المقالاتفكر وفلسفة

الفلسفة الغديَّة والتضامن العالمي عند محمد عزيز الحبابي

 يعتبر ميشيل فوكو أنَّ الفيلسوف الحقيقي هو الفيلسوف الذي يتخذ موقفًا إزاء واقعه، وينغمس فيما يسميه بـ “أنطولوجيا الحاضر”، ويتقوقع داخل النظام المعرفي الموشوم به عصره، إنَّه لا يهيم في أجواز السماء، ولا يبحث فيما وراء الأشياء، فعصر الماورائيات قد ولى و انقضى منذ أن تساءل كانط: ما التنوير؟ هذا السؤال قد دشن لفتح جديد في الفلسفة، عنوانه: هنا والآن ولا شيء آخر. دعونا نفهم من هذا الكلام أن التفكير في الحاضر بما هو كذلك هو استبعاد للمستقبل، وأن هذا الذي نفكر فيه هنا و الآن هو شيء حاصل بالفعل، فما الجدوى من التفكير فيه إذن؟ إنَّ سؤال الجدوى هذا ينطوي على رغبة دفينة في تغيير الشيء الحاضر، لأن هذا الذي يحصل، ويسترعي تفكير الفيلسوف، لا يمكن أن يكون إلا شيئا يستدعي فعلا قلقا و تساؤلا، مرده إلى الغاية الاسبينوزية وهي الفهم، فإذا تحقق الفهم إزاء البنيات و الدواليب المحركة للحاضر، تحققت إمكانية التفكيك والتحليل.

 لكن ما الداعي إلى هذا كله؟ صحيح أن الفلسفة بنت واقعها، تعشش فيه و تقتات منه، لكن إذا لزمت حاضرها و ركنت لواقعها ذابت و تلاشت في الكل كبنية معرفية يمليها هذا الواقع نفسه، و في الأخير لن يتغير شيء، و الحق أن الفلسفة لا تنشد التغيير، ولا ترنو إلى تقديم الحلول، إنها ليست مجالا للاختراع، بل هي مجال الإبداع، أو ليس في الحلم إبداع؟  ألا يحق للفلسفة أن تحلم بدل أن تتخبط في متاهات الواقع تجوب دروبه متسلحة بمناهج و أساليب ما تنفك أن تفكك وتحلل؟ إن هذه التساؤلات لا تنحو بنا إلى تخصيص مجال أو زمن أو مكان محدد للفلسفة، فهي تخترق كل زمان و تقطن كل مكان، إذ تجدها عودة محمودة إلى الماضي الغابر، وتجدها متغلغلة ومتسللة بين شرايين الواقع الملتبسة والملتوية، وتجدها مطلعة لآفاق جديدة يكون فيها الحاضر في نسخة أيقونية، وليس مجرد سيمولاكر أي نسخة ممسوخة. إننا نسعى إلى فهم الواقع، وعملية الفهم ضرورية إذا كانت غايتها التغيير، ويسلك التفكير هنا مسلكين: تفكير في اليوم، وتأمل في الغد، وهذا الغد هو النسخة الأيقونية لليوم.

 وعلى هذا المنوال أسس الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عزيز الحبابي لأهم ركن من أركان فلسفته الشخصانية، سماه بالفلسفة الغدية، وهو توجه جديد خاض فيه الحبابي بغية تثبيت المنطلقات الواقعية للشخصانية وتدعيم أصولها النظرية والمعرفية ، وانطلاقا منها سنتبين كيف أن الحبابي عرج بنسقه الفلسفي من تشخيص لواقع الاختلال في العصر الحاضر، إلى استشراف غد أفضل تنفض فيه جميع أشكال الاختلالات وتضمحل فيه ضروب الاضطراب والهيجان المفرط الذي بات إنسان اليوم ضحية له، فما هي الغدية؟ وماذا نرجو في عالم الغد؟ وما السبيل لتحقيق تضامن عالمي؟

 ترجع الفلسفة الغدية عند محمد عزيز الحبابي إلى سببين مركزيين، الأول يمكن أن نسميه ماكرو الحاضر أي تشخيص للحاضر على الصعيد العالمي، والثاني نسميه ميكرو الحاضر، أي شخيص للحاضر على الصعيد المحلي المغربي، ويندرج الثاني في الأول و يندمج معه، على اعتبار أن المغرب معرض شأنه شأن جميع بلدان العالم لأن تطاله التحولات و التطورات الحاصلة على المستوى العالمي.

  أما السبب الأول فهو فحص لوضع العصر، إذ اعتقد الحبابي أن الإنسان يعيش مأزقا و أزمة لا مفر له منها، فإما أن يقبل بها ويكتوي بنارها، وإما أن يخرج عن نطاق العالم و يعدو كائنا معزولا متضعضعا، وقد نجمت هذه الأزمة من إفرازات الحضارة الصناعية، فالإنسان الذي يعيش التقدم غارق في متاهة النمو المتسارع، و مكبل بنمط وجود خاضع لسيطرة الفكر التقني، بحيث جرى الانتقال – حسب حنة آرنت – من منطق الأداة إلى منطق الآلة، فالأداة تظل في خدمة سلطة اليد يتحكم فيها الإنسان، أما الآلة فإنها تقود العمل الجسدي وتخضعه لرتمها. ونتج على هذا الانتقال أن بات الإنسان ضائعا في انعكاسات التقنية الاجتماعية و النفسية، بحيث أنها دمرت العلاقات الانسانية واستعاضت عنها بعلاقة مع الآلة، وهذه العلاقة لا تتطلب أنسنة الآلة، بل تألية الإنسان، و هنا مكمن الخطورة في المجتمعات الغارقة في التصنيع و الإنتاج و الربح، حيث أضحى الإنسان فيها لا يفكر إلا بآليات السوق و المزاحمات و المصالح و الأرباح و التوزيع، ويكيف عقله و جسده مع نمط الآلة، وتبعا لذلك عرى التطور التكنولوجي على هذا العقل الأداتي كما تسميه مدرسة فرانكفورت، هذا العقل لم يعد يعنى بالابتكار والإبداع بقدر ما أصبح ينتهج منهج المراقبة و الخداع. وفي ضوء كل هذا يأخذ محمد عزيز الحبابي على الحضارة الانسانية اليوم مأخذين: أولا أنها وسعت الهوة بين العقل و الأخلاق، بحيث تحول العقل إلى مجرد أداة لا تسن الأخلاق بقدر ما تهدمها، فالأخلاق ليس شيئا غير الخضوع، والعقل ليس شيئا غير السيطرة، و بين الاثنين برزخ لا يمكن أن يلتقيا.

 وثانيا أنها توانت وتقاعست عن التوفيق بين ما هو فردي وما هو مجتمعي، والمعروف على شخصانية الحبابي أنها شخصانية متفتحة على العالم، على اعتبار أن الشخص لا يصبح شخصا إلا بنسجه علاقات مع الآخرين تكون مبنية على التعاضد والتعاون والتضامن، أما في الحضارة المعاصرة فحضور الفرد أقوى من حضور الشخص، فالفرد هو الذي يسعى إلى الانفصال و التميز، حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين، إذ لا تهم هنا قيم التضامن و التكافل، وإنما المهم و الأهم هو تحقيق التفرد. ومن اللافت أن أكثر المتضررين من تداعيات هذا التقدم الجارف الذي باتت البشرية تسري معه بانسيابية حسب الحبابي هو الإنسان الثالثي، نسبة إلى العالم الثالث، ففضلا عن تخلفه الاقتصادي والعلمي، تجذر فيه ما هو أخطر، إنه مركب النقص، أي أن فقد الثقة في قدراته العقلية والعلمية في ذوقها وقيمها ومقاييس، وإذا فقدت الثقة انعدم الشخص، وأصبح أفق تحقيقه ضيقا اليوم.

أما السبب الثاني فإنه يتعلق بالانتماء المباشر للإنسان الذي يفكر في حاضره، الإنسان الذي ينتمي إلى العالم الثالث أو العالم العربي والإسلامي، فالمشهد الذي سطا على الأذهان هو مشهد الاستعمار الغاشم والاحتلال الظالم الذي ترزح تحت نيره هذه البلدان. ففي المغرب كابد الإنسان الذل و الهوان، و بالرغم من مقاومته وتشبته المستميت، إلا أنه افتقر للشخصية القوية، وانعدمت الكينونة عنده و فقد المسؤولية على مصير ذاته و مستقبلها، إلا أن التخلص من الاستعمار لا يعني طرح مخلفاته وآثاره الفكرية و الاجتماعية و الاقتصادية فحسب، إذ بذلك كان الوضع حينئذ يتطلب رسم معالم لفلسفة غدوية جديدة تفتح أمام الإنسان الثالثي أبواب الأمل و التفاؤل ومن ثمة كانت الفلسفة الغدية الجديدة لحظة تعبير عن الانتقال الفلسفي للعالم الثالث، ومعلوم أن الحبابي كان شديد الافتتان لما وصلت إليه الحضارة الغربية رغم أنه انتقدها في أكثر من موقع، بيد أن سهام انتقاده لا تتجه صوب الغرب بالذات، بل صوب جميع الأمم و الشعوب، فبعدما أسس لفلسفته الشخصانية حول الشخص، آن أوان الحلم لكي يصبح هذا الاتجاه ساريا على الإنسانية جمعاء، ومن ثم التحول من الشخصانية إلى الإنسانية، ففي رأي الحبابي هناك نقلتان للكائن البشري: نقلة أولى من الكائن إلى الشخص عن طريق التشخصن، ونقلة ثانية من الشخص إلى الإنسان، النقلة الأولى من كائن معطى و موهوب إلى كائن مبني و مكسوب، والنقلة الثانية من مكسوب إلى أفق. ونفهم هنا أن المذهب الشخصاني ما هو إلا مرحلة مؤقتة نحو مسار الإنسانية الشاملة، وهو الأفق الذي نتطلع تحقيقه و بلوغه، هو المستقبل، هو الغد، فما معنى ذلك؟

    لقد أضحى التفكير في الفلسفة الغدية الجديدة في فكر الحبابي، ينطلق من التفكير من خلال، ومع جميع الأمم و الشعوب، التي من المفروض أن تكون مساهمة في بناء العالم الحديث، فعالم الغد، يقول الحبابي: (( سيتحقق بتعاون الجميع، ومن أجل الجميع، أو لا يتحقق إطلاقا ))، و هذا يشهد أن الفلسفة الغدية تتطلع إلى تحقيق التضامن العالمي، ويحدد الحبابي غاية التفكير الغدوي في (( التمرد على أيديولوجيات التمويه و التزييف التي تعطل في الإنسان إمكانات التشخصن، والوجود المتميز، و كشف القناع عن أخطاء الأنظمة المعاصرة، ليبرالية و اشتراكية، وبيان قصورها عن تحقيق سعادة الفرد داخل الجماعة أو سعادة الجماعة بتكتل مجهودات الأفراد، من أجل غد أفضل بالنسبة إلى الجميع )).

 تتضمن دعوة الحبابي هذه إلى الإنسانية الشاملة عنصرا أساسيا وجب الإشارة إليه، هو فك الارتباط بين العالم الثالث والعالم الغربي، بمعنى إلغاء تلك التبعية الفكرية و الاقتصادية، لأن التبعية تومئ بوجود عبودية من نوع آخر، عبودية يحكمها الخضوع و الخنوع، وهنا يقول الحبابي: ” إذا بقي العالم الثالث يمد عنقه، ويتعلق قلبه بحضارة التصنيع التي لم يحققها ولن يحققها أبدا، ماذا سيصير حالنا عندما يصبح الغرب يعيش حضارة ما بعد التصنيع؟ ” إنه حقا مأزق لا مناص لنا منه لو نحن تعلقنا بالعالم الغربي، والحل الوحيد لنا هو إحداث قطيعة مع النماذج الغربية لكي نتمكن من صنع مستقبل خاص بنا، مستقبل نحضر فيه نحن أولا بما نملكه، ثم يحضر فيه العالم الإنساني ككل بتحولاته و تطوراته، ونقع موقع الوسط بين الانغلاق و الانفتاح، بين الانكماش والانبساط، فالفلسفة الغدية إذن هي فلسفة تتناسب مع شروط حياة الإنسان في عالم اليوم، وتتلاءم مع طموحاته في عالم الغد.

يجب أن ننوه في الأخير، أن الغدية ليست تفكيرا في المستقبل، بل هي تأمل، فإذا كانت المستقبلية أقرب إلى العلم، فقد فكر فيها غاستون برجي وهو يعتمد على المعطيات الحاضرة، وعلى الإحصاءات، فإن الغدية حسبها أن تكون فلسفة، ومن طبيعة الفلسفة كما يقول جاك دريدا أن تفكر خارج الحدود الضيقة للتوقعات القريبة و البعيدة كما هو شأن التفكير المستقبلي.
_________
ابراهيم ماين طالب باحث في شعبة الفلسفة بسلك الإجازة في المدرسة العليا للأساتذة بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب ، حاصل على شهادة الدراسات العامة في شعبة علم الاجتماع بكلية الآداب و العلوم الإنسانية في جامعة ابن زهر أكادير .

*المصدر: التنويري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

التعليقات