالم حينما أراد وشاء، وهو قد خلقه وفق الصورة والكيفية التي أراد، وقد نعلم بعضا من حكمته في ذلك، كما أننا نجهل البعض الآخر من هذه الحكمة. فاعتقادنا بالحدوث يجعل الشرائع والمعجزات الدينية ممكنة، ويجعل كل ما حصل من الحوادث وما شرع من السنن مرتبطا بالحكمة والمشيئة الإلهية.[26]

وإذا كان ابن ميمون يقول بحدوث العالم، من منطلق أن «اعتقاد حدث العالم هو قاعدة الشريعة كلها ضرورة»،[27] فإن فناء العالم وفساده مرتبط عنده بالمشيئة الإلهية. فإذا كان الله قد شاء فخلق العالم، فإنه بالمثل إذا شاء أفناه وأعدمه أو إذا شاء أبقاه موجودا. فأمر الكون والفساد أو الإيجاد والإعدام رهين بالإرادة الإلهية، ولا يصدر عن الله على سبيل الضرورة واللزوم. ولا يمكن حسم ما إذا كان العالم سيفنى أم سيبقى خالدا بمجرد النظر العقلي، فهذه المسألة تتجاوز حدود العقل ويستعصي عليه الوصول إلى نتيجة يقينية بصددها. وما دام الأمر كذلك، فإنه ينبغي الرجوع إلى النصوص الدينية من أجل الوصول إلى جواب محدد. لكن اللجوء إلى النصوص الشرعية يطرح مشكلة التأويل وتعدد أشكال القراءة والفهم؛ فهناك من وقف عند ظاهر النصوص وقال بفناء الكون، وهناك من لجأ إلى التأويل وقال ببقائه. ويبدو أن موسى بن ميمون من القائلين بالرأي الثاني إذ يرى «أن نصوصا كثيرة جاءت في تأبيده [العالم]. وكل ما جاء من ظاهر يبدو منه أنه سيفسد، فالأمر فيه بين جدا أنه مثل».[28]

إذا كان الأمر كذلك، سيلجأ ابن ميمون إلى قراءة وتأويل العديد من النصوص الدينية، لكي ينتهي من خلال ذلك إلى القول ببقاء العالم مع القول طبعا بحدوثه. وهذا ما جعله يشير إلى أن موقفه يلتقي مع أرسطو في القول ببقاء العالم ودوامه، ويختلف معه في القول بقدمه. ولذلك نجده يقول: «إنا نوافق أرسطو في النصف من رأيه ونعتقد أن هذا الوجود أبدي سرمدي… وإن كان له تعالى القدرة على تغييره كله أو إعدامه… لكنه له افتتاح، ولم يكن ثم شيء موجود أصلا إلا الله؛ وحكمته اقتضت أن يوجد الخلق حين أوجده وأن لا يعدم هذا الذي أوجد، ولا تتغير له طبيعة إلا في ما شاء من جزئيات مما قد علمناه ومما لم نعلمه مما سيأتي، هذا رأينا وقاعدة شريعتنا».[29]

بين مما قاله موسى ابن ميمون أنه يقول بالحدوث والخلود، بينما أرسطو يقول بالقدم والخلود؛ فيلتقيان في المصير الأبدي للعالم، ويتعارضان في القول بأزليته من عدمها. ولهذا، فقد اعتبر ابن ميمون أن القول بالقدم يقوض دعائم الشريعة ويهد أركانها، ولذلك لم يقبله، لكنه بالمقابل رأى أن لا مشكلة في القول بأبدية العالم، وأن باطن النصوص الشرعية يسمح بمثل هذا الاعتقاد. لكنه يقر مع ذلك بإطلاقية وشمولية ولا نهائية المشيئة الإلهية؛ إذ لو شاء الله أن يعدم العالم فإنه سيفعل ذلك، وفق إرادته التي لا تحدها حدود ولا تقف أمامها عوائق.

المبحث الثالث: طبيعة الأفلاك السماوية وأسباب حركتها

لقد عمل موسى ابن ميمون على استقصاء آراء أرسطو في طبيعة الأفلاك وأسباب حركتها، متوخيا من وراء ذلك أن يبحث فيها عما هو مطابق للشريعة اليهودية، لأن أقاويل المعلم الأول في هذا الشأن «هي أيضا أقاويل تطابق أقاويل كثيرة من أقاويل الشريعة… فلذلك آتي بآرائه وبدلائله حتى ألتقط منها ما هو موافق للشريعة».[30] 

أولا؛ للأفلاك نفوس تسمح لها بالحركة والإدراك

يعرض موسى بن ميمون لآراء أرسطو بخصوص الأفلاك السماوية وعلل حركتها. وأول هذه الآراء هو «أن الفلك ذو نفس»،[31] إلا أنها ليست كنفس الإنسان أو الحيوان، بل هي مبدأ حركة الفلك في المكان. فالحركة المكانية الدورية للأفلاك تتطلب نفسا بداخل كل فلك، وهي بمثابة المبدإ الذي به يتحرك. ولهذا فلكل فلك عقل به يتصور، لكن هذا التصور لا يكفي وحده لحصول الحركة بل لا بد أن يقترن هذا التصور بالرغبة والاشتياق الذي من شأنه أن يحدد للحركة هدفها وغايتها. ويتجه هذا الشوق إلى ذلك الشيء المعشوق الذي هو الإله جل وعلا.[32]

ولما كانت الحركات الدورية للأفلاك متباينة من حيث السرعة والجهة، فإن تباينها واختلافها هذا يتعلق بطبيعة المعنى الذي تصوره كل فلك أثناء حركته، مما يعني «أن ثم عقولا مفارقة على عدد الأفلاك. كل فلك منها يشتاق ذلك العقل الذي هو مبدؤه وهو محركه هذه الحركة الخصيصة به. وذلك العقل هو محرك ذلك الفلك».[33] وبالرغم من أن لكل فلك عقل هو بمثابة مبدإ ذاتي محرك له، وغاية هذه الحركة هي الشوق إلى الإله المعشوق، فإن الإله مع ذلك لا يحرك الأفلاك إلا بواسطة وبشكل غير مباشر؛ لأن «الأمر الذي قد تبرهن وهو أن الله عز وجل لا يفعل الأشياء مباشرة. فكما أنه يحرق بواسطة النار، والنار تتحرك بواسطة حركة الفلك، والفلك أيضا يتحرك بواسطة عقل مفارق، وتكون العقول هي الملائكة المقربون الذين بواسطتهم تتحرك الأفلاك».[34] هكذا، يظهر أن موسى بن ميمون يجعل النفوس أو العقول المحركة للأفلاك السماوية هي نفسها الملائكة المسخرة من طرف الله للقيام بفعل الحركة الدائرية والسرمدية لتلك الأفلاك، مما يعني أن تلك الملائكة هي بمثابة أدوات أو وسائط يستخدمها الإله من أجل إحداث فعل الحركة. ولعل إقحام الملائكة في عملية الحركة هو محاولة من اللاهوتي ابن ميمون من أجل التوفيق بين ما تقرر في الفلسفة البرهانية من جهة، وما جاء في الشريعة الدينية من جهة أخرى. وهذا التوفيق هو ثابت إبيستيمي في القرون الوسطى بشكل عام، وعند المفكرين الإسلاميين بشكل خاص، خصوصا وأننا نعلم أن الفلاسفة «أمثال موسى بن ميمون لا يعتبرون فلاسفة إسلاميين من ناحية الشكل فحسب لمجرد انتسابهم إلى المجتمع الإسلامي، بل لمشاركتهم في ثقافة ذلك المجتمع أيضا. لذلك فموسى بن ميمون فيلسوف إسلامي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع لأنه نشأ في ذلك المناخ الفكري، ساهم فيه وأضاف إليه بقدر ما أخذ منه».[35]

على العموم، نجد ابن ميمون يعرض للفكرة الفلسفية، والتي ينسبها إلى أرسطو، القائلة بأن الأفلاك السماوية هي أجسام حية لها نفوس وعقول تسمح لها بالحركة والتصور والإدراك. وهي تدرك مبادئها وتدرك الإله. وهذه العقول المفارقة للأجسام هي وسائط بين الله وبين تلك الأجسام. والمثير للانتباه هنا هو أن موسى بن ميمون يتحدث عن أرسطو وينسب إليه، من ضمن ما ينسب إليه، فكرة أن العقول المفارقة للأجسام هي عقول «كلها فائضة عن الله تعالى».[36] وفي حدود ما نعلم فإن أرسطو لم يقل بنظرية الفيض، بل قال بها بعده أفلوطين ومن سار على نهجه، ولذلك لزم تحري الدقة في ما ينسبه ابن ميمون من أفكار فلسفية إلى أرسطو في “دلالة الحائرين”، خصوصا وأنه لا يأتي بنصوص لأرسطو تؤكد ما ينسبه إليه من جهة، وباعتبار أن  أفكار أرسطو قد تم تلقيها في الثقافة الإسلامية الوسيطية ممتزجة بالعديد من أفكار أتباعه وشراحه واللاحقين عليه من جهة أخرى.

ويمضي موسى بن ميمون في محاولته الهادفة إلى التوفيق بين الشريعة والفلسفة، حيث ذهب في هذا السياق إلى القول بأن الفلاسفة قالوا إن الأفلاك حية وناطقة، وأنها «حيوانات مطيعة لربها تسبحه وتمجده».[37] وهو نفس ما نجده في الشريعة اليهودية التي جاء فيها أن “السماوات تنطق بمجد الله”. (المزمور 19/2) وتسبح بحمده بدون كلام لفظي. فالسماوات ليست أجساما ميتة مثل الأسطقسات، بل هي أجسام حية تدرك وتتصور وتدبر وتعلم ما تدبره. وهذا الذي قال به أرسطو هو «مطابق لأقاويل أنبيائنا وحملة شريعتنا وهم الحكماء عليهم السلام».[38]

ثانيا: الملائكة عقول مفارقة محركة للأفلاك السماوية

يبحث موسى ابن ميمون في معنى الملائكة في النصوص الدينية، ويحاول أن يبين أوجه التطابق بين ما يقوله أرسطو في هذا الشأن، وبين ما جاء في تلك النصوص المقدسة. فالملائكة، بحسب ابن ميمون، ليست أجساما سواء عند أرسطو أو في الشريعة اليهودية، كما أنها في التصور الفلسفي الأرسطي والتصور الديني اليهودي تعتبر وسائط بين الله وموجوداته، وهي علة حركة الأفلاك. وهناك فقط اختلاف في التسمية؛ إذ يسميها أرسطو عقولا مفارقة بينما «نحن نقول: ملائكة».[39] لكن مع ذلك نجد موسى بن ميمون يصرح بتعارض تصوره المرتكز على النص الديني مع تصور أرسطو الفلسفي، في ما يخص مسألة قدم أو حدوث تلك العقول المفارقة؛ حيث يرى أن «الذي يخالفنا في هذا كله كونه يعتقد [أرسطو] هذه الأشياء كلها قديمة وأنها أمور لازمة عنه تعالى. هكذا ونحن نعتقد أن كل هذا مخلوق، وأن الله خلق العقول المفارقة، وجعل في الفلك قوة الشوق لها، وهو الذي خلق العقول والأفلاك وجعل فيها هذه القوى المدبرة، في هذا نخالفه».[40]

كما نجد ابن ميمون يورد معاني أخرى لكلمة ملك وملائكة، يستمدها من قراءته وتأويله للنصوص الدينية العبرية. ومن بين تلك المعاني أن الملك هو نبي أو رسول ينفذ أمرا إلهيا ما. كما يطلق معنى الملائكة على القوى المحركة والفاعلة في الأجسام، إذ لكل قوة فعل واحد مخصوص بها، سواء كانت هذه القوة طبيعية أو نفسية أو تخييلية. فالملك اسم مشترك يشمل العقول والأفلاك والأسطقسات، باعتبارها جميعا تنفذ أمرا ما. لكن مع اختلاف يكمن في أن القوى الطبيعية المتعلقة بالأسطقسات والأجسام لا تدرك ما تفعله وتدبره، في حين تدرك الأفلاك والعقول أفعالها وتختاره. بيدأن اختيارها يختلف عن الاختيار البشري، لأن الإنسان يختار الخير والشر بينما لا تختار العقول المفارقة سوى الخير فقط؛ ذلك أن «كل ما لها موجود بالكمال والفعل دائما منذ وجدت».[41]

أثار موسى ابن ميمون أيضا مسألة تخص أصوات الأفلاك عند حركتها ودورانها. وقدم في هذا الإطار رأيين متعارضين؛ أحدهما يقول بأن لحركة الأفلاك أصواتا هائلة وعظيمة، وهو رأي الفيثاغوريين من الفلاسفة ورأي الحكماء من الملة اليهودية، والرأي الآخر يقول به أرسطو الذي ذهب إلى أنه لا صوت لها.[42] كما أشار إلى المسألة المتعلقة بعدد الأفلاك. وذكر أن عددها لم يتحدد زمن أرسطو، بينما في زمن موسى بن ميمون هناك من عدها تسعة، وهناك بعض الحكماء من تحدثوا عن فلكان اثنان، وهناك من جمع الكواكب ضمن كرة واحدة فتحدث عن أربع أو خمس كرات، كل كرة تشمل على كوكب أو عدة كواكب، وكل هذا يعود إلى اجتهادات فلكية تخص هذا العالم أو ذاك.   

ثالثا: تأثير الأفلاك على عالم الكون والفساد

ذكر موسى بن ميمون أن الفلاسفة يقولون بأن العالم السفلي، الذي هو عالم الكون والفساد، يتم تدبيره من قبل العالم العلوي الذي هو عالم العقول المفارقة المحركة للأفلاك السماوية. وبين أن هذا الأمر موجود أيضا في الشريعة الدينية، مستندا في ذلك إلى قراءته للعديد من النصوص الدينية التي يستشهد بها في هذا السياق. فالعالم أشبه بالفرد البشري الواحد؛ إذ مثلما لهذا الأخير قوى تختص كل واحد منها بأفعال ووظائف محددة، فكذلك الحال بالنسبة للكواكب والأفلاك السماوية، فكل واحد منها يتوفر على قوة تختص بتدبيرها وتأثيرها على مستوى العالم السفلي أو عالم ما تحت القمر. هكذا، نجد أن هناك تناسبا بين الكرات الفلكية السماوية والأسطقسات الأرضية، بحيث تفعل الأولى في الثانية وتشكل عللا لها وفاعلة فيها؛ ذلك أن «لكل كرة أسطقس من الأربعة أسطقسات، تلك الكرة مبدأ قوى ذلك الأسطقس خاصة، وهي المحركة له حركة الكون بحركتها، فتكون كرة القمر محركة الماء، وكرة الشمس محركة النار، وكرة بقية الكواكب المتحيرة محركة الهواء… وكرة الكواكب الثابتة محركة الأرض… وهكذا يمكن أن يكون النظام أن تكون الأكر أربعا، والأسطقسات المتحركة عنها أربعا، والقوى الصادرة منها في الوجود على العموم أربع قوى كما بينا. وكذلك أسباب كل حركة فلكية أربعة أسباب. وهي شكل الفلك أعني كريته ونفسه وعقله الذي به يتصور كما بينا. والعقل المفارق الذي هو معشوقه.»[43] وإذا كان لحركة الفلك أربعة أسباب، فإن له أيضا أربع قوى مؤثرة على العالم الأرضي، وهي قوة تكوين المعادن، وقوة النفس النباتية، وقوة النفس الحيوانية، وقوة النفس الناطقة.   

ينبغي الإشارة إلى أن موسى ابن ميمون يعتقد أن إدراك العالم السماوي أمر صعب ولا يمكنه ان يتأتى للعقل البشري، وأن هذا الأخير لا يمكنه ان ينشئ معرفة يقينية إلا بصدد العالم الأرضي الذي جعل بأن يسكن فيه. من هنا، فإن «الإله وحده يعلم حقيقة السماء وطبيعتها وجوهرها وصورتها وحركاتها وأسبابها على التمام. أما ما دون السماء، فقد مكن الإنسان من معرفته، لأنه عالمه وداره التي حط فيها، وهو جزء منها».[44]

وإذا كان أرسطو يقسم العالم إلى ما تحت فلك القمر وما فوقه، فإن ابن ميمون يرى أن ما يقوله المعلم الأول عن العالم التحتي الأرضي صحيح، أما ما يقوله عن العالم الفوقي السماوي فلا يعدو أن يكون ظنونا وتخمينات. فكل «ما قاله أرسطو في جميع الموجود الذي من لدن فلك القمر إلى مركز الأرض هو صحيح… أما جميع ما يتكلم فيه أرسطو من فلك القمر لما فوقه، فكله شبه حدس وتخمين، إلا بعض أشياء. فناهيك فيما يقوله في ترتيب العقول، وبعض هذه الآراء الإلهية التي يعتقدها وفيها الشناعات العظيمة، والفسادات الظاهرة البينة… ولا برهان له عليها».[45]

خاتمة

لقد قدمنا في هذه المقالة قراءة في فصول من كتاب “دلالة الحائرين” للمتفلسف واللاهوتي اليهودي موسى بن ميمون، عالجنا خلالها إشكالات ميتافيزيقية وطبيعية، تتعلق عموما بوجود الله وطبيعته وكيفية صدور العالم عنه، ومسألة قدم العالم أو حدوثه، وأسباب حركة الأفلاك وعلاقة العالم السماوي بالعالم الأرضي. وما يمكن أن نلاحظه ونخلص إليه هو أن ابن ميمون كان ملما بالأفكار الرائجة في تاريخ الفلسفة آنذاك، لاسيما ما تعلق منها بفلسفة أرسطو وأتباعه، نظرا للثقل الكبير والتأثير العظيم الذي كان يمارسه أرسطو بفلسفته ومنطقه على المشتغلين بالمجال المعرفي الفلسفي في القرون الوسطى عموما، وفي الثقافة الإسلامية الوسيطية على وجه الخصوص. كما كان ابن ميمون ملما وعارفا بالشرائع الدينية اليهويدية، وكان يسعى دائما لكي يقدمها في صورة فلسفية وعقلانية. وهذا ما جعله يلجأ إلى آلية التأويل  كآلية عقلية مكنته من تجاوز الكثير من الأفكار الدينية الشائعة والمستمدة من ظاهر النصوص، بحيث حاول في بعض المواضع تجاوزها من أجل تأسيس فهم عميق وصحيح للنصوص الدينية المقدسة. وقد أدت به تأويلاته وقراءاته لتلك النصوص إلى محاولة التوفيق بين ما يوجد فيها من مضامين وأفكار من جهة، وبين ما قال به الفيلسوف أرسطو من جهة أخرى. وبذلك فهو يستهدف من خلال فعل التوفيق هذا إلى إعطاء صورة عقلانية للدين، وتبيان أن هذا الأخير لا يأتي بما يتعارض مع التفكير العقلي السليم. ونحن نعلم أن موسى ابن ميمون كان متأثرا بالثقافة الإسلامية في ذلك الوقت، سواء عند المتكلمين أو الفلاسفة الإسلاميين، ولذلك فقد تأثر بالإشكالية التي أرقتهم وعالجوها بقوة في نصوصهم، وهي المتعلقة بإشكالية الفلسفة والدين أو الحكمة والشريعة.

لكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أن الأساس الذي كان ينطلق منه فكر ابن ميمون هو أساس لاهوتي بالدرجة الأولى. وهذا ما جعله يبحث في الخطاب الفلسفي، وفي فلسفة أرسطو على وجه الخصوص، عن دعائم وحجج للتأكيد أو الدفاع عن الأفكار الدينية المتعلقة بوجود الله وبداية العالم ومصيره، وغير ذلك من القضايا الكوسمولوجية والميتافيزيقية. وحينما يجد مثل هذا التدعيم والتأكيد فإنه يشير إليه ويبينه، لكن حينما يجد ما يخالف القول الديني من دعاوى وأفكار فلسفية، فإنه يعلن مخالفته لها ويسعى بالتالي إلى تبيان تهافتها بالحجج النقلية والعقلية التي تسعفه في ذلك. وهذا ما ظهر مثلا في مخالفته لقول أرسطو بقدم العالم، وصدوره عن الله على جهة اللزوم، وأيضا تبيان عدم تماسك أفكار المعلم الأول المتعلقة بالأفلاك والعقول المفارقة، والعديد من الأمور المتعلقة بالعالم السماوي بوجه عام.

ولعل أهمية أبحاث موسى بن ميمون في هذه القضايا التي جعلناها محور اهتمامنا في هذه المقالة، تكمن في أنها تميط اللثام عن أوجه التلاقي والتعارض بين التصورين الفلسفي والديني لله وللعالم، ولأشكال التقاطعات الحاصلة بينهما. كما تبرز لنا المجهود الفكري المحترم الذي بذله اللاهوتي والمتفلسف ابن ميمون من أجل تقديم قراءة متنورة للنصوص الدينية اليهودية، وإخراجها من انغلاقها وسياجها الدوغمائي، وجعلها ترتاد آفاقا فكرية أكثر سعة ورحابة.  


[1]– موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، تقديم حسين أتاي، مكتبة الثقافة الدينية، ص.231.

[2]– موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، ص.278-279.

[3]– موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، ص.272.

4- نفس المصدر والصفحة.

[5] – نفس المصدر، ص.248.

[6] – نفس المصدر، ص.254.

[7] – نفس المصدر، ص.274.

[8] – نفس المصدر، ص.261.

[9] – نفس المصدر، ص.277.

[10]– المصدر السابق، ص.299-300.

11- المصدر السابق، ص.300.

[12]– المصدر السابق، ص.303.

[13] – المصدر السابق، ص.304. 

[14] – المصدر السابق، ص.305.

[15] – المصدر السابق، ص.306.

[16] – المصدر السابق، ص.307.

[17] – المصدر السابق، ص.308.

[18] – المصدر السابق، ص.310.

[19] – المصدر السابق، ص.310.

[20] – المصدر السابق، ص.324-325.

[21] – المصدر السابق، ص.325.

[22]– المصدر السابق، ص.232.

[23]– المصدر السابق، ص.344.

[24]– المصدر السابق، ص.343.

[25]– المصدر السابق، ص.349.

[26]– المصدر السابق، ص.351.

[27]– المصدر السابق، ص.355.

[28]– المصدر السابق، ص.356.

[29]– المصدر السابق، ص.372.

[30] – المصدر السابق، ص.279. 

[31] – المصدر السابق، ص.279.

[32] – المصدر السابق، ص.281.

[33]– المصدر السابق، ص.281.

[34] – المصدر السابق، ص282.

[35]– حسين أتاي، مقدمة كتاب دلالة الحائرين، لموسى بن ميمون، مصدر سابق، ص. vxx.

[36]– موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، ص283.

[37]– نفس المصدر والصفحة.

[38]– موسى بن ميمون، دلالة الحائرين، ص284.

[39]– المصدر السابق، ص.286.

[40]– المصدر السابق، ص.290.

[41]– المصدر السابق، ص.291.

[42]– المصدر السابق، ص.292.

[43]– المصدر السابق، ص.295.

[44]– المصدر السابق، ص.349.

[45] – المصدر السابق، ص.342.

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات